الدكتور عادل رضا
08-25-2004, 12:57 AM
أسباب تخلّف المسلمين
--------------------------------------------------------------------------------
ما هي أسباب تخلف المسلمين؟
ماذا يعني العمل وما هي جذور انحرافه؟
هل الزهد بأن نجعل الدنيا غاية أو وسيلة؟
وما هي أهداف الزهد؟
--------------------------------------------------------------------------------
نلاحظ أن مجتمعنا الإسلامي يفتقد مظاهر الحياة ويتجه نحو الموت، ومن هنا كان لزاما علينا أن نشير إلى أسباب هذا التخلف في إطار المفاهيم الممسوخة والمشوهة، لأن كثيرا من المفاهيم الإسلامية الأصيلة أصبحت باهتة ميتة لا حراك فيها بسبب ما لحقها من التشويه، ومن هنا كان علينا كخطوة أولى على طريق الإحياء أن نعالج بعض المفاهيم ونقوم بتصحيحها في الأذهان.
أ مفهوم العمل
الإسلام دين العمل، وهو يؤكد من خلال النصوص القرآنية على ارتباط مصير البشرية بعملها.
« وأن ليس للإنسان إلا ما سعى »(1).
« فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره »(2).
فعندما تسود ذهنية ارتباط مصير الأمة بعملها تسعى الأمة إلى الاعتماد على طاقاتها كما حصل مع المسلمين الأوائل فانبثقت في وجدانه الثقة القوية بالنفس مما دفعه إلى ساحات الجهاد دون أن يخشى أي قوة آنذاك، لكن اعترت هذه التعاليم بمرور الزمن أنواع الشوائب والانحرافات، حتى فشت الأفكار التي تستهين بالعمل، تاركة كل الأفكار الواقعية والمنطقية.
نماذج من انحراف مفهوم العمل
أ الحظ من الأفكار التي سرت في مجتمعاتنا رغم أنها لا تعتمد على منطق علمي أو فلسفي أو قرآني(3).
ب انتصار الباطل في صراعه مع الحق، وهي فكرة تشاؤمية مستشرية في مجتمعاتنا، ترى أن أي معاملة أو حركة ملتزمة بمعايير الصدق والإنصاف لا يمكن لها أن تحقق أي مكاسب مادية، وهذا يناقض النظرة الإسلامية التي ركزت على ضرورة النظرة التفاؤلية لمسيرة العالم، وأنه لا يمكن تصور نظام أحسن من النظام الموجود.
«الذي أحسن كل شيء خلقه »(4).
«قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»(5).
وقد خلق الله الإنسان مختارا يمكنه الانحراف يمنة أو يسرة، ويستتبع هذا الاختيار انحراف جماعة عن جادة الحق والعدل، وهنا تتحمل المجموعة الصالحة مسؤولية مقارعة المنحرفين، وهي تحظى في نفس الوقت بإسناد رب العالمين، وليس للباطل سوى جولة سرعان ما يتراجع بعدها أمام الحق، وأجمل تمثيل لصراع الحق مع الباطل نجده في القرآن الكريم:
«أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق بالباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال »(6).
فالزبد الذي يمثل الباطل يذهب جفاء أمام الحق، وهذا هو قانون الخليقة، بينما تسري بيننا أحاديث مشككة في جدوى الكفاح من أجل إحقاق العدل والحق، دون أن ندخل في تجربة كفاحية عملية واحدة.
ج وجود مجدد على رأس كل سنة، وهذه فكرة خاطئة وهي تعتمد على حديث واه السند يقول: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
وقد راجت هذه الفكرة في الفكر السني قديما ودخلت الفكر الشيعي في القرن الحادي عشر، حيث وصف الشيخُ البهائي الشيخ َ الكليني بأنه مجدد المذهب في القرن الثالث، ثم أُطلق بعد ذلك هذا اللقب على المجلسي الثاني في القرن الثاني عشر، وعلى الوحيد البهبهاني في القرن الثالث عشر، وعلى الميرزا الشيرازي في القرن الرابع عشر الهجري.
ومن الغريب في هذه الفكرة أنها لماذا لم تعتبر النوابغ الذين برزوا في أواسط القرون كالشيخ الطوسي مثلا من المجددين، وكأن ذنبهم الوحيد أنهم لم يظهروا على رأس القرن الهجري.
والملاحظ على هذه الفكرة أنها تعفي أفراد المجتمع ككل من التجديد، وتلقي بالمسؤولية على عاتق رجل واحد من بين أفراد معينين على رأس كل قرن، بينما نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن فكرة التغيير يلقي بالمسؤولية على عاتق الجميع.
«... إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها...»(7).
فتغيير المجتمع الإنساني مرتبط بتغيير المحتوى الداخلي لأفراد ذلك المجتمع وأن يكونوا مستعدين لمثل هذا التغيير، وليست فكرة التجديد الأحادي هذه إلا لصرف الأمة عن التفكير بعلاج مشاكلها وانحرافها وانتظار من يقوم عنها بهذا الدور.
جذور انحراف مفهوم العمل
بدأ انحراف مفهوم العمل كما يحدثنا التاريخ عند ظهور فكرة الإرجاء(8) على يد أناس غارقين في بحر الرذيلة، وقد تبنت هذه الفكرة السلطة الحاكمة في العهد الأموي، وراحت تفرق بين الإيمان والعمل مؤكدة على أهمية ما يضمره المرء في قلبه من إيمان مستهينة بكل ما يصدر منه من أعمال.
مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" في وجه التحريف
لقد وقف الأئمة الأطهار "عليهم السلام" في وجه كل انحراف ظهر بعد وفاة الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله"، بما في ذلك انحرافات المرجئة، ومفهوم انفصال الإيمان عن العمل والاستهانة بالعمل، وما وصلنا من أحاديث عنهم "عليهم السلام" يكشف عما خاضوه من حرب فكرية تهدف إلى إحباط كل محاولات المسخ والتشويه في الدين الإسلامي.
وأما مواجهتهم لفكرة العمل المشوهة، فلاحظ ما ورد عنهم "عليهم السلام" من حثّ وتأكيد على العمل وعدم فصله عن الإيمان:
1 عن الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام":
«... وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين... لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون، ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل»(9).
2 وعنه "عليه السلام": «المؤمن بعمله»(10).
3 وسئل علي "عليه السلام": الإيمان قول وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال:
«الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهو عمل كله»(11).
4 وعن الإمام محمد بن علي الباقر "عليه السلام":
« إن ولايتنا لا تدرك إلا بالعمل»(12).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام":
«الإيمان عمل كله»(13).
5 وعنه "عليه السلام":
«ملعون من قال الإيمان قول بلا عمل»(14).
وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على مفهوم العمل، وأن الإيمان عمل كله، وجعله المعيار لتقييم خلوص الإنسان وقربه من الله.
القربى والانتساب لأهل البيت "عليهم السلام" لا يكفي
لقد اكتفينا بانتسابنا لمدرسة أهل البيت "عليه السلام" على مستوى القول لا العمل، بينما القرآن الكريم يدين أولئك الذين يزعمون أن لهم قرابة عند الله تنجيهم من العذاب.
« وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون»(15).
والقرآن يرفض أن تكون وشيجة القرابة شفيعا للإنسان، فهو يجيب النبي نوح "عليه السلام":
«.. إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح..»(16).
وروي أن رسول الله "صلى الله عليه وآله" قال لابنته فاطمة"عليها السلام" :
«يا فاطمة اعملي بنفسك إني لا أغني عنك من الله شيئاً».
وقال تعالى:
« فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون »(17).
ب مفهوم التوكل
هذا المفهوم القرآني السامي، مثل سائر المفاهيم الإسلامية دقيق وحساس وذو حدين، إن فُهِم بالشكل الصحيح أثمر أعظم النتائج الإيجابية، وإن فُهِم بالشكل المشوّه كما هو اليوم، كان من العوامل المثبطة للهمم والعزائم.
التوكل في المفهوم القرآني مفهوم ينبض بالدفع والنشاط والحيوية، ويزيل كل عوامل التردد والانهزام والخوف، ولذلك نجد القرآن يستعمله عندما يريد أن يثبت ويشد من عزيمة وصمود الفئة المسلمة:
«... ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون »(18).
« ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا »(19).
وللأسف إن هذا المفهوم القرآني النابض بالحياة، تبدل بين المسلمين اليوم إلى مفهوم التواكل والتقاعس عن العمل والاندفاع.
ج مفهوم الزهد
وهذا المفهوم من المفاهيم التي شوهت وتأثرت بملابسات غير إسلامية، فالزهد الذي يعني لغة ترك الشيء والرغبة عنه، واصطلاحا يطلق على من يترك أمرا له رغبة طبيعية فيه، فلا يطلق مثلا على المريض الذي لا رغبة له بالطعام أنه زاهد، هذا المفهوم جاء به الإسلام ليحث الإنسان على الترفع عن الإنشداد البهيمي بالأرض، وعن ممارسة القدرة والتسلط لاستضعاف الناس واستغلال ثرواتها، وعندها تتحول كل الممارسات الحياتية إلى وسيلة للإنسان ترتقي به إلى الله سبحانه، وتصبح الدنيا وسيلة لا غاية.
هذا المفهوم تأثر بالرهبانية التي ابتدعتها المسيحية..
«... ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ...»(20).
حيث نجد فيها أن كل ممارسة مع الطبيعة والحياة عملا دنيويا، وأما الطقوس فهي الأعمال الأخروية المعزولة عن كل ممارسة حياتية، وقد رفض الإسلام هذه الرهبانية وعبر على لسان رسوله "صلى الله عليه وآله":
«لا رهبانية في الإسلام».
واعتبر أن كل الأعمال الدنيوية يمكن أن تتأطر بإطار ديني، وتصبح أعمالا عبادية وأخروية، وذلك فيما لو كان الهدف منها تحصيل رضا إلى الله، فالسلطة الاقتصادية يمكن لها أن تكون وسيلة لتحقيق خلافة الله على الأرض، فقد عبّر النبي يوسف "عليه السلام":
«قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم»(21).
فهو لا يريد أن يستغلّ هذه السلطة لتحقيق مطامعه الشخصية، وكذلك قد أوجب الإسلام على المسلمين إعداد القوة..
« وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوّكم...»(22).
ليرتفع بهم في المستوى الاجتماعي ليشكلوا قوة تبعث على الرهبة في نفوس الأعداء.
فالإسلام يدعو إلى الزهد في الدنيا بمعنى أن لا يجعل الدنيا غاية ويجعلها وسيلة، فلا يحس بالفشل والانكسار إذا فقد متاعها، ولا يشعر بالغرور إذا ما امتلك شيئا منها، لأنه لا يريد إلا وجه الله، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين "عليه السلام":
«الزهد بين حكمتين في القرآن:
«لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم...»»(23).
لذات الدنيا
تكررت في النصوص القديمة أن الزهد عبارة عن الإعراض عن الدنيا وطيباتها.
مثلاً، يقول ابن سينا في الإشارات في النمط التاسع: «المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يسمى باسم الزاهد»، وهذه العبارة وأمثالها توحي أن الإنسان مخير أمام نوعين من اللذات دنيوية وأخروية، ولا يمكن له الجمع بينهما.
والحق أن الإسلام يدعو التمتع بلذات الدنيا وطيباتها.
«قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون »(24).
لكنه تمتع بها بشكل متأطر بما فرضه الله وضمن الحدود التي حدّها الله، بحيث يرتفع بها عن الإنشداد البهيمي إلى الأرض، وعما حرم الله سبحانه، بل إن القرآن يذهب أكثر من ذلك، فيرى أن الطيّب هو ما أحل الله، والخبيث هو ما حرم الله..
«... ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ...»(25).
فليس هناك لذة دنيوية تحرُم الإنسان من لذات الآخرة، بل كل لذات الدنيا توصل الإنسان إلى الآخرة، وأما المحرمات فيظن مرتكبها أنها لذة وما هي بلذة واقعية، والفائز هم المتقون الذين استفادوا من لذات الدنيا ووصلوا إلى نعيم الآخرة، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين"عليه السلام":
«إنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الآخرة في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوا بأفضل ما أكلت»(26).
أهداف الزهد في الإسلام
عندما يحث الإسلام على الزهد في الدنيا فإنه يسعى لتحقيق الأهداف التالية:
1 الإيثار، فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع يتصدى الدين لحل هذه المشكلة الاجتماعية، ويقوم الإسلام بتربية أبنائه تربية لا يبقى لهذه المشكلة أثر، بحيث يشعر المسلم باللذة عندما يضحي بمصالحه الشخصية لأجل مصالح الآخرين، فيحرُم نفسه من اجل إسعاد الآخرين.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم صوراً رائعة، وكذلك كتب التاريخ عن الرعيل الأول من المسلمين، تؤكد التفاني والإيثار الذي زرعه الإسلام في نفوسهم.. فسورة «هل أتى» تحدثنا عن إيثار أمير المؤمنين وأهل بيته الكرام"عليهم السلام" بما يملكونه من طعام..
« ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا »(27).
وكذلك مدح القرآن الكريم الصفوة المؤمنة من الأنصار، حيث سطروا أروع الصور في التفاني والإيثار، فعبر عنهم:
« ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة »(28).
2 المواساة، فالإسلام يربي أبناءه على الاشتراك في الأحاسيس، والعواطف، ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وعندها لا نتصور في المجتمع الإسلامي فئة مترفة وأخرى معدمة، لأن روح المساواة التي يخلقها الزهد الإسلام تأبى على المتمكنين من أن يتركوا المحرومين دون أن يمدوا لهم يد العون، فتزول عندها ظاهرة الفقر والفاقة، ولا يبقى هناك تفاوت فاحش في مستوى المعيشة.
كما يعير الإسلام أهمية كبرى لزهد الحاكم الإسلامي، لأنه بحاجة إلى روح المساواة أكثر من غيره من المسلمين، حيث أن الزهد لدى الحاكم يخلق في المجتمع معايير لتقييم الأفراد لا ربط لها بالمال ولا المتاع، ومن هنا كان لزاما على الحاكم الإسلامي أن يعيش عيشة أبسط الناس وأضعفهم، وهذا أمير المؤمنين "عليه السلام" يجسد نموذج الحاكم الزاهد ويقول:
«... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة
وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش»(29).
3 التحرر والإنعتاق، فالإنسان مقيد بعوامل طبيعية لا يمكنه التخلي عنها، كالتنفس وتناول الطعام وما شابه ذلك، لكن هناك بعض القيود التي يمكن له أن يتحرر منها، كالبخل والنهم وحب الجاه والشهرة وأمثال ذلك، فإنها كفيلة بأن تكبل الإنسان فيما لو أرخى لهواه العنان ولم يروض نفسه على التحرر والإنعتاق منها.
والزهد يقوم بدور هام في حياة الإنسان، وتحريره من العوامل والقيود التي تشده إلى البطر والراحة وحب الذات، ويجعله قادرا على الاندفاع السريع في ساحات العمل الاجتماعي، ومن هنا كان الأنبياء "عليهم السلام" أكثر الناس تحررا من هذه القيود المفتعلة، وهذا خرّيج مدرسة الرسول الأكرم علي بن أبي طالب "عليه السلام" يتحدث عن ترويضه لنفسه فيقول مخاطبا الدنيا:
«... اغربي عني(30) فوالله لا أذلّ لك فتستذليني، ولا أسلس(31) لك فتقوديني، وأيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروّضنّ نفسي رياضة تهش(32) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب(33) معينها، مستفرغة دموعها، أتمتلىء السائمة من ريعها فتبرك، وتشبع الربيضة(34) من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟!! قرّت(35) إذن عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة(36) والسائمة المرعية»(37).
لكن الانعتاق لا يعني أبدا الانعزال عن الدنيا، بل يعني دخول معترك الحياة بترفع عن كل الذاتيات، وممارسة الحياة ممارسة القائد لها لا المنقاد خلفها، اللاهث وراءها.
4 تذوق اللذات المعنوية، لأن الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادية، يحول دون تذوق اللذائذ المعنوية، فلا يمكن لمن يعيش بين المعلف والمضجع أن يعيش لذة الدعاء مثلا، أو لذة الاتصال بالله أو التضحية والإيثار أو طلب العلم والتفكير والعطاء و... لكنه حينما يمارس الزهد والترفع عن الانغماس باللذائذ المادية والانشداد البهيمي إلى الأرض ومتاعها، ينفتح أمامه عالم جديد من اللذائذ المعنوية التي لا تقل عن اللذائذ المادية، إن لم تكن أعمق منها، والعابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك المنغمس في حسّه المادي، فهو يتجاوز إطار الرؤية ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط، يقول تعالى: «إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك».
--------------------------------------------------------------------------------
الخلاصة
لماذا تخلف المسلمون وفقدوا مظاهر المجتمع الحي واتجهوا نحو الموت؟ أليس لأن المفاهيم الإسلامية الرفيعة قد شوهت، ومن أهم تلك المفاهيم : مفهوم العمل ومن نماذجه شياع فكرة الحظ بين المسلمين، وأن الباطل منتصر لا نقدر على مواجهته، بل علينا أن ننتظر المجدد على رأس كل سنة هجرية، لكن مدرسة أهل البيت وقفت في وجه هذا التحريف وتصدت له بقوة، ومن يقرأ الروايات يجد بصراحة ما كان يعانيه الأئمة "عليهم السلام" وكيف جهدوا في توعية المسلمين وحثهم على العمل.
ومن تلك المفاهيم التي شوهت مفهوم التوكل، حيث أصبح اليوم تواكل وتقاعس، وكذلك مفهوم الزهد، وترك طيبات وملذات الدنيا، فإن الدنيا كلها وسيلة للوصول إلى الآخرة وليست هدفا بحدّ ذاتها، وعندما يطرح الإسلام مفهوم الزهد فإنه يهدف منه لتحقيق المساواة بين الناس، وإيثار المؤمنين وتفانيهم في سبيل مصالح الآخرين، وبالتالي التحرر من كل قيود الدنيا ومتعلقاتها، حتى يتأتى للإنسان أن يتذوق اللذات المعنوية، التي هي وأهم من كل اللذات الدنيوية.
والحمد لله ربّ العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة النجم، الآية/39.
(2) سورة الزلزلة، الآيتان/87.
(3) يستشهد الأستاذ بأمثلة من الأدب الفارسي تركز على فكرة الحظ وتربطه بصير الإنسان.
(4) سورة السجدة، الآية/7.
(5) سورة طه، الآية/50.
(6) سورة الرعد، الآية/17.
(7) سورة الرعد، الآية/11.
(8) يقول المرجئة «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، «إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان، و... ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ولي لله عز وجل، من أهل الإيمان».
(9) نهج البلاغة ج2، ص 160159.
(10) غرر الحكم، 14.
(11) بحار الأنوار، ج66، ص74.
(12) الكافي، ج2، ص75.
(13) الكافي، ج2، ص34.
(14) بحار الأنوار، ج66. ص19.
(15) سورة البقرة، الآية/8280.
(16) سورة هود، الآية/46.
(17) سورة المؤمنون، الآيات/103102101.
(18) سورة ابراهيم، الآية/12.
(19) سورة الأحزاب، الآية/48.
(20) سورة الحديد، الآية/27.
(21) سورة يوسف، الآية/55.
(22) سورة الأنفال، الآية/60.
(23) سورة الحديد، الآية/23.
(24) سورة الأعراف، الآية/32.
(25) سورة لأعراف، الآية/157.
(26) نهج البلاغة ج3، ص27.
(27) سورة الإنسان، الآية/98.
(28) سورة الحشر، الآية/9.
(29) نهج البلاغة ج3، ص72.
(30) اغربي عني: ابتعدي عني.
(31) لا أسلس: لا أنقاد.
(32) تهش: تفرح.
(33) نضب: جفّ ماؤها.
(34) الربيضة: الغنم.
(35) جمدت وجفّت، وهو دعاء على نفسه بأن يفقد الحياة، لأن فقدان الحياة لازم جفاف العين وجمودها.
(36) الهاملة: المتروكة.
(37) نهج البلاغة ج3، ص74.
--------------------------------------------------------------------------------
ما هي أسباب تخلف المسلمين؟
ماذا يعني العمل وما هي جذور انحرافه؟
هل الزهد بأن نجعل الدنيا غاية أو وسيلة؟
وما هي أهداف الزهد؟
--------------------------------------------------------------------------------
نلاحظ أن مجتمعنا الإسلامي يفتقد مظاهر الحياة ويتجه نحو الموت، ومن هنا كان لزاما علينا أن نشير إلى أسباب هذا التخلف في إطار المفاهيم الممسوخة والمشوهة، لأن كثيرا من المفاهيم الإسلامية الأصيلة أصبحت باهتة ميتة لا حراك فيها بسبب ما لحقها من التشويه، ومن هنا كان علينا كخطوة أولى على طريق الإحياء أن نعالج بعض المفاهيم ونقوم بتصحيحها في الأذهان.
أ مفهوم العمل
الإسلام دين العمل، وهو يؤكد من خلال النصوص القرآنية على ارتباط مصير البشرية بعملها.
« وأن ليس للإنسان إلا ما سعى »(1).
« فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره »(2).
فعندما تسود ذهنية ارتباط مصير الأمة بعملها تسعى الأمة إلى الاعتماد على طاقاتها كما حصل مع المسلمين الأوائل فانبثقت في وجدانه الثقة القوية بالنفس مما دفعه إلى ساحات الجهاد دون أن يخشى أي قوة آنذاك، لكن اعترت هذه التعاليم بمرور الزمن أنواع الشوائب والانحرافات، حتى فشت الأفكار التي تستهين بالعمل، تاركة كل الأفكار الواقعية والمنطقية.
نماذج من انحراف مفهوم العمل
أ الحظ من الأفكار التي سرت في مجتمعاتنا رغم أنها لا تعتمد على منطق علمي أو فلسفي أو قرآني(3).
ب انتصار الباطل في صراعه مع الحق، وهي فكرة تشاؤمية مستشرية في مجتمعاتنا، ترى أن أي معاملة أو حركة ملتزمة بمعايير الصدق والإنصاف لا يمكن لها أن تحقق أي مكاسب مادية، وهذا يناقض النظرة الإسلامية التي ركزت على ضرورة النظرة التفاؤلية لمسيرة العالم، وأنه لا يمكن تصور نظام أحسن من النظام الموجود.
«الذي أحسن كل شيء خلقه »(4).
«قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»(5).
وقد خلق الله الإنسان مختارا يمكنه الانحراف يمنة أو يسرة، ويستتبع هذا الاختيار انحراف جماعة عن جادة الحق والعدل، وهنا تتحمل المجموعة الصالحة مسؤولية مقارعة المنحرفين، وهي تحظى في نفس الوقت بإسناد رب العالمين، وليس للباطل سوى جولة سرعان ما يتراجع بعدها أمام الحق، وأجمل تمثيل لصراع الحق مع الباطل نجده في القرآن الكريم:
«أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله، كذلك يضرب الله الحق بالباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال »(6).
فالزبد الذي يمثل الباطل يذهب جفاء أمام الحق، وهذا هو قانون الخليقة، بينما تسري بيننا أحاديث مشككة في جدوى الكفاح من أجل إحقاق العدل والحق، دون أن ندخل في تجربة كفاحية عملية واحدة.
ج وجود مجدد على رأس كل سنة، وهذه فكرة خاطئة وهي تعتمد على حديث واه السند يقول: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها».
وقد راجت هذه الفكرة في الفكر السني قديما ودخلت الفكر الشيعي في القرن الحادي عشر، حيث وصف الشيخُ البهائي الشيخ َ الكليني بأنه مجدد المذهب في القرن الثالث، ثم أُطلق بعد ذلك هذا اللقب على المجلسي الثاني في القرن الثاني عشر، وعلى الوحيد البهبهاني في القرن الثالث عشر، وعلى الميرزا الشيرازي في القرن الرابع عشر الهجري.
ومن الغريب في هذه الفكرة أنها لماذا لم تعتبر النوابغ الذين برزوا في أواسط القرون كالشيخ الطوسي مثلا من المجددين، وكأن ذنبهم الوحيد أنهم لم يظهروا على رأس القرن الهجري.
والملاحظ على هذه الفكرة أنها تعفي أفراد المجتمع ككل من التجديد، وتلقي بالمسؤولية على عاتق رجل واحد من بين أفراد معينين على رأس كل قرن، بينما نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن فكرة التغيير يلقي بالمسؤولية على عاتق الجميع.
«... إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها...»(7).
فتغيير المجتمع الإنساني مرتبط بتغيير المحتوى الداخلي لأفراد ذلك المجتمع وأن يكونوا مستعدين لمثل هذا التغيير، وليست فكرة التجديد الأحادي هذه إلا لصرف الأمة عن التفكير بعلاج مشاكلها وانحرافها وانتظار من يقوم عنها بهذا الدور.
جذور انحراف مفهوم العمل
بدأ انحراف مفهوم العمل كما يحدثنا التاريخ عند ظهور فكرة الإرجاء(8) على يد أناس غارقين في بحر الرذيلة، وقد تبنت هذه الفكرة السلطة الحاكمة في العهد الأموي، وراحت تفرق بين الإيمان والعمل مؤكدة على أهمية ما يضمره المرء في قلبه من إيمان مستهينة بكل ما يصدر منه من أعمال.
مدرسة أهل البيت "عليهم السلام" في وجه التحريف
لقد وقف الأئمة الأطهار "عليهم السلام" في وجه كل انحراف ظهر بعد وفاة الرسول الأكرم "صلى الله عليه وآله"، بما في ذلك انحرافات المرجئة، ومفهوم انفصال الإيمان عن العمل والاستهانة بالعمل، وما وصلنا من أحاديث عنهم "عليهم السلام" يكشف عما خاضوه من حرب فكرية تهدف إلى إحباط كل محاولات المسخ والتشويه في الدين الإسلامي.
وأما مواجهتهم لفكرة العمل المشوهة، فلاحظ ما ورد عنهم "عليهم السلام" من حثّ وتأكيد على العمل وعدم فصله عن الإيمان:
1 عن الإمام علي بن أبي طالب "عليه السلام":
«... وإني لمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم سيما الصديقين... لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلّون، ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل»(9).
2 وعنه "عليه السلام": «المؤمن بعمله»(10).
3 وسئل علي "عليه السلام": الإيمان قول وعمل أم قول بلا عمل؟ فقال:
«الإيمان تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهو عمل كله»(11).
4 وعن الإمام محمد بن علي الباقر "عليه السلام":
« إن ولايتنا لا تدرك إلا بالعمل»(12).
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق "عليه السلام":
«الإيمان عمل كله»(13).
5 وعنه "عليه السلام":
«ملعون من قال الإيمان قول بلا عمل»(14).
وهناك الكثير من الروايات التي تؤكد على مفهوم العمل، وأن الإيمان عمل كله، وجعله المعيار لتقييم خلوص الإنسان وقربه من الله.
القربى والانتساب لأهل البيت "عليهم السلام" لا يكفي
لقد اكتفينا بانتسابنا لمدرسة أهل البيت "عليه السلام" على مستوى القول لا العمل، بينما القرآن الكريم يدين أولئك الذين يزعمون أن لهم قرابة عند الله تنجيهم من العذاب.
« وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون»(15).
والقرآن يرفض أن تكون وشيجة القرابة شفيعا للإنسان، فهو يجيب النبي نوح "عليه السلام":
«.. إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح..»(16).
وروي أن رسول الله "صلى الله عليه وآله" قال لابنته فاطمة"عليها السلام" :
«يا فاطمة اعملي بنفسك إني لا أغني عنك من الله شيئاً».
وقال تعالى:
« فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون »(17).
ب مفهوم التوكل
هذا المفهوم القرآني السامي، مثل سائر المفاهيم الإسلامية دقيق وحساس وذو حدين، إن فُهِم بالشكل الصحيح أثمر أعظم النتائج الإيجابية، وإن فُهِم بالشكل المشوّه كما هو اليوم، كان من العوامل المثبطة للهمم والعزائم.
التوكل في المفهوم القرآني مفهوم ينبض بالدفع والنشاط والحيوية، ويزيل كل عوامل التردد والانهزام والخوف، ولذلك نجد القرآن يستعمله عندما يريد أن يثبت ويشد من عزيمة وصمود الفئة المسلمة:
«... ولنصبرنّ على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون »(18).
« ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا »(19).
وللأسف إن هذا المفهوم القرآني النابض بالحياة، تبدل بين المسلمين اليوم إلى مفهوم التواكل والتقاعس عن العمل والاندفاع.
ج مفهوم الزهد
وهذا المفهوم من المفاهيم التي شوهت وتأثرت بملابسات غير إسلامية، فالزهد الذي يعني لغة ترك الشيء والرغبة عنه، واصطلاحا يطلق على من يترك أمرا له رغبة طبيعية فيه، فلا يطلق مثلا على المريض الذي لا رغبة له بالطعام أنه زاهد، هذا المفهوم جاء به الإسلام ليحث الإنسان على الترفع عن الإنشداد البهيمي بالأرض، وعن ممارسة القدرة والتسلط لاستضعاف الناس واستغلال ثرواتها، وعندها تتحول كل الممارسات الحياتية إلى وسيلة للإنسان ترتقي به إلى الله سبحانه، وتصبح الدنيا وسيلة لا غاية.
هذا المفهوم تأثر بالرهبانية التي ابتدعتها المسيحية..
«... ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ...»(20).
حيث نجد فيها أن كل ممارسة مع الطبيعة والحياة عملا دنيويا، وأما الطقوس فهي الأعمال الأخروية المعزولة عن كل ممارسة حياتية، وقد رفض الإسلام هذه الرهبانية وعبر على لسان رسوله "صلى الله عليه وآله":
«لا رهبانية في الإسلام».
واعتبر أن كل الأعمال الدنيوية يمكن أن تتأطر بإطار ديني، وتصبح أعمالا عبادية وأخروية، وذلك فيما لو كان الهدف منها تحصيل رضا إلى الله، فالسلطة الاقتصادية يمكن لها أن تكون وسيلة لتحقيق خلافة الله على الأرض، فقد عبّر النبي يوسف "عليه السلام":
«قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم»(21).
فهو لا يريد أن يستغلّ هذه السلطة لتحقيق مطامعه الشخصية، وكذلك قد أوجب الإسلام على المسلمين إعداد القوة..
« وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوّكم...»(22).
ليرتفع بهم في المستوى الاجتماعي ليشكلوا قوة تبعث على الرهبة في نفوس الأعداء.
فالإسلام يدعو إلى الزهد في الدنيا بمعنى أن لا يجعل الدنيا غاية ويجعلها وسيلة، فلا يحس بالفشل والانكسار إذا فقد متاعها، ولا يشعر بالغرور إذا ما امتلك شيئا منها، لأنه لا يريد إلا وجه الله، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين "عليه السلام":
«الزهد بين حكمتين في القرآن:
«لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم...»»(23).
لذات الدنيا
تكررت في النصوص القديمة أن الزهد عبارة عن الإعراض عن الدنيا وطيباتها.
مثلاً، يقول ابن سينا في الإشارات في النمط التاسع: «المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يسمى باسم الزاهد»، وهذه العبارة وأمثالها توحي أن الإنسان مخير أمام نوعين من اللذات دنيوية وأخروية، ولا يمكن له الجمع بينهما.
والحق أن الإسلام يدعو التمتع بلذات الدنيا وطيباتها.
«قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصّل الآيات لقوم يعلمون »(24).
لكنه تمتع بها بشكل متأطر بما فرضه الله وضمن الحدود التي حدّها الله، بحيث يرتفع بها عن الإنشداد البهيمي إلى الأرض، وعما حرم الله سبحانه، بل إن القرآن يذهب أكثر من ذلك، فيرى أن الطيّب هو ما أحل الله، والخبيث هو ما حرم الله..
«... ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ...»(25).
فليس هناك لذة دنيوية تحرُم الإنسان من لذات الآخرة، بل كل لذات الدنيا توصل الإنسان إلى الآخرة، وأما المحرمات فيظن مرتكبها أنها لذة وما هي بلذة واقعية، والفائز هم المتقون الذين استفادوا من لذات الدنيا ووصلوا إلى نعيم الآخرة، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين"عليه السلام":
«إنّ المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الآخرة في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوا بأفضل ما أكلت»(26).
أهداف الزهد في الإسلام
عندما يحث الإسلام على الزهد في الدنيا فإنه يسعى لتحقيق الأهداف التالية:
1 الإيثار، فعندما تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع يتصدى الدين لحل هذه المشكلة الاجتماعية، ويقوم الإسلام بتربية أبنائه تربية لا يبقى لهذه المشكلة أثر، بحيث يشعر المسلم باللذة عندما يضحي بمصالحه الشخصية لأجل مصالح الآخرين، فيحرُم نفسه من اجل إسعاد الآخرين.
وقد ذكر لنا القرآن الكريم صوراً رائعة، وكذلك كتب التاريخ عن الرعيل الأول من المسلمين، تؤكد التفاني والإيثار الذي زرعه الإسلام في نفوسهم.. فسورة «هل أتى» تحدثنا عن إيثار أمير المؤمنين وأهل بيته الكرام"عليهم السلام" بما يملكونه من طعام..
« ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا »(27).
وكذلك مدح القرآن الكريم الصفوة المؤمنة من الأنصار، حيث سطروا أروع الصور في التفاني والإيثار، فعبر عنهم:
« ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة »(28).
2 المواساة، فالإسلام يربي أبناءه على الاشتراك في الأحاسيس، والعواطف، ليصبحوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وعندها لا نتصور في المجتمع الإسلامي فئة مترفة وأخرى معدمة، لأن روح المساواة التي يخلقها الزهد الإسلام تأبى على المتمكنين من أن يتركوا المحرومين دون أن يمدوا لهم يد العون، فتزول عندها ظاهرة الفقر والفاقة، ولا يبقى هناك تفاوت فاحش في مستوى المعيشة.
كما يعير الإسلام أهمية كبرى لزهد الحاكم الإسلامي، لأنه بحاجة إلى روح المساواة أكثر من غيره من المسلمين، حيث أن الزهد لدى الحاكم يخلق في المجتمع معايير لتقييم الأفراد لا ربط لها بالمال ولا المتاع، ومن هنا كان لزاما على الحاكم الإسلامي أن يعيش عيشة أبسط الناس وأضعفهم، وهذا أمير المؤمنين "عليه السلام" يجسد نموذج الحاكم الزاهد ويقول:
«... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة
وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون لهم أسوة في جشوبة العيش»(29).
3 التحرر والإنعتاق، فالإنسان مقيد بعوامل طبيعية لا يمكنه التخلي عنها، كالتنفس وتناول الطعام وما شابه ذلك، لكن هناك بعض القيود التي يمكن له أن يتحرر منها، كالبخل والنهم وحب الجاه والشهرة وأمثال ذلك، فإنها كفيلة بأن تكبل الإنسان فيما لو أرخى لهواه العنان ولم يروض نفسه على التحرر والإنعتاق منها.
والزهد يقوم بدور هام في حياة الإنسان، وتحريره من العوامل والقيود التي تشده إلى البطر والراحة وحب الذات، ويجعله قادرا على الاندفاع السريع في ساحات العمل الاجتماعي، ومن هنا كان الأنبياء "عليهم السلام" أكثر الناس تحررا من هذه القيود المفتعلة، وهذا خرّيج مدرسة الرسول الأكرم علي بن أبي طالب "عليه السلام" يتحدث عن ترويضه لنفسه فيقول مخاطبا الدنيا:
«... اغربي عني(30) فوالله لا أذلّ لك فتستذليني، ولا أسلس(31) لك فتقوديني، وأيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروّضنّ نفسي رياضة تهش(32) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب(33) معينها، مستفرغة دموعها، أتمتلىء السائمة من ريعها فتبرك، وتشبع الربيضة(34) من عشبها فتربض، ويأكل علي من زاده فيهجع؟!! قرّت(35) إذن عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة(36) والسائمة المرعية»(37).
لكن الانعتاق لا يعني أبدا الانعزال عن الدنيا، بل يعني دخول معترك الحياة بترفع عن كل الذاتيات، وممارسة الحياة ممارسة القائد لها لا المنقاد خلفها، اللاهث وراءها.
4 تذوق اللذات المعنوية، لأن الانغماس في تلبية حاجات الجسد المادية، يحول دون تذوق اللذائذ المعنوية، فلا يمكن لمن يعيش بين المعلف والمضجع أن يعيش لذة الدعاء مثلا، أو لذة الاتصال بالله أو التضحية والإيثار أو طلب العلم والتفكير والعطاء و... لكنه حينما يمارس الزهد والترفع عن الانغماس باللذائذ المادية والانشداد البهيمي إلى الأرض ومتاعها، ينفتح أمامه عالم جديد من اللذائذ المعنوية التي لا تقل عن اللذائذ المادية، إن لم تكن أعمق منها، والعابد الزاهد يرى حقائق الكون بمنظار يختلف عن ذلك المنغمس في حسّه المادي، فهو يتجاوز إطار الرؤية ليشمل التفكير والاستنتاج والتقييم والربط، يقول تعالى: «إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك».
--------------------------------------------------------------------------------
الخلاصة
لماذا تخلف المسلمون وفقدوا مظاهر المجتمع الحي واتجهوا نحو الموت؟ أليس لأن المفاهيم الإسلامية الرفيعة قد شوهت، ومن أهم تلك المفاهيم : مفهوم العمل ومن نماذجه شياع فكرة الحظ بين المسلمين، وأن الباطل منتصر لا نقدر على مواجهته، بل علينا أن ننتظر المجدد على رأس كل سنة هجرية، لكن مدرسة أهل البيت وقفت في وجه هذا التحريف وتصدت له بقوة، ومن يقرأ الروايات يجد بصراحة ما كان يعانيه الأئمة "عليهم السلام" وكيف جهدوا في توعية المسلمين وحثهم على العمل.
ومن تلك المفاهيم التي شوهت مفهوم التوكل، حيث أصبح اليوم تواكل وتقاعس، وكذلك مفهوم الزهد، وترك طيبات وملذات الدنيا، فإن الدنيا كلها وسيلة للوصول إلى الآخرة وليست هدفا بحدّ ذاتها، وعندما يطرح الإسلام مفهوم الزهد فإنه يهدف منه لتحقيق المساواة بين الناس، وإيثار المؤمنين وتفانيهم في سبيل مصالح الآخرين، وبالتالي التحرر من كل قيود الدنيا ومتعلقاتها، حتى يتأتى للإنسان أن يتذوق اللذات المعنوية، التي هي وأهم من كل اللذات الدنيوية.
والحمد لله ربّ العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة النجم، الآية/39.
(2) سورة الزلزلة، الآيتان/87.
(3) يستشهد الأستاذ بأمثلة من الأدب الفارسي تركز على فكرة الحظ وتربطه بصير الإنسان.
(4) سورة السجدة، الآية/7.
(5) سورة طه، الآية/50.
(6) سورة الرعد، الآية/17.
(7) سورة الرعد، الآية/11.
(8) يقول المرجئة «لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، «إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان، و... ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ولي لله عز وجل، من أهل الإيمان».
(9) نهج البلاغة ج2، ص 160159.
(10) غرر الحكم، 14.
(11) بحار الأنوار، ج66، ص74.
(12) الكافي، ج2، ص75.
(13) الكافي، ج2، ص34.
(14) بحار الأنوار، ج66. ص19.
(15) سورة البقرة، الآية/8280.
(16) سورة هود، الآية/46.
(17) سورة المؤمنون، الآيات/103102101.
(18) سورة ابراهيم، الآية/12.
(19) سورة الأحزاب، الآية/48.
(20) سورة الحديد، الآية/27.
(21) سورة يوسف، الآية/55.
(22) سورة الأنفال، الآية/60.
(23) سورة الحديد، الآية/23.
(24) سورة الأعراف، الآية/32.
(25) سورة لأعراف، الآية/157.
(26) نهج البلاغة ج3، ص27.
(27) سورة الإنسان، الآية/98.
(28) سورة الحشر، الآية/9.
(29) نهج البلاغة ج3، ص72.
(30) اغربي عني: ابتعدي عني.
(31) لا أسلس: لا أنقاد.
(32) تهش: تفرح.
(33) نضب: جفّ ماؤها.
(34) الربيضة: الغنم.
(35) جمدت وجفّت، وهو دعاء على نفسه بأن يفقد الحياة، لأن فقدان الحياة لازم جفاف العين وجمودها.
(36) الهاملة: المتروكة.
(37) نهج البلاغة ج3، ص74.