مجاهدون
08-27-2004, 09:31 AM
خالص جلبي
مع أحداث النجف في صيف عام 2004 يتكامل كسوف العراق، فبعد أن مات في ظل (الاستبداد) يغرق حالياً في الفوضى والتفسخ. وعندما تحلق الغربان في الجو فلأنها عثرت على جيفة. وعندما يتكوم النمل فلأنه رأى قطعة عظم أو ذنب سحلية؟ فهذا قانون وجودي ينطبق على العراق وسواه.
وفي (الطب) يحدث للجثث نفس التحول الذي يحدث للمجتمع، فتدخل الجثة أولاً مرحلة (الصمل الجيفي) فتستحيل الجثة إلى قطعة خشب. ثم تتفسخ فيقبل عليها 500 نوع من الحشرات تقوم بالتهامها تدريجياً بحيث يهيئ كل فصيل المناخ للفوج الذي بعده. وفي النهاية يتحلل الجسم فيعود إلى التراب. ومنها خلقناكم وفيها نعيدكم.
وما يحدث في الجثث يحدث في الأمم. فتتخشب في ظل (الاستبداد) ويصبح البدن جاهزا لاستضافة أي إرهابي مثل الجراثيم، فهم من كل حدب ينسلون. وعندما تقتل الأمة بهذه الطريقة ينهار الجهاز المناعي بالكامل، فتصبح جاهزة للاحتلال الخارجي وانفجار كل الأمراض.
وفي النهاية يتحول الوطن إلى بضاعة قابلة للتبادل بين أيدي المغامرين. فلا يبقى إلا العظام وهي رميم. وهو ما حدث للعراق تدريجيا من التنقل بين مناخ الاستبداد ثم الاحتلال الأمريكي وقوى الإرهاب الداخلية والخارجية.
والأمم تموت كما يموت الأفراد، ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يسـتأخرون ساعة ولا يستقدمون. وفي النهاية يتحلل الجسم فيبتلع في بطن قوة أخرى، مثل ضفدع في بطن حية الأناكوندا، كما حدث مع روما التي ابتلعت المجتمع القرطاجي والغالي. وهذا المصير ليس للعراق بل لكل الأنظمة الشمولية التي تقتل الأمة قتلاً.
والأمة التي تبتلى( بالاستبداد) غير التي تعاني من (الاحتلال)، فالثاني (واضح) و(مؤلم) و(علاجه سهل) كما في التهاب الجلد الخارجي، أما (الاستبداد)، فهو مثل السرطان (غير مؤلم) و(غامض) و(ينتشر) بخبث وعلاجه معقد وأحيانا ميئوس منه.
وصدام المصدوم اختفى من مسرح الأحداث وانتقل إلى ملف الأموات في التاريخ، ولكنه يشبه السرطان الذي استؤصل، وبقيت الانتشارات الورمية في كل نسيج، وهو ما يفسر تردي العراق من الفوضى إلى التفسخ. وكان بإمكان العراقيين التصرف كما فعل اليابانيون والألمان في الحرب العالمية الثانية فيعودوا لبناء بلدهم من جديد. ولكن المشكلة في عمقها سيكولوجية. فـ(القابلية) للاستعمار والاستبداد والاحتلال كلها مترادفات لفقد (القدرة على تقرير المصير) بتعبير (أوسفالد شبنجلر) الفيلسوف والمؤرخ الألماني.
ويبدو أن ما سوف يحافظ على تماسك الجثة العراقية (محنطة) في براد التاريخ، كما كان يفعل كهنة آمون في تحنيط الفراعنة، هو الوجود الأمريكي بسبب (البترول)، فهو باحتياطي خرافي يصل إلى 250 مليار برميل، ومن النوع الجيد، وينبع بحفر أمتار في الأرض، وبكلفة استخراج دولار للبرميل الواحد مقابل 15 دولارا لنفط بحر الشمال؟ ويمتد من حقل مجنون في الجنوب إلى كركوك في الشمال في 1832 حقلاً؟
ولفهم ما يجري في العراق فلا بد من الاستعانة بحزمة من (العلوم الإنسانية) المساعدة ، مثل علوم الاجتماع والنفس والتاريخ. وليس مثل العراقيين في معرفة العراق. و(علي الوردي) عالم الاجتماع العراقي رأى أن العراق مبتلى بثلاثة أمراض كل واحد كارثة بحد ذاتها وهي: (صراع البداوة والحضارة) و(التناشز الاجتماعي) و(ازدواج الشخصية). ويقول عن هذه المصائب إنها ليست من بنات أفكاره بل استفادها من علماء اجتماع آخرين. ففكرة (البداوة والحضارة) جاءته من (ابن خلدون) وفكرة (ازدواج الشخصية) استفادها من (مك كايفر) والثالثة من (أوكبرن). وذكر أنه قام بشيء من التعديل فيها لتتطابق مع المجتمع العراقي.
ولفهم هذه الأفكار الثلاث كمدخل لفهم المجتمع العراقي، علينا مراجعة موسوعة الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء ينصح بقراءته في هذه الظروف العاصفة التي يمر بها العراق، وكذلك مذكرات (نوري السعيد) أو ما تركته (الميس بيل) التي شاركت مع الاحتلال البريطاني في توجيه دفة الحكم.
ومفاتيح من هذا النوع تنفع في إضاءة خلفية الأحداث (الثقافية) وجذورها العميقة. فالعراق فيه ألف ملة ونحلة وعشرات اللغات والمذاهب والأعراق والأديان بمن فيهم من يعبد الشيطان الرجيم؟ ومن أراد فهم ما يحدث في العراق من باب السياسة كان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه؟
وأهمية ما يحدث وسيحدث في العراق أنه سيترك بصماته على المنطقة. ولذا كان من مصلحة الأنظمة الشمولية المتخشبة في المنطقة العربية أن تخرج التجربة العراقية كارثة بكل المقاييس حتى يحمد الله كل شعب على السلامة ويهتف بحياة القائد إلى الأبد.
والتعويضات الليبية الأخيرة بمبلغ 33 مليون دولار للألمان بعد الفرنسيين بمبلغ 170 مليون دولار والأمريكيين بمبلغ 2.7 مليار دولار توحي بمدى الضعف الذي بلغه العرب.
ويرى (الوردي) أن الأمراض الثلاثة مترابطة ومتداخلة وتشكل أوجها منوعة لحقيقة واحدة مثل أوجه الهرم الاجتماعي.
ويرى أن (البداوة) تركت بصماتها على العراق لفترة تزيد على ستة قرون بعد انهيار الدولة العباسية، ومعها انهارت سلطة الدولة واختل نظام الأمن وتتابعت الفيضانات والأوبئة والمجاعات والحروب والمذابح، مما جعل الحضارة «تذوي في العراق وتستفحل القيم البدوية» من «العصبية والغزو والثأر والدخالة والتسيار وغسل العار وما شابه». ولعل الانقلاب البعثي حمل قيم الريف إلى المدينة (فتريفت المدينة) وحملت معها كل التراجع في قيم الحضارة.
وهذه القيم عميقة في (اللاشعور)، ولم يتفلت منها حتى أبناء المدن، حيث تسيطر نزعة «ا(لفرهود) و(الغزو) أقوى من نزعة العمل والإنتاج» . فالبائع يود أن «يغلب الزبون بدلا من أن يداريه على طريقة أهل الحضارة». ومنه كثرت المشاجرات بين البائع والمشتري والعامل وصاحب العمل. والويل لمن يريد أن يبني بيتاً «فإنه سوف يحاط بعدد كبير يريد كل واحد منهم انتهاز الفرصة لغبنه والتدليس عليه». وأنا شخصيا لي تجربة مريرة في هذا ولست الوحيد؟
وعندما يستعرض (الوردي) ظاهرة (التناشز الاجتماعي) ، قال إنه أحصى منها 14 نوعاً ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل هي: تناشز (الحقوق والواجبات)، و(المدارس والوظائف)، و(المرأة والرجل)، و(الدين والجيل الجديد). وهو يقصد بهذا المصطلح (التناشز) التناقض بين مجموعتين من القيم. فالعراقي (وينطبق على كثير من العرب) يريد أن تكون عنده حكومة مثل (السويد)، ولكن ليس عنده استعداد الطاعة لها والالتزام بالقوانين، بل يرى الفرد أن الحكومة عدوة له يجب تدميرها، ويظهر هذا في مظاهر شتى كما في تكسير مصابيح الشوارع، أو الخروج عن صف الانتظار، أو تدمير المرافق العامة في المظاهرات، أو نهب الوزارات مع الانهيار البعثي في بغداد، فلم تنجو سوى السباع في أقفاصها بأنيابها؟
والوردي يعزو حصول هذا التناقض الاجتماعي إلى الظاهرة التي تحدث عنها (ألفين توفلر) في كتابه (صدمة المستقبل)، بأن التقدم الحضاري السريع قد حرم من التكيف. وقال إنه في عام 1908 حين وصلت إلى بغداد أول سيارة ، خرج أهل بغداد عن بكرة أبيهم لرؤيتها. وأخذ الكثيرون منهم ينظرون تحت السيارة «ليكتشفوا قوائم الحصان المختفي في بطنها، فهم لم يستطيعوا أن يتصوروا عربة تسير من غير حيوان يجرها؟».
وحين شاهدت عجوزا من أهل الكرخ الترام لأول مرة صاحت «بس على الموت ما يقدرون؟».
وبعد قليل سمعوا أن الإفرنج اخترعوا عربة تطير في الهواء فكان ذلك آخر ما تحتمله عقولهم؟ «وانهار كل حاجز بين المعقول وغير المعقول؟» وتكسر المنطق الارسطاطالي الذي يقول كل عربة لا تطير. وعربة حديد لا تطير. إذا لا يمكن أن يطير الحديد في الهواء.؟ إذا الطائرة خرافة؟
والمنطق الارسطاطالي القديم قد يصلح للجدل، ولكنه لا يصلح لاكتشاف الحقائق أو التثبت منها. وكل صاحب نحلة مقتنع بيقين بصحة مذهبه ومستعد لقتل المختلف عنه، ولو نشأ في طائفة أخرى لوصل إلى نفس القناعة، وهذا يروي أثر البرمجة العقلية في المجتمع.
رأى الناس يوما جحا متشحاً بالسواد، قالوا خيرا ما المصاب؟ قال فقدت عزيزا. قالوا من هو؟ قال مات والد ابني؟
kjalabi@hotmail.com
http://www.asharqalawsat.com/default.asp?page=leader&article=251091&issue=9397
مع أحداث النجف في صيف عام 2004 يتكامل كسوف العراق، فبعد أن مات في ظل (الاستبداد) يغرق حالياً في الفوضى والتفسخ. وعندما تحلق الغربان في الجو فلأنها عثرت على جيفة. وعندما يتكوم النمل فلأنه رأى قطعة عظم أو ذنب سحلية؟ فهذا قانون وجودي ينطبق على العراق وسواه.
وفي (الطب) يحدث للجثث نفس التحول الذي يحدث للمجتمع، فتدخل الجثة أولاً مرحلة (الصمل الجيفي) فتستحيل الجثة إلى قطعة خشب. ثم تتفسخ فيقبل عليها 500 نوع من الحشرات تقوم بالتهامها تدريجياً بحيث يهيئ كل فصيل المناخ للفوج الذي بعده. وفي النهاية يتحلل الجسم فيعود إلى التراب. ومنها خلقناكم وفيها نعيدكم.
وما يحدث في الجثث يحدث في الأمم. فتتخشب في ظل (الاستبداد) ويصبح البدن جاهزا لاستضافة أي إرهابي مثل الجراثيم، فهم من كل حدب ينسلون. وعندما تقتل الأمة بهذه الطريقة ينهار الجهاز المناعي بالكامل، فتصبح جاهزة للاحتلال الخارجي وانفجار كل الأمراض.
وفي النهاية يتحول الوطن إلى بضاعة قابلة للتبادل بين أيدي المغامرين. فلا يبقى إلا العظام وهي رميم. وهو ما حدث للعراق تدريجيا من التنقل بين مناخ الاستبداد ثم الاحتلال الأمريكي وقوى الإرهاب الداخلية والخارجية.
والأمم تموت كما يموت الأفراد، ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يسـتأخرون ساعة ولا يستقدمون. وفي النهاية يتحلل الجسم فيبتلع في بطن قوة أخرى، مثل ضفدع في بطن حية الأناكوندا، كما حدث مع روما التي ابتلعت المجتمع القرطاجي والغالي. وهذا المصير ليس للعراق بل لكل الأنظمة الشمولية التي تقتل الأمة قتلاً.
والأمة التي تبتلى( بالاستبداد) غير التي تعاني من (الاحتلال)، فالثاني (واضح) و(مؤلم) و(علاجه سهل) كما في التهاب الجلد الخارجي، أما (الاستبداد)، فهو مثل السرطان (غير مؤلم) و(غامض) و(ينتشر) بخبث وعلاجه معقد وأحيانا ميئوس منه.
وصدام المصدوم اختفى من مسرح الأحداث وانتقل إلى ملف الأموات في التاريخ، ولكنه يشبه السرطان الذي استؤصل، وبقيت الانتشارات الورمية في كل نسيج، وهو ما يفسر تردي العراق من الفوضى إلى التفسخ. وكان بإمكان العراقيين التصرف كما فعل اليابانيون والألمان في الحرب العالمية الثانية فيعودوا لبناء بلدهم من جديد. ولكن المشكلة في عمقها سيكولوجية. فـ(القابلية) للاستعمار والاستبداد والاحتلال كلها مترادفات لفقد (القدرة على تقرير المصير) بتعبير (أوسفالد شبنجلر) الفيلسوف والمؤرخ الألماني.
ويبدو أن ما سوف يحافظ على تماسك الجثة العراقية (محنطة) في براد التاريخ، كما كان يفعل كهنة آمون في تحنيط الفراعنة، هو الوجود الأمريكي بسبب (البترول)، فهو باحتياطي خرافي يصل إلى 250 مليار برميل، ومن النوع الجيد، وينبع بحفر أمتار في الأرض، وبكلفة استخراج دولار للبرميل الواحد مقابل 15 دولارا لنفط بحر الشمال؟ ويمتد من حقل مجنون في الجنوب إلى كركوك في الشمال في 1832 حقلاً؟
ولفهم ما يجري في العراق فلا بد من الاستعانة بحزمة من (العلوم الإنسانية) المساعدة ، مثل علوم الاجتماع والنفس والتاريخ. وليس مثل العراقيين في معرفة العراق. و(علي الوردي) عالم الاجتماع العراقي رأى أن العراق مبتلى بثلاثة أمراض كل واحد كارثة بحد ذاتها وهي: (صراع البداوة والحضارة) و(التناشز الاجتماعي) و(ازدواج الشخصية). ويقول عن هذه المصائب إنها ليست من بنات أفكاره بل استفادها من علماء اجتماع آخرين. ففكرة (البداوة والحضارة) جاءته من (ابن خلدون) وفكرة (ازدواج الشخصية) استفادها من (مك كايفر) والثالثة من (أوكبرن). وذكر أنه قام بشيء من التعديل فيها لتتطابق مع المجتمع العراقي.
ولفهم هذه الأفكار الثلاث كمدخل لفهم المجتمع العراقي، علينا مراجعة موسوعة الوردي (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). وهو كتاب ضخم في ستة أجزاء ينصح بقراءته في هذه الظروف العاصفة التي يمر بها العراق، وكذلك مذكرات (نوري السعيد) أو ما تركته (الميس بيل) التي شاركت مع الاحتلال البريطاني في توجيه دفة الحكم.
ومفاتيح من هذا النوع تنفع في إضاءة خلفية الأحداث (الثقافية) وجذورها العميقة. فالعراق فيه ألف ملة ونحلة وعشرات اللغات والمذاهب والأعراق والأديان بمن فيهم من يعبد الشيطان الرجيم؟ ومن أراد فهم ما يحدث في العراق من باب السياسة كان كمن يستدبر المغرب وهو يطلبه؟
وأهمية ما يحدث وسيحدث في العراق أنه سيترك بصماته على المنطقة. ولذا كان من مصلحة الأنظمة الشمولية المتخشبة في المنطقة العربية أن تخرج التجربة العراقية كارثة بكل المقاييس حتى يحمد الله كل شعب على السلامة ويهتف بحياة القائد إلى الأبد.
والتعويضات الليبية الأخيرة بمبلغ 33 مليون دولار للألمان بعد الفرنسيين بمبلغ 170 مليون دولار والأمريكيين بمبلغ 2.7 مليار دولار توحي بمدى الضعف الذي بلغه العرب.
ويرى (الوردي) أن الأمراض الثلاثة مترابطة ومتداخلة وتشكل أوجها منوعة لحقيقة واحدة مثل أوجه الهرم الاجتماعي.
ويرى أن (البداوة) تركت بصماتها على العراق لفترة تزيد على ستة قرون بعد انهيار الدولة العباسية، ومعها انهارت سلطة الدولة واختل نظام الأمن وتتابعت الفيضانات والأوبئة والمجاعات والحروب والمذابح، مما جعل الحضارة «تذوي في العراق وتستفحل القيم البدوية» من «العصبية والغزو والثأر والدخالة والتسيار وغسل العار وما شابه». ولعل الانقلاب البعثي حمل قيم الريف إلى المدينة (فتريفت المدينة) وحملت معها كل التراجع في قيم الحضارة.
وهذه القيم عميقة في (اللاشعور)، ولم يتفلت منها حتى أبناء المدن، حيث تسيطر نزعة «ا(لفرهود) و(الغزو) أقوى من نزعة العمل والإنتاج» . فالبائع يود أن «يغلب الزبون بدلا من أن يداريه على طريقة أهل الحضارة». ومنه كثرت المشاجرات بين البائع والمشتري والعامل وصاحب العمل. والويل لمن يريد أن يبني بيتاً «فإنه سوف يحاط بعدد كبير يريد كل واحد منهم انتهاز الفرصة لغبنه والتدليس عليه». وأنا شخصيا لي تجربة مريرة في هذا ولست الوحيد؟
وعندما يستعرض (الوردي) ظاهرة (التناشز الاجتماعي) ، قال إنه أحصى منها 14 نوعاً ثم ذكر أربعة منها بالتفصيل هي: تناشز (الحقوق والواجبات)، و(المدارس والوظائف)، و(المرأة والرجل)، و(الدين والجيل الجديد). وهو يقصد بهذا المصطلح (التناشز) التناقض بين مجموعتين من القيم. فالعراقي (وينطبق على كثير من العرب) يريد أن تكون عنده حكومة مثل (السويد)، ولكن ليس عنده استعداد الطاعة لها والالتزام بالقوانين، بل يرى الفرد أن الحكومة عدوة له يجب تدميرها، ويظهر هذا في مظاهر شتى كما في تكسير مصابيح الشوارع، أو الخروج عن صف الانتظار، أو تدمير المرافق العامة في المظاهرات، أو نهب الوزارات مع الانهيار البعثي في بغداد، فلم تنجو سوى السباع في أقفاصها بأنيابها؟
والوردي يعزو حصول هذا التناقض الاجتماعي إلى الظاهرة التي تحدث عنها (ألفين توفلر) في كتابه (صدمة المستقبل)، بأن التقدم الحضاري السريع قد حرم من التكيف. وقال إنه في عام 1908 حين وصلت إلى بغداد أول سيارة ، خرج أهل بغداد عن بكرة أبيهم لرؤيتها. وأخذ الكثيرون منهم ينظرون تحت السيارة «ليكتشفوا قوائم الحصان المختفي في بطنها، فهم لم يستطيعوا أن يتصوروا عربة تسير من غير حيوان يجرها؟».
وحين شاهدت عجوزا من أهل الكرخ الترام لأول مرة صاحت «بس على الموت ما يقدرون؟».
وبعد قليل سمعوا أن الإفرنج اخترعوا عربة تطير في الهواء فكان ذلك آخر ما تحتمله عقولهم؟ «وانهار كل حاجز بين المعقول وغير المعقول؟» وتكسر المنطق الارسطاطالي الذي يقول كل عربة لا تطير. وعربة حديد لا تطير. إذا لا يمكن أن يطير الحديد في الهواء.؟ إذا الطائرة خرافة؟
والمنطق الارسطاطالي القديم قد يصلح للجدل، ولكنه لا يصلح لاكتشاف الحقائق أو التثبت منها. وكل صاحب نحلة مقتنع بيقين بصحة مذهبه ومستعد لقتل المختلف عنه، ولو نشأ في طائفة أخرى لوصل إلى نفس القناعة، وهذا يروي أثر البرمجة العقلية في المجتمع.
رأى الناس يوما جحا متشحاً بالسواد، قالوا خيرا ما المصاب؟ قال فقدت عزيزا. قالوا من هو؟ قال مات والد ابني؟
kjalabi@hotmail.com
http://www.asharqalawsat.com/default.asp?page=leader&article=251091&issue=9397