الدكتور عادل رضا
08-25-2004, 01:00 AM
--------------------------------------------------------------------------------
المدد الغيبي في حياة الإنسان
--------------------------------------------------------------------------------
ما الفرق بين الرحمة الرحمانيَّة والرحمة الرحيميَّة؟
هناك أنواع من الإمدادات الغيبية، فما هي؟
هل يوجد شروط للمدد الغيبي، أو أنَّه يحصل مجانا؟
هل يمكن الإيمان بفكرة الإلهام والإشراق، أو أنها فكرة قديمة؟
ما هي الفوارق بين الإنسان المادي والإنسان الإلهي.؟
هل يؤثر الإيمان بالغيب على حياة الإنسان؟
كيف يرى المادي نهاية العالَم وكيف يراها الإلهي؟
هل فكرة المهدوية من الإيمان بالغيب؟
--------------------------------------------------------------------------------
أنواع الإمدادات
إن كل شيء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون الإلهي، وبغض النظر عن أن كلّ شيء في الوجود محتاج دائما إلى المدد والعون الإلهي الغيبي، فإن في حياة الإنسان سلسلة من الإمدادات الخاصة، وكأن هناك إمدادات عامة وأخرى خاصة. لكن قبل التعرض لها لا بأس بالإشارة إلى مصطلحين قرآنِيَّيْن:
الرحمة الرحمانيَّة: هي الألطاف الإلهيّة الشاملة لكلِّ الموجودات، فوجود كلِّ شيء في هذا العالَم بنفسه رحمة لذلك الموجود. وكذلك تعتبر كلُّ الوسائل التي خلقت لأجل وجوده والحفاظ على بقائه رحمة له أيضاً، وهذه الرحمة تفاض وفق قوانين طبيعيَّة عامة.
الرحمة الرحيميَّة: هي تلك الألطاف الإلهية الخاصة، التي يستحقها المكلَّف لحسن طاعته وامتثاله وأدائه، وهي تفاض وفق شروط وقوانين خاصة ومعينة.
وقد بعث الله الأنبياء لدفع الناس للإيمان بمثل هذه الألطاف الرحيميَّة الخاصة، فإذا توفَّر مثل هذا الإيمان فينا استحققنا بعض الألطاف وكان لنا طلبها من الله تعالى، ونحن نطلب من الله هذا النوع الخاص من المدد يوميا في صلاتنا،
«إياك نعبد وإياك نستعين»(1).
وتشمل هذه الألطاف الإنسان في حياته الفرديَّة أو الاجتماعيَّة وتنقذه من كثيرٍ من المآزق.
وقد عبر القرآن بحق الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله":
«ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى»(2).
أ الإمدادات الغيبية الفردية (الخاصة)
من خلال الآيات القرآنية نلاحظ وجود نوعين من هذه الإمدادات والألطاف:
1 الموفقيَّة والنجاح: وذلك ما تشير إليه الآية:
«... إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم»(3).
فإنه وعد إلهي بالنصر والنجاح، ومدد غيبي منه تعالى بالنصر(4)، على أعداء الله إلا أنَّه مشروط بشرطين، كما سيأتي.
2 ألطاف وتوجيهات معنويَّة: ويشير إلى هذا النوع قوله تعالى:
« والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين »(5).
وهذا مدد آخر من نوع الهداية والنور القلبي المعنوي الذي يعطيه الله سبحانه لكن بشروط، وكذلك يشير إلى هذا النوع قوله تعالى عن أصحاب الكهف.
«... إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا...»(6).
فهي هداية من الله وقوة في العقيدة وصلابة في القلب.
شروط تحقق الإمداد الغيبيّ
ونلاحظ أنَّ هذا المدد الإلهي الذي ذكرته الآيات لم يعطى مجانا ومن دون أيِّ شرط، بل يوجد شرطان أساسيَّان لكي يتحقق المدد من كلا النوعين:
أ العمل والجهاد، فقوله «إن تنصروا» في الآية الأولى و«والذين جاهدوا » في الآية الثانية و«آمنوا» في الآية الثالثة، يفهم منه صريحا أنَّ إعطاء ومنح النصر «ينصركم» والهداية «لنهدينّهم» و«وزدناهم » ليس عاما وشاملا لكلِّ الناس، بل هو خاص بمن يعمل فينصر ويجاهد ويؤمن بالله.
ب في سبيل الله، فالشرط الأول لوحده غير كاف ما لم يتحقق الشرط الثاني، وهو أن يكون العمل والجهاد كلُّه في سبيل الله، فالنصرة لا بدَّ أن تكون لله «إن تنصروا الله» والمجاهدة لا بدَّ أن تكون في الله «الذين جاهدوا فينا» و«إنهم فتية آمنوا بربهم».
لا بدَّ من السعي
إذن لا يتحقق المدد الغيبي عبثاً ولا مجَّانا ونحن عاكفون في البيوت كما يتوهم بعض الناس، بل لا بدَّ من توفّر كلا الشرطين لكي تتحقق الألطاف الإلهيَّة؛ وليست هذه الشروط من المستحيلات ولا تحتاج إلى مشقة كبيرة في تحققها، لاسيما في المراحل الابتدائيَّة.
فخدمة الناس وقضاء حوائج الإخوان وإعانة الضعفاء والإحسان إلى الوالدين وبعض الأعمال الصالحة لا تحتاج إلى كثير عناء؛ فعلى كلِّ فرد أن يمارس هذه الأعمال حتى يتمكن من رؤية الفيض واللطف والعناية الإلهيَّة(7).
3 الإلهام والإشراق: من أنواع الإمدادات الغيبيَّة تلك الإلهامات التي تشرق فجأة في أذهان بعض المفكرين، والقول بأن العلم والمعرفة والنظريَّات تحصل:
أ بالتجربة والمشاهدة العينيَّة، أو
ب بالاستدلال والقياس،
صحيح لكن لا تنحصر طرق المعرفة بهذين الطريقين، لأنه يوجد طريق آخر وهو الإلهام والإشراق(8)، ولا نقيم على هذه الدعوى برهانا منطقياً، وإنما نشير إلى أقوال العلماء الأفذاذ على وجود هذا الطريق الثالث.
أقوال العلماء
ابن سينا
فسَّر الآية القرآنيَّة
«... يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار...»(9).
بالقوَّة الملهمة الموجودة في كثير من الأفراد.
الغزالي
إن الكثير من المعلومات البشريَّة المتعلقة بالحاجات الحياتيَّة انكشفت في بدايتها للإنسان بواسطة الإلهام(10)، ويقول في حديثه عن إمكان الوحي والنبوَّة(11): إن أفضل دليل على إمكان ذلك هو وقوعه، فإن الكثير من المعارف البشريَّة في مجال الأدوية والعلاجات والنجوم، التي لا نظن أبدا أنهم تعرفوا عليها بواسطة التجربة، قد اهتدى إليها البشر من طريق الإلهام واللطف الإلهي(12).
علماء العصر الحديث
ولا يظن البعض أن مفكري العصر الحديث أعرضوا عن هذا القول، ولا يعتنون إلا بالتجربة والبرهان، بل الكثير من علماء هذا العصر يرون تدخل الإلهام في كثير من الفرضيات العلمية.
ألكسيس كارل
«إنَّ النوابغ بالإضافة إلى امتلاكهم لقدرة المطالعة الواعية وإدراك المسائل والتحقيق فيها، فإنهم يمتلكون قوَّة أخرى، هي قوَّة الإشراق والتصور الخلاَّق، فإنهم تعرَّفوا بواسطة الإشراق على كثير من الأشياء التي كانت غامضة خفيَّة على الآخرين... وعلى الكثير من الكنوز المخبوءة المجهولة، وبدون تحليل واستدلال»(13).
جاك هادامار(14)
«حين نتأمل في الاكتشافات والاختراعات فلا يمكن لنا أن نهمل تأثير الإدراكات الباطنية المفاجئة، فإن كلَّ عالم محقق قد أحسَّ بهذه الحقيقة»(15).
فالإنسان لا يترك وحده دائما بل يتحف أحيانا ببعض الإمدادات الغيبيَّة التي تتحقق بقوة في القلب، أو توفير الأسباب الماديّة للعمل، أو إفاضة الهداية والبصيرة، أو إلهام بالأفكار العلميّة الكبيرة.
ب الإمدادات الغيبيَّة الاجتماعية
هذا المدد الذي تحدثنا عنه كان بالنسبة للفرد الواحد من الناس، فهل تتدخَّل يدُ الغيب وتنقذ المجتمع بأسره وتأخذ بيده إلى شاطئ النجاة؟
نعم ذلك هو الوعد الإلهي:
« ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين»(16).
وإنما كانت بعثت الأنبياء العظام أمثال إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد "صلى الله عليه وآله" في أحلك ظروف البشريّة وأصعبها، حيث كان وجودهم مددا إلهيّا لإنقاذ الناس من الضلال الذي يعيشون فيه.
وقد وصف الإمام علي "عليه السلام" المناخ والأرضيّة التي بعث فيها الرسول الأكرم"صلى الله عليه وآله":
«أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى...»(17).
ففي ظلِّ هذه الظروف الصعبة بُعث الأنبياء لإنقاذ الناس ممَّا هم فيه،
«... وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها ...»(18).
وفي الأدب العربي والفارسي أمثال كثيرة تقول: وعند الشدة يكون الفرج، فليس الأمر كما يتوهَّمه الإنسان المادي أن لا وجود للغيب ولا تأثير له في الحياة، ولا بأس بالإشارة إلى بعض الفروق بين الفكر المادي والإلهي.
العالَم بين الفِكرَين الماديّ والإلهي(19)
إنَّ في العالَم سننا كونية وأخرى تشريعيَّة وهناك أيضا مبادئ وقيماً وأخلاقاً، وهناك أهدافا يسعى إليها الإنسان في حياته ويهيئ الأسباب لتحقيقها، وهناك أموراً وحسابات كثيرة يتعامل معها، كما أنَّ له أجلاً محدوداً تنتهي حياته بانتهائه؛ فكيف يتعامل الإنسان الإلهي الذي يؤمن بالغيب مع كلِّ هذه الأمور في العالَم؟ وفي المقابل كيف يتعامل الإنسان المادي الذي لا يؤمن بالغيب؟
1 يقول المادي: إنَّ عمر الإنسان وأجله لا يتأثر إلا بالعوامل المادية، فهي التي تمنح السلامة للبدن وهي التي تقرب الأجل أو تؤخره.
بينما يرى الإلهي: تأثير الغيب والألطاف الإلهية على عمر الإنسان وأجله.
2 يقول المادي: لا تأثير للسنن التشريعيَّة على السنن الكونيَّة، بمعنى أنَّ العالَم والكون سيَّان عنده التزام الإنسان بالمقررات والقيم والمبادئ وعدمه، لأنه يعتقد أنَّ العالَم لا شعور ولا إدراك له حتى يميز أنصار الحق والعدل والحقيقة ويقف بوجه الظلم والباطل.
بينما يرى الإلهي: أنَّ العالَم يقف إلى جانب أنصار الحق والعدل والخير والرسالة الحقَّة، ويختلف موقفه هذا مع أنصار الظلم والعدوان ومع الكافرين، لأنه يعتقد أنَّ إله الكون قادر على التصرف فيه ليصب في صالح المؤمنين.
3 يقول المادي: إن النتيجة التي يصل إليها الإنسان في أيِّ عمل لا بدَّ وأن تتساوى مع الجهود التي بذلها، فلا تزيد عنها ولا تنقص.
بينما يرى الإلهي: أنَّ النتيجة التي يصل إليها الإنسان المؤمن أكبر بكثير من المقدمات التي يوفرها لأنه، يعتقد أن العالَم والكون كلَّه يهب لنصرته ومعونته(20).
العِلم والمدد الغيبي؟(21)
قد يصوِّر البعض الخطرَ الذي يواجه الإنسان والعالَم أنَّه نتيجة الجهالة التي كانت تستحوذ على بعض الناس، ولكن عندما بلغنا عصر العلم والتطور والنور، وبعد أن تعرَّف العقل على كثير من الحقائق والأسرار الأرضيَّة والسماويَّة، فهو كفيل برفع كلِّ المخاطر وسدِّ كلِّ احتياجات الإنسان ورغباته ولسنا بحاجة لأيِّ مدد غيبي.
هذا الكلام ليس إلا وهما باطلا، فإنَّ المخاطر التي يواجهها إنسان العلم والتقدم أكثر بكثير من تلك التي كان يواجهها إنسان العصور الماضية، والسؤال العلمي الذي يطرح في هذا المقام: ما هو سبب انحراف البشر ممَّا يؤدي إلى وقوع المخاطر والدمار؟ هل هو الجهل كما يدعي هذا البعض أو أسباب أخرى؟
أسباب الانحراف
1 الجهل: كما تدَّعيه بعض النظريات المطروحة حول أسباب الانحراف، إلا أنَّ هذه النظريَّة غير كاملة، إذ لو كانت نظريَّة كاملة لاكتفى العلماء بتعليم الناس لرفع كلِّ أنحاء الظلم ودفع أي انحراف ممكن.
2 عبادة النفس: فإن الجهل ليس هو السبب الوحيد لانحراف الناس، بل هو ضعيف على الانحراف وأمَّا العامل القوي فهو عبادة النفس.
فحب الجاه والمنصب والعظمة والشهرة، والاستسلام للشهوة والغضب والغرائز الثائرة، وعدم التعادل بين الميول والرغبات والغرائز، كلُّ ذلك يرجع إلى عبادة النفس الذي يؤدي إلى الانحراف والدمار والوقوع في أخطاء مؤلمة.
وعلى ضوء هذه الأسباب يتضح الردُّ على ذلك التوهم، ففي هذا العصر وإن ارتفع الجهل وهو السبب الأول للانحراف لكن يبقى السبب الثاني الأقوى موجودا، فهل الغرائز البشريَّة متوازنة ومعتدلة؟! فهل زالت عبادة النفس من نفوس البشريَّة لاسيما حكام العالم وملوكه؟!
أو أنَّ الغضب والظلم وحبُّ الجاه والمنصب والثروة والمنفعة والانتقام ما زال مسيطراً على كثير من النفوس، بل أصبحت هذه الغرائز في عصر العلم أكثر جنونا ووحشيَّة، لأنَّ العلم بدل أن يكون في خدمة البشريَّة ومصلحتها، نراه في خدمة أصحاب هذه الأهواء المنحرفة وخدمتهم، وبدل أن تكون الطائرة لنقل الناس من بلد إلى بلد، نراها تقتل الناس في مساكنهم الآمنة؛ فالعلم الذي هو أكبر صديقا للإنسان أصبح من أشدِّ أعدائه حقداً عليه.
العلم وأهداف الإنسان
للإنسان أهداف كثيرة في الحياة يسعى إلى تحقيقها، ولكنه قد يعطي قيمة لبعض الأشياء التي لا قيمة لها في الواقع، وفي نفس الوقت يسخِّرُ العلمَ لتحقيق أهدافه وغاياته كلها المشروعة واللامشروعة، والتي لها قيمة وينبغي أن يسعى لها والتي لا ينبغي أن يسعى خلفها من الأساس، والعلم لا يستطيع أن يغيَّر قيم الأشياء في نظر الإنسان، ولا يستطيع أن يغيَّر أهدافه، لأنَّ الإنسان يسخر كلَّ شيء له وفي خدمته، وعليه فمن الذي يمكن أن يوجه الإنسان نحو الحقيقة والصواب، ومن الذي يمكن أن يعرِّفه الهدف المشروع من الهدف اللامشروع؟
الجواب: الدين هو الوحيد الذي يوجه الإنسان نحو الحقيقة، وهو الذي يعلم الإنسان القيم والمبادئ العالية ويرغبه فيها، ويبعده عن كل العادات والتقاليد والأهداف اللامشروعة، وهو الذي يقوِّم كلَّ الغرائز الإنسانية ويسلك بها الطريق الصحيح الموصل إلى الأهداف المطلوبة.
مستقبل العالَم
قد يصوِّر بعض الماديين بنظرة تشاؤميَّة نهاية مؤلمة للعالم من حروب ودمار وفناء للبشريَّة، وتذهب بالتالي كلُّ جهود الناس عبر السنين لإعمار الأرض أدراج الرياح، وهذه نتيجة طبيعيَّة لما يرونه من أعمال ظاهرية وآثار ملموسة، فهم يعيشون مضطربين في هذه الحياة قلقين خائفين من المستقبل المخيف(22).
بينما الإنسان الإلهي المسلم ينظر إلى نهاية العالَم نظرة ملؤها التفاؤل والخير، فهو لا يرى فناء العالَم بهذه البساطة، وبيد القِوى المخرِّبة من البشر، بل يعتقد بالأنبياء وتعاليمهم وأنه سيحصل المدد الغيبي، فيعطيهم ذلك الطمأنينة في الحياة فلا يعيرون بالاً لكلِّ الأقاويل التي تُحاك حول هذه المخاوف، ويؤمنون بأن الله عالم حكيم عادل، قد خلق الكون عبر ملايين السنين ومهَّده للإنسان، فلا بدَّ أن يوصل الإنسان إلى غاية معقولة مرجوَّة لا أن يوصله إلى الدمار الشامل وبهذه السهولة.
وقد قال السبزواري في منظومته:
إذ مقتضى الحكمة والعناية
إيصال كل ممكن لغاية(23)
فلو أوصله إلى الدمار لكان خلق الإنسان لغوا وعبثا وساحة الله منزهة عن ذلك.
المهدوية آخر الزمان
يرى الإلهي أنَّ الأمور ستشتدُّ وتسوء، ولكن لا تكون النهاية هي الفناء مباشرة، بل ليس بعد الشدَّة إلا الرخاء وليس بعد العسر إلا اليسر، فلا بدَّ أن يظهر المخلص والمنقذ للبشريَّة ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، وكما كان يرسل الله الأنبياء في محتلك الظروف لهداية وإنقاذ الناس من الهلاك، سيرسل المخلص للأرض من أيدي المجرمين والقتلة، فلا يلمع البرق إلا في مدلهَّمات الغيوم، وهذه هي فكرة المهدويّة التي يعتقد بها الشيعة، فهم يعتقدون بظهور إمام عادل من ذرية النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" يخلص البشرية كلها لا المسلمين فقط، ويحكم بالعدل بين الناس، ويملأ الخير والسعادة والهناء كلَّ أرجاء المعمورة،
«وأَشْرقت الأرض بنور ربها...»(24).
وهو ذلك اليوم الذي يذكره الحديث:
«إذا قام القائم حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كلّ حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان، أما سمعت الله سبحانه يقول:
«... وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون »(25).
وحكم بين الناس بحكم داوود وحكم محمد "صلى الله عليه وآله" فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعا لصدقته ولا لبرِّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين... وهو قوله تعالى: «... والعاقبة للمتقين »(27) (26).
وعن مستقبل العالم يتحدث أمير المؤمنين "عليه السلام":
«حتى تقوم الحرب بكم على ساق، باديا نواجذها، مملوءة أخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها، ألا وفي غدٍ وسيأتي غ بما لا تعرفون يأخذ الوالي من غيرها عمالها، على مساوي أعمالها، وتخرج الأرض له أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة»(28).
فالإمام "عليه السلام" يشير إلى مستقبل رهيب قاتم، لكنَّه يبشِّر بفجر ناصع بعد ليل بهيم، وبهذا الاعتقاد تزول كلُّ المخاوف ويعيش الإنسان الإلهي الطمأنينة والراحة، نعم إنه وعد إلهي:
« ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون »(29).
فللإيمان بالغيب تأثير عملي على الإنسان وسلوكه في الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
الخلاصة
الإمداد الغيبي في هذه الحياة على أنواع، منها ما هو فردي ومنها ما هو اجتماعي، فقد يمنُّ الله بالنصر وقد يمنُّ بالهداية وقد يمنُّ بالإلهام على بعض الأشخاص، وقد يمنُّ على الأمة قاطبة بالإنقاذ من الضلال، ولكن كلّ ذلك لا يكون عبثا ومن دون أيِّ شرط، بل لا بدَّ من العمل والنصرة وأن يكون ذلك لله وفي الله.
وهناك فروق بين الإنسان المادي والإنسان الإلهي الذي يؤمن بالغيب، منها أن نفس هذا الإيمان يخلق انعكاسا عمليا يظهر بصورة طمأنينة وارتياح ونظرة تفاؤليَّة للعالَم، فالعالم يسير بحسب الظواهر الطبيعية نحو الدمار الشامل إلا أنَّ المؤمن بتعاليم الأنبياء وبالغيب يؤمن بالإمداد الغيبي وأنَّ بعد الشدة الرخاء، وسيحكم العالَم بالعدل المؤمنون الصالحون، وعدا من ربِّ العالمين.
والحمد لله ربّ العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة الفاتحة، الآية/4.
(2) سورة الضحى، الآيات/876.
(3) سورة محمد، الآية/7.
(4) وذلك ورد صريحا في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين"عليه السلام": «... ولقد كان الرجل منَّا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرَّة لنا من عدوِّنا ومرَّة لعدوِّنا منَّا، فلمَّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوِّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقرَّ الإسلام...» من كلام له في وصف حربهم على عهد النبي "صلى الله عليه وآله" ج1، ص104، تحقيق الشيخ محمد عبدو، الخطبة 56.
(5) سورة العنكبوت، الآية/69.
(6) سورة الكهف، الآيتان/1413، ويمكن فهم ذلك من اعتقاد أصحاب الكهف الظاهر من كلامهم الوارد في الذكْر الحكيم: «وإِذِ اعتَزَلتموهم وما يعبدون إلا الله فأْووا إلى الكهفِ ينشرْ لكم ربُّكم من رحمتِهِ ويهيئْ لكم من أمْرِكُم مِرْفَقاً» الكهف/16 (المحرِّر).
(7) ملاحظة: لقد تعرض الشهيد مطهري لبحث الفرق بين الفكر المادي والإلهي هنا إلا أننا رأينا تأخيره عن ذكر جميع أنواع الإمدادات الغيبية، فهو موجود بعد بحث الإمدادات الغيبية الاجتماعية (المحرِّر).
(8) بل قيل إنه حتى في هذين الطريقين يوجد بالنظرة الفلسفية الدقيقة منشأ إلهامي، وقد قال الملا السبزواري في مقدمة منطق المنظومة: والملهم المبدع العليمءءء حيّ قديم منه عظيم.
(9) سورة النور، الآية/35.
(10) كتاب المنقذ من الضلال (بتصرف).
(11) وفي نفس المقام يرى الشيخ نصير الدين الطوسي كثيرا من الصناعات قد توصل إليها البشر بواسطة الإلهام.
(12) ينقل الشهيد مطهري شعرا المولوي يصبُّ في خانة أن جميع الحرف مستمدَّة من الوحي والعقل قام على تكثيرها وتطويرها.
(13) من كتابه الإنسان ذلك المجهول، ص134 (بتصرف)، ويقوم بتقسيم العلماء إلى قسمين: المنطقيين والإشراقيين، ويرى أن التطور العلمي مدين لهاتين الفئتين من العلماء، ويقوم بذكر مجموعة من الرياضيين من فئة الإشراقيين الملهمين.
(14) وهو أحد الرياضيين الفرنسيين.
(15) وهي أن الحياة والمسائل العلميَّة مؤلفة من الفعاليَّات والنشاطات، التي كان للشعور والإرادة دخل في بعضها والبعض الآخر منها ناشئ من بعض الإلهامات الباطنيَّة. من مقالة له تحت عنوان تأثير الشعور الباطن في البحوث العلميَّة، (بتصرف).
(16) سورة القصص، الآية/5.
(17) من خطبة له "عليه السلام" في حال الناس من قبل البعثة، نهج البلاغة، ج1، ص156، الخطبة 87، تحقيق الشيخ محمد عبدو.
(18) سورة آل عمران، الآية/103.
(19) يراجع من يريد التوسّع كتاب (الإنسان والقدر) للشهيد مطهري تحت عنوان تأثير العوامل المعنويَّة على المصير.
(20) هناك فارق رابع تأتي الإشارة إليه آخر البحث تحت عنوان مستقبل العالَم، فإنَّ لكلٍّ منهما نظرة مختلفة عن الآخر.
(21) عنوان هذه الفقرة في الكتاب الأصلي هو المهدوية في الإسلام، إلا أنَّ الشهيد مطهري لم يذكر حول هذا العنوان سوى فقرة صغيرة سنذكرها في المكان الذي اخترناه لها (المحرِّر).
(22) ينقل الشهيد مطهري كلاما طويلا لراسل من كتابه الطموحات الجديدة يحث الناس على اتخاذ القرار بمواجهة هذا الخوف بدل أن نبقى مذعورين حائرين.
(23) المنظومة، قسم الحكمة، مبحث الغاية.
(24) سورة الزمر، الآية/69.
(25) سورة آل عمران، الآية/83.
(26) سورة الأعراف، الآية/128.
(27) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج52، ص339، وروضة الواعظين، للفتّال النيسابوري، ص265.
(28) نهج البلاغة، من خطبة له "عليه السلام" يومي فيها إلى ذكر الملاحم، ج2، الخطبة 136، تحقيق الشيخ محمد عبدو.
(29) سورة الأنبياء، الآية/105.
المدد الغيبي في حياة الإنسان
--------------------------------------------------------------------------------
ما الفرق بين الرحمة الرحمانيَّة والرحمة الرحيميَّة؟
هناك أنواع من الإمدادات الغيبية، فما هي؟
هل يوجد شروط للمدد الغيبي، أو أنَّه يحصل مجانا؟
هل يمكن الإيمان بفكرة الإلهام والإشراق، أو أنها فكرة قديمة؟
ما هي الفوارق بين الإنسان المادي والإنسان الإلهي.؟
هل يؤثر الإيمان بالغيب على حياة الإنسان؟
كيف يرى المادي نهاية العالَم وكيف يراها الإلهي؟
هل فكرة المهدوية من الإيمان بالغيب؟
--------------------------------------------------------------------------------
أنواع الإمدادات
إن كل شيء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون الإلهي، وبغض النظر عن أن كلّ شيء في الوجود محتاج دائما إلى المدد والعون الإلهي الغيبي، فإن في حياة الإنسان سلسلة من الإمدادات الخاصة، وكأن هناك إمدادات عامة وأخرى خاصة. لكن قبل التعرض لها لا بأس بالإشارة إلى مصطلحين قرآنِيَّيْن:
الرحمة الرحمانيَّة: هي الألطاف الإلهيّة الشاملة لكلِّ الموجودات، فوجود كلِّ شيء في هذا العالَم بنفسه رحمة لذلك الموجود. وكذلك تعتبر كلُّ الوسائل التي خلقت لأجل وجوده والحفاظ على بقائه رحمة له أيضاً، وهذه الرحمة تفاض وفق قوانين طبيعيَّة عامة.
الرحمة الرحيميَّة: هي تلك الألطاف الإلهية الخاصة، التي يستحقها المكلَّف لحسن طاعته وامتثاله وأدائه، وهي تفاض وفق شروط وقوانين خاصة ومعينة.
وقد بعث الله الأنبياء لدفع الناس للإيمان بمثل هذه الألطاف الرحيميَّة الخاصة، فإذا توفَّر مثل هذا الإيمان فينا استحققنا بعض الألطاف وكان لنا طلبها من الله تعالى، ونحن نطلب من الله هذا النوع الخاص من المدد يوميا في صلاتنا،
«إياك نعبد وإياك نستعين»(1).
وتشمل هذه الألطاف الإنسان في حياته الفرديَّة أو الاجتماعيَّة وتنقذه من كثيرٍ من المآزق.
وقد عبر القرآن بحق الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله":
«ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى»(2).
أ الإمدادات الغيبية الفردية (الخاصة)
من خلال الآيات القرآنية نلاحظ وجود نوعين من هذه الإمدادات والألطاف:
1 الموفقيَّة والنجاح: وذلك ما تشير إليه الآية:
«... إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم»(3).
فإنه وعد إلهي بالنصر والنجاح، ومدد غيبي منه تعالى بالنصر(4)، على أعداء الله إلا أنَّه مشروط بشرطين، كما سيأتي.
2 ألطاف وتوجيهات معنويَّة: ويشير إلى هذا النوع قوله تعالى:
« والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين »(5).
وهذا مدد آخر من نوع الهداية والنور القلبي المعنوي الذي يعطيه الله سبحانه لكن بشروط، وكذلك يشير إلى هذا النوع قوله تعالى عن أصحاب الكهف.
«... إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا...»(6).
فهي هداية من الله وقوة في العقيدة وصلابة في القلب.
شروط تحقق الإمداد الغيبيّ
ونلاحظ أنَّ هذا المدد الإلهي الذي ذكرته الآيات لم يعطى مجانا ومن دون أيِّ شرط، بل يوجد شرطان أساسيَّان لكي يتحقق المدد من كلا النوعين:
أ العمل والجهاد، فقوله «إن تنصروا» في الآية الأولى و«والذين جاهدوا » في الآية الثانية و«آمنوا» في الآية الثالثة، يفهم منه صريحا أنَّ إعطاء ومنح النصر «ينصركم» والهداية «لنهدينّهم» و«وزدناهم » ليس عاما وشاملا لكلِّ الناس، بل هو خاص بمن يعمل فينصر ويجاهد ويؤمن بالله.
ب في سبيل الله، فالشرط الأول لوحده غير كاف ما لم يتحقق الشرط الثاني، وهو أن يكون العمل والجهاد كلُّه في سبيل الله، فالنصرة لا بدَّ أن تكون لله «إن تنصروا الله» والمجاهدة لا بدَّ أن تكون في الله «الذين جاهدوا فينا» و«إنهم فتية آمنوا بربهم».
لا بدَّ من السعي
إذن لا يتحقق المدد الغيبي عبثاً ولا مجَّانا ونحن عاكفون في البيوت كما يتوهم بعض الناس، بل لا بدَّ من توفّر كلا الشرطين لكي تتحقق الألطاف الإلهيَّة؛ وليست هذه الشروط من المستحيلات ولا تحتاج إلى مشقة كبيرة في تحققها، لاسيما في المراحل الابتدائيَّة.
فخدمة الناس وقضاء حوائج الإخوان وإعانة الضعفاء والإحسان إلى الوالدين وبعض الأعمال الصالحة لا تحتاج إلى كثير عناء؛ فعلى كلِّ فرد أن يمارس هذه الأعمال حتى يتمكن من رؤية الفيض واللطف والعناية الإلهيَّة(7).
3 الإلهام والإشراق: من أنواع الإمدادات الغيبيَّة تلك الإلهامات التي تشرق فجأة في أذهان بعض المفكرين، والقول بأن العلم والمعرفة والنظريَّات تحصل:
أ بالتجربة والمشاهدة العينيَّة، أو
ب بالاستدلال والقياس،
صحيح لكن لا تنحصر طرق المعرفة بهذين الطريقين، لأنه يوجد طريق آخر وهو الإلهام والإشراق(8)، ولا نقيم على هذه الدعوى برهانا منطقياً، وإنما نشير إلى أقوال العلماء الأفذاذ على وجود هذا الطريق الثالث.
أقوال العلماء
ابن سينا
فسَّر الآية القرآنيَّة
«... يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار...»(9).
بالقوَّة الملهمة الموجودة في كثير من الأفراد.
الغزالي
إن الكثير من المعلومات البشريَّة المتعلقة بالحاجات الحياتيَّة انكشفت في بدايتها للإنسان بواسطة الإلهام(10)، ويقول في حديثه عن إمكان الوحي والنبوَّة(11): إن أفضل دليل على إمكان ذلك هو وقوعه، فإن الكثير من المعارف البشريَّة في مجال الأدوية والعلاجات والنجوم، التي لا نظن أبدا أنهم تعرفوا عليها بواسطة التجربة، قد اهتدى إليها البشر من طريق الإلهام واللطف الإلهي(12).
علماء العصر الحديث
ولا يظن البعض أن مفكري العصر الحديث أعرضوا عن هذا القول، ولا يعتنون إلا بالتجربة والبرهان، بل الكثير من علماء هذا العصر يرون تدخل الإلهام في كثير من الفرضيات العلمية.
ألكسيس كارل
«إنَّ النوابغ بالإضافة إلى امتلاكهم لقدرة المطالعة الواعية وإدراك المسائل والتحقيق فيها، فإنهم يمتلكون قوَّة أخرى، هي قوَّة الإشراق والتصور الخلاَّق، فإنهم تعرَّفوا بواسطة الإشراق على كثير من الأشياء التي كانت غامضة خفيَّة على الآخرين... وعلى الكثير من الكنوز المخبوءة المجهولة، وبدون تحليل واستدلال»(13).
جاك هادامار(14)
«حين نتأمل في الاكتشافات والاختراعات فلا يمكن لنا أن نهمل تأثير الإدراكات الباطنية المفاجئة، فإن كلَّ عالم محقق قد أحسَّ بهذه الحقيقة»(15).
فالإنسان لا يترك وحده دائما بل يتحف أحيانا ببعض الإمدادات الغيبيَّة التي تتحقق بقوة في القلب، أو توفير الأسباب الماديّة للعمل، أو إفاضة الهداية والبصيرة، أو إلهام بالأفكار العلميّة الكبيرة.
ب الإمدادات الغيبيَّة الاجتماعية
هذا المدد الذي تحدثنا عنه كان بالنسبة للفرد الواحد من الناس، فهل تتدخَّل يدُ الغيب وتنقذ المجتمع بأسره وتأخذ بيده إلى شاطئ النجاة؟
نعم ذلك هو الوعد الإلهي:
« ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين»(16).
وإنما كانت بعثت الأنبياء العظام أمثال إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمد "صلى الله عليه وآله" في أحلك ظروف البشريّة وأصعبها، حيث كان وجودهم مددا إلهيّا لإنقاذ الناس من الضلال الذي يعيشون فيه.
وقد وصف الإمام علي "عليه السلام" المناخ والأرضيّة التي بعث فيها الرسول الأكرم"صلى الله عليه وآله":
«أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزام من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، وإياس من ثمرها، واغورار من مائها، قد درست منار الهدى، وظهرت أعلام الردى...»(17).
ففي ظلِّ هذه الظروف الصعبة بُعث الأنبياء لإنقاذ الناس ممَّا هم فيه،
«... وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها ...»(18).
وفي الأدب العربي والفارسي أمثال كثيرة تقول: وعند الشدة يكون الفرج، فليس الأمر كما يتوهَّمه الإنسان المادي أن لا وجود للغيب ولا تأثير له في الحياة، ولا بأس بالإشارة إلى بعض الفروق بين الفكر المادي والإلهي.
العالَم بين الفِكرَين الماديّ والإلهي(19)
إنَّ في العالَم سننا كونية وأخرى تشريعيَّة وهناك أيضا مبادئ وقيماً وأخلاقاً، وهناك أهدافا يسعى إليها الإنسان في حياته ويهيئ الأسباب لتحقيقها، وهناك أموراً وحسابات كثيرة يتعامل معها، كما أنَّ له أجلاً محدوداً تنتهي حياته بانتهائه؛ فكيف يتعامل الإنسان الإلهي الذي يؤمن بالغيب مع كلِّ هذه الأمور في العالَم؟ وفي المقابل كيف يتعامل الإنسان المادي الذي لا يؤمن بالغيب؟
1 يقول المادي: إنَّ عمر الإنسان وأجله لا يتأثر إلا بالعوامل المادية، فهي التي تمنح السلامة للبدن وهي التي تقرب الأجل أو تؤخره.
بينما يرى الإلهي: تأثير الغيب والألطاف الإلهية على عمر الإنسان وأجله.
2 يقول المادي: لا تأثير للسنن التشريعيَّة على السنن الكونيَّة، بمعنى أنَّ العالَم والكون سيَّان عنده التزام الإنسان بالمقررات والقيم والمبادئ وعدمه، لأنه يعتقد أنَّ العالَم لا شعور ولا إدراك له حتى يميز أنصار الحق والعدل والحقيقة ويقف بوجه الظلم والباطل.
بينما يرى الإلهي: أنَّ العالَم يقف إلى جانب أنصار الحق والعدل والخير والرسالة الحقَّة، ويختلف موقفه هذا مع أنصار الظلم والعدوان ومع الكافرين، لأنه يعتقد أنَّ إله الكون قادر على التصرف فيه ليصب في صالح المؤمنين.
3 يقول المادي: إن النتيجة التي يصل إليها الإنسان في أيِّ عمل لا بدَّ وأن تتساوى مع الجهود التي بذلها، فلا تزيد عنها ولا تنقص.
بينما يرى الإلهي: أنَّ النتيجة التي يصل إليها الإنسان المؤمن أكبر بكثير من المقدمات التي يوفرها لأنه، يعتقد أن العالَم والكون كلَّه يهب لنصرته ومعونته(20).
العِلم والمدد الغيبي؟(21)
قد يصوِّر البعض الخطرَ الذي يواجه الإنسان والعالَم أنَّه نتيجة الجهالة التي كانت تستحوذ على بعض الناس، ولكن عندما بلغنا عصر العلم والتطور والنور، وبعد أن تعرَّف العقل على كثير من الحقائق والأسرار الأرضيَّة والسماويَّة، فهو كفيل برفع كلِّ المخاطر وسدِّ كلِّ احتياجات الإنسان ورغباته ولسنا بحاجة لأيِّ مدد غيبي.
هذا الكلام ليس إلا وهما باطلا، فإنَّ المخاطر التي يواجهها إنسان العلم والتقدم أكثر بكثير من تلك التي كان يواجهها إنسان العصور الماضية، والسؤال العلمي الذي يطرح في هذا المقام: ما هو سبب انحراف البشر ممَّا يؤدي إلى وقوع المخاطر والدمار؟ هل هو الجهل كما يدعي هذا البعض أو أسباب أخرى؟
أسباب الانحراف
1 الجهل: كما تدَّعيه بعض النظريات المطروحة حول أسباب الانحراف، إلا أنَّ هذه النظريَّة غير كاملة، إذ لو كانت نظريَّة كاملة لاكتفى العلماء بتعليم الناس لرفع كلِّ أنحاء الظلم ودفع أي انحراف ممكن.
2 عبادة النفس: فإن الجهل ليس هو السبب الوحيد لانحراف الناس، بل هو ضعيف على الانحراف وأمَّا العامل القوي فهو عبادة النفس.
فحب الجاه والمنصب والعظمة والشهرة، والاستسلام للشهوة والغضب والغرائز الثائرة، وعدم التعادل بين الميول والرغبات والغرائز، كلُّ ذلك يرجع إلى عبادة النفس الذي يؤدي إلى الانحراف والدمار والوقوع في أخطاء مؤلمة.
وعلى ضوء هذه الأسباب يتضح الردُّ على ذلك التوهم، ففي هذا العصر وإن ارتفع الجهل وهو السبب الأول للانحراف لكن يبقى السبب الثاني الأقوى موجودا، فهل الغرائز البشريَّة متوازنة ومعتدلة؟! فهل زالت عبادة النفس من نفوس البشريَّة لاسيما حكام العالم وملوكه؟!
أو أنَّ الغضب والظلم وحبُّ الجاه والمنصب والثروة والمنفعة والانتقام ما زال مسيطراً على كثير من النفوس، بل أصبحت هذه الغرائز في عصر العلم أكثر جنونا ووحشيَّة، لأنَّ العلم بدل أن يكون في خدمة البشريَّة ومصلحتها، نراه في خدمة أصحاب هذه الأهواء المنحرفة وخدمتهم، وبدل أن تكون الطائرة لنقل الناس من بلد إلى بلد، نراها تقتل الناس في مساكنهم الآمنة؛ فالعلم الذي هو أكبر صديقا للإنسان أصبح من أشدِّ أعدائه حقداً عليه.
العلم وأهداف الإنسان
للإنسان أهداف كثيرة في الحياة يسعى إلى تحقيقها، ولكنه قد يعطي قيمة لبعض الأشياء التي لا قيمة لها في الواقع، وفي نفس الوقت يسخِّرُ العلمَ لتحقيق أهدافه وغاياته كلها المشروعة واللامشروعة، والتي لها قيمة وينبغي أن يسعى لها والتي لا ينبغي أن يسعى خلفها من الأساس، والعلم لا يستطيع أن يغيَّر قيم الأشياء في نظر الإنسان، ولا يستطيع أن يغيَّر أهدافه، لأنَّ الإنسان يسخر كلَّ شيء له وفي خدمته، وعليه فمن الذي يمكن أن يوجه الإنسان نحو الحقيقة والصواب، ومن الذي يمكن أن يعرِّفه الهدف المشروع من الهدف اللامشروع؟
الجواب: الدين هو الوحيد الذي يوجه الإنسان نحو الحقيقة، وهو الذي يعلم الإنسان القيم والمبادئ العالية ويرغبه فيها، ويبعده عن كل العادات والتقاليد والأهداف اللامشروعة، وهو الذي يقوِّم كلَّ الغرائز الإنسانية ويسلك بها الطريق الصحيح الموصل إلى الأهداف المطلوبة.
مستقبل العالَم
قد يصوِّر بعض الماديين بنظرة تشاؤميَّة نهاية مؤلمة للعالم من حروب ودمار وفناء للبشريَّة، وتذهب بالتالي كلُّ جهود الناس عبر السنين لإعمار الأرض أدراج الرياح، وهذه نتيجة طبيعيَّة لما يرونه من أعمال ظاهرية وآثار ملموسة، فهم يعيشون مضطربين في هذه الحياة قلقين خائفين من المستقبل المخيف(22).
بينما الإنسان الإلهي المسلم ينظر إلى نهاية العالَم نظرة ملؤها التفاؤل والخير، فهو لا يرى فناء العالَم بهذه البساطة، وبيد القِوى المخرِّبة من البشر، بل يعتقد بالأنبياء وتعاليمهم وأنه سيحصل المدد الغيبي، فيعطيهم ذلك الطمأنينة في الحياة فلا يعيرون بالاً لكلِّ الأقاويل التي تُحاك حول هذه المخاوف، ويؤمنون بأن الله عالم حكيم عادل، قد خلق الكون عبر ملايين السنين ومهَّده للإنسان، فلا بدَّ أن يوصل الإنسان إلى غاية معقولة مرجوَّة لا أن يوصله إلى الدمار الشامل وبهذه السهولة.
وقد قال السبزواري في منظومته:
إذ مقتضى الحكمة والعناية
إيصال كل ممكن لغاية(23)
فلو أوصله إلى الدمار لكان خلق الإنسان لغوا وعبثا وساحة الله منزهة عن ذلك.
المهدوية آخر الزمان
يرى الإلهي أنَّ الأمور ستشتدُّ وتسوء، ولكن لا تكون النهاية هي الفناء مباشرة، بل ليس بعد الشدَّة إلا الرخاء وليس بعد العسر إلا اليسر، فلا بدَّ أن يظهر المخلص والمنقذ للبشريَّة ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، وكما كان يرسل الله الأنبياء في محتلك الظروف لهداية وإنقاذ الناس من الهلاك، سيرسل المخلص للأرض من أيدي المجرمين والقتلة، فلا يلمع البرق إلا في مدلهَّمات الغيوم، وهذه هي فكرة المهدويّة التي يعتقد بها الشيعة، فهم يعتقدون بظهور إمام عادل من ذرية النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله" يخلص البشرية كلها لا المسلمين فقط، ويحكم بالعدل بين الناس، ويملأ الخير والسعادة والهناء كلَّ أرجاء المعمورة،
«وأَشْرقت الأرض بنور ربها...»(24).
وهو ذلك اليوم الذي يذكره الحديث:
«إذا قام القائم حكم بالعدل، وارتفع في أيامه الجور، وأمنت به السبل، وأخرجت الأرض بركاتها، ورد كلّ حق إلى أهله، ولم يبق أهل دين حتى يظهروا الإسلام ويعترفوا بالإيمان، أما سمعت الله سبحانه يقول:
«... وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون »(25).
وحكم بين الناس بحكم داوود وحكم محمد "صلى الله عليه وآله" فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، ولا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعا لصدقته ولا لبرِّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين... وهو قوله تعالى: «... والعاقبة للمتقين »(27) (26).
وعن مستقبل العالم يتحدث أمير المؤمنين "عليه السلام":
«حتى تقوم الحرب بكم على ساق، باديا نواجذها، مملوءة أخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها، ألا وفي غدٍ وسيأتي غ بما لا تعرفون يأخذ الوالي من غيرها عمالها، على مساوي أعمالها، وتخرج الأرض له أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنة»(28).
فالإمام "عليه السلام" يشير إلى مستقبل رهيب قاتم، لكنَّه يبشِّر بفجر ناصع بعد ليل بهيم، وبهذا الاعتقاد تزول كلُّ المخاوف ويعيش الإنسان الإلهي الطمأنينة والراحة، نعم إنه وعد إلهي:
« ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون »(29).
فللإيمان بالغيب تأثير عملي على الإنسان وسلوكه في الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
الخلاصة
الإمداد الغيبي في هذه الحياة على أنواع، منها ما هو فردي ومنها ما هو اجتماعي، فقد يمنُّ الله بالنصر وقد يمنُّ بالهداية وقد يمنُّ بالإلهام على بعض الأشخاص، وقد يمنُّ على الأمة قاطبة بالإنقاذ من الضلال، ولكن كلّ ذلك لا يكون عبثا ومن دون أيِّ شرط، بل لا بدَّ من العمل والنصرة وأن يكون ذلك لله وفي الله.
وهناك فروق بين الإنسان المادي والإنسان الإلهي الذي يؤمن بالغيب، منها أن نفس هذا الإيمان يخلق انعكاسا عمليا يظهر بصورة طمأنينة وارتياح ونظرة تفاؤليَّة للعالَم، فالعالم يسير بحسب الظواهر الطبيعية نحو الدمار الشامل إلا أنَّ المؤمن بتعاليم الأنبياء وبالغيب يؤمن بالإمداد الغيبي وأنَّ بعد الشدة الرخاء، وسيحكم العالَم بالعدل المؤمنون الصالحون، وعدا من ربِّ العالمين.
والحمد لله ربّ العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة الفاتحة، الآية/4.
(2) سورة الضحى، الآيات/876.
(3) سورة محمد، الآية/7.
(4) وذلك ورد صريحا في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين"عليه السلام": «... ولقد كان الرجل منَّا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرَّة لنا من عدوِّنا ومرَّة لعدوِّنا منَّا، فلمَّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوِّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقرَّ الإسلام...» من كلام له في وصف حربهم على عهد النبي "صلى الله عليه وآله" ج1، ص104، تحقيق الشيخ محمد عبدو، الخطبة 56.
(5) سورة العنكبوت، الآية/69.
(6) سورة الكهف، الآيتان/1413، ويمكن فهم ذلك من اعتقاد أصحاب الكهف الظاهر من كلامهم الوارد في الذكْر الحكيم: «وإِذِ اعتَزَلتموهم وما يعبدون إلا الله فأْووا إلى الكهفِ ينشرْ لكم ربُّكم من رحمتِهِ ويهيئْ لكم من أمْرِكُم مِرْفَقاً» الكهف/16 (المحرِّر).
(7) ملاحظة: لقد تعرض الشهيد مطهري لبحث الفرق بين الفكر المادي والإلهي هنا إلا أننا رأينا تأخيره عن ذكر جميع أنواع الإمدادات الغيبية، فهو موجود بعد بحث الإمدادات الغيبية الاجتماعية (المحرِّر).
(8) بل قيل إنه حتى في هذين الطريقين يوجد بالنظرة الفلسفية الدقيقة منشأ إلهامي، وقد قال الملا السبزواري في مقدمة منطق المنظومة: والملهم المبدع العليمءءء حيّ قديم منه عظيم.
(9) سورة النور، الآية/35.
(10) كتاب المنقذ من الضلال (بتصرف).
(11) وفي نفس المقام يرى الشيخ نصير الدين الطوسي كثيرا من الصناعات قد توصل إليها البشر بواسطة الإلهام.
(12) ينقل الشهيد مطهري شعرا المولوي يصبُّ في خانة أن جميع الحرف مستمدَّة من الوحي والعقل قام على تكثيرها وتطويرها.
(13) من كتابه الإنسان ذلك المجهول، ص134 (بتصرف)، ويقوم بتقسيم العلماء إلى قسمين: المنطقيين والإشراقيين، ويرى أن التطور العلمي مدين لهاتين الفئتين من العلماء، ويقوم بذكر مجموعة من الرياضيين من فئة الإشراقيين الملهمين.
(14) وهو أحد الرياضيين الفرنسيين.
(15) وهي أن الحياة والمسائل العلميَّة مؤلفة من الفعاليَّات والنشاطات، التي كان للشعور والإرادة دخل في بعضها والبعض الآخر منها ناشئ من بعض الإلهامات الباطنيَّة. من مقالة له تحت عنوان تأثير الشعور الباطن في البحوث العلميَّة، (بتصرف).
(16) سورة القصص، الآية/5.
(17) من خطبة له "عليه السلام" في حال الناس من قبل البعثة، نهج البلاغة، ج1، ص156، الخطبة 87، تحقيق الشيخ محمد عبدو.
(18) سورة آل عمران، الآية/103.
(19) يراجع من يريد التوسّع كتاب (الإنسان والقدر) للشهيد مطهري تحت عنوان تأثير العوامل المعنويَّة على المصير.
(20) هناك فارق رابع تأتي الإشارة إليه آخر البحث تحت عنوان مستقبل العالَم، فإنَّ لكلٍّ منهما نظرة مختلفة عن الآخر.
(21) عنوان هذه الفقرة في الكتاب الأصلي هو المهدوية في الإسلام، إلا أنَّ الشهيد مطهري لم يذكر حول هذا العنوان سوى فقرة صغيرة سنذكرها في المكان الذي اخترناه لها (المحرِّر).
(22) ينقل الشهيد مطهري كلاما طويلا لراسل من كتابه الطموحات الجديدة يحث الناس على اتخاذ القرار بمواجهة هذا الخوف بدل أن نبقى مذعورين حائرين.
(23) المنظومة، قسم الحكمة، مبحث الغاية.
(24) سورة الزمر، الآية/69.
(25) سورة آل عمران، الآية/83.
(26) سورة الأعراف، الآية/128.
(27) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج52، ص339، وروضة الواعظين، للفتّال النيسابوري، ص265.
(28) نهج البلاغة، من خطبة له "عليه السلام" يومي فيها إلى ذكر الملاحم، ج2، الخطبة 136، تحقيق الشيخ محمد عبدو.
(29) سورة الأنبياء، الآية/105.