المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : روءية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل الصريح



القريشي 3
05-31-2009, 10:45 AM
رؤيـــة الله
في ضوء الكتاب والسّنة والعقل الصريح

رؤية الله في ضوء الكتاب والسنة والعقل الصريح

قال الله تعالى :
( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( الأنعام /103)
وقال تعالى وتقدس : و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال ربي أرني أنظر إليك قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) ( الأعراف /143)
الرؤية في كتب العهدين :


(1)الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا :
محل النزاع بين الأشاعرة ومن قبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث وبين غيرهم من أهل التنزيه ، هو رؤية الله سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم الله سبحانه وطريق إلى وقوف الإنسان على الخارج .

يقول سبحانه : ( هو الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) ( النحل /78) .
فالمثبت للرؤية والنافي لها يركز على موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار ، وأن الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة.
وبذلك يظهر أن الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصر عليها أصحاب أحمد ، بل الملتحق به الإمام الأشعري ، ولا يمت إلى موضوع البحث بصلة فقد نقل عن ضرار وحفص الفرد : أن الله لا يرى بالأبصار ، ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها (1) .
يقول ابن حزم : إن الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعة بالعين ، بل بقوة أخرى موهوبة من الله(2).
إلى غير ذلك من الكلمات التي حرّفت النقطة الرئيسية في البحث ، ومعتقد أهل الحديث الأشاعرة ، ونحن نركز في البحث على الرؤية بالأبصار ، وأما الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله .
فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصّرين على جواز الرؤية ، فأئمة أهل البيت ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزبيدية قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة .
فالبيت الأموي والمنتمون إليه من أهل الحديث كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة ، والرؤية لله سبحانه ، وأما الإمام
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبيته الطاهر وشيعتهم فكانوا من دعاة التنزيه والاختبار ، ومن الرافضين لهذه البدع المستوردة من اليهود بحماس .
وقد نجم في ضل العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهجان في مجال المعارف كل يحمل شعاراً ، فشيعة الامام علي وأهل بيته يحملون شعار التنزيه والاختيار ، والأمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر ، وقد اشتهر منذ قرون ، القول بأن : التنزيه والاختيار علويان ، والتشبيه والجبر أمويان .
فصارت النتيجة في النهاية أن كل محدث متزلف إلى البيت الأموي يحشد أخبار التجسيم والجبر ، بلا مبالاة واكتراث ، لكن الواعين من أمة محمد الموالين لأهل بيته كانوا يتجنبون نقل تلك الآثار .
قال الرازي في تفسير قوله ( ليس كمثله شيء ) : احتج علماء التوحيد قديما وحديثاً بهذه الآية على نفي كونه جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء ، حاصلاً في المكان والجهة .
قالوا : لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام ، فيلزم حصول الأمثال والأشياه ، وذلك باطل بصريح قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) ـ إلى أن قال :ـ
واعلم إن محمد بن اسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك ، واعترض عليها ، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات ، لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام ، قليل الفهم ناقص العقل ، فقال : نحن

نثبت لله وجهاً ونقول : إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء ، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره ، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء ، ونقول : إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء ، ونفى عنها الجلال والاكرام ، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء ، ولو كان مجرد اثبات الوجه لله يقتضي التشبيه يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً ، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب ثم قال : ولا شك إنه اعتقاد الجهنمية : لأنه لو قيل له : وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء ، فعلمنا أنه لا يلزم من اثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه .
إلى أن قال : وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين ، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية (1) .
وليس ابن خزيمة أول أو آخر محدث تأثر بهذه البدع ، بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث الذين منهم .
1ـ عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني ، صاحب المسند المتوفى عام 280هـ صاحب النقض ، يقول فيه : إن الله فوق عرشه وسماواته.
2ـ حشيش بن أصرم ، مؤلف كتاب الاستقامة ، يعرفه الذهبي : بأنه

يرد فيه على أهل البدع ، ويريد به أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه ، توفي عام 253هـ.
3ـ أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي ، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي قال : سألت الدار قطني عن الأزهري ، فقال : هو أحد بن محمد بن الأزهر بن حريث ، سجستاني منكر الحديث ، لكن بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه ، وكفى بهذا فخراً (1) .
يلاحظ عليه : أنه كفى بهذا ضعفاً ، ل، ابن خزيمة هذا رئيس المجسمة والمشتبهة ، ومنه يعلم حال السجستاني . توفي سنة 312هـ (2).
4ـ محمد بن اسحاق بن خزيمة ، ولد عام 311هـ وقد ألف ( التوحيد وإثبات صفات الرب ) ، وكتابه هذا مصدر المشّبهة والمجسّمة في العصور الأخيرة ، وقد اهتمّت به الحنابلة وخصوصاً الوهابية فقاموا بنشره على نطاق وسيع وسيأتي الحديث عنه .
5- عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ولد عام 213 هـ وتوفي عام 290هـ يروي أحاديث أبيه ( الإمام أحمد بن حنبل ) وكتابه (( السنة )) المطبوع لأوّل مرّة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام 1349 هـ وهو كتاب مشحون بروايات التجسيم والتشبيه ، يروي فيه ضحك الرّب ، وتكلمه واصبعه ويده ورجله وذراعيه وصدره وغي ذلك ممّا سيمر عليك بعضه .
وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالإسرائيليات والمسيحيات

جرّت الويل على الأمّة وخدع بها المغفّلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعاً .

الرؤية في كلمات الإمام علي عليه السلام :

من يرجع إلى خطب الإمام علي عليه السلام في التوحيد وما أثر عن أئمة العترة الطاهرة يقف على أنّ مذهبهم في ذلك هو امتناع الرؤية ، وأنّه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب فكيف بأبصار العيون ، وإليك نزراً يسيراً ممّا ورد في هذا الباب :
1- قال الإمام علي عليه السلام في خطبة الأشباح : (( الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله ، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده ، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه (1) .
2- وقد سأله ذعلب اليماني فقال : هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين ؟؛ فقال عليه السلام : أفأعبد ما لا أرى ؟ فقال : وكيف تراه ؟ فقال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملابس ، بعيد غير مبائن (2).
3- وقال عليه السلام : ( الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولا تحجبه السواتر (3) .
ـــــــــــــــــــــــــ

إلى غير ذلك من خطبه عليه السلام الطاحفة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به (1) .
وأما المروي عن سائر أهل البيت عليهم السلام فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه ( الكافي ) باباً خاصاً للموضوع روى فيه ثمان روايات (2) ، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد باباً لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية ، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسيّة البصرية ، وقسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه في محله (3).
ثم إن للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا احتجاجاً في المقام على مقال المحدث أبي قرة ، حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر ( كعب الأحبار ) : من أنه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيين كما تقدم .
فقال أبو قرة : فإنا رؤينا : أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين ، فقسم لموسى عليه السلام الكلام ، ولمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الرؤية .
فقال أبو الحسن عليه السلام : فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس أنه لا تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله شيء ، أليس محمد (ص) ؟ قال : بلى .
قال أبو الحسن عليه السلام : فكيف يجيء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ، ويقول : إنه لا
ـــــــــــ
تدركه الأبصار ولا يحيطون به علماً وليس كمثله ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني وأحطت به علماً وهو على صورة البشر ، أما تستحيون ؟ أم قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون أتى عن الله بأمرهم ثم يأتي بخلافه من وجه آخر .
فقال أبو قرة : إنه يقول : ( ولقد رآه نزلة أخرى )( النجم /13)
فقال أبو الحسن عليه السلام : إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) (النجم /11)يقول : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأت عيناه فقال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) (النجم /18) فآيات الله غير الله ، وقال : ( ولا يحيطون به علماً ) ( طه/110) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة .
فقال أبو قرة : فتكذّب بالرواية ؟
فقال أبو الحسن عليه السلام : إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذّبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علماً ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء .
ـــــــــــــــ

(2)
الرؤية في منطق العلم والعقل

إن الرؤية في منطق العلم والعقل لا تتحقق إلا إذا كان الشيء مقابلاً أو حالاً في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث ، فإن القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي :
خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثم انعكاسه عن الأشياء ورجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية .
ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال : إنها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتحقق الرؤية .
وعلى كل تقدير فالضرورة قاضية على أن الإبصار بالعين متوقف على حصول المقابلة بين العين والمرئى أو حكم المقابلة ، كما في رؤية

وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكار مكابرة واضحة ، فإذا كانت ماهيّة الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشيء عن المقابلة أو الحلول في المقابل .
وبعبارة واضحة : أن العقل والنقل اتفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة ، والرؤية فرع كون الشيء في جهة خاصة ، وما شأنه هذا لا يتعلق إلا بالمجوس لا بالمجرد .
ثم إن الرازي أراد الخدش في هذا الأمر البديهي ولكنه رجع خائباً ، واعترض على هذا الاستدلال بوجهين :
الأول : أن اداء الضرورة والبداهة على امتناع رؤية الموجود المنزه عن المكان والجهة أمر باطل ، لأنه لو كان بديهياً لكان متفقاً عليه بين العقلاء ، وهذا غير متفق عليه بينهم ، فلا يكون بديهياً ولذلك لو عرضنا قضية أن الواحد نصف الأثنين لا يختلف فيه اثنان ، وليست القضية الأولى في البداهة في قوة القضية الثانية (1)
يلاحظ عليه : بأنه خفى على الرازي بأن للبداهة مراتب مختلفة فكون نور القمر مستفاداً من الشمس قضية بديهية ، ولكن أين هذه البداهة من بداهة قولنا : الواحد نصف الاثنين ، أضف إلى ذلك أن العقلاء متفقون على لزوم المقابلة أو حكمها على تحقق الرؤية ، وإنما خالف فيه أمثال من خالف القضايا البديهية كالسوفسطائيين ، حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنهم كانوا يعدون من الطبقات العليا
ـــــــــــــــ
في المجتمع اليوناني .
الثاني : أن المقابلة شرط في الرؤية في الشاهد ، فلم قلتم إنه في الغائب كذلك .
وتحقيقه هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم ، فلم يلزم من كون الادراك واجباً في الشاهد عن حضور هذه الشرائط ، كونه واجباً في الغائب عند حضورها (1) .
هذا كلامه في كتاب الأربعين ، ويقول في تفسيره : ألم تعلموا إن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، ولا يلزم من ثبوت حكم في شيء ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه ، والعجب أن القائلين بالامتناع يدعون الفطنة والكياسة ولم يتنبه أحد لهذا السؤال ، ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام (2) .
يلاحظ عليه : أن الرازي غفل عن أن الرؤية من الأمور الإضافية القائمة بالرائي والمرئي ، فالتقابل من لزوم الرؤية بما هي هي ، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيواناً أو إنساناً لا مدخلية له في الموضوع ، فافتراض نفس الرؤية وتعلقها بالشيء وغض النظر عن الرائي وخصوصيات المرئي يجرّنا إلى القول : بأن الرؤية رهن التقابل أو حكمه ، وذلك لأن الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية هو نفسها هي هي ، والموضوع متحقق في

الشاهد والغائب ، والمادي والمجرد ، فاحتمال انتقاض الحكم باختلاف المرئي يناقض ما حكم به بأن الرؤية بما هي هي لا تنفك عن التقابل فإنه أشبه بقول القائل : إن نتيجة 2+2 هو الأربعة ، لكن إذا كان المعدود مادياً لا مجرداً ، ويردّ بأن الموضوع نفس اجتماع العددين وهو متحقق في كلتا الصورتين .
ثم ماذا يقصد ( الرازي ) من الغائب ؟ هل يقصد الموجود المجرّد عن المادة ولوازمها ؟ فبداهه العقل تحكم بأن المنزّه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصور أن يقع طرفاً للمقابلة ، وإن أراد منه الغائب عن الأبصار مع احتمال كونه جسماً أو ذا جهة ، فذلك ابطال للعقيدة الإسلامية الغراء التي تبنتها الأشاعرة وكذلك الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير موضع في تفسيره .
ولقائل أن يسأل الرازي : أنه لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كلّه أو بعضه ؟ فلو وقعت على الكّل تكون ذاته محاطة لا محيطة ، وهذا باطل بالضرورة ، ولو وقعت على الجزء تكون ذاته ذا جزء مركب .
ومما ذكرنا تتبين ركاكة ما استدل به الرازي على كلامه .

المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية :

إن مفكري الأشاعرة الذين لهم أقدام راسخة في المسائل العقلية لما وقعوا في تناقض من جراء هذا الدليل ذهبوا إلى الجمع بين الرؤية والتنزيه ، وإليك بيان ذلك :
1ـ الرؤية بلا كيف :
هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة ، وربما تعبّر عنه خصومهم بالبلكفة، ومعناه أن الله تعالى يرى بلا كيف وأن المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف ، أي منزهاً عن المقابلة والجهة والمكان .
يلاحظ عليه : أن تمنّي الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان ، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل ، فالرؤية التي لا تكون المرئي فيها مقابلاً للرائي ولا متحققاً في مكان ولا متحيزاً في جهة كيف تكون رؤيته بالعيون والأبصار .
والحق أن اعتماد الأشاعرة على أهل الحديث في قولهم بلا كيف مهزلة لا يعتمد عليها ، فإن الكيفية ربما تكون من مقومات الشيء ، ولولاها لما كان له أثر ، فمثلاً عندما يقولون : إن لله يداً ورجلاً وعيناً وسمعاً بلا كيف ويصرّحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية ، فإنه يلاحظ عليه ، بأن اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية ، فاثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية ، يكون مساوياً لنفي معناه اللغوي ، ويكون راجعاً إلى تفسيره بالمعاني المجازية التي تفرّون منها فرار المزكوم من المسك ، ومثله القدم والوجه .
وبعبارة أخرى : أن الحنابلة والأشاعرة يصرّون على أن الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه ، في الكتاب والسنّة ، يجب أن تفسّر بنفس معانيها اللغوية ، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية كالقدرة في اليد مثلاً ، ولما رأوا أن ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم

يد بلا كيف ، ولكنهم مادروا أن الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقومة لمفاهيمها ، فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي ، فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف .
ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين ، فإن التقابل مقوّم لمفهومها ، فاثباتها بلا كيف يلازم نفي أصل الرؤية ، وقد عرفت أن الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين ، لا الرؤية بالقلب أو في النوم .
وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلامية (1).

2ـ اختلاف الأحكام باختلاف الظروف :

إن بعض المثقفين من الجد لما أدركوا بعقوله أن الرؤية لا تنفك عن الجهة التجأوا إلى القول بأن كل شيء في الآخرة غيره في الدنيا ، ولعل الرؤية تتحقق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي .
لكن هذا الكلام رجم بالغيب ، لأنه إن أراد من المغايرة بأن الآخرة ظرف للتكامل ,ان الأشياء توجد في الآخرة بأكمل الوجوه و أمثلها ، فهذا لا مناقشة فيه ، يقول سبحانه : ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً) ( البقرة /25) ولكن إن أراد أن القضايا العقلية البديهية تتبدل في الآخرة إلى نقيضها فهذا يوجب انهيار النظم الكلامية والفلسفية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكرون من أتباع الشرائع وغيرهم ، إذ معنى ذلك أن النتائج المثبتة في
ــــــــــ
جدول الضرب سوف تتبدل في الآخرة إلى ما يباينها فتكون نتيجة ضرب 2×2=5أو 10 أو 000 وأن قولنا : كل ممكن يحتاج إلى علّة يتبدّل في الآخرة إلى أن الممكن غنّي عن العلة .
فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية ، ويصير الإنسان سوفسطائياً مائة بالمائة .

3ـ عدم الاكتراث بإثبات الجهة :

إن أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدلاً من أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجرّدوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة ، نراهم يقدمون لشباب الجامعات وخريجيها دعماً مالياً وفكرياً لمواصلة البحوث حول الرؤية في محاولة لاثباتها واثبات الجهة لله تعالى ، وإليك نموذج من ذلك .
يقول الدكتور أحمد بن محمد خريج جامعة أم القرى : إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة ، مكابرة عقلية ، لأن الجهة من لوازم الرؤية ، واثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة .
ومع هذا الاعتراف تخلص عن الالتزام بإثبات الجهة لله بقوله .
إن إثبات صفة العلوّ لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة جداً ، فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلوّ الثابت له تبارك وتعالى ، ولا يقدح هذا في التنزيه ، لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكلمات .
أما لفظ الجهة فهو من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا
(40)
إثباتها بالنص فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ (1).
ويلاحظ على هذا الكلام ما يلي :
أولاً : كيف ادّعى أن الكتاب والسنّة أثبتا العلوّ لله الذي هو مساوق للجهة ، فإن أراد قوله سبحانه : ( ثم استوى على العرش ) فقد حقق في محله بأن استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض وعدم عجزه عن التدبير ، وأين هو من إثبات العلوّ لله ، فقد أوضحنا مفادّ هذه الآيات في أسفارنا الكلامية (2) .
وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسمة والمشبهة ، فكلها بدع يهودية أو مجوسية تسربت إلى المسلمين ويرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت عليهم السلام .
ثانياً : إذا إفترضنا صحة كونه موجوداً في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض فكيف يكون محيطاً بكل شيء وموجوداً مع كل شيء فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام على التجسيم .
ونعم ما قال الشاعر المعرّة.
وياموت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
فالذي تستهدفه رسالات السماء يتخلص في توحيده سبحانه ,انه واحد لا نظير له ولا مثيل أوّلاً ، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات ثانياً .
غير أن أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغلوا في وحل

حبائل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين ، فقالوا بقدم القرآن وعدم حدوثه ، وأثبتوا بذلك مثلاً لله في الأزلية وكونه قديماً كقدمه سبحانه .
واثبتوا لله سبحانه العلوّ الجهة اغتراراً ببعض الظواهر والأحاديث المستودة ، فأبطلوا بذلك تنزيهه ـ سبحانه ـ وتعاليه عن مشابهة المخلوقات .
فخالفوا رسالات السماء في موردين أصيلين :

القريشي 3
05-31-2009, 10:47 AM
التوحيد : بالقول بقدم القرآن .
التنزيه : بإثبات الجهة والرؤية .
( كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً )

(3)
موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية

إن الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى تنزيهه عن الجسم والجسمانية ، وأنه ليس له مثيل ولا نظير ، ولا ندّ ولا كفو ، وأنه محيط بكل شيء ، ولا يحيطه شيء ، إلى غير ذلك من الصفات المنزهة التي يقف عليها الباحث إذا جمع الآيات الواردة في هذا المجال وبدورنا نشير إلى بعض منها :
قال سبحانه:
1ـ ( فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( الشورى /11)
2ـ ( قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد * ) ( الإخلاص /1ـ4) .
3ـ ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم )

(الحديد )
4ـ ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم أستوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ) ( الحديد 4).
5ـ ( هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ) الحشر /23) .
6ـ ( هو الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) ( الحشر /24) .
7ـ ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) ( المجادلة /7) .
8ـ ( ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ) ( فصلت /54) .
9ـ ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم ) ( البقر/255) .
10ـ ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( الأنعام /103) .
وحصيلة هذه الآيات أنه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل ، وهو أحد لا كفو له ، لم يلد ولم يولد ، بل هو أزليّ ، فبما أنه أزليّ الوجود ،

فوجوده قبل كل شيء أي لا وجود قبله .
وبما أنه أبدي ّ الوجود ، فهو آخر كل شيء إذ لا وجود بعده .
وبما أنه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده ، فهو باطن كل شيء ، كما أن النظام البديع دليل على وجوده ، فهو ظاهر كل شيء ، لا يحويه مكان ، لأنه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان ، فكان قبل أن يكون أي مكان .
وبما أن العالم دقيقه وجليله فقير محتاج إليه قائم به ، فهو مع الأشياء معيّة قيّوميّة لا معيّة مكانيّة ، ومع الإنسان أينما كان .
فلا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ، وذلك مقتضى كونه قيوماً به ، ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عمّا قام به ، وفي النهاية هو محيط بكل شيء لا يحيطه شيء ، فقد أحاط كرسيه السماوات والأرض ، فالجميع محاط وهو محيط ، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أفقها ، ولكنه لكونه محيطاً يدرك الأبصار.
هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناه بإيجاز وأوردناها بلا تفسير .
وقد علمت أن من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز ، فلو وجدنا شيئاً في السنّة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صح السند ، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح .

فمن تلا هذه الآيات وتدبر فيها يحكم بأنه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه ، وعند ذلك لو قيل له : إنه جاء في الأثر : إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا ( البدر ) لا تضامون في رؤيته(1) .
فسيجد أن هذا الكلام يناقض ما تلا من الآيات أو أستمع إليها وسيشكك ويقول : إذا كان الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني ، لا يحويه مكان ومحيط بالسماوات والأرض ، فكيف يرى يوم القيامة كالبدر في وجهه خاصة وناحية عالية مع أنه كان ولا علو ولا جهة ، بل هو خالقهما ، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنه لا يحويه مكان ولا يقع في وجهه وهو محيط بكل شيء ؟!
ولا يكون هذا التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة .
وكلما حاول القائل بالرؤية الجمع بين العقيدتين ، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية ، ومن جرد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين ، فأين القول بأنه سبحانه بعيد عن الحس والمحسوسات منزّه عن الجهة والمكان محيط بعوالم الوجود ، وفي نفس الوقت تنزله سبحانه منزلة الحسّ والمحسوسات ، واقعاً بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصر كما يبصر

البدر ويشاهده في أفق عال .
وقد عرفت في التمهيد أن السهولة في العقيدة والخلوّ من الألغاز هو من سمات العقيدة الإسلامية ، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه واحداً وثلاثاً .


هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنه سبحانه كلما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنما يطرحها ليؤكد عجز الإنسان عن نيلها ، ويعتبر سؤالها وتمنيتها من الإنسان أمراً فظيعاً وقبيحاً وتطلعاً إلى ما هو دونه .
1ـ قال سبحانه : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثنا كم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ) ( البقرة /55-56).
2ـ وقال سبحانه: ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً ) ( النساء /153) .
3ـ وقال سبحانه : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) ( الأعراف /143) .
4ـ وقال سبحانه : ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا ، فلما

أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) ( الأعراف/155) .
فالمتدبر في هذه الآيات يقضي بأن القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبحّه ويعد الإنسان قاصراً عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب عند سؤالها .
فلو كانت الرؤية أمراً ممكناً ولو في وقت آخر ، لكان عليه سبحانه أن يتلطف عليهم بأنكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا ، ولكنا نرى أنه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى ، كما أن موسى لما طلب الرؤية وأجيب بالمنع تاب إلى الله سبحانه وقال : أنا أول المؤمنين بأنك لا ترى .
فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد وإماتة وإنزال عذاب يدل بوضوح على أن الرؤية فوق قابلية الإنسان ، وطلبه لها أشبه بالتطلع إلى أمر محال ، فعند ذلك لو قيل للمتدبر في الآيات إنه روى قيس بن أبي حازم أنه حدّثه جرير وقال: خرج علينا رسول الله ليلة البدر فقال ( إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته ) (1) ، يجد الحديث مناقضاً لما ورد في هذه الآيات ويشك أنه كيف صار الأمر الممتنع أمراً ممكناً ، والإنسان غير المؤهل على الرؤية مؤهلاً لها .
إن هنا محاولتين للتخلص من التضاد الموجود بين الآيات ،

وخبر قيس بن أبي حازم الدال على وقوع الرؤية في الآخرة .

المحاولة الأولى :

إن تعارض الآيات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد ، فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الأولى على الحياة الحاضرة ، والثانية على الحياة الآخرة .
يلاحظ عليه : بأن الجمع بين الآيات والرواية على نحو ما ذكر أشبه بمحاولة الفقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد .
ولو صح ما ذكر فإنما هو في المسائل الفرعية لا العقائدية ، وليست الآيات الواردة فيها كالمطلق ، والحديث كالمقيد ، بل هي بصدد بيان العقيدة الإسلامية على أنه سبحانه فوق أن تناله الرؤية ، وإن من تمناها فإنما يتمنى أمراً محالاً .
والدافع إلى هذا الجمع إنما هو تزمتهم بالروايات وتلقيهم صحيح البخاري وغيره من صحيحاً على الإطلاق لا يقبل النقاش والنقد ، فلم يكن لهم محيص من معاملة الروايات والآيات معاملة الاطلاق والتقييد ، ولأجل ذلك فكلما تليت هذه الآيات للقائلين بالجواز يجيبون بأن الجميع يعود إلى هذه الدنيا ولا صلة له بالآخرة ، ولكنهم غافلون عن أن الآيات تهدف في تنديدها وتوبيخها إلى ملاحظة طلب نفس الرواية

بما هي هي ، بغض النظر عن الدنيا والآخرة ، ولا صلة لها بظرف السؤال ، فحمل تلك الآيات على ظرف خاص تلاعب بالكتاب العزيز وتقديم للسنّة على القرآن ، واعتماد على الظن مكان وجود القطع والقبض .
وأيمن الله لو لم يكن في الصحاح حديث قيس ين أبي حازم وغيره لما كان لديهم أيّوازع على تأويل الآيات .

المحاولة الثانية :

لقد تصدّى أبو الحسن الأشعري للإجابة عن الآيات الأخيرة وزعم أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتاً وعناداً ، وقال : إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل على طريق الانكار لنبوة موسى وترك الإيمان به حتى يروا الله لأنهم قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) فلما سألوه الرؤية على كريق ترك الإيمان بموسى عليه السلام حتى يريهم الله من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه ، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتاباً من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلاً ، ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتاباً )(1) .
يلاحظ عليه : أولاً : أن ما ذكره من أن الاستعظام لأجل كون طلبهم كان عن عناد وتعنت لا لطلب معجزة زائدة ، لو صح فإنما يصح في غير هذه الآيات ، أعني في قوله سبحانه : ( وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً

كبيراً) ( الفرقان /21)، لا فيما تلوناه من الآيات ، فإن الظاهر منها إن الاستعظام والاستفظاع راجعان إلى نفس السؤال بشهادة قوله : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) ( النساء /153) والذي يوضح ذلك أن التوبيخ والتنديد راجعان إلى نفس السؤال ـ مع غض النظر عن سبب السؤال ، وهل هو لغاية زيادة العلم أو للعتو ؟ ـ أمور :
1ـ إنه سبحانه سمى سؤالهم ظلماً وتعدّيا عن الحد .
2ـ إن موسى سمّى سؤالهم سؤالاً سفهيّاً .
3ـ عندما طلب موسى الرؤية أجيب بالخيبة والحرمان ،ولم يكن سؤاله عن عناد واستكبار ، ولو كانت الخيبة مختصة بالدنيا ، كان عليه سبحانه الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الآخرة .
وثانياً : أنه سبحانه وإن جمع في آية سورة النساء (1) ، بين نزول الكتاب من السماء عليهم ، ورؤية الله جهرة ، لكن كون الأول أمراً ممكناً لا يكون دليلاً على كون الثاني مثله ، وذلك لأن وجه الشبه بين الأمرين ليس الإمكان أو الاستحالة حتى يكونا مشاركين فيهما ، بل هو طلب أمر عظيم ، وشيء ليسوا مستأهلين له ، فلا يكون إمكان الأول دليلاً على إمكان الثاني .
على أن قوله سبحانه ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ) مشير إلى
الفرق بين الطلبين مع المشاركة في أمر الاستعظام وهو استحالة الثاني دون الأول ولذا أسماه أكبر .
وبذلك يقف على ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره ، لكونه مأخوذاً من كلام إمامه الأشعري .
ونقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفّح وناقشه بوجه غير تامّ (1).

رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة النافين

(4)
الآية الأولى : لا تدركه الأبصار

قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالاً ، وأنه يعدّ طلب الرؤية وسؤالها أمراً فظيعاً ، قبيحاً ، موجباً لنزول الصاعقة والعذاب ، والآيات السالفة وضحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن علة وجه الإجمال ، غير أنا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات ، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل . وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق وتحليله .
قال سبحانه : ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( الأنعام /102-103) والاستدلال بالآية يتوقف على البحث في مرحلتين :

المرحلة الأولى : في بيان مفهوم الدرك لغة :

الدرك في اللغة اللحوق والوصول وليست بمعنى الرؤية ، ولو

أريد منه الرؤية فإنما هو باعتبار قرينيه المتعلق .
قال ابن فارس : الدرك له أصل واحد ( أي معنى واحد ) وهو لحوق الشيء بالشيء ووصوله إليه ، يقال : أدركت الشيء ، أدركه إدراكاً ، ويقال : أدرك الغلام والجارية إذا بلغا ، وتدارك القوم : لحق آخرهم أولهم ، فأما قوله تعالى : ( بل أدارك علمهم في الآخرة ) ( النمل /66) فهو من هذا ، لأن علمهم أدركهم حين لم ينفعهم (1).
وقال ابن منظور مثله ، وأضاف : فقي الحديث ( أعوذ بك من درك الشقاء ) أي لحوقه ، يقال : مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركته ، وأدركته ببصري أي رأيته (2).
إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة ، فالادراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر ، والادراك بالمشي ، كما في قول ابن منظور : مشيت حتى أدركته ، التحاق الماشي بالمتقدم بالمشي ، وهكذا غيره .
فإذا قال سبحانه : ( لا تدركه الأبصار ) يتعين ذلك المعنى الكلي ( اللحوق والوصول ) بالرؤية ، ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرد بهذا الوصف تعالى عن الرؤية دون غيره .

المرحلة الثانية : في بيان مفهوم الآيتين :
أنه سبحانه لما قال : ( وهو على كل شيء وكيل ) ربما يتبادر إلى
بعض الأذهان أنه إذا صار وكيلاً على كل شيء ، يكون جسماً قائماً بتدبير الأمور الجسمانية ، لكن يدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلاً لكل شيء ( لا تدركه الأبصار ) .
وعندما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان أنه إذا تعالى عن تعلق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط الادراك والعلم بينه وبين مخلوقاته ، يدفعه قوله : ( وهو يدرك الأبصار ) ثم تعليله بقوله : ( وهو اللطيف الخبير ) و( اللطيف ) هو الرقيق النافذ في الشيء و( الخبير) من له الخبرة الكاملة ، فإذا كان تعالى محيطاً بكل شيء لرقته ونفوذه في الأشياء ، كان شاهداً على كل شيء ، لا يفقده ظاهر كل شيء ، وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء .
وبعبارة أخرى أن الأشياء في مقام التصور على أصناف :
1ـ ما يرى ويرى كالإنسان .
2ـ ما يرى ولا يرى كالاعراض النسبية كالابوة والنبوة .
3ـ ما يرى ولا يرى كالجمادات .
4ـ ما يرى ولا يرى وهذا القسم تفرد به خالق جميع الموجودات بأنه يرى ولا يرى والآية بصدد مدحه وثنائه بأنه جمع بين الأمرين يرى ولا يرى لا بالشق الأول وحده نظير قوله سبحانه : ( فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم ) ( الأنعام /14) ودلالة الآية على أنه سبحانه لا يرى بالأبصاربمكان من الوضوح غير أن للرازي ومن لفّ لفّه

تشكيكات نأتي بها مع تحليلها :

الشبهة الأولى :

إن الآية في مقام المدح ، فإذا كان الشيء في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من عدم رؤيته مدح و تعظيم للشيء ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه ، كانت هذه القدرة الكاملة على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية حسب ذاته(1) .
إن هذا التشكيك يحط من مقام الرازي ، فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك ، وذلك لأنه زعم أن المدح بالجملة الأولى ، أعني قوله سبحانه : ( لاتدركه الأبصار ) وغفل عن أن المدح بمجموع الجزئين المذكورين في الآية ، بمعنى أنه سبحانه لعلو منزلته لا يدرك وفي الوقت نفسه يدرك غيره ، وهذا ظاهر لمن تأمل في الآية ونظيرتها قوله سبحانه : يطعم ولا يطعم ، فهل يرضى الرازي بأنه سبحانه يمكن له الأكل والطعم .

الشبهة الثانية:

إن لفظ الأبصار صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق ، فقوله : ( لا تدركه الأبصار ) بمعنى لا تراه جميع الأبصار ، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ( 2).

يلاحظ عليه : أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار ، نظير قوله سبحانه: ( إن الله لا يحب المعتدين ) (البقرة /190) وقوله سبحانه : ( فإن الله لا يحب الكافرين ) ( آل عمران /32) وقوله سبحانه : ( والله لايحب الظالمين ) ( آل عمران /57) .
يقول الإمام علي عليه السلام : ( الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ، ولا يحصى نعمائه العادون ، ولا يؤدي حقه المجتهدون ، الذي لا تدركه بعد الهمم ولا يناله غوض الفطن ) (1).
فهل يحتمل للرازي في هذه الآيات والجمل سلب العموم وأنه سبحانه لا يحب جميع المعتدين والكافرين والظالمين ، ولكن يحب بعض المعتدين والكافرين والظالمين ، أو أن بعض القائلين يبلغون مدحته ويحصون نعماءه .
وهذا دليل على أن الموقف المسبق للرازي هو الذي دفعه لدراسة القرآن لأجل دعمه ، وهو آفة الفهم الصحيح من الكتاب .

الشبهة الثالثة : الإدراك هو الإحاطة :

إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فصله والرازي في مفاتيح الغيب وابن قيّم في كتاب الأرواح إلى بلاد الأفراح (2) ، وقد أسهبوا الكلام في تطوير الشبهة ، ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها ، وإنما نشير إلى المهم من كلماتهم .

وبما أن الأساس لكلام هؤلاء هو ابن حزم الظاهري نذكر نص كلامه أولاً .
قال : إن الإدراك في اللغة يفيد معنى زائداً عن النظر ، وهو بمعنى الإحاطة ، وليس هذا المعنى في النظر والرؤية ، فالإدراك ( الإحاطة ) فيض عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة ، والدليل على ذلك قوله سبحانه : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلاّ إن معي ربي سيهدين ) ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً ، لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله : ( فلما تراءى الجمعان ) ، وأخبر تعالى بأنه رأى بعضهم بعضاً فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل ، ولكن نفى الله الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم : ( كلاّ إن معي ربي سيهدين ) فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم ، ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته ،فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا قول الله تعالى (1).

يلاحظ عليه :أن الشبهة تعرب عن أن صاحبها لم يقف على كيفية الإستدلال بالآية على نفي الرؤية ، فزعم أن أساسه هو كون الإدراك في اللغة بمعنى الرؤية ، فرد عليه بأنه ليس بمعنى الرؤية ، بشهادة أنه سبحانه جمع في الآية بين إثبات الرؤية ونفي الدرك ، ولكنه غفل عن أن مبدأ الاستدلال ليس ذلك ، وقد قلنا سابقاً : إن الإدراك في اللغة بمعنى اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ابتداءً ، وإنما يتعين في النظر والرؤية

حسب المتعلق ، ولأحل ذلك لو جرد عن المتعلق ـ كما في الآية ـ لا يكون بمعنى الرؤية ، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفى الدرك ، لأن الدرك هناك بحكم عدم ذكر المتعلق كالبصر ، بمعنى اللحوق والوصول ، فقد وقع الترائي بين الفريقين ، ورأى فرعون وأصحاب بني إسرائيل ، ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقوهم .
وعلى ضوء ذلك إذا جرّد عن المتعلق مثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق ، وإذا اقترن بمتعلق مثل البصر يتعين في النظر والرؤية ، لكن على وجه الاطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص من الرؤية .
وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شيء ، حيث قال : لا نسلم إن إدراك البصر تعبير عن الرؤية ، بل هو بمعنى الإحاطة ، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار إحاطة به فسمى هذه الرؤية إدراكاً ، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكاً ، فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان ، رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة ، والرؤية مع

القريشي 3
05-31-2009, 10:48 AM
الإحاطة هي المسماة بالإدراك ، فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية ، ونفي النوع لا يوجب نفس الجنس ، فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عنه .

ثم قال : فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على الكلام الخصم (1) .
ويلاحظ عليه بأن ما ذكره الرازي كان افتراء على اللغة للحفاظ على المذهب ، وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي ، ولو لا أن الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرأ بذلك التصرف .
ونحن بدورنا نسأله: ما الدليل على أن الإدراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الإدراك الاحاطي ، مع أننا نجد خلافة في الأمثلة التالية ، نقول : أدركت طعمه أو ريحه أو صوته ، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامة بها ، أو أنه بمعنى مجرد الدرك بالأدوات المذكورة من غبر اختصاص بصورة الإحاطة ، مثل قولهم أدراك الرسول ، فهل هو بمعنى الإحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرة أو مرتين ، ولم يفسره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي .

وحاصل الكلام : أن اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلّي أي اللحوق والوصول ، على الرؤية والسماع ، سواء كان الإدراك على وجه الإحاطة أو لا ، وأما إذا تجرّدت اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق ، قال سبحانه : ( حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ( يونس /90) ومعنى الآية : ( حتى إذا لحقه الغرق ) ورأى نفسه غائصاً في الماء استسلم وقال : ( آمنت …) .

وقال سبحانه : ( فضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى ) ( طه/77) ، أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل .
وقال سبحانه : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) ( الشعراء /61) فأثبت الرؤية ونفى الدرك ، وما ذلك إلا لأن الإدراك إذا جرد عن المتعلق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتاً ، بل بمعنى اللحوق .
نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحّضاً في الرؤية من غير فرق بين نوع ونوع ، وتحصيصه بالنوع الإحاطي لأجل دعم المذهب افتراءً على اللغة .

رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة النافين

(5)
الآية الثانية : ولا يحيطون به علماً

قال سبحانه : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً) ( طه /109-110) .
إن الآية تتركب من جزئين :
الأول : قوله : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم )
الثاني : قوله : ( ولا يحيطون به علماً) .
والضمير المجرور في قوله : ( به) يعود إلى الله سبحانه .

ومعنى الآية :

الله يحيط بهم لأنه( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) ويكون معادلاً لقوله : ( وهو يدرك الأبصار ) ولكنهم ( لا يحيطون به علماً) . ويساوي قوله: ( لا تدركه الأبصار ) .

وأما كيفية الاستدلال فبيانها أن الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على جزئها ، فهي نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه ، وقد قال : ( ولا يحيطون به علماً) .

ولكن الرازي لأجل التهرب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال : بأن الضمير المجرور يعود إلى قوله : ( ما بين أيديهم وما خلفهم ) أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم ، والله سبحانه محيط بما بين أيديهم وما خلفهم.

أقول : إن الآية تحكي عن إحاطته العلمية سبحانه يوم القيامة بشهادة ما قبلها ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً) ، وعندئذ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه : ( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) هو الحياة الأخروية الحاضرة ، وقوله سبحانه : ( وما خلفهم ) هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الآخروية ، وحينئذ لو رجع الضمير في قوله ( ولا يحيطون به علماً) إلى الموصولين يكون مفاد الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين ، وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه ، وهذا بخلاف ما إذا رجع إلى ( الله ) فستكون الآية بصدد التنزيه ويكون المقصود أن الله يحيط بهم علماً وهؤلاء لا يحيطون كذلك ، على غرار سائر الآيات .
رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة النافين

(6)
الآية الثالثة : قال لن تراني

قال سبحانه : ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى به للجبل جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) الأعراف /143) . لقد استدل ـ بهذه الآية كل من النافي والمثبت ، رغم أن ليس لها إلا مدلول واحد ، فكان بين القولين تناقض واضح ، ومر ذلك إلى أن أحد المستدلين لم يتجرد عن هواه حينما استدل بالآية ، وإنما ينظر إليها ليحتج بها على ما يتبناه وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى النبي (ص) عنه بالخبر المتواتر وبالتالي قل من نظر إليها بموضوعية خاليه عن كل رأي مسبق .

المفهوم الصحيح للآية:

لاشك أننا إذا عرضنا الآية على عربي صميم لم يتأثر ذهنه
بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النافين والمثبتين ، وطلبنا منه أن يبين الاطار العام للآية ومفادها ومنحاها ، وهل هي بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها ؟ فستجيب بصفاء ذهنه بأن الاطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية ، وأن سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلا بالتوبة ، فسيكون فهم ذلك العربي حجة علينا لا يجوز لنا العدول عنها ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلمين أو المجادلين .
كما أن إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيراً صناعياً فلا شك أنه يدل أيضاً على تعاليه عنها ، وذلك لوجوه .

1- الإجابة بالنفي المؤبد :

لما سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أجيب ب( لن تراني ) والمتبادر من هذه الجملة أي قوله : ( لن تراني ) هو النفي الأبدي الدال على عدم تحققها أبداً .
والدليل على ذلك هو تتبع موارد استعمال كلمة ( لن ) في الذكر الحكيم ، فلا تراها متخلفة عن ذلك حتى في مورد واحد .
1ـ قال سبحانه : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ) ( الحج/73) .
2ـ ( إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ) ( التوبة /80).
3ـ ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ) ( محمد /34) .
4ـ سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم ) (المنافقون /6) .
5ـ ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ( البقرة /120)
6ـ ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ) ( التوبة /83).
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أن ( لن ) تفيد التأبيد .
وربما نوقش في دلالة ( لن ) على الأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم ( لن) موضوعة للتأبيد ، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثم نعرض المناقشة عليهما .
1ـ إن المراد من التأبيد ليس كون المنفي ممتنعاً بالذات ، بل كونه غير واقع ، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان ، نعم ربما يكون عدم الوقوع مستنداً إلى الاستحالة الذاتية .
2ـ إن المراد من التأبيد هو النفي القاطع، وهذا قد يكون غير محدد بشيء وربما يكون محدداً بظرف خاص ، فيكون معنى التأبيد بقاء النفي بحالة مادام الظرف باقياً .
إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنه قال : ما نقل عن أهل اللغة إن كلمة لن للتأبيد دعوى باطلة ، والدليل على فساده قوله تعالى في حق اليهود ( ولن يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ) ( البقرة /95) قال : وذلك لأنهم يتمنون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار ، قال سبحانه : ( ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ) ( الزخرف /77) فإن المراد من ( ليقض علينا ) هو
القضاء بالموت (1) .
ووجه الضعف ما عرفت من أن التأبيد على قسمين ، غير محدد ومحدد باطار خاص ، ومن المعلوم أن قوله سبحانه : ( ولن يتمنونه) ناظر إلى التأبيد في الاطار الذي اتخذه المتكم ظرفاً لكلامه وهو الحياة الدنيا ، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنون الموت أبداً ، ولعلمهم بأن الله سبحانه بعد موتههم يقدمهم للحساب والجزاء ، ولأجل ذلك لا يتمنوه أبداً قط.
وأما تمنيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فلم يكن داخلاًفي مفهوم الآية الأولى حتى يعد التمني مناقضاً للتأبيد .
ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو : أنه ربما يقال : أن ( لن) لا تدل على الدوام والاستمرار بشهادة قوله : ( أني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً ) لأن اليوم محدد معين ، وتأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة ( اليوم ) لأن اليوم محدد معين ، وتأبيد النفي غير محدد ولا معين ، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب : ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) ( يوسف /80) حيث حدد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه ( 2) .
وجه الوهن : أن التأبيد في كلام النحاة ليس مساوياً للمعدوم المطلق ، المقصود هو النفي القاطع الذي لا يشق ، والنفي القاطع الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين :
تارة يكون الكلام غير محدد بظرف خاص ولا تدل عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذ يساوق التأبيد المعدوم المطلق .
وأخرى يكون الكلام محدداً بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية ، فيكون التأبيد محدداً بهذا الظرف أيضاً ، ومعنى قول مريم : ( فلن أكلم اليوم أنسياً ) ( مريم /26) هو النفي القاطع في هذا الإطار ، ولا ينافي تكلمها بعد هذا اليوم .
والحاصل : أن ما أثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين ، فتارةً حسبوا أن المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربما يكون المدخول أمراً ممكناً كما في قوله :
( فقل لن تخرجوا معي أبداً ) ( التوبة /83) ، وأخرى حسبوا أن التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق ، فناقشوا بالآيات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفياً مطلقاً ، ولو أنهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات .
وبما أنه سبحانه لم يتخذ لنفي رؤيته ظرفاً خاصاً ، فسيكون مدلوله عدم تحقق الرؤية أبداً لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة .
والحاصل : أن الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل ، ولذلك أمره أن ينظر إلى الجبل عند تجليه ، فلما اندك الجبل خرّ موسى مغشيا عليه من الذعر ، ولو كان عدم الرؤية مختصاً بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل ، بل كان في وسعه سبحانه أن يقول : لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة فاصبر حتى يأتيك وقته والإنسان مهما بلغ كمالاً في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي
خلق عليها ، وقد بيّن سبحانه أنه خلق ضعيفاً .

2ـ تعليق الرؤية على أمر غير واقع :

علّق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي كان عليها عند التجلي ، وعدم تحوّله إلى ذرات ترابية صغار بعده ، والمفروض أنه لم يبق على حالته السابقة ، وبطلب هويته ، وصارت تراباً مدكوكاً ، فإذا انتفى المعلّق عليه ( بقاء الجبل على حالته ) ينتفي المعلّق ، وهذا النوع من التعليق في كلامهم ، طريقة معروفة حيث يعلقون وجود الشيء على ما يعلم عدم وقوعه وتحققه ، والله سبحانه بما أنه يعلم أن الجبل لا يستقر في مكانه ـ بعد التجلّي ـ فعلّق الرؤية على استقراره ، لكي يستدل بانتفائه على انتفائه ، قال سبحانه : ( لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ) ( الأعراف /40).
والحاصل : أن المعلق عليه هو وجود الاستقرار بغض النظر عن كونه أمراً ممكناً أو مستحيلاً ، والمفروض أنه لا يستقر ، فبانتفائه ينتفي ما علّق عليه وهو الرؤية .
وبالا معان فيما ذكر تستغني عن وجلّ ما ذكره المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة حول المعلّق عليه (1) .
ولارادة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي ، قال إنه تعالى علّق رؤيته على أمر جائز ، والمعلق على الجائز جائز ، فيلزم كون الرؤية

في نفسها جائزة بدليل قوله : ( فإن استقر مكانه فسوف تراني ) واستقار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه ، فثبت أنه تعالى علّق رؤيته علة جائز الوجود في نفسه … (1) .
ويلاحظ على كلامه أن المعلق عليه ليس إمكان الاستقرار وكونه أمراً ممكناً مقابل كونه أمراص محالاً عليه حتى يكون أمراً حاصلاً ويلزم منه وجود المعلّق ، أعني الرؤية ، مع أن المفروض عدمها ، بل المعلق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه ، إذا لو كان المعلق عليه امكان الاستقرار يلزم نقض الغرض وتحقق الرؤية لموسى عليه السلام بل المعلق عليه هو بقاء الجبل على حالته التي كان عليها حين التكلم ، والمفروض أنه لم يبق عليها ، بل دك وصار تراباً مستوياً بالأرض ، فبانتفاه انتفى المعلق ، أعني الرؤية .

3ـ تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية :

تذكر الآية أن موسى لما أفاق فأول ما تكلم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه وقال : ( سبحانك ) وذلك لأن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص ، فنزه سبحانه عنها ، فطلبها نوع تصديق لها .
ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربما يقال : إن المراد ـ من التنزيه هنا ـ هو تنزيه الله وتعظيمه واجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه

الفناء ، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله ورسوله في دار الآخرة ، وليست الرؤية من النقائص على ما يدّعيه نفاتها ، فهي ليست نقصاً في المخلوق ، بل هي كمال ، وكل كمال اتّصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى (1) .
يلاحظ عليه : بأنه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء ، مع إطلاق الآية ، ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحملها الوجود الامكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين .
وما ذكره في آخر كلامه من أن كل كمال أتّصف به المخلوق وأمكن أن يتّصف به الخالق فالخالق أولى به صحيح من حيث الضابطة والقانوتن ، لكنه باطل من حيث التطبيق على المورد ، فإن ما يوصف به المخلوق على قسمين : فمنه ما يكون كمالاص له ككونه عالماً قادراً حيّاً سميعاً بصيراً ، فالله أولى بأن يوصف به ، ومنه ما لا يكون كمالاً للأول ، لكنه يكون موجباً للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً .
وكان الأولى للكاتب وأشباهه أن لا يخوضوا غمار هذه المسائل التي تحتاج إلى قدر كبير من التفكر والعناية الخاصة .
إذا لم تستطع أمراً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع
4ـ توبته لأجل طلب الرؤية :
إن موسى عليه السلام بعدما أفاق ، أخذ بالتنزيه أولاً والتوبة والإنابة إلى ربه ثانياً ، ظاهر الآية أنه تاب من سؤاله ، كما أن الظاهر من قوله : ( وأنا أول المؤمنين ) إنه أول المصدّقين بأنه لا يرى بتاتاً .
للباقلاني أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري كلاماً في تفسير التوبة ، أشبه بالتفسير بالرأي ، قال :
يحتمل إن موسى تاب لأجل أنه ذكر ذنوباً قد قدم التوبة منها فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى ، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة (1) .
لكن كل ما ذكره وجوه لا يتحملها ظاهر الآية ، وإنما تورط فيها لأجل دعم المذهب ، وهذا هو الذي ندد به النبي الأكرم وقال : ( من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ) ، ومثله قول الرازي في تفسير قوله : ( وأنا أول المؤمنين ) بأنه لا يراك أحد في الدنيا ، أو أول المؤمنين ، بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك ( 2) .
***
شبهة المخالفين :

قد تقدم أن الآية استدّل بها النافون والمثبتون ، وقد تعرفت على
استدلال النافين ، وليس المثبتين للرؤية استدلالاً علمياً ، وإنما يرجع محصل كلامهم إلى ابداء شبهتين هما:

الشبهة الأولى : لو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها الكليم عليه السلام

إن الآية دالة على أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ، ولا شك أن موسى عليه السلام يكون عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى ، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها ، وحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى (1) .
ولاستدلال بطلب موسى إنما يكون متقناً إذا تبين أنه عليه السلام طلبها باختيار ومن غير ضغط من قوته ، فعندئذ يصلح للتمسك به ظاهراً ، وأنى للمستدل إثبات ذلك ، مع إن القرائن تشهد على أنه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرين على ذلك على وجه يأتي بيانه وتوضيحه يتوقف على بيان أمور :
1ـ أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولاً (2) .
2ـ أنه سبحانه أتبعها بذكر فصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانياً .
3ـ ثم نقل إختيار موسى من قومه سبعين رجلاً لميقاته سبحانه وقال: ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال
ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي بها من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ) ( الأعراف /155) .
والإجابة الحاسمة تتوقف على توضيح أمر آخر وهو : هل كان سؤال موسى الرؤية مستقلاً عن طلب القوم الرؤية ، أم لا صلة له بطلبهم ؟ من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحدٍ أو زمانين ، بل المهم ، وجود الصلة بين السؤالين وعدمها ، وكون الثاني من توابع السؤال الأول .
والظاهر بال المقطوع به هو الأول ، ويدل على ذلك أمران :

الأول : سياق الآيات ليس دليلاً قطعياً

إن ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقق قصة العجل ، لوقوله سبحانه : ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة بأختهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك ) ( النساء /153) ، فإن تخلل لفظة (ثم) حاك عن تأخرها عن الذهاب ، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل ، وهذا لو دل على شيء فإنما يدل على أن السياق ليس دليلاً قطعياً لا يجوز مخالفته ، فكما جاز تأخير المتقدم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها .
فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا
عن عبادة العجل فقالوا في الميقات : ( أعطنا ما لم تعطه أحداً قبلنا …) (1) ليس بشيء ، وقد عرفت تصريح الآية على تقدم سؤالهم الرؤية على عبادته .

الثاني : استقلال السؤالين غير معقول

إن لاحتمال استقلال السؤالين صورتين :
الأولى : أن يتقدم موسى بسؤال الله الرؤية لنفسه ثم يحدث ما حدث ، من خروره صعقاً وإفاقته وإنابته ثم إنه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يري الله لهم جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
الثانية : عكس الصورة الأولى ، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثم يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث ثم هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيخاطب بقوله : ( لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل ) .
إن العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية .
أما الأولى ، فلو كان موسى متقدماً في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به بقوله ( لن تراني ) كان عليه أن يذكر قومه بعواقب السؤال ، وأنه سألها ربه ففوجئ بالغشيان ، مع أنه لم يذكرهم بشيء مما جرى عليه
حين طلبهم ، ولو ذكرهم لما سكت عنه الوحي .
أما الثانية : فهو كذلك ، لأنه لو كان قد تقدم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفيهاً فلا يصح في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلاً.
وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلين ، وإنما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتب وصلة ، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأول ، وعندئذ لايدل سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه .
وتوضيح ذلك : إن الكليم لما أخبر قومه بأن الله كلمه وقربه وناجاه ، قال قومه : لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، فاختار منهم سبعين رجلاً لميقاته وسأله سبحانه أن يكلمه ، فلما كلم الله وسمع القوم كلامه قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم ، وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية :
1ـ ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ) ( البقرة /151) .
2ـ ( وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة بأختكم الصاعقة وأنم تنظرون ) ( البقرة /55) .
3ـ ( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) ( النساء/153) .
4ـ ( واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا أنت خير الغافرين ) ( الأعراف /155) .
إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلم موسى عليه السلام حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفه ولم يطلب شيئاً ، وإنما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه

القريشي 3
05-31-2009, 10:49 AM
إذا رجع إليهم ، وهو القائل : ( قال ربّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إنْ هي إلاّ فتنتك ) .
فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين ، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى ، وعندئذٍ نتساءل هل يصلح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأمّ عينيه ما رأى ؟ كلا ، وكيف يصح له أن يسأله وقد وصف السؤال بالسفاهة ، فلم يبق هناك إلاّ احتمال آخر ، وهو أنّه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد اخباره بالرؤية (1) وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج ، وبما أنّ موسى لم يقدم على السؤال إلاّ بإصرارٍ منهم لكي يسكتهم ، لذلك لم يتوجه إلى الكليم أيّ تبعة ولا مؤاخذة ، بل خوطب بقوله : ( لن تراني ولكن انظر إلى الجبل
فإن استقرّ مكانه فسوف تراني ) .
وللإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام هنا كلام حول سؤال موسى :
قال علي بن محمد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى عليهما السلام ، فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك أنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى ، فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله أن قال له : فما معنى قول الله عزّ وجل ( ولمّا جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لنْ تراني ) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران عليه السلام لا يعلم أن الله – تعالى ذكره – لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال ؟ .
فقال الرضا عليه السلام : (( إنّ كليم الله موسى بن عمران عليه السلام علم أنّ الله تعالى عن أن يري بالأبصار ، ولكنه لما كلّمه الله عزّ وجل وقرّبه نجيّاً رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّ وجل كلّمه وقربه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبعمائة ألف رجل ، فاختار منهم سبعين ألفاً ، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه السلام إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه ، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام ، لأنّ الله عزّ وجل أحدثه في الشجرة ، ثم جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه ، فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرةً فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عزّ وجل عليهم

صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله إياك ، فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ، فقال موسى عليه السلام : يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنما يعرف بآياته ويعلم بإعلامه ، فقالوا : إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إله لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته ، فقال موسى عليه السلام : يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له ، وإنما يعرف بآياته ويعلم بإعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى تسأله ، فقال موسى عليه السلام : يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله جل جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن تجد أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى عليه السلام : ( رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل ( بآية من آياته ) جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك ( يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي ) وأنا أول المؤمنين ) منهم بأنك لا ترى ).
فقال المأمون : لله يا أبا الحسن ، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة (1).
وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال : ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً وتبرأ من فعلهم ، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم ، وقالوا لابد ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فأراد
أن يسمحوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله: ( لن تراني ) ليتقينوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبة ، فلذلك قال : ( رب أرني أنظر إليك ) (1) .
وعلى كل تقدير فما ذكره صاحب الكشاف قريب مما ذكرناه ، وكلا البيانين يشتركان في أن السؤال لم يكن بدافع من نفس موسى ، بل بضغط من قومه .
ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال :
ظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة لأن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأولى في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها ، فأما ذكر بعض القصة ( سؤال موسى الرؤية ) ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى ( إتخاذ العجل ربّاً ) ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى ( سؤال قوم موسى ) يوجب نوعاً من الخبط والإضطراب ، والأولى صون كلام الله تعالى عنه ( 2) .
والجواب : أنه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من آية 142وختمها في الآية 155، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة ، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل .
فقد اتضح مما ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه
بطلب موسى .


الشبهة الثانية : تجلّيه على الجبل

إن تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له ، فلما رآه ( سبحانه ) اندّكت أجزاؤه ، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية ، وأقصى ما في الباب أن يقال : الجماد جماد ، والجماد يمتنع أن يرى شيئاً ، إلا أن نقول لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه الرؤية متعلقة بذات الله (1) .
لكن يلاحظ على هذا الكلام : إن ما ذكره من رؤية الجبال لله تعالى مع إفتراضه الحياة والعقل والفهم للجبل شيء نسجه فكره ، وليس في الآية أي دليل عليه ، والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها ، وظاهر الآية أنه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمل تجلّيه لا أنه رآه وشاهده .
وأما التجلّي ، فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل ، فمن لم يتحمل تجلّيه بفعله وقدرته فالأولى أن لا يتحمل تجلّيه بذاته ، وعندئذ فمن المحتمل جداً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله ، فعند ذلك لا يدل أن تجلّيه للجبل كان بذاته .
أضف إلى ذلك أن أقصى ما تعطيه الآية هو الإشعار بذلك لذا لا
يمكن التمسك به وطرح الدلائل القاطعة عقلاً ونقلاً على امتناع رؤيته .
إلى هنا تم ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية ، وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي ، وتعرفت فيه على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار .
رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة المثبتين

(7)
الآية الأولى : إلى ربّها ناظرة

استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات متعددة والمهم فيها هو الآية التالية ، أعني قوله سبحانه : ( كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة * وجوه يؤمئذ ناظرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة ) ( القيامة /20ـ 25) .
يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد : إن النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويقال انتظرته ، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة ( في ) وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة (اللام) ، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة ( إلى ) ، فيحمل على الرؤية (1) .
أقول : لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية ، بين مثبتي الرؤية ونافيها ، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام ، فإن المثبتين
يركزون على أن الناظرة بمعنى الرؤية ، كما أن نافيها يفّسرونها بمعنى الانتظار ، مع أن تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثر في إثبات مدّعيها كما سيظهر ، والحق عدم دلالتها على جواز رؤية الله بتاتاً ، وذلك لأمرين :
الأول : أنه سبحانه استخدم كلمة ( وجوه ) لا ( عيون ) ، فقسم الوجوه إلى قسمين : وجوه ناضرة ، ووجوه باسرة ، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون ، والعجب أن المستدل غفل عن هذه النكتة التي تحدد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردد بين المعنيين ، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأريد منه الرؤية بالعيون والأبصار ، بل كلما أريد منه الرؤية نسب إليهما .
الثاني : لا نشك أن( الناظرة ) في قوله ( إلى ربها ناظرة ) بمعنى الرائية ، ونحن نوافق المثبتين بأن النظر إذا استعمل مع ( إلى ) يكون بمعنى الرؤية ، لكن الذي يجب أن نلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي ، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي ، فلو قلنا : زيد كثير الرماد ، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي ، ولكن كثرة الرماد مراد استعمالي لا جدّي ، والمراد الجدّي هو ما اتخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب ، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه ، فإذا قال الرجل : زيد الذي يعدّ أوساخاً ملوثة لبيته ، فيكون قد ذمّه دون أن يمدحه ، بل يجب علينا أن
نقول : بأنه أخبر عن جوده وسخائه ، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي ، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء .
وىلآن سنوضح مفاد الآية ونبيين ما هو المراد الاستعمالي والجدي فيها ، وذلك لا يعلم إلا برفع ابهام الآية بمقابلها ، فنقول : إن هناك ستة آيات تقابلها ثلاثة ، وهي كالآتي :
1ـ ( كلا بل تحبون العاجلة ) يقابلها: ( وتذرون الآخرة ) .
2ـ ( وجوه يومئذ ناضرة ) يقابلها: ( وجوه يومئذ باسرة ) .
3ـ ( إلى ربها ناظرة ) يقابلها : ( تظن أن تفعل بها فاقرة ) .
فلا شك أن الآيات الأربع الأول واضحة لا خفاء فيها ، وإنما الإبهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث ، فهل المراد منه جداً هو الرؤية ، أو أنها كناية عن انتظار الرحمة ؟ والذي يعيّن أحد المعنيين هو الشق الثاني من التقابل ، أعني ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) فهو صريح في أن أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ، ويظنون نزوله ، وهذا الظن لا ينفك عن الانتظار، فكل ظان لنزول العذاب منتظر ، فيكون قرينة على أن أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربهم ، أي يرجون رحمته ، وهذا ليس تصرفاً في الآيات ولا تأويلاً لها ، وإنما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أخرى ، غير أن الجميع سبيكة واحدة .
1ـ ( وجوه يومئذ مشفرة ) يقابلها : ( ضاحكة مستبشرة ) .
2ـ ( ووجوه يومئذ عليها غبرة ) يقابلها : ( ترهقها قترة )(1) .
فإن قوله ( ضاحكة مستبشرة ) قائم مقام قوله ( إلى ربها ناظرة ) فيرفع ابهام الثاني بالأول .
3ـ ( وجوه يومئذ خاشعة ) يقابلها : ( عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية ) ( الغاشية /2-4) .
4ـ ( وجوه يومئذ ناعمة ) يقابلها : ( لسعيها راضية * في جنّةٍ عاليةٍ ) ( الغاشية 8-10).
أنظر إلى الإنسجام البديع ، والتقابل الواضح بينهما ، والهدف الواحد ، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة ، إلى ناضر ومسفر ، وناعم وإلى باسر ، وأسود ( غبرة ) وخاشع .
أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران ، وتحكيه الجمل التالية :
إلى ربها ناظرة ، ضاحكة مستبشرة ، في جنةٍ عاليةٍ .
وأما جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة ، وتحكيه الجمل التالية :
تظن أن يفعل بها فاقرة ، ترهقها قترة ، تصلى ناراً حامية.
أفبعد هذا البيان يبقى شك في أن المراد من ( إلى ربها ناظرة ) هو انتظار الرحمة !!! والقائل بالرؤية يتمسك بهذه الآية ، ويغض النظر عما حولها من الآيات ، ومن المعلوم أن هذا من قبيل محاولة اثبات المدّعى
بالآية ، لا محاولة الوقوف على مفادها .
ويدلّ على ذلك أن كثيراً ما تستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب ، وإليك بعض ما ورد في ذلك :
وجوه بها ليل الحجاز على الهوى إلى ملك كهف الخلائق نـاظرة
وجــوه نــاظرات يوم بــدر إلى الرحمـــن يأتي بالفلاح
فلا نشك أن قوله : وجوه ناظرات بمعنى رائيات ، ولكن النظر إلى الرحمن هو كناية عن انتظار النصر والفتح .
إني إليك لمــا وعدت لنـاظر نظر الفقير إلـى الغني الموسر
فلا ريب أن اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية ، ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين ، بل الصبر والانتظار حتى يعينه .
قال سبحانه : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ) ( آل عمران /77) ، والمراد من قوله: ( لا ينظر إليهم ) هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطفه عليهم ، لا عدم مشاهدته إياهم ، لأن رؤيته وعدمها ليس أمراً مطلوباً لهم حتى يهدّدوا بعدم نظرة سبحانه إليهم ، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم ، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم ، فيكون المراد عدم تعطفه إليهم ، على أن تفسير قوله ( لا ينظر إليهم ) ب ( لا يراهم ) يستلزم الكفر ، فإنه سبحانه يرى الجميع ( وهو يدرك الأبصار ) .
والحاصل : أن النظر إذا أسند إلى العيون يكون المعنى بالمراد
الاستعمالي والجدّي هو الرؤية على أقسامها ، وإذا أسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه فيراد به الرؤية استعمالاً والانتظار جدّاً .
ثم إن لصاحب الكشاف هنا كلمة جيدة ، حيث يقول بهذا الصدد : يقال : ( أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي ) يريد معنى التوقع والرجاء ، ومن هذا القبيل قوله :
وإذا نــظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعماً
وقال : سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول : عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم ، تقصد راجية ومتوقعة لا حسانهم إليها ، كما هو معنى قولهم : أن أنظر إلى الله ثم إليك ، وأتوقع فضل الله ثم فضلك (1) .
رؤية الله في الذكر الحكيم
دراسة أدلة المثبتين

(8)
خمس آيات على طاولة التفسير

اتفق المحققون على أنه لا يستدل بآية على عقيدة إسلامية إلا إذا كانت الآية واضحة الدلالة جليّة المرمى ، لما عرفت من أن المطلوب في باب العقائد هو الاعتقاد ، وهو متوقف على الإذعان ، ولا يحصل إلا إذا كان هناك قطعي له .
وعلى ذلك الأصل ، كان المرتقب من أصحاب القول بالرؤية التمسك بماله ظهور على مدّعاهم ولو كان ذلك الظهور بدائياً أو زائلاً حين التمعّن به ، ولكن من المؤسف إننا نراهم يتمسكون بما لا دلالة له على مدّعاهم ، لا صلة بينه وبين القول بالرؤية ، وعلى ذلك سنتناول في هذا الفصل هذا القسم من الآيات ونفصّله عمّا سبق للفرق بين أدلتهم .

الآية الأولى : أمره سبحانه موسى بالشكر له

( قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ
ما أتيتك وكن من الشاكرين ) ( الأعراف /144) .
قال الرازي : إعلم إن موسى عليه السلام لما طلب الرؤية ومنعه الله منها ، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه ، وأمره أن يشتغل بذكرها كأنه قال : إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم كذا وكذا ، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية ، وانظر إلى سائر أنواع النعم التي حصصتك بها ، واشتغل بشكرها ، والمقصود تسلية موسى عليه السلام عن منع الرؤية ، وهذا أيضاً أحد ما يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى ، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة (1) .
وقد تبعه اسماعيل البروسي فقال في تفسير قوله : ( وكن من الشاكرين ) : أن اشكر ، يبلغك إلى ما سألت من الرؤية ، لأن الشكر يستدعي الزيادة ، لقوله تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنكم ) ( إبراهيم /7) والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة )( يونس /26) ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( الزيادة هي الرؤية ، والحسنى هي الجنة ) (2) .
ومن المثبتين للرؤية من يستحسن مواقف المستدلين بهذه الآية ويقول : إن الاستدلال بهذه الآية على الجواز قوي ، لأن الله تعالى عدّد لموسى عليه السلام هذه النعم التي أنعم الله بها عليه لما منعه من حصول جائزٍ طلبه منه ، فذكر ما ذكر تسليةً له ، ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر ،
وذلك مثل خطابه تعالى لنوح ( رب إن أبني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ( هود /45-46) .
وقوله تعالى لإبراهيم عليه السلام حين قال : ( رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) ( البقرة /260) ، والفرق بين خطاب الله لموسى عليه السلام وبين خطابه لنوح وإبراهيم عليه السلام ظاهراً (1) .
وقد نقلنا كلام هؤلاء بالتفصيل ليقف القارئ على كيفية تمسكهم بما لا دلالة له على مطلوبهم ، والشاهد على ذلك أنا لو عرضنا الآية على أي عربي مخاطب بالقرآن لا ينتقل ذهنه إلى ما يدّعون ، ويرى أن إثبات الرؤية بها تحميل للنظرية على الآية وليس تفسير لها ، وإليك نقاط الضعف في كلماتهم :
أما الرازي ، فمن أين يدّعي أن الآية في مقام مواساة موسى لئلا يضيق صدره بسبب منع الرؤية ؟ لو لم نقل أن الآية وردت على خلاف ما يدعيه فإنما وردت في مورد الامتنان على موسى وموعظة له أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته ، وكلامه ، ويشكره ولا يزيد عليه .
هذا هو الظاهر من الآية ، ولا وجه لحمل الآية بكونها في صدد المواساة بعدما صدر من موسى في الآية المتقدمة عليها قوله : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) قال يا موسى أني اصطفيتك على الناس …
فمقتضى ما صدر من موسى من تنزيهٍ وتوبةٍ وإيمانٍ بأنه لا يرى هو موعظته بالاكتفاء بما أوتي ولا يزيد عليه ، لا أن يعتذر سبحانه إليه ويواسيه بحرمانه رؤيته .
وأما ما ذكره صاحب روح البيان فعجيب جداً ، فإن استدلاله يتوقف على أن المراد من ( زيادة ) في قوله سبحانه ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) هو الرؤية ، وهذا أول الكلام ، وسيوافيك أن المراد منها هي الزيادة على الاستحقاق ، فانتظر حتى يأتيك البيان .
وأما ما ذكره الدكتور تأييداً لما ذكره الرازي فضعفه واضح ، لأن الآية ليست بصدد مواساته ، وأما اختلاف الخطاب بينها وبين ما ورد في طلب نوح ، هو أن طلب موسى لما كان نتيجة ضغطٍ من قومه دون طلب نوح صار الاختلاف في مبدأ الطلبين سبباً لاختلاف الخطابين ، فخوطب نوح بخطاب عتابي دون موسى عليه السلام ، وإن كان العتاب على ترك الأولى .

الآية الثانية : الحسنى والزيادة
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ( يونس /26) .
فقد فسرت الحسنى بالجنة ، والزيادة بالنظر إلى وجه الله الكريم ، فقد روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي قال : ( إذا أدخل أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى : تريدون شيئاً أزيدكم ، فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب ، فما
أعطوا شيئاً أحب إليهم من التنظر إلى ربهم عز وجل ) .
وفي رواية ثم تلى ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) (1) .
إن القرآن الكريم كتاب عربي مبين وهو تبيان لكل شيء ، كما هو مقتضى قوله سبحانه : ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ) ( النحل /89) ، وحاشا أن يكون تبياناً لكل شيء ولا يكون تبياناً لنفسه ، وسياق الآية يدل على أن المراد من الزيادة هو الزيادة على الاستحقاق ، فقد جعل سبحانه الجزاء حقاً للعامل ـ لكن بفضله وكرمه ـ وقال : ( لهم أجرهم عند ربهم ) آل عمران /199) ، ثم جعل المضاعف منه حقاً للعامل أيضاً ، وهذا أيضاً بكرمه وفضله ، وقال : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ( الأنعام /160) . وبالنظر إلى هذه الآيات يتجلى مفاد قوله سبحانه ( للذين أحسنوا الحسنى ) استحقاقاً للجزاء والمثوبة الحسنى ( وزيادةً) على قدر الاستحقاق ، قال سبحانه : ( فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) ( النساء /174) .
وبغض النظر عما ذكرنا من تفسير الزيادة على الاستحقاق أن ما بعد الآية قرينة واضحة على أن المراد من ( زيادة ) هو الزيادة على الاستحقاق ، ومفاد الآيتين هو تعلق مشيئته سبحانه على جزاء المحسنين بأكثر من الاستحقاق وجزاء المسيئين بقدر جرائمهم ، قال سبحانه بعد هذه الآية : ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلّة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من
الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ( يونس /27) .
أفبعد هذا السياق الرافع للإبهام يصح لكاتب عربي واعٍ أن يستدل بالآية على الرواية !!
وبذلك يظهر عدم دلالة ما يشابه هذه الآية مدلولاً على مدعاهم ، قال سبحانه : ( أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) ( ق /34-35) فإن المراد أحد المعنيين ، إما زيادة على ما يشاؤونه ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغهم أمانيهم ، أو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم .
أما ما رواه مسلم فسيوافيك القضا الحق عند البحث عن الرؤية في الروايات ، وأن الآحاد في باب العقائد غير مفيدة ، خصوصاً إذا كانت مضادة للبرهان .

الآية الثالثة : رؤية الملك

( وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيرا ) ( الإنسان /20) .
قال الرازي : فإن إحدى القراءات في هذه الآية في ( ملكاً ) بفتح الميم وكسر اللام ، وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى ، وعندي إن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها (1) .
وقال الآلوسي عند تفسيرها : وقيل هو النظر إلى الله عز وجل ،
وقيل غير ذلك (1) .
ويلاحظ على كلامه : أن المسائل العقائدية لا يستدل عليها إلا بالأدلة القطعية لا بالقراءات الشاذة التي لا يحتج بها على الحكم الشرعي فضلاً عن العقيدة ، وسياق الآية يدل على أنه هو الملك بضم الميم وسكون اللام وكأنه سبحانه يقول : وإذا رميت ببصرك الجنة رأيت نعيماً لا يوصف وملكاً كبيراً لا يقدر قدره .
والآية نظير قوله : ( فبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ) ( الأحزاب /47).

الآية الرابعة : آيات اللقاء

1ـ ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) ( الكهف /110) .
2ـ ( وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ) ( البقرة /223) .
3ـ ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً ) ( الأحزاب /44)

القريشي 3
05-31-2009, 10:51 AM
4ـ ( وقال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين ) ( البقرة /249) .
وجه الاستدلال : أن الآيات تنسب اللقاء إلى الله تعالى ، ومقتضى الأخذ بالظاهر هو تحقق اللقاء بالمشاهدة والمعاينة .
لكن هذا الاستدلال يلاحظ عليه : أن اللقاء كما أضيف في هذه الآيات إليه سبحانه ، كذلك أضيف إلى غيره سبحانه في سائر الآيات ، فتارة أضيف إلى لفظ الآخرة ، قال سبحانه : ( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ) ( الأعراف /147) وقال : ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ) ( المؤمنون /33) ، وأخرى إلى لفظ ( اليوم ) قال سبحانه : ( يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ( الرمز /71 ) وقال سبحانه : ( وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ) ( الجاثية /34) وعلى ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء ، بمعنى حضور الناس في يوم القيامة للمحاسبة والمجازاة ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وإنما سمّي هذا بلقاء الرب أو لقاء الله لما تعلقت مشيئته على مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم ، فبما أنه سبحانه يجزي المحسن والمسيء في ذلك اليوم فكأنهم يلقونه سبحانه فيه لا قبله .
وفي نفس الآيات التي استدل بها ذلك قرينة واضحة على أن المراد من الآيات هو الحضور يوم القيامة ، وهي أنه سبحانه يأمر لمن يرجو لقاء الرب بالعمل الصالح ويقول : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ) ، أي فليستعد لذلك اليوم بالعمل الصالح ، كما أنه في آية أخرى يأمر بتقديم شيء لهذا اليوم ويقول : ( وقدموا لأنفسكم واتقوه واعلموا أنكم ملاقوه ) ، وذلك لأن مقتضى العلم بالحشر فيذلك اليوم والمحاسبة والمجازاة هو تقديم الأعمال الصالحة .
والذي يدل على أن المراد من اللقاء ليس هو الرؤية ، هو أن الرؤية
تختص بالمؤمنين ولا تعم الكافرين ، مع أنه سبحانه يعمم اللقاء بالمؤمن والكافر فيقول : ( فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) ( التوبة /7) فلو كان المراد من لقاء الله هو مشاهدته ورؤيته فيلزم أن يكون المنافق مشاهداً له ، فلم تبق أي فضيلة للمؤمنين ، مع أن القائلين بالرؤية يزمرون بأن الرؤية فضيلة وزيادة تختص بالمؤمنين .
ولما ضاق الخناق على بعضهم قال بوجود رؤيتين : أحدهما عامة للمؤمن والكافر ، وهي الرؤية يوم القيامة ، والأخرى خاصة بالمؤمنين وهي الرؤية في الجنة (1). وهو كما ترى ، فإن ظرف الرؤية للمؤمنين في رواية أبي هريرة هو يوم القيامة كما سيوافيك ، وفيه يرى المؤمنون خالقهم على صورته الواقعية .
وفي الختام نقول : إن منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلى الله ، قال سبحانه : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ( البقرة /156) ولم نر سلفياً أو أشعرياً يستدل بها على رؤية الله سبحانه ، مع أن وزان الجميع واحد ..

الآية الخامسة : آية الحجب

( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) ( المطففين /14-17) .
هذه الآية استدل بها غير واحد من القائلين بالرؤية .
قال الآلوسي : لا يرونه تعالى وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين ، فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية ، لأن المحجوب لا يرى ما حجب ، إذا الحجب : المنع ، والكلام على حذف مضاف ، أي عن رؤية ربهم الممنوعة ، فلا يرونه سبحانه ، واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب ، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص ، وقال الشافعي : لما حجب سبحانه قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ، وقال أنس بن مالك : لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلي جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل ( 1) .
ويلاحظ على هذا الكلام : أن الآية بصدد تهديد المجرمين وإنذارهم ، وهذا لا يحصل إلا بتحذيرهم وحرمانهم من رحمته ، وتعذيبهم في جحيمه ، وأما تهديدهم بأنهم سيحرمون عن رؤيته تبارك وتعالى فلا يكون مؤثراً فييمن غلبت على قلبه آثار المعاصي والمآثم فلا يفكر يوماً بالله ولا برؤيته ، وعلى ذلك ، فالمراد أن هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته واحسانه وكرمه ، وبعدما منعوا من الثواب والكرامة يكون مسير هؤلاء إلى الجحيم ، ولذلك رتب على خيبتهم وحرمانهم قوله : ( إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ) .
هذه هي الآيات التي وقعت ذريعة للاستدلال على العقيدة المستوردة من الأحبار والرهبان إلى المسلمين ، فزعم المحدثون والمغترون كونها عقيدة إسلامية ، فحشروا الآيات للبرهنة عليها سواء
كانت بها دلالة أم لا .
ولو كان المستدلون متجردين عن عقائدهم لفهموا أن هذه الآيات نزلت لبيان مفاهيم أخلاقية واجتماعية وسوق المجتمع إلى العمل الصالح وعدم التورط في المعاصي ، وأين هي من الدلالة على أصل كلامهم حول الرؤية ؟!
إن الله سبحانه ذكر نعم الجنة الكثيرة ومقامات المؤمنين ، ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم ؟
(9)
رؤية الله في الأحاديث النبوية

قد تعرفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه ، وأنه كلما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها كان يستعظم ذلك ويستفظعه إجمالا ، وعندما يطرحها تفصيلاً يعدها أمراً محالاً ، كما عرفت أن ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدل على ما يدعون .
بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد ، ودلالتها على المطلوب واضحة كما ستوافيك ، لكن الكلام في حجية الروايات التي تعارض الذكر الحكيم وتباينه ، فإذا كان الكتاب العزيز مهيمناً على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمناً على السنن المروية عن الرسول (ص) ، التي دونت بعد مضي 143سنة من رحيله (ص) ولم تصن عن دس الأحبار والرهبان ، قال سبحانه : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ) ( المائدة /48) وقال تعالى : ( إن
هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) ( النمل /76).

ولا يعني ذلك ، حذف السنة من الشريعة ورفع شعار حسبنا كتاب الله بل يعني التأكد من صحتها ثم التمسك بها في مقام العمل .
وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية :
روى البخاري في باب ( الصراط جسر جهنم ) بسنده عن أبي هريرة قال : قال أناس : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : ( هل تضارون في الشمس ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : ( فإنكم ترونه يوم القيامة ، كذلك يجمع الله الناس فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس ، ويتبع من كان يعيد القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم …) إلى أن يقول : ( ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول : يا رب قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاوها ، فاصرف وجهي عن النار ، فلا يزال يدعو الله فيقول : لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيصرف وجهه عن النار ، ثم يقول بعد ذلك : يا رب قربني إلى باب الجنة ، فيقول : أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك ، فلا يزال يدعو فيقول : لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره ، فيقول : لا وعزتك لا أسألك غيره ، فيعطي الله من
عهود ومواثيق أن لا سأله غيره ، فيقربه إلى باب الجنة ، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم يقول : ربي أدخلني الجنة ، ثم يقول : أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره ، ويلك يا أبن آدم ما أغدرك ، فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فلا يزال يدعو حتى يضحك ( الله ) ، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها …) الحديث (1) .
ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، مع اختلاف يسير (2) .
ورواه أيضاً عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه : ( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ، قال : فما تنتظرون تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ، مرتين أو ثلاثاً ، حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب ، فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه …) الحديث ( 3) .
وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص ، ورواه أحمد في مسنده (4) .
تحليل الحديث

إن هذا الحديث مهما كثرت رواته وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعق بوجوه.
1ـ إنه خبر واحد لا يفيد شيئاً في باب الأصول والعقائد ، وإن كان مفيداً في باب الفروع والأحكام ، وإذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل ، وهو أمر سواء أذعن العامل بكونه مطابقاً للواقع أو لا ، بل يكفي قيام الحجة على لزوم تطبيق العملة عليه ، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشيء ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر الاثنين ، إلا إذا بلغ إلى حد يورث العلم والإذعان ، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين .
2ـ إن الحديث مخالف للقرآن ، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سنوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين ( رحمة الله عليه ) .
3ـ ماذا يريد الراوي في قوله : ( فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم ) ؟ فكأن لله سبحانه صوراً متعددة يعرفون بعضها وينكرون البعض الآخر ، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها ، فهل كان ذلك منهم في الدنيا أو كان في البرزخ أم في الآخرة ؟
4ـ ماذا يريد الراوي من قوله : ( فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه …) ؟ فإن معناه أن المؤمنين والمنافقين يعرفون سبحانه بساقه ، فكانت هي الآية الدالة عليه .
5ـ كفى في ضعف الحديث ما علّق عليه العلاّمة السيد شرف الدين ( رحمة الله عليه ) حيث قال : إن الحديث ظاهر في أن لله تعالى جسماً ذا صورة
مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير ، وأنه سبحانه ذو حركة وانتقال ، يأتي هذه الأمة يوم حشرها ، وفيها مؤمنوها ومنافقوها ، فيرونه بأجمعهم ماثلاً لهم في صورةٍ غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل ، فيقول لهم : أنا ربكم ، فينكرونه متعوذين بالله منه ، ثم يأتيهم مرّة ثانية في الصورة التي يعرفون ، فيقول لهم : أنا ربكم فيقول المؤمنون والمنافقون جميعاً : نعم أنت ربنا ، وإنما عرفوه بالساق إذ كشف لهم عنها ، فكانت هي آيته الدالة عليه ، فيتسنى حينئذ السجود للمؤمنين منهم دون المنافقين ، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلاً فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه ، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر ، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب ، وإذا به بعد هذا يضحك الربّ ويعجب من غير معجب ، كما هو يأتي ويذهب ، إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان مما لا يجوز على الله تعالى ، ولا على رسوله ، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(1) .
* * *
2ـ روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب مواقيت الصلاة وفضيلتها ، عن قيس ( أبن أبي حازم ) عن جرير قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إلى القمر ليلة ـ يعني البدر ـ فقال : ( إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل
طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (1) .
وحديث قيس بن أبي حازم الأخمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عهده وصدق إلى مصدّقه وهو من كبار التابعين مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانياً (2) .
وقال الذهبي : قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر ثقة وحجة كاد أن يكون صحابياً ، وثقة ابن معين والناس ، وقال علي بن عبد الله بن يحيى بن سعيد : منكر الحديث ثم سمّى له أحاديث استنكرها ، وقال يعقوب الدوسي : تكلم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه ، وقال : له مناكير فالذين أطروه عدّوها غرائب ، وقيل : كان يحمل على علي ( رضي الله عنه ) ، إلى أن قال : والمشهور أنه كان يقدم عثمان ، وقال إسماعيل : كان ثبتاً ، قال : وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف (3) .
وقد تقدم أن العدل والتنزيه علويان ، كما أن الجبر والتشبيه أمويان ، وهل يصح في ميزان ، النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى معرضاً عن الإمام علي عليه السلام ، وعاش حتى خرف ؟

أو أن الواجب ضربها عرض الحائط .


إن أهل البيت أحد الثقلين (1) ، الذين تركهما النبي بعد رحيله وأمر أن يتمسك بأقوالهم وأفعالهم ، وحينما نراجع ما روى عنهم ودوّنه الأثبات من المحدثين كالشيخ الصدوق ( 306_ 381هـ ) في كتاب التوحيد ، نجد مروياتهم المسندة إلى آبائهم عن علي عن النبي ، يعارض ما رواه ثيس بن أبي حازم ، وإليك نماذج من أحاديثهم .
1ـ روى الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال : حضرت أبا جعفر ( محمد الباقر ) عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له : يا أبا جعفر أي شيء تعبد ؟ قال : ( الله ) قال : رأيته ؟ قال : ( لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يعرف بالقياس ،
ولا يدرك بالحواس ، ولا يشبه بالناس ، موصوف بالآيات ، معروف بالعلامات ، لا يجور في حكمه ، ذلك الله لا إله إلا هو ) ، قال : فخرج الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته (1) .
2ـ روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : ياأمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته ؟ فقال : ( ويلك ما كنت أعبد رباً لم أره) ، وقال : كيف رأيته ؟ قال : ( ويلك لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ) (2) .
3ـ أخرج الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله قال : قال : ( إن الله عظيم ، رفيع ، لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، ولا يوصف بكيف ولا أين الأين ولا حيث ، فكيف أصفه بكيف وهو الذي كيف أصفه بأين وهو الذي أين حتى صار أيناً ، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثاً ، فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان ، وخارج من كل شيء ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار لا إله
إلاّ هو العلي العظيم وهو اللطيف الخبير ) (1)
4ـ أخرج الصدوق عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال علي بن موسى عليهما السلام في قول الله عزّ وجل ( ووجوه يومئذٍ ناضرةٌ إلى ربّها ناظرة ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها (2) .
***
( إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السّمع وهو شهيد ) ( سورة ق / 37 )
(10)
الرؤية القلبيّة

كان المرتقب من أئمة الحديث والكلام الإشارة إلى قسم آخر من الرؤية الذي لا يتوقّف على الأعين والأبصار ، ينالها الأمثل فالأمثل من المؤمنين ، قال سبحانه : ( كلاّ لو تعلمون علم اليقين * لترونّ الجحيم * ثم لترونّها عين اليقين ) ( التكاثر/5-7 ) فمن علم عين اليقين يرى لهيب الجحيم من هذه النشأة لا بعين مادية ولا بصر جسماني ، إنما هي رؤية أخبر عنها الكتاب ولا تتوقف على الجهة والمقابلة ولا التجسيم والمشابهة ، وليس المراد من الرؤية في الآية العلم القطعي ، فإن العلم إن كان قطعياً غير الرؤية ، قال سبحانه : ( وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين )( الأنعام /75) .
قال العلاّمة الطباطبائي : إنه تعالى يثبت في كلامه قسماً من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية ، وهي نوع شعور في الإنسان ، يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية ، وفي ضوء
ذلك إن للإنسان شعوراً بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل ، بل يجد وجداناً من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي اكتسبها ، والذي يتجلى من كلامه سبحانه إن ههذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة ، فهناك مواطن التشرف بهذا التشريف ، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعد في طريق هذا العلم لم يتم له حتى يلقي ربه ، قال تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) الإنشقاق /6) .
فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء ، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز ، والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع ، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عن الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل ، فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصراً في علم الشيء بنفسه حتى يكشف عنه في الإسلام ، فللقرآن المنّة في تنقيح المعارف الإلهية (1) .
هذا التفسير للرؤية القلبية مما أفاده أستاذنا العلاّمة الطباطبائي رحمة الله عليه ، ولكن ربما يفسر بالعلم القطعي الضروري الذي لا يتردد
إليه الريب ، كما سننقله عن الشيخ الصدوق توضيحاً للروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت حول الرؤية القلبية ، فإليك ما روى عنهم ـ صلوات الله عليهم :
إن في روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام تصريحاً بصحة الرؤية القلبية واللائح منها زيادة اليقين بظهور عظمته وقدرته ، وإليك البيان :
1ـ أخرج الصدوق عن يعقوب بن إسحاق ، قال :كتبت إلى أبي محمد ( الحسن العسكري ) عليه السلام أسأله كيف يعبد ربه وهو لا يراه ؟ فوقّع عليه السلام : ( يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم عليّ وعلى آبائي أن يرى ) ، قال : وسألته هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه ؟ فوقّع عليه السلام : ( إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب ) (1) .

2ـ أخرج الصدوق عن ابن أبي نصر ( البزنطي ) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : قال رسول الله (ص) : ( لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكاناً لم يطأه جبرئيل قط ، فكشف لي فأراني الله عز و جل من نور عظمته ما أحب ) (2) . وفي ضوء ذلك فالرؤية القلبية شهود نور عظمته في النشأتين ، وهو غير ما نقلناه عن العلاّمة الطباطبائي .

3ـ أخرج الصدوق عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله (ص) إذا نزل عليه الوحي ، فقال : ( ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد ، ذاك إذا تجلى الله له ) ، قال ثم قال : ( تلك النبوة يا زرارة وأقبل يتخشع ) (3).
4ـ أخرج الصدوق عن محمد بن الفضيل قال : سألت أبا الحسن عليه السلام : هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل ، فقال : ( رآه بقلبه ، أما سمعت الله عز وجل يقول : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، أي لم يره بالبصر (1) ولكن رآه بالفؤاد ).
5ـ أخرج الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في جواب سؤال شخص عن رؤية الله يوم القيامة ، فقال في ذيل الجواب : ( وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين ، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون ) (2) .
6ـ ثم أن للمحدث الأكبر الشيخ الصدوق ( 306ـ 381هـ ) الذي طاف البلاد شرقاً وغرباً وجمع أحاديث الرسول وعترته ، كلاماً في الرؤية القلبية ، وحكى أن محدثين كبيرين من محدّثي الشيعة كأحمد بن محمد بن عيسى القمي ( المتوفى بعد سنة 280هـ ) ومحمد بن أحمد بن يحي رووها في جامعهما ولكن لم ينقلها في كتاب التوحيد ، يقول :
والأخبار التي رويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا ـ رضي الله عنهم ـ في مصنّفاتهم عندي صحيحة ، وأنا تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عّز وجل وهو لا يعلم (3).
ثم إن شيخنا الصدوق فسّر الرؤية القلبية بما يلي :

ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار : العلم ، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتباب وخطرات ، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ، ما يزول به الشكوك ، وتعلم حقيقة قدرة الله عزّ وجلّ ، وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ : ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم ) ( ق/22) فمعنى ما روى في الحديث أنه عزّ وجلّ يرى أي يعلم علماً يقينياً كقوله عزّ وجلّ ( ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ) ( الفرقان /45) وقوله : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه)( البقرة/258) وقوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) ( الفيل /1) وأشتباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين(1)

هذه مسألة رؤية الله ، وهذه أقوال الأمة فيها ، وهذا خلافهم الممتد من العصور الأولى إلى عصرنا هذا ، وهي مسألة كلامية اختلفت فيها أنظار الباحثين ولكل دليله وبرهانه ، والنافي للرؤية ينفي لا ستلزامها إثبات التجسيم والتشبيه ، مضافاً إلى تضافر الآيات على نفيها بدلالات مختلفة ، والمثبت اغتراراً ببعض الظوافر والروايات الواردة في الصحاح .

]ولكن ليس لكل من الطائفتين تكفير الأخرى ، لأن النافي يستند إلى أدلة مشرقة تقنع كل من نظر إليها بلا نظر مسبق ، وقول المثبت وإن
كان يستلزم الجهة والتجسيم ، ولكنه يقول بها مع التبرّي عن تواليها ، متحصناً بقوله : ( بلا كيف ) ، فتكون المسألة مسألة كلامية كسائر المسائل الكلامية .

غير أن مفتي السعودية عبد العزيز بن باز غالى في الموضوع ، وذلك في الفتوى الصادرة 8/1407هـ المرقم 717/2 جواباً على سؤال وجّهه عبد الله بن عبد الرحمن يتعلق بجواز الإقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة ، فأفتى : بأن من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلى خلفه ، وهو كافر عند أهل السنّة والجماعة ، وأضاف أنه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الإباضية في عمان الشيخ أحمد الخليلي ، فاعترف بأنه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة ، ويعتقد أن القرآن مخلوق ، واستدل لذلك بما ذكره أبن القيم في كتابه ( حادي الأرواح) : ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك : إن قوماً يزعمون أن الله لا يرى يوم القيامة ، فقال مالك رحمه الله : السيف السيف .

وقال أبو حاتم الرازي : قال أبو صالح كاتب الليث : أملى عليّ عبد العزيز بن سلمة الماجشون رسالة عمّا جحدت الجهمية فقال : لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ) .

القريشي 3
06-01-2009, 11:28 AM
وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه عن فضل ثوابه ، الذي وعده أولياءه حين يقول ( وجوه يومئذ ناظرة * إلى ربها ناظرة ) .
إلى أن نقل عن أحمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدث بحديث
عن رجل عن أبي العواطف أن الله لا يرى في الآخرة فقال : لعن الله من يحدّث بهذا الحديث اليوم ، ثم قال : أخزى الله هذا .

وقال أبو بكر المروزي : من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر ، وقال : من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي ، والجهمي كافر ، وقال إبراهيم بن زياد الصائغ : سمعت أحمد بن حنبل يقول : الرؤية من كذب بها فهو زنديق ، وقال : من زعم أن الله لا يرى فقد كفر بالله ، وكذّب بالقرآن ، وردّ على الله أمره ، يستتاب فإن تاب وإلا قتل …

تحليل لهذه الفتيا:

إن هذه الفتوى لا تصدر عمنّ يجمع بين الرواية والدراية ، وإنما متفرعة على القول بأن الله مستقر على عرشه فوق السماوات ، وأنه ينزل في آخر كل ليلة نزل الخطيب من درجات منبره (1) ، وأن العرش تحته سبحانه يئط أطيط الرحل تحت الراكب (2) ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول :

بل عطّلوا منه السماوات العلى والعرش أخلوه من الرحمان

ومثل تلك العقيدة تنتج أن الله تعالى يرى كالبدر يوم القيامة ، والرؤية لا تنفك عن الجهة والمكان ، تعالى عن ذلك كله .
2ـ إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ير أن النبي الأكرمم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك ، مثل رؤية الله وما شابهه ، وهذا البخاري يروي في صحيحه أن الإسلام بني على خمس ، وليس فيه شيء من الإقرار بالرؤية ، وهل النبي ترك ما هو مقوم الإيمان والإسلام . 3ـ إن الرؤية مسألة إجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلمين والمفسرين ، وكل طائفة تمسكت بلفيف من الآيات ، فتمسك المثبت بقوله سبحانه ( إلى ربها ناظرة ) وتمسك الباقي بقوله سبحانه : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ).

فكيف يكون إنكار النافي رداً للقرآن ، ولا يكون إثبات المثبت رداً له؟

فإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفاً لعقيدته ، فكيف لا يسوّغ لطائفة أخرى ؟

وليست رؤية الله يوم القيامة من الأمور الضرورية التي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن ، بل كل طائفة تقبل برحابة صدر المصدرين الرئيسيين أعني الكتاب والسنّة ، ولكن تناقش في دلا لتهما على ما تدّعيه الطائفة الأخرى ، أو تناقش سند الرواية وتقول : إن القول بالرؤية عقيدة موروثة من اليهود والنصارى ، أعداء الدين ، وقد دسّوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين ، فلم يزل مسلمة اليهود والنصارى يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين وتشويه تعاليم هذا الدين ، حتى تذرّعوا بعد وفاة النبي بشتى الوسائل إلى بذر ببذور الفساد ،
فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان .

4ـ إن الاعتقاد بشيء من الأمور من الظواهر الروحية لا تنشأ جذوره في النفس إلا بعد تحقق مبادئ ومقدمات توجد العقيدة ، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية : السيف ، بدل أن يقول : الدراسة الدراسة ، الحوار الحوار . أليس شعار ( السيف السيف ) ينمّ عن طبيعة عدوانية قاسية ، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة ؟ وأنا أجلّ أمام دار الهجرة عن هذه الكلمة .

5ـ إن مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلا على نقول وفتاوى ذكرها ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) دون أن يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة ، أو يناقش المسألة في ضوء السنة .

فما أرخص مهمة الإفتاء ومؤهلات المفتي في الديار حيث يكتفي في تكفير نصف الأمة بالرجوع إلى كتاب ابن القيم فقط .

وفي الختام ، أن ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية ، فإن نفي الرؤية شعار أئمة أهل البيت ( ع) ، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبه وكلماته قبل أن يتولّد الجهم وأذنابه ، ولأجل ذلك اشتهر : ( العدل والتنزيه علويان ، والجبر والتشبيه أمويان ) .

الخاتمة :

لقد تجلّت الحقيقة بأجلى مظاهرها ، وهي أصفى من أن تكدّر صفوها الشبه ، ومن قرأ فصول هذا الكتاب بامعان وتأمل لوقف على أن ّ
الحق مع النافين للرؤية ,انّه ليس للمثبتين دليل عقلي ولا نقلي .

أما العقل : فهو مخالف مع القول بالرؤية ، فلا يجتمع التنزيه من الجهة مع القول بالرؤية ، كما لا تنفك الإحاطة بالرب بعضاً أو كلاً عن القول بها .

وأما النقل : فليس إلا ظهزرات بدائية بعد التأمل .

غير أن هنّاك مطالب متفرقة لا يجمعها فصل واحد نشير إليها منفصلة عما مضى من البحث :

الأول : أن أكثر من طرح مسألة الرؤية فإنما بحث عنها بدافع روحي ، وهو إثبات عقيدته والتركيز على نحلة طائفته ، ولذلك ربّما انتهى البحث والدراسة عند بعضهم إلى الخروج عن الأدب الإسلامي .

وهذا هو العلاّمة الزمخشري يشبه أهل الحديث والحنابلة القائلين بالرؤية بما في شعره ويقول :

جماعة سمّوا هواهم سنةً وجماعة حمر لعمري مؤكفة
قد شبّهوه بخلقة وتخونوا شنع الورى وتستروا بالبلكفة (1) .

إن ما ذكره في البيت الثاني وإن كان حقاص فإن القول بالرؤية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه ، والقول بأنه جسم بلا كيف أو أنه يرى بلا كيف مهزلة لا قيمة لها ، لما عرفت من أن الكيفية محققة لمفهوم الرؤية بالبصر ، كما أنها محققة لمفهوم اليد والرجل ، فاليد بالمعنى اللغوي بلا كيفية أشبه بأسد لا رأس له ولا بطن ولا ذنب .
ولكن بيته الأول لا يناسب أدب الزمخشري الذي تربى في أحضان الإسلام والمسلمين وخالط القرآن جسمه وروحه .

ولمّا أثار هذا الشعر حفيظة الأشاعرة وأهل الحديث قابلوه بمثل ما قال ، فقد قال أحمد بن المنير الاسكندري في حاشيته على الكشاف باسم الانتصاف :
وجماعة كفروا برؤية ربهم حقاً ووعد الله ما لن يخلفه
وتلقبوا عدلية قلنا أجل عدلوا بربّهم فحسبهم سفه
وتلقبوا الناجين كلاّ إنهم إن لم يكونوا في لضى فعلى شفه

إن البادي وإن كان أظلم ولكنهما كليهما خرجا عن مقتضى الأدب الإسلامي ، فالمسلم ما دام له حجة على عقيدته ولم يكن مقصراً في سلوكها لا يحكم عليه بشيء من الكفر والفسق ولا العقاب ولا العذاب .

وقد نصره تاج الدين السبكي بقوله :

عجباً لقوم ظالمين تلقبوا بالعدل ما فيهم لعمري معرفه
قد جاءهم من حيث لا يدرونه تعطيل ذات الله مع نفي الصفه
وتلقبوا عدلية قلنا نعم عدلوا بربهم فحسبهم سفه ( 1)

فيالله ماذا يعني تاج الدين السبكي من قوله : تعطيل الذات مع نفي الصفة ، فإن أحداً من المسلمين لا يعطل الذات عن الوصف بالعلم والقدرة والحياة والسمع ، نعم إن عنى من تعطيل الذات نفي وصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية بمعانيها اللغوية ، كاليد والرجل والنزول
ووضع القدم في الجحيم ، فإن هذا ليس تعطيلاً ، بل مرجعه إلى التنزيه مع عدم التعطيل بجلها كناية المعاني الأخر ، تبعاً لأسلوب الفصحاء والبلغاء والذكر الحكيم ، كلام فصيح وبليغ ، ليس فوقه شيء فلا يعدّ مثل ذلك تعطيلاً ، نعم ، من يحاول وصفه سبحانه بهذه الصفات بمعانيها اللغوية ، ويقول : إن لله تبارك وتعالى يداً ورجلاً ونزولاً وحركة بالمعنى الحقيقي ولكن لا تعرف كيفيتها ، يحاول الجمع بين المتضادّين ، فإن مقتضى الحمل على المعاني اللغوية سيادة تلك المعاني على موردها ، ومقتضى نفي الكيفية نفي معانيها اللغوية ، فكيف يعدّون أنفسهم من المثبتين وأهل التنزيه من المعطلة .

ولا يقاس ذلك بوصفه سبحانه بالعلم والقدرة مع عدم العلم بالكيفية ، لأن الكيفية فيهما ليست مقومة لواقعهما ، فالعلم بمعنى انكشاف الواقع ، وأما كونه عرضا أو جوهرا حالاً أو محلاً فليست مقومة لمفهومه حتى يرجع نفي الكيفية إلى نفي واقع العلم ، وهذا بخلاف اليد فإنها بلا كيفية ليست يداً لغة .

وأظنّ أنّه لو انعقد مؤتمر علمي في جوٍّ هادىء واستعدّت الطائفتان للتأمل في براهين النافين والمثبتين لقلّ الخلاف وتقاربت الطائفتان .

نعم ، إنّ خلافاً دام قروناً لا ينتهي بإسبوع أو أشهر أو بعقد مؤتمر أو مؤتمرين ولكن الرجاء تقريب الخطى وعدم تكفير إحدى الطائفتين للطائفة الأخرى .

أوليس الأولى لنا ألاّ نقسّم رحمة ربّنا وعذابه وجحيمه بيننا كما
قسّمه الاسكندري في تعليقه على الكشّاف ، ونتركه إلى الله سبحانه فهو أعلم بمن هو في لظى أو شفه منه ، أو قريب من الجنّة : ( أهم يقسمون رحمة ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتّخذ بعضهم بعضاً سخريّا ورحمت ربّك خير مما يجمعون ) ( الزخرف /32) .


الثاني : إنّ أكثر الباحثين في الرؤية يبحثون في مفهوم الرؤية لغة ، ويحشدون كلمات أهل اللغة من القدامى والجدد ، كما أنّهم يبحثون في واقع الرؤية علميّاً ، وهل هي بسقوط الشعاع من العين على الأشياء أو بالعكس ، مع أنّا في غنى عن هذه المباحث ، إذْ ليس البحث في المقام عن لغة الرؤية ولا في واقعها العلمي ، وإنما البحث في أمر اختلفت فيه كلمة الأمة ، ألا هو رؤية الله تعالى بالعين الآخرة ، وليس البحث في هذا الاطار متوقفاً على دراسة مفهوم الرؤية وواقعها ، وليس مفهومها أمراً مبهما حتى نستمدّ في تفسيرها من كتب اللغة .

وإن شئت قلت : إن البحث كلامي مركّز على إمكان رؤية الله بالعين في الآخرة وعدمه .

نعم ، من أراد الإستدلال على الجواز ببعض الأحاديث الماضية من أنّكم سترون ربّكم يوم القيامة … وشككنا في معنى الرؤية ، كان البحث عن مفهومها أمراً صحيحاً ، وقد سبق منّا أنّ محل النزاع هو إمكان الرؤية بالعين التي نرى بها الأشياء في الدنيا ، وأمّا الرؤية بحاسة خامسة أو بالقلب أو بالرؤيا فليس مطروحاً في المقام ، ولذلك استغنينا عن نقل
كلمات أصحاب المعاجم كالعين للخليل ، والجمهرة لابن دريد ، والمقاييس لابن فارس ، واللسان لابن منظور والقاموس للفيروز آبادي وغيرهم .


الثالث : لقد أخذنا على عاتقنا التمسك بالأدب الإسلامي في الدّراسة والتحليل ، ولكن ربّ حديث يسمعه الإنسان من آخر ربّما يجرّه إلى القسوة أو التجرؤ على المقابل ، وبدوري لما كنت أتفحّص الكتب والتفاسير حول المسألة رأيت أموراً من بعض المثبتين أشبه بالمهزلة ، مع أنّ القائل يعدّ من المفسرين الكّبار ، ويكال له بصاع كبير ، وإن كنت في ريب مما قلناه فاسمتع إلى قول الآلوسي :

قال : روى الدار قطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت ربّي في أحسن صورة ) ومن الناس من حملها على الرؤية المنامية ، وإذا صحّ هذا الحمل فأنا والحمد لله رأيت ربي مناماً ثلاث مرات ، وكانت المرّة الثالثة عام 1246 هـ رأيته جلّ شأنه وله من النور ما له متوجّهاً جهة المشرق وكلّمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرّة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهب بي إليها فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة (1) .
نحن لا نعلق على كلامه بشيء سوى أنّها إمّا كانت أضغاث أحلام
ليس لها شيء من الحقيقة ولا شيء من الواقع ، أو أنها كانت صورة تفكير الرجل في يومه ونهاره حول تلك المسألة العقائدية فانعكس ما هو مخزون في نفسه على صفحات ذهنه في المنام .
أما آن للواعين من الأمة أن ينزهوا كتبهم من هذه الخرفات حتى لا يتخذها المادّي الغاشم ذريعة للسخرية والتهكم على الدين وأهله .

الرابع : إن النافين للرؤية يركزون على الروايات المثبتة حسب ادعائهم ، ولكنهم لا يركزون على الروايات النافية ، فإن هذه الروايات من غير فرق بين المثبتة والنافية وإن كانت روايات آحاد لا تفيد علماً في مجال العقائد ، ولكن مقتضى الانصاف الاستدلال بالرواية المخالفة أيضاً ، وإليك بعض ما ورد في هذا المضمار :
1ـ روى البخاري في تفسير قوله ( ومن دونهما جنتان ) عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( جنتان من فضة آنيتهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيها وما بين القوم وبين أن ينظروا إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ) (1) .
2ـ روى مسلم عن أبي ذر قال : سألت رسول الله (ص) : هل رأيت ربك ؟ قال : ( نور أنا أراه) (2) .
ودلالة الحديث على إنكار الرؤية واضحة ، فإن الرسول ينكر الرؤية بأنه سبحانه ليس نوراً حتى أراه .
نعم ، رواه مسلم بصورة أخرى أيضاً ، روى عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله (ص) لسألته ، فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال ( رأيت نوراً) (1).
ولعل المراد ما رأيت سبحانه وإنما حجابه كما في الحديث التالي :
3ـ روى مسلم عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله (ص) بخمس كلمات فقال : ( إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ) .
وفي رواية أبي بكر … النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه (2) .
4ـ روى الطبري في تفسير قوله سبحانه حاكياً على لسان موسى عن ابن عباس قال : يقول : إنا أول من يؤمن أنه لا يراك شيء من خلقك (3) .
نعم ، من لا يروقه قول ابن عباس من الرواة ، نقله وذيّله بقوله : يعني في الدنيا ، وهذا تأويل للرواية منه.
5ـ الطبري في تفسير قوله ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) عن قنادة أنه قال : ( لا تدركه الأبصار …) وهو أعظم من أن

تدركه الأبصار (1) .
6ـ روى مسروق قال : قلت لعائشة : يا أم المؤمنين هل رأى محمد ربه ، فقالت : سبحان الله لقد وقف شعري مما قلت ، ثم قرأت ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (2) .
7ـ روى الشعبي قال : قالت عائشة : من قال : إن أحداً رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله ، قال الله : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) (3) .
وأضاف الطبري قال : قال قائل هذه المقالة معنى الإدراك في هذا الموضع هو الرؤية ، وأنكروا أن يكون الله ليرى بالأبصار في الدنيا والآخرة (4).
ويظهر من الطبري أن القائلين بالرؤية حاولوا منذ زمن قديم تأويل لفظ الإدراك في الآية بالإحاطة.
فقد نقل عن عطية العوفي أنهم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، وبصره يحيط بهم فذلك قوله ( لا تدركه الأبصار ) ( 5) .
وأنا أجّل عطية العوفي تلميذ ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري عن هذا التفسير الذي لا يوجد له أصل في اللغة ، وهذه هي الكلمة الدارجة بين أهل الرجال في أصحاب الرسول ، يقولون : أدرك رسول الله أو لم يدركه ، فلا يراد من الأول أنه واكب حياته منذ بعثته حتى

رحيله ، بل يراد منه أنه رآه مرة أو مرتين ، أو أياماً قلائل ، وربما يقال : أنه أدرك رسول الله وهو صبي فيعدونه من الصحابة .

الخامس : إن للإمام عبده وتلميذه صاحب المنار كلمات حول الرؤية ، قد حاولا بإخلاص جمع كلمة المسلمين في هذه المسألة ، فمن أراد فليرجع إلى تفسيره (1) ، وله كلام في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) ، قال : والمعنى أن النور العظيم هو الحجاب الذي يحول بينه وبنخلقه وهو بقوته وعظمته ملتهب كالنار ، ولذلك رأى موسى عليه السلام عند ابتداء الوحي ناراً في شجرة توجه همّه كله إليها ، فنودي الوحي من ورائها ، وفي التوراة أن الجبل كان في وقت تكليم الرب لموسى عليه السلام وايتائه الالواح مغطى بالسحاب .
ورأى النبي الخاتم الأعظم (ص) ليلة المعراج نوراً من غير نار، وربّما كان هذا أعلى ، ولكنه كان حجاباً دون الرؤية أيضاً ، فقد سأله أبو ذر رضي الله عنه وقال: هل رأيت ربك ؟ فقال: ( نوره ، أني أراه ؟) وفي رواية أخرى : ( رأيت نوراً ) ومعناهما معاً رأيت نوراً منعني من رؤيته ، لا أنه تعالى نور، وأنه لذلك لا يرى ، وهذا يتلافى ويتفق مع قوله : ( حجابه نور ) ولذلك جعلنا أحاديث النور شاهداً واحداً في موضوعنا ، وهي تدل على عدم رؤية ذات الله عز وجل وامتناعها (2) .
السادس : إن القائلين بالرؤية على فرقتين : فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية ، وفرقة أخرى على العكس .
فمن الأولى سيف الدين الآمدي ( 551ـ 631) يقول : لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي ، إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية ، وهي مما يتقاصر عن إفادة القطع واليقين ، فلا يذكر إلا على سبيل التقريب (1) .
ومن الثانية ، الرازي في غير واحد من كتبه فقال : إن العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو السمع ، وعليه الشهرستاني في نهاية الأقدام (2) .
والحق أن من حاول إثبات الرؤية بالدليل العقلي فقد حرم عن نيل مرامه ، فإن الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة في غاية الوهن ، فإنهم استدلوا على الجواز بوجهين : أحدهما يرجع إلى الجانب السلبي ,انه لا يترتب على القول بالرؤية شيء محال ، والآخر يرجع إلى الجانب الإيجابي وهو أ، مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود ، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق (3) .
أظن أن كل من له أدنى معرفة بالمسائل العقلية يدرك ضعف الاستدلال ، إذ كيف لا يترتب على الرؤية بالعين تشبيه وتجسيم ، مع أن
الرؤية بالمعنى الحقيقي لا تنفك عن الجهة للمرئي ، مضافاً إلى أن واقع الرؤية عبارة عن انعكاس الأشعة على الأشياء ، فإثبات الرؤية بلا هذه اللوازم نفي لموضوعها ، وأوضح ضعفاً ما ذكره من أن المجوز للرؤية هو الوجود بلا قيد ، بشهادة أن النفسيات كالحسد والبخل والعشق والفرح لا ترى بالعين ، ورؤيتها بغيرها كحضورها عند النفس خارج محط البحث ، بل المصحح هو الوجود الواقع في إطار الجهة وطرفاً للإضافة بين العين وطرفاً للإضافة بين البصر والمبصر ، ومثل ذلك يساوي الوجود الإمكاني المادي .
ولضعف هذا النوع من الإستدلال نرى أن الشريف الجرجاني بعدما أطال البحث حول البرهان العقلي قال : إن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر ، فلنذهب إلى ما ذهب إليه الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية (1) .


السابع : إن المنكرين للرؤية يفسرون قوله سبحانه : ( إلى ربها ناظرة ) بالانتظار ، وكلامهم حق في الجملة، لكن أغلب من يذكر هذا التفسير لا يفرق بين المعنى بالمراد الاستعمالي والمعنى بالمراد الجدّي .
وقد عرفت أن المعنى بالمراد الاستعمالي غير المعنى بالمراد
الجدّي ، فقد أريد من الجملة حسب الاستعمال الرؤية وأريد منها الانتصار جداً ، فمثلاً تقول : إني أنظر إلى الله ثم إليك ، فالمعنى الابتدائي هو الرؤية ، ولكن المعنى الجدّي هو الانتظار .
وهناك خلط آخر في كلامهم ، حيث لا يفرقون بين النظر المستعمل المتعدي ب( إلى ) والمتعدي بنفسه ، فلذلك يستدلون على أن الناظر في الآية بمعنى الانتظار بقوله تعالى : ( ما ينظرون إلا صيحة واحدةً) ( يس/49) وقوله : ( هل ينظرون إلا تأويله ) ( الأعراف /53) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظللٍ من الغمام ) ( البقرة /210) مع أن الاستشهاد في غير محله ، لأن كون اللفظة بمعنى الانتظار فيما إذا تعدّت بنفسها غير منكر ، وإنما البحث فيما إذا كانت متعدية ب(إلى) ، فعلى ذلك يجب التركيز في إثبات كونها بمعنى الانتصار على الآيات والأشعار التي استعملت وتعدت ب( إلى ) وأريد بها الانتظار.

الثامن : يقع بعض السطحيين في تفسير المقطع الأول من آيات سورة( النجم ) ( 1ـ18) في خطأين : خطأ في إثبات الجهة لله سبحانه ، وخطأ في إثبات الرؤية للنبي ، وإليك الآيات ، ثم الإشارة إلى مواضع الاشتباه ، أعني قوله سبحانه :
( والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علّمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى *
ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ( النجم /1ـ18) .
إن الجمل التالية : ( علّمه شديد القوى ) إلى قوله : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) يؤكد على شدة اقتراب النبي من جبرئيل ، أي على بعد ما بين القوسين أو أدنى ، وهو تعبير عن منتهى القرب .
والضمائر كلّها إلا المجرور في ( إلى عبده) يرجع إلى جبرئيل الذي كني عنه بشديد القوى ، وأين هو من قربه (ص) منه سبحانه .

القريشي 3
06-01-2009, 11:29 AM
ومن التفسير الخاطئ هو إرجاع الضمير في قولنا ثم دنا فتدلى إلى النبي ، وتفسير الآية بقرب النبي من الله على أقرب ما يمكن ، وبالتالي تصوّر أن لله جهةً وقرباً وبعداً ، وبذلك يتضح خطأ من فسّر الآية على نحو أثبت لله جهة وقرباً .

إن المرئي في قوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) حسب الآيات المتقدمة هو الأفق الأعلى ، والدنو والتدلي والوحي ،وحسب الآية اللاحقة هو آيات الرب حيث قال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ومن تلك الآيات هو جبرئيل الذي هو شديد القوى ، وأين الآية من الدلالة على رؤية النبي ربه .
ومن التفسير الخاطئ جعل المرئي في قوله : ( ما رأى ) هو الرب ، ومن حسن الحظ أن السنة أيضاً تفسر الآية برؤية جبرئيل .
عن مسروق قال : كنت متكئاً عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث
من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمداً (ص) رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال : وكنت متكئاً فجلست ، فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ! ألم يقل الله عز وجل : ( ولقد رأه بالأفق المبين ) و ( ولقد رآه نزلة أخرى ) فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله (ص) فقال : ( إنما هو جبرئيل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السما إلى الأرض )، فقالت أو لم تسمع أن الله يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ؟ أولم تسمع أن الله يقول : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله (ص) كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قالت ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) (1) .

التاسع : إن للشيخ الجصاص الحنفي ( م/ 370 ) كلاماً رائعاً في تفسير قوله سبحانه : ( لاتدركه الأبصار) وقد فسّر الروايات الدالة على الرؤية بالعلم الضروري الذي لا يشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك ،
ولأجل إيقاف القارئ على كلام ذلك المفسّر الكبير الذي هو من السلف الصالح نذكر نص كلامه :
قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) يقال : إن الإدراك أصله اللحوق ، نحو قولك : أدرك زمان المنصور ، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام ، أي لحق حال النضج ، وأدرك الزرع والثمرة ، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال ، وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه ، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة إن قال القائل أدركت ببصري شخصاً معناه : رأيته ببصري ، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة ، لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له ، فقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) معناه : لا تراه الأبصار ، وهذا بمدح الله ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص فغير جائز إثبات نقيضه بحال ، كما لو بطل استحقاق الصفة بلا تأخذه سنة ولا نوم لم يبطل إلا إلى صفة نقص ، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال ، إذ كان فيه إثبات صفة نقص .
ولا يجوز أن يكون مخصوصاً بقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) لأن النظر محتمل لمعان ، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف ، فلما كان ذلك محتملاً للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه ، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لوصحت ، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك ، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة (1) .
العاشرة : إن من كتب حول الرؤية من إخواننا السنة ـ من غير فرق بين النافي والمثبت ـ فقد دق كل باب ، ورجع إلى كل صحابي وتابعي ، ومتكلم وفيلسوف ، ولكن لم يدق باب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام باب علم النبي وأقضى الأمة وأحد الثقلين اللذين تركهما النبي (ص) لهداية الأمة ، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة وإمكان الرؤية ، فبلغ رسالات الله التي تعلمها في أحضان النبي (ص) بأبلغ بيان .
ولو ذهبت العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فقد أخذوا منه ، وتعلمت من منهجه ، فبلغت الغاية في التنزيه حسب ارشاداته ، كما صرح بذلك غير واحد من أئمة العدلية ، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه عليه السلام في نهج البلاغة ، وإلى كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
القريشي 3
احد طلاب حوزة بغداد

القريشي 3
06-01-2009, 11:31 AM
ومن التفسير الخاطئ هو إرجاع الضمير في قولنا ثم دنا فتدلى إلى النبي ، وتفسير الآية بقرب النبي من الله على أقرب ما يمكن ، وبالتالي تصوّر أن لله جهةً وقرباً وبعداً ، وبذلك يتضح خطأ من فسّر الآية على نحو أثبت لله جهة وقرباً .

إن المرئي في قوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) حسب الآيات المتقدمة هو الأفق الأعلى ، والدنو والتدلي والوحي ،وحسب الآية اللاحقة هو آيات الرب حيث قال : ( لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) ومن تلك الآيات هو جبرئيل الذي هو شديد القوى ، وأين الآية من الدلالة على رؤية النبي ربه .
ومن التفسير الخاطئ جعل المرئي في قوله : ( ما رأى ) هو الرب ، ومن حسن الحظ أن السنة أيضاً تفسر الآية برؤية جبرئيل .
عن مسروق قال : كنت متكئاً عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث
من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمداً (ص) رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال : وكنت متكئاً فجلست ، فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ! ألم يقل الله عز وجل : ( ولقد رأه بالأفق المبين ) و ( ولقد رآه نزلة أخرى ) فقالت أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله (ص) فقال : ( إنما هو جبرئيل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السما إلى الأرض )، فقالت أو لم تسمع أن الله يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ؟ أولم تسمع أن الله يقول : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحى بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله (ص) كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) قالت ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) (1) .

التاسع : إن للشيخ الجصاص الحنفي ( م/ 370 ) كلاماً رائعاً في تفسير قوله سبحانه : ( لاتدركه الأبصار) وقد فسّر الروايات الدالة على الرؤية بالعلم الضروري الذي لا يشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك ،
ولأجل إيقاف القارئ على كلام ذلك المفسّر الكبير الذي هو من السلف الصالح نذكر نص كلامه :
قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) يقال : إن الإدراك أصله اللحوق ، نحو قولك : أدرك زمان المنصور ، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام ، أي لحق حال النضج ، وأدرك الزرع والثمرة ، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال ، وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه ، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة إن قال القائل أدركت ببصري شخصاً معناه : رأيته ببصري ، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة ، لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركاً له ، فقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) معناه : لا تراه الأبصار ، وهذا بمدح الله ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص فغير جائز إثبات نقيضه بحال ، كما لو بطل استحقاق الصفة بلا تأخذه سنة ولا نوم لم يبطل إلا إلى صفة نقص ، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال ، إذ كان فيه إثبات صفة نقص .
ولا يجوز أن يكون مخصوصاً بقوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) لأن النظر محتمل لمعان ، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف ، فلما كان ذلك محتملاً للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه ، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لوصحت ، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك ، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة (1) .
العاشرة : إن من كتب حول الرؤية من إخواننا السنة ـ من غير فرق بين النافي والمثبت ـ فقد دق كل باب ، ورجع إلى كل صحابي وتابعي ، ومتكلم وفيلسوف ، ولكن لم يدق باب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وفي مقدمتهم الإمام علي عليه السلام باب علم النبي وأقضى الأمة وأحد الثقلين اللذين تركهما النبي (ص) لهداية الأمة ، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة وإمكان الرؤية ، فبلغ رسالات الله التي تعلمها في أحضان النبي (ص) بأبلغ بيان .
ولو ذهبت العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فقد أخذوا منه ، وتعلمت من منهجه ، فبلغت الغاية في التنزيه حسب ارشاداته ، كما صرح بذلك غير واحد من أئمة العدلية ، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه عليه السلام في نهج البلاغة ، وإلى كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
القريشي 3
احد طلاب حوزة بغداد
ش