جليل
08-30-2004, 12:28 AM
لويزار في كتابه الجديد: الشيعة دفعوا غالياً ثمن رفضهم الانتداب الإنجليزي ومن سوء حظ الأكراد اكتشاف البترول في كركوك
http://www.asharqalawsat.com/2004/08/29/images/books.252521.jpg
هاشم صالح
حتى صدام حسين على الرغم من رعونته وميله الى البطش والطغيان، هو وليد هذه التركيبة الظالمة والخاطئة من الاساس. انه نتاج تاريخ ومجتمع مدني وليس آتيا من الفراغ، ثم يردف المؤلف قائلا: لكي نفهم المآسي المتكررة التي يشهدها العراق منذ عدة عقود ينبغي ان نعود الى لحظة ولادة الدولة العراقية عام 1921.
من المعلوم ان تشرشل جمع كل مساعديه في الشرق الأوسط في مؤتمر القاهرة الشهير وقرر تشكيل المملكة العراقية واعطاء تاجها لفيصل بن الشريف حسين بن علي. وكان من بين المجتمعين لورنس العرب والمفوض السامي الانجليزي في بغداد بيرسي كوكس والجاسوسة الشهيرة جيرترود بيل، التي كتبت رسالة الى والدها تقول فيها: هذه هي آخر مرة اساهم فيها في صنع الملوك! انه عمل مرهق فعلا..
وقد احاط فيصل نفسه بالضباط الاشراف، نسبة الى الشريف حسين والده، ومعظمهم كانوا ضباطا سابقين في الجيش العثماني وينتمون الى العائلات السنية الكبرى في بغداد والموصل اساسا. اما قادة الشيعة الذين حملوا السلاح وتصدوا للانتداب الانجليزي بالقوة فانهم حرموا من السلطة وهمشوا وقمعوا. والواقع انه لم يتغير شيء يذكر بالنسبة لهم، فطيلة العهد العثماني السابق كانوا ايضا مهمشين ومقموعين لأسباب سوسيولوجية ومذهبية اساسا.
وأما الأكراد فكان من سوء حظهم ان البترول اكتشف في منطقة كركوك في تلك الفترة. وهذا ما دفع الانجليز الى الاهتمام بمناطقهم وضمها بالقوة الى الدولة العراقية الوليدة. وهكذا تشكلت الحدود الاصطناعية للعراق وتشكلت دولة ضد رغبة ثلاثة ارباع سكانه على الاقل! ويرى المؤلف ان الانقسامات الطائفية والعرقية التي تشكل جوهر المسألة العراقية حاليا، تم طمسها من قبل خطاب آيديولوجي، قومجي فارغ على مدار العقود الماضية حتى انفجرت اخيرا، لقد حاولوا التغطية عليها بأي شكل. وهكذا انتقم الواقع من الآيديولوجية بعد طول غياب.
فالآيديولوجية التي تحاول القفز على الواقع او عدم الاعتراف بمكوناته وعناصره الحقيقية، سوف تفشل عاجلا ام آجلا. والدولة التي تتشكل ضد رغبة اغلبية سكانها سوف تفشل ايضا ولا يمكن ان تدوم لأنها غير متوازنة وغير عادلة. وهذا ما حصل في العراق وقد يحصل في غير العراق ايضا. هناك قوانين سوسيولوجية لا يمكن لأي نظام سياسي ان يتحاشاها او يقفز عليها الى الأبد. وهذه القوانين تقول لنا إن ستين في المائة من سكان العراق هم من العرب الشيعة، وعشرين في المائة من العرب السنة، وعشرين في المائة من الاكراد، لكن هذه نسب تقريبية بالطبع ولا ترتكز على احصائيات رسمية دقيقة. يضاف الى ذلك انها لا تأخذ بعين الاعتبار الاقليات الصغيرة، لكن المهمة احيانا، كالتركمان في كركوك والشمال واليزيديين والمسيحيين ايضا وربما سواهم.
ويرى بيير جان لويزار ان الشيعة دفعوا غاليا ثمن رفضهم للانتداب الانجليزي وتمردهم عليه، خاصة اثناء ثورة 1920 التي اجتمع فيها الشيعة والسنة في لحظة توهج وطني. فقد عوقبوا على رفضهم للانتداب عن طريق استبعادهم من مؤسسات السلطة والجيش الذي كان في طور التشكيل. صحيح ان الشيخ مهدي الخالصي قدم البيعة الى الملك فيصل بعد طول تردد وبعد ان سحق الانجليز الثورة بالحديد والنار، وتغيرت بالتالي موازين القوى تماما، وطلب الخالصي من فيصل مقابل ذلك ان يحلف على القرآن بأنه يرفض تبعية العراق لبريطانيا، لكن المشكلة هي ان فيصل ما كان قادرا على ذلك. ففي 10 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1922 اضطر الى توقيع معاهدة تنص في نهاية المطاف على ان مملكة العراق هي محمية بريطانية عمليا. وعندئذ اعتبر المرجع الشيعي الاول في العراق مهدي الخالصي انه في حل من بيعته وابتدأت مشاكل الشيعة مع حكومة الانتداب على مدار اربعين سنة تقريبا.
لكن بما ان الانجليز لا يستطيعون ان يحكموا البلد بدون ان يرتكزوا على احدى فئاته المحلية فإنهم اختاروا الاعتماد على النخب السنية التي وضعت نفسها في خدمة البريطانيين بعد ان كانت في خدمة العثمانيين طيلة قرون وقرون.
ثم يردف المؤلف قائلا: والواقع ان النخب السنية انضمت بسرعة الى فكرة القومية العربية التي جاء بها فيصل وضباطه والتي كانت غير معروفة في العراق آنذاك او قل غير منتشرة الا قليلا، وهكذا تخلت بين عشية وضحاها عن ولائها الاسلامي للسلطان او الخليفة العثماني وقبلت بأن تضع نفسها في خدمة دولة اسسسها «الكفار»، أي الانجليز، فكيف امكن ذلك؟
هنا يدخل المؤلف في تفسيرات معمقة عن السيكولوجيا الشيعية والسيكولوجيا السنية. فالشيعة غير واقعيين عموما وميالون للتمرد على السلطة، أي سلطة كانت، وهذا الشيء موجود في تاريخهم المليء بالمآسي منذ الحسين. أما السنة فكانوا دائما قريبين من السلطة، وهذا ما اكسبهم بعض الواقعية والمرونة. وهم يرون انه من الافضل الاعتراف بشرعية السلطة أياً تكن بشرط ان تؤمن النظام وتضبط الاوضاع وتمنع الفوضى، فالحاكم الظالم خير من فتنة داخل الأمة.
مهما يكن من امر، فإن العائلات السنية الكبيرة التي كانت تتقاسم الوظائف والتشريعات والامتيازات طيلة العهد العثماني، هي ذاتها التي راحت تستقبل الانجليز بصفتهم الحماة الجدد، هذا في حين ان قادة الشيعة كانوا يرفضون أي تبعية للاستعمار الانجليزي ويدعون بعد انهيار الدولة العثمانية الى تشكيل «دولة عراقية مستقلة، عربية واسلامية».
ولكن هناك مسألة أخرى يأخذها المؤلف بعين الاعتبار، هي المشروعية التي يخلعها عليك الزمن المتطاول، فبينما كانت النخب العربية السنية ماسكة بزمام السلطة تقليديا على مدار العهد العثماني، فإنها راحت تعتبر الدولة الجديدة بمثابة ملكيتها الخاصة. وهكذا اصبحت هذه النخب هي الطبقة المهيمنة في ظل الحكم الهاشمي.
وراح الضباط الكبار من امثال نوري السعيد وجعفر العسكري، يحتلون مراكز القيادة، بالاضافة الى رجال الدين الكبار كرؤساء الطرق الصوفية والأسياد والأشراف، بالاضافة الى الافندية، أي الموظفين السابقين في العهد العثماني، راح كل هؤلاء يشكلون طاقم الادارة للعهد الجديد ودولة الانتداب. وفي ذات الوقت راح الانجليز يشجعون زعماء القبائل على تأكيد انفسهم وقوتهم من اجل استخدامهم كسلطة مضادة للملك فيصل اذا ما دعت الحاجة، ومعظمهم كانوا من الشيعة او قل قسما كبيرا منهم، لكي نكون اكثر دقة، وقد اقطعتهم سلطة الانتداب الاراضي الواسعة، الى درجة ان العراق تحول الى بلد اقطاعي بالمعنى الاوروبي للكلمة اثناء القرن العشرين. وقد وصل الامر بشيوخ القبائل هؤلاء الى حد اعتبار الفلاحين بمثابة ملكيتهم الخاصة. على هذا النحو أسس الانجليز دولة حديثة ظاهريا، لكنها تنطوي باطنيا على اكبر انواع الظلم والقهر والتمييز الطائفي ضد اغلبية سكان العراق.
وهنا تكمن محنة العراق، ولب المشكلة العراقية التي تشغل العالم حاليا. ولا يمكن فهم الاحداث والاضطرابات التي شهدها هذا البلد الا اذا اخذنا هذه النقطة بعين الاعتبار، ولا يمكن للعراق ان يستقر الا اذا حصل نوع من التوازن في اقتسام السلطة بين الفئات الاساسية التي تشكله، فهناك اختلال غير مقبول وغير معقول، لكنه من كثرة ما سيطر اصبح يبدو وكأنه شرعي او طبيعي! ثم يردف بيير جان لويزار قائلا: ان مستقبل العراق يعتمد على حصيلة المواجهة الجارية حاليا بين الشيعة والسنة. صحيح انهم جميعا ينتمون الى نفس المجتمع ويتشاطرون غالبا نفس القيم ذات الاصل البدوي والعربي، لكن ينبغي ان نعترف بالحقيقة حتى ولو كانت مُرة وجارحة:
في هذا اليوم او حتى سقوط صدام على الاقل، فإن السلطة كانت في ايدي السنة على الرغم من انهم اقلية. فمنذ تأسيس الدولة العراقية وعلى مدار ثمانين سنة، كان الشيعة مستبعدين من الوظائف الحكومية الكبرى ما عدا بعض الاستثناءات، ومن قيادة الجيش، ومن أي مركز سلطوي بشكل عام، كما كانوا عليه طيلة العهد العثماني. وهذه العقود الطويلة من القمع والاضطهاد انعكست على نفسيتهم فجعلتهم يشتبهون في أي شيء يجيء من جهة الحكومة. كما جعلتهم يرفضون الاعتراف بمشروعية أي نظام أو أي سلطة. ولهذا السبب فإنهم لم يبدأوا بإرسال أولادهم الى المدارس الحكومية إلا في الاربعينات من القرن العشرين، اما قبل ذلك فكانوا يدرسون في الكتاتيب والمدارس الدينية.
ولكن الشيعة عوضوا عن هذا التهميش المزمن والطويل بأن برعوا في المجالين الوحيدين اللذين تبقيا لهما: التجارة والأدب. فقد احتلوا مراكز تجارية مرموقة في بغداد وسواها من المدن العراقية. اما في ما يخص الشعر والأدب فقد كان لهم قصب السبق ليس فقط على مستوى العراق وانما على مستوى العرب ككل.
وهذا يتعارض كلياً مع المستوى السلطوي. فمن أصل ثلاثة وعشرين رئيس وزراء عراقيا طيلة العهد الملكي هناك أربعة فقط من الشيعة. وأولهم لم يصل الى السلطة إلا عام1947. صحيح ان الدستور العراقي الذي صوتوا عليه عام 1924 لا يقيم رسمياً أي تمييز بين المواطنين العراقيين، بل ويبدو كأنه يعامل السنة والشيعة على قدم المساواة، ولكن ضمنياً هناك تمييز حقيقي وطائفي. فهذا الدستور يقول ان العراقي الحقيقي الذي يتمتع بكافة الحقوق هو وحده ذلك الشخص الذي كان يمتلك الجنسية العثمانية أو الذي كان آباؤه أو اجداده يمتلكونها.
أما الآخرون فعليهم ان يطلبوا الجنسية العراقية أو يبرهنوا على عراقيتهم حتى ولو كان آباؤهم واجدادهم يعيشون في العراق منذ قرون وقرون! وهؤلاء الآخرون هم في الواقع الأغلبية العظمى من شيعة العراق. فالكثيرون منهم ما كانوا يحملون الجنسية العثمانية إما لأنهم كانوا يعتبرونها غير شرعية، وإما أن هذه هي حالة الاكثرية، لانهم كانوا فقراء يعيشون في الأرياف النائية ولا يعرفون معنى الجنسية اساساً!
ومن بين هؤلاء الذين لا يستحقون الجنسية العراقية شخص يدعى: محمد مهدي الجواهري! فقد تلقى رسالة عام 1927 وهو مقيم في النجف تقول له بأنه لا يستطيع تدريس اللغة العربية وآدابها في احدى الثانويات العراقية لأنه ليس عراقياً!! أنتقل الآن مع المؤلف الى ولادة المشكلة الكردية، ومن هو السبب في ولادتها وتفاقمها؟ هنا ايضاً نجد ان حماقة الانجليز والانظمة العراقية المتتالية التي لم تعترف بخصوصيتهم أو هويتهم العرقية واللغوية، هي السبب الاساسي. لا ريب في ان وضعهم كان أفضل من وضع الشيعة داخل الدولة العراقية التي أسسها الانجليز عام 1921، فبصفتهم سنة فقد كان معظمهم يمتلك الجنسية العثمانية، وبالتالي فقد حصلوا على الجنسية العراقية بشكل اتوماتيكي، على عكس الشيعة.
ولكن توصيات عصبة الأمم لفيصل بأن يترك لهم بعض الاستقلالية الذاتية من الناحيتين الثقافية واللغوية سرعان ما نسيت وأهملت. ومن اجل الاستحواذ على بترول كركوك فإن الانجليز ضموا الاكراد الى الدولة العراقية الجديدة غصباً عنهم كما قلنا سابقاً. وهكذا زرعوا بذور المشكلة العراقية التي ستندلع لاحقاً وتكلف العراق الكثير من الدماء والدموع.
نلاحظ ان المؤلف يوزع المسؤوليات على العوامل الخارجية والداخلية. وهنا يتبدى الطابع المتوازن لتحليلاته في هذا الكتاب، فالانجليز ارتكبوا خطيئة بدون شك عندما شكلوا العراق بشكل اصطناعي وضد رغبة الاغلبية العظمى من سكانه. وارتكبوا خطيئة عندما سلطوا الأقلية على الاكثرية. ولكن الأقلية العربية السنية ارتكبت خطيئة ايضاً عندما قبلت بأن تلعب هذا الدور ليس فقط في ظل الانتداب وانما بعده بزمن طويل حتى انتهى كل ذلك بوصول صدام الى السلطة، وكان ما كان، ووصل بالقمع والظلم الى ذروته. فقد اضطرت هذه الاقلية الى قمع المناطق الكردية أكثر من مرة بالحديد والنار، وفعلت الشيء ذاته مع المناطق الشيعية. فكيف يمكن لدولة ان تستقيم أمورها اذا كانت واقعة في حرب صريحة أو مضمرة مع ثلاثة أرباع سكانها؟ وهل هذه دولة شرعية يا ترى؟
لذلك فإن سقوط هذه الدولة أو هذا النظام الخاطئ من أساسه، كان أمراً محتوماً سوف يحصل عاجلاً أم آجلاً. أما في ما يخص مأساة الأكراد، فإن مسؤولية تركيا ومصطفى كمال واضحة جلية، فلو انه لم يصر على ضم الاكراد الى جمهوريته التركية بالقوة لما حصلت كل هذه المشاكل التي شوهت صورة تركيا في العالم الأوروبي. فقد ظهرت كبلد همجي ينتهك حقوق الانسان ويقمع حقوق الاقلية الكردية الكبيرة التي يتجاوز عددها خمسة عشر مليون نسمة. ولكن يبدو ان الاتراك اصبحوا يخففون من قمعهم ويقبلون بإعطاء الاكراد بعض الحقوق اللغوية والثقافية، وكل ذلك يحصل تحت ضغط الاتحاد الاوروبي. وهذا شيء ايجابي وجيد، ويمكن القول إن الشيء ذاته يحصل في العراق، وبالتالي فإذا كان الغرب قد لعب دوراً استعمارياً في السابق فإنه يكفَّر عن ذنوبه وأخطائه الآن من خلال السياسة الحكيمة للاتحاد الاوروبي.
* المسألة العراقية ـ La question irakienne
* المؤلف: بيير جان لويزار
* دار النشر: فايار. باريس
http://www.asharqalawsat.com/2004/08/29/images/books.252521.jpg
هاشم صالح
حتى صدام حسين على الرغم من رعونته وميله الى البطش والطغيان، هو وليد هذه التركيبة الظالمة والخاطئة من الاساس. انه نتاج تاريخ ومجتمع مدني وليس آتيا من الفراغ، ثم يردف المؤلف قائلا: لكي نفهم المآسي المتكررة التي يشهدها العراق منذ عدة عقود ينبغي ان نعود الى لحظة ولادة الدولة العراقية عام 1921.
من المعلوم ان تشرشل جمع كل مساعديه في الشرق الأوسط في مؤتمر القاهرة الشهير وقرر تشكيل المملكة العراقية واعطاء تاجها لفيصل بن الشريف حسين بن علي. وكان من بين المجتمعين لورنس العرب والمفوض السامي الانجليزي في بغداد بيرسي كوكس والجاسوسة الشهيرة جيرترود بيل، التي كتبت رسالة الى والدها تقول فيها: هذه هي آخر مرة اساهم فيها في صنع الملوك! انه عمل مرهق فعلا..
وقد احاط فيصل نفسه بالضباط الاشراف، نسبة الى الشريف حسين والده، ومعظمهم كانوا ضباطا سابقين في الجيش العثماني وينتمون الى العائلات السنية الكبرى في بغداد والموصل اساسا. اما قادة الشيعة الذين حملوا السلاح وتصدوا للانتداب الانجليزي بالقوة فانهم حرموا من السلطة وهمشوا وقمعوا. والواقع انه لم يتغير شيء يذكر بالنسبة لهم، فطيلة العهد العثماني السابق كانوا ايضا مهمشين ومقموعين لأسباب سوسيولوجية ومذهبية اساسا.
وأما الأكراد فكان من سوء حظهم ان البترول اكتشف في منطقة كركوك في تلك الفترة. وهذا ما دفع الانجليز الى الاهتمام بمناطقهم وضمها بالقوة الى الدولة العراقية الوليدة. وهكذا تشكلت الحدود الاصطناعية للعراق وتشكلت دولة ضد رغبة ثلاثة ارباع سكانه على الاقل! ويرى المؤلف ان الانقسامات الطائفية والعرقية التي تشكل جوهر المسألة العراقية حاليا، تم طمسها من قبل خطاب آيديولوجي، قومجي فارغ على مدار العقود الماضية حتى انفجرت اخيرا، لقد حاولوا التغطية عليها بأي شكل. وهكذا انتقم الواقع من الآيديولوجية بعد طول غياب.
فالآيديولوجية التي تحاول القفز على الواقع او عدم الاعتراف بمكوناته وعناصره الحقيقية، سوف تفشل عاجلا ام آجلا. والدولة التي تتشكل ضد رغبة اغلبية سكانها سوف تفشل ايضا ولا يمكن ان تدوم لأنها غير متوازنة وغير عادلة. وهذا ما حصل في العراق وقد يحصل في غير العراق ايضا. هناك قوانين سوسيولوجية لا يمكن لأي نظام سياسي ان يتحاشاها او يقفز عليها الى الأبد. وهذه القوانين تقول لنا إن ستين في المائة من سكان العراق هم من العرب الشيعة، وعشرين في المائة من العرب السنة، وعشرين في المائة من الاكراد، لكن هذه نسب تقريبية بالطبع ولا ترتكز على احصائيات رسمية دقيقة. يضاف الى ذلك انها لا تأخذ بعين الاعتبار الاقليات الصغيرة، لكن المهمة احيانا، كالتركمان في كركوك والشمال واليزيديين والمسيحيين ايضا وربما سواهم.
ويرى بيير جان لويزار ان الشيعة دفعوا غاليا ثمن رفضهم للانتداب الانجليزي وتمردهم عليه، خاصة اثناء ثورة 1920 التي اجتمع فيها الشيعة والسنة في لحظة توهج وطني. فقد عوقبوا على رفضهم للانتداب عن طريق استبعادهم من مؤسسات السلطة والجيش الذي كان في طور التشكيل. صحيح ان الشيخ مهدي الخالصي قدم البيعة الى الملك فيصل بعد طول تردد وبعد ان سحق الانجليز الثورة بالحديد والنار، وتغيرت بالتالي موازين القوى تماما، وطلب الخالصي من فيصل مقابل ذلك ان يحلف على القرآن بأنه يرفض تبعية العراق لبريطانيا، لكن المشكلة هي ان فيصل ما كان قادرا على ذلك. ففي 10 اكتوبر (تشرين الأول) عام 1922 اضطر الى توقيع معاهدة تنص في نهاية المطاف على ان مملكة العراق هي محمية بريطانية عمليا. وعندئذ اعتبر المرجع الشيعي الاول في العراق مهدي الخالصي انه في حل من بيعته وابتدأت مشاكل الشيعة مع حكومة الانتداب على مدار اربعين سنة تقريبا.
لكن بما ان الانجليز لا يستطيعون ان يحكموا البلد بدون ان يرتكزوا على احدى فئاته المحلية فإنهم اختاروا الاعتماد على النخب السنية التي وضعت نفسها في خدمة البريطانيين بعد ان كانت في خدمة العثمانيين طيلة قرون وقرون.
ثم يردف المؤلف قائلا: والواقع ان النخب السنية انضمت بسرعة الى فكرة القومية العربية التي جاء بها فيصل وضباطه والتي كانت غير معروفة في العراق آنذاك او قل غير منتشرة الا قليلا، وهكذا تخلت بين عشية وضحاها عن ولائها الاسلامي للسلطان او الخليفة العثماني وقبلت بأن تضع نفسها في خدمة دولة اسسسها «الكفار»، أي الانجليز، فكيف امكن ذلك؟
هنا يدخل المؤلف في تفسيرات معمقة عن السيكولوجيا الشيعية والسيكولوجيا السنية. فالشيعة غير واقعيين عموما وميالون للتمرد على السلطة، أي سلطة كانت، وهذا الشيء موجود في تاريخهم المليء بالمآسي منذ الحسين. أما السنة فكانوا دائما قريبين من السلطة، وهذا ما اكسبهم بعض الواقعية والمرونة. وهم يرون انه من الافضل الاعتراف بشرعية السلطة أياً تكن بشرط ان تؤمن النظام وتضبط الاوضاع وتمنع الفوضى، فالحاكم الظالم خير من فتنة داخل الأمة.
مهما يكن من امر، فإن العائلات السنية الكبيرة التي كانت تتقاسم الوظائف والتشريعات والامتيازات طيلة العهد العثماني، هي ذاتها التي راحت تستقبل الانجليز بصفتهم الحماة الجدد، هذا في حين ان قادة الشيعة كانوا يرفضون أي تبعية للاستعمار الانجليزي ويدعون بعد انهيار الدولة العثمانية الى تشكيل «دولة عراقية مستقلة، عربية واسلامية».
ولكن هناك مسألة أخرى يأخذها المؤلف بعين الاعتبار، هي المشروعية التي يخلعها عليك الزمن المتطاول، فبينما كانت النخب العربية السنية ماسكة بزمام السلطة تقليديا على مدار العهد العثماني، فإنها راحت تعتبر الدولة الجديدة بمثابة ملكيتها الخاصة. وهكذا اصبحت هذه النخب هي الطبقة المهيمنة في ظل الحكم الهاشمي.
وراح الضباط الكبار من امثال نوري السعيد وجعفر العسكري، يحتلون مراكز القيادة، بالاضافة الى رجال الدين الكبار كرؤساء الطرق الصوفية والأسياد والأشراف، بالاضافة الى الافندية، أي الموظفين السابقين في العهد العثماني، راح كل هؤلاء يشكلون طاقم الادارة للعهد الجديد ودولة الانتداب. وفي ذات الوقت راح الانجليز يشجعون زعماء القبائل على تأكيد انفسهم وقوتهم من اجل استخدامهم كسلطة مضادة للملك فيصل اذا ما دعت الحاجة، ومعظمهم كانوا من الشيعة او قل قسما كبيرا منهم، لكي نكون اكثر دقة، وقد اقطعتهم سلطة الانتداب الاراضي الواسعة، الى درجة ان العراق تحول الى بلد اقطاعي بالمعنى الاوروبي للكلمة اثناء القرن العشرين. وقد وصل الامر بشيوخ القبائل هؤلاء الى حد اعتبار الفلاحين بمثابة ملكيتهم الخاصة. على هذا النحو أسس الانجليز دولة حديثة ظاهريا، لكنها تنطوي باطنيا على اكبر انواع الظلم والقهر والتمييز الطائفي ضد اغلبية سكان العراق.
وهنا تكمن محنة العراق، ولب المشكلة العراقية التي تشغل العالم حاليا. ولا يمكن فهم الاحداث والاضطرابات التي شهدها هذا البلد الا اذا اخذنا هذه النقطة بعين الاعتبار، ولا يمكن للعراق ان يستقر الا اذا حصل نوع من التوازن في اقتسام السلطة بين الفئات الاساسية التي تشكله، فهناك اختلال غير مقبول وغير معقول، لكنه من كثرة ما سيطر اصبح يبدو وكأنه شرعي او طبيعي! ثم يردف بيير جان لويزار قائلا: ان مستقبل العراق يعتمد على حصيلة المواجهة الجارية حاليا بين الشيعة والسنة. صحيح انهم جميعا ينتمون الى نفس المجتمع ويتشاطرون غالبا نفس القيم ذات الاصل البدوي والعربي، لكن ينبغي ان نعترف بالحقيقة حتى ولو كانت مُرة وجارحة:
في هذا اليوم او حتى سقوط صدام على الاقل، فإن السلطة كانت في ايدي السنة على الرغم من انهم اقلية. فمنذ تأسيس الدولة العراقية وعلى مدار ثمانين سنة، كان الشيعة مستبعدين من الوظائف الحكومية الكبرى ما عدا بعض الاستثناءات، ومن قيادة الجيش، ومن أي مركز سلطوي بشكل عام، كما كانوا عليه طيلة العهد العثماني. وهذه العقود الطويلة من القمع والاضطهاد انعكست على نفسيتهم فجعلتهم يشتبهون في أي شيء يجيء من جهة الحكومة. كما جعلتهم يرفضون الاعتراف بمشروعية أي نظام أو أي سلطة. ولهذا السبب فإنهم لم يبدأوا بإرسال أولادهم الى المدارس الحكومية إلا في الاربعينات من القرن العشرين، اما قبل ذلك فكانوا يدرسون في الكتاتيب والمدارس الدينية.
ولكن الشيعة عوضوا عن هذا التهميش المزمن والطويل بأن برعوا في المجالين الوحيدين اللذين تبقيا لهما: التجارة والأدب. فقد احتلوا مراكز تجارية مرموقة في بغداد وسواها من المدن العراقية. اما في ما يخص الشعر والأدب فقد كان لهم قصب السبق ليس فقط على مستوى العراق وانما على مستوى العرب ككل.
وهذا يتعارض كلياً مع المستوى السلطوي. فمن أصل ثلاثة وعشرين رئيس وزراء عراقيا طيلة العهد الملكي هناك أربعة فقط من الشيعة. وأولهم لم يصل الى السلطة إلا عام1947. صحيح ان الدستور العراقي الذي صوتوا عليه عام 1924 لا يقيم رسمياً أي تمييز بين المواطنين العراقيين، بل ويبدو كأنه يعامل السنة والشيعة على قدم المساواة، ولكن ضمنياً هناك تمييز حقيقي وطائفي. فهذا الدستور يقول ان العراقي الحقيقي الذي يتمتع بكافة الحقوق هو وحده ذلك الشخص الذي كان يمتلك الجنسية العثمانية أو الذي كان آباؤه أو اجداده يمتلكونها.
أما الآخرون فعليهم ان يطلبوا الجنسية العراقية أو يبرهنوا على عراقيتهم حتى ولو كان آباؤهم واجدادهم يعيشون في العراق منذ قرون وقرون! وهؤلاء الآخرون هم في الواقع الأغلبية العظمى من شيعة العراق. فالكثيرون منهم ما كانوا يحملون الجنسية العثمانية إما لأنهم كانوا يعتبرونها غير شرعية، وإما أن هذه هي حالة الاكثرية، لانهم كانوا فقراء يعيشون في الأرياف النائية ولا يعرفون معنى الجنسية اساساً!
ومن بين هؤلاء الذين لا يستحقون الجنسية العراقية شخص يدعى: محمد مهدي الجواهري! فقد تلقى رسالة عام 1927 وهو مقيم في النجف تقول له بأنه لا يستطيع تدريس اللغة العربية وآدابها في احدى الثانويات العراقية لأنه ليس عراقياً!! أنتقل الآن مع المؤلف الى ولادة المشكلة الكردية، ومن هو السبب في ولادتها وتفاقمها؟ هنا ايضاً نجد ان حماقة الانجليز والانظمة العراقية المتتالية التي لم تعترف بخصوصيتهم أو هويتهم العرقية واللغوية، هي السبب الاساسي. لا ريب في ان وضعهم كان أفضل من وضع الشيعة داخل الدولة العراقية التي أسسها الانجليز عام 1921، فبصفتهم سنة فقد كان معظمهم يمتلك الجنسية العثمانية، وبالتالي فقد حصلوا على الجنسية العراقية بشكل اتوماتيكي، على عكس الشيعة.
ولكن توصيات عصبة الأمم لفيصل بأن يترك لهم بعض الاستقلالية الذاتية من الناحيتين الثقافية واللغوية سرعان ما نسيت وأهملت. ومن اجل الاستحواذ على بترول كركوك فإن الانجليز ضموا الاكراد الى الدولة العراقية الجديدة غصباً عنهم كما قلنا سابقاً. وهكذا زرعوا بذور المشكلة العراقية التي ستندلع لاحقاً وتكلف العراق الكثير من الدماء والدموع.
نلاحظ ان المؤلف يوزع المسؤوليات على العوامل الخارجية والداخلية. وهنا يتبدى الطابع المتوازن لتحليلاته في هذا الكتاب، فالانجليز ارتكبوا خطيئة بدون شك عندما شكلوا العراق بشكل اصطناعي وضد رغبة الاغلبية العظمى من سكانه. وارتكبوا خطيئة عندما سلطوا الأقلية على الاكثرية. ولكن الأقلية العربية السنية ارتكبت خطيئة ايضاً عندما قبلت بأن تلعب هذا الدور ليس فقط في ظل الانتداب وانما بعده بزمن طويل حتى انتهى كل ذلك بوصول صدام الى السلطة، وكان ما كان، ووصل بالقمع والظلم الى ذروته. فقد اضطرت هذه الاقلية الى قمع المناطق الكردية أكثر من مرة بالحديد والنار، وفعلت الشيء ذاته مع المناطق الشيعية. فكيف يمكن لدولة ان تستقيم أمورها اذا كانت واقعة في حرب صريحة أو مضمرة مع ثلاثة أرباع سكانها؟ وهل هذه دولة شرعية يا ترى؟
لذلك فإن سقوط هذه الدولة أو هذا النظام الخاطئ من أساسه، كان أمراً محتوماً سوف يحصل عاجلاً أم آجلاً. أما في ما يخص مأساة الأكراد، فإن مسؤولية تركيا ومصطفى كمال واضحة جلية، فلو انه لم يصر على ضم الاكراد الى جمهوريته التركية بالقوة لما حصلت كل هذه المشاكل التي شوهت صورة تركيا في العالم الأوروبي. فقد ظهرت كبلد همجي ينتهك حقوق الانسان ويقمع حقوق الاقلية الكردية الكبيرة التي يتجاوز عددها خمسة عشر مليون نسمة. ولكن يبدو ان الاتراك اصبحوا يخففون من قمعهم ويقبلون بإعطاء الاكراد بعض الحقوق اللغوية والثقافية، وكل ذلك يحصل تحت ضغط الاتحاد الاوروبي. وهذا شيء ايجابي وجيد، ويمكن القول إن الشيء ذاته يحصل في العراق، وبالتالي فإذا كان الغرب قد لعب دوراً استعمارياً في السابق فإنه يكفَّر عن ذنوبه وأخطائه الآن من خلال السياسة الحكيمة للاتحاد الاوروبي.
* المسألة العراقية ـ La question irakienne
* المؤلف: بيير جان لويزار
* دار النشر: فايار. باريس