المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نامت نواطير النجف ( مقالة لعبدالاله بلقريز)



الدكتور عادل رضا
08-27-2004, 09:00 PM
نـــــــامـــــــــت نـــــــواطيـــــــــــــــــر النجـــــف - عبد الاله بلقزيز - النهار البيروتية عبد الاله بلقزيز 5


نـــــــامـــــــــت نـــــــواطيـــــــــــــــــر النجـــــف عبد الاله بلقزيز تحظى النجف بمكانة دينية خاصة لدى المسلمين جميعا. فهي مقدسة عند الشيعة لأنها تحوي مرقد الامام علي: أول ائمتهم، ومدافن اتباع المذهب وعلمائه وكنوز العلم الديني النادرة. وهي الى ذلك معقل الحوزة العلمية ومقعد مئات الآلاف من طلبة المعرفة الدينية، وفي رحابها نشأت مدارس الفكر الاسلامي الشيعي منذ الطوسي حتى اليوم. وليست تضاهيها في المكانة العلمية مدينة اخرى في نظر الشيعة. ومن لم يتخرج من الحوزة النجفية، لا تنعقد له المرجعية تلقائيا وان علا كعبه في الدرس والتحصيل. واذ جرّبت “قٌم” طويلا ان تنافس النجف في المعيتها الدينية، او ان تستعير دورها احيانا – كما يحصل منذ الثورة الايرانية قبل ربع قرن – كانت تجد نفسها دون ذلك التنافس منكباً، وكان فقهاؤها: المستلقون عن المؤسسة الدينية الرسمية الايرانية، يخشون عاقبة المساس بمرجعية النجف لاسباب ودواع لا تنتمي الى الاهلية العلمية والفقهية، رافضين حمل مكانة “قُم” على حوامل السياسة والسلطة. ولم تكن مكانة النجف لتقِلّ قيمةً عند السنة ايضا. ففيها يرقد رابع خلفائهم الراشدين: ابن عم النبي وصهره وسيفه. وآل البيت في المخيال السني الشعبي ليسوا اقل تعظيما مما هم عليه في الذاكرة الشيعية الجمعية كما تدل على ذلك مكانتهم في الادعية والصلوات والزيارات والروايات عن اهل البيت لدى الشعب المصري – مثلا – ولدى شعوب المغرب العربي. ناهيك بأن النخب الدينية السنية تعترف بالاهمية العلمية للنجف، وبعضها لم يتردد في الذهاب بعيدا في الدفاع عن مرجعية الحوزة النجفية حين حاول من حاول منازعتها فيها لمصلحة “قُم”. والاهم من ذلك كله ان المدينة جزء من العراق ومن ديار العرب والمسلمين في معزل عن اية قيمـــــة روحيـــــــة او ثقافيـــــــة لها، وذلك وحده يكفي كي تحظى بما تحظى به سائر مدائنهم من اعتبار. هذه النجف تحترق اليوم، ويتعرض مقامها العلوي للعدوان، وارضها للاستباحة، وأهلها للقتل الجماعي، ودورها للتخريب، وكنوزها الاثرية والعلمية للتدمير، واقتصادها (السياحي والتجاري) للتحطيم...، ولا احد يدافع عنها سياسيا ودينيا في وجه احتلال خرق “الخطوط الحمر” وتقدمت قواته الى داخلها الديني! قد لا يكون معظم اهل النجف راضيا بوجود مقاتلين صدريين في رحابها، خاصة إن كان في جملتهم من اتاها من مناطق اخرى كما يروج، فبعضهم يوالي احزابا اخرى غير التيار الصدري وان كان نفوذها رمزيا (المجلس الاعلى، حزب الدعوة)، واكثرهم يوالي المراجع نظرا الى التقاليد المحافظــة لـــدى اهـــل النجـــــف وكرور ولاءاتهم للفقهــاء، ناهيك بوجود طبقة وسطى – واسعة نسبيا – من تجار المدينة المرتبطين اقتصاديا بالسياحة الدينية التي تفترض سلما وامنا واشرافا من المرجعية على اماكن الزيارة... وقد لا يكون كثير من النجفيين معترضا على دخول قوات الشرطة والأمن الى المدينة وانتشارها فيها لسد الفراغ الامني، وتأمين انهاء المظاهر المسلحة الاهلية التي تصادر السلطة على المدينة من رجال الدين، وتقلق راحة الزائرين، وتهدد مصالح التجار وارباب القطاع الفندقي. وموقف هذه الكثرة لا يتأثر كثيرا بموقف فريق من اهل المدينة يفضل رؤية قوة امنية اهلية – غير “جيش المهدي” – تشرف على امن الحوزة والمزارات كما على الامن العام في المدينة، لأن مثل هذا الموقف قابل للاستيعاب من طرف المرجعية التي باركت حكومة علاوي وقيامها بتطوير الاجهزة الامنية... لكن احدا من النجفيين في ما نزعم، وكائنةً ما كانت اعتراضاته على انفراد التيار الصدري بحق النطق باسم المدينة وتقرير مصيرها، لا يقبل ان تُستباح من طرف قوات الاحتلال وان تمتد يد العدوان والتخريب الى المرقد العلوي. حتى الذين يعارضون الصدر صراحة – وهم كثر – كانوا يفضلون ان يتعايشوا مع سلطة مقاتليه اضطراريا على ان يشاهدوا مدينتهم تُهدم على رؤوس ابنائها، وحركـة السياحة والاقتصاد والحياة تتوقف فيها، وجثث واشلاء القتلى منتشرة في شوارعها وازقتها. في الجانب الآخر من صورة النجف، تساءل كثيرون: أين كان المراجع، ولماذا صمتوا وكأن ما يجري للعتبات المقدسة وللمدينة واهلها لا يعنيهم؟ المرجع الاكبر علي السيستاني “اجبرته اضطرابات في القلب على السفر الى بريطانيا للعلاج”. شكك كثيرون في رواية المرض لتزامن سفرة الاستفشاء مع التحضير للعدوان على المدينة واحتلالها. واستغرب آخرون – حتى في حال التسليم بالمرض – السفر الى بريطانيا بالذات، وجيشها محتلٌ ارض العراق، وكأن فحوصا للقلب وتمييلا لم تكن ممكنة في مستشفى لبناني او مصري او اردني او فرنسي! وحين حصل ما حصل في النجف، واضطر السيد السيستاني ليقول شيئا، دعا الجميع الى وقف القتال وانسحاب كافة المسلحين من المدينة. علّق صحافيٌ عربي كبير (من مصر) متسائلا ان كانت الدعوة الصادرة من السيد السيستاني تشبه في حيادها مناشدة من مناشدات السيد كوفي أنان! لم يغب السيستاني وحده عن الاحداث من المراجع. اختفى آيات الله الكبار: اسحق الفياض، بشير النجفي، محمد سعيد الحكيم، ولا يكاد يعرف احد أين مستقرهم؟ يتساءل طلبة الحوزة العلمية النجفية – يقول البعض – ان لم يتحدث المراجع اليوم والعتبات المقدسة مستباحة واهل النجف الاشرف مستضعفون، فمتى يتحدثون؟! السؤال نفسه يتردد في افواه كثيرين مستفهمين عن موقف ايران. قبل ثلاثة أشهر، وعلى مثال قول السيستاني بـ”الخطوط الحمر”، هدد المرشد علي الخامنئي الاميركيين ان تجاوزوا “الخطوط الحمر”. ها هم اليوم على امتار من قبر الامام علي، وما خفي اعظم! يستطيع المرء ان يسجّل ألف ملاحظة اعتراضية على تيار الصدر ومقاتليه في “جيش المهدي”: عن شعبويته، وعن اندفاعته الراديكالية غير المحسوبة، وعن تحديه للمراجع الفقهية واتهامه اياها بالتخاذل والجُبن، وعن سعيه في احتكــار التمثيل الشيعي، وعن عدم اهليتــه العلمية للتصدر لمسائل القرار، وعن غوغائية مقاتليه...، وما شئت من اعتراض. لكنه – وكمــا في كل التــواريخ التي تتأسطر احداثها ورجالاتها في ما بعد – سيقال عنه، بعد جيل او جيلين، انه الوحيد الذي قاتل اعتى قــوةٍ في العالم دفاعاً عن مرقــد الامــام علــي. هــل ذلك قليل؟! ------------- كاتب مغربي