سمير
05-17-2009, 09:36 AM
http://www.arabs48.com/article-images/b09513145058.jpg
13/05/2009
إنّها الوجوه نفسها. إنّه الموت نفسه. بعد ما عرف بحادثة بصرما العام الماضي، سار أهالي زغرتا في جنازة يوسف فرنجية (أبو جو). قبل ذلك بثلاثين عاماً، كان أبو جو يطلّ من نافذة أحد المباني ليطلق الرصاص باتجاه شخص لا يعرفه كان على رأس قوّة من «الكتائب» يحاصر قصر آل فرنجيّة. تبيّن في ما بعد أنّ ذاك الشخص ليس إلا سمير جعجع الذي أصبح لاحقاً قائداً للقوّات اللبنانيّة. لكنّ تفاصيل عمليّة إهدن وخلفيّاتها السياسيّة ودور الموساد فيها، بقيت مجهولة إلى حدّ كبير، إلى أن صدر الأسبوع الفائت كتاب «مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيّين» (دار «فايار») للصحافي الفرنسي ريشار لابيفيير.
بعد مرور قرابة واحد وثلاثين عاماً على اغتيال طوني فرنجية وزوجته وابنته وثمانية وعشرين شخصاً آخرين (يرى لابيفيير أبو جو الضحية الثانية والثلاثين لمجزرة إهدن، إذ قُتل بعد إدلائه بشهادته عن تلك المجزرة ضمن برنامج عرض على محطة «أو تي في»)، يعود لابيفيير إلى مسرح الجريمة، ليطرح الأسئلة السياسيّة والقانونيّة الصعبة، وليجيب عن بعضها ويترك بعضها الآخر ملكاً للتاريخ.
يحتوي الكتاب على وقائع المجزرة التفصيلية، الأحداث السياسية والأمنية التي مهّدت لها والتي تلتها، رافضاً التفسيرات الأنثروبولوجية الضيقة لرواية ما جرى. فمجزرة إهدن لم تكن حدثاً عابراً، بل مفصل أساسي ما زالت تأثيراته حاضرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بدور العرب المسيحيّين وعلاقتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى أنفسهم ودورهم.
هنا ترجمة للفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان «دسيسة الموساد»، والذي قد يكون أكثر الفصول إثارة من الكتاب الذي يتألف من ثلاثة وعشرين جزءاً موزّعة على ثلاثمئة وخمسين صفحة.
يروي لابيفيير دور الموساد في التخطيط للعمليّة، بما في ذلك الضغط على بشير الجميّل من أجل اختيار سمير جعجع لقيادة عمليّة إهدن، ضمن مخطّط يقضي بالسيطرة على تلك المنطقة من الجبل تمهيداً لوصول بشير الجميّل إلى السلطة.
عمل لابيفيير في إذاعة فرنسا الدولية حتى تسريحه في آب عام 2008 على خلفيّة مواقفه من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. له عشرات المؤلفات، منها: «دولارات الإرهاب» الذي حاول قبل عامين من أحداث 11 أيلول تفكيك آليات تمويل الحركات الاسلاميّة، وكتاب «التحوّل الكبير أو القصة السريّة للقرار 1559»
«ستكون فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنتسى. وحده اسمها سيمثّل بالنسبة إلى شعبنا صرخة استثنائية في قوّتها تلمّ شمله. إذا وافق صاحب الجلالة السلطان على أن يعطينا فلسطين، فسنأخذ على عاتقنا ترتيب شؤون تركيا المالية. بالنسبة إلى أوروبا، سنكون بمثابة جدار بوجه آسيا ومركز الحضارة المتقدّم بوجه البربرية».
(ثيودور هرتزل (1860 ــ 1904)، من كتاب «دولة اليهود»)
في مستهل تسعينيات القرن المنصرم، رحتُ أعمل على موضوع تمويل المنظمات الإسلامية والفصائل المسلحة، مثل المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية والجماعات الإسلامية المصرية. وكان صديق جزائري من أصدقاء طفولتي قد وقع لتوّه أولى ضحايا المواجهة المفتوحة بين المنظمات الإسلامية والسلطة الجزائرية.
وفيما كنت أتمشى في أروقة مقر لجنة حقوق الإنسان في جنيف ذات يوم، صُعقت لدى سماعي الناطق باسم منظمة غير حكومية يعلن بتبجح مسؤوليته عن اغتيال هذا الصديق. ثم اكتشفت أن المنظمة التي ينتمي إليها هذا الشخص كانت تلعب دور الواجهة لجمعيات عدة تقيم علاقات مباشرة مع المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية في سويسرا وفي أوروبا.
وإذ أجريت تحقيقاً عن هذا الموضوع الذي يتصف بالغموض، كشفتُ النقاب تدريجياً عن نظام هذه المجموعات التمويلي الذي شمل عدة مصارف وشركات توظيف رؤوس أموال غربية وسعودية. كنت أجهل حينها أن هذا التحقيق سيستغرق خمسة عشر عاماً من حياتي.
سبّب لي عملي هذا قدراً لا يُستهان به من المتاعب مع مصارف ورجال أعمال سعوديين، كما لفت انتباه الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً. وفي يوم من أيام عام 1992، دُعيت إلى زيارة بعثة إسرائيل الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف.
باستثناء إجراءات التفتيش البوليسية العادية في مطار تل أبيب، وهو أحد المنافذ المؤدية إلى خارج فلسطين وداخلها، كانت تلك أول مرة في حياتي أقيم فيها اتصالاً رسمياً مع الدولة العبرية.
قبلت الذهاب إلى الموعد بدافع الحشرية، فاستقبلتني السكرتيرة الأولى في السفارة، السيدة سيمونا فرانكل، استقبالاً حاراً وشرحت لي أن الأبحاث التي أجريها عن «التمويلات الإسلامية» لفتت انتباه سلطات بلدها التي ترغب في «التعرف إليّ أكثر». أطربني كلامها هذا وشعرت، في الوقت عينه، بأن عليّ أن أبقى متنبهاً، لأن تعاطفي مع الفلسطينيين والتحقيقات العديدة التي أجريتها في الأراضي المحتلة ما كانت لتفوت ضيوفي ولا سلطتهم. فأصغيت بتهذيب فيما كنت أحاول أن أفهم الغاية من هذا اللقاء، وقد تملكني الفضول لأعرف التتمة التي تبيّن أنها مثيرة جداً للاهتمام.
وسرعان ما تلقيت دعوة ثانية إلى حفل عشاء كبير أُقيم على شرف «الصحافي» الإسرائيلي يوري دان الذي قيل لي إنه يرغب «حتماً» في التعرف إليّ. وكانت الشخصية النافذة الداعية إلى هذا العشاء رجلاً يثير الفضول ينادونه أفي شيسنر، وكان، رسمياً، اختصاصياً بطب وجراحة الأسنان. فاستقبلنا في دارته المهيبة في كولوني في أعالي جنيف، وهو مكان استجمام يقصده كبار المصرفيين الخاصين وعائلات جنيف العريقة.
كانت الدارة محاطة بسياج عالٍ زُوِّد بكاميرات مراقبة في كل زواياه. فكيف لاختصاصي وجراح في طب الأسنان أن يموّل بنية تحتية من هذا النوع، وخصوصاً لماذا قد يحتاج اختصاصي بالرمامة إلى أن يؤمن لنفسه حماية شبيهة بحماية مجلس الاحتياطي الاتحادي؟
التقيت مجدداً بسيدة السفارة التي تلت سيرتي الذاتية على مسمع مضيفنا قبل أن تعرّفني إلى شخص قُدِّم إلي بأنه «أهم الصحافيين الإسرائيليين». وبدا واضحاً أننا كـ«زميلين»، لا يسعنا إلا أن نتفاهم. في هذا العشاء، أثار فضولي شخصان آخران: كان للأوّل مظهر ملاكم ومشيته ولُقِّب بـ«كساس»؛ فيما كان الثاني ممن ترد أسماؤهم دوماً في صحف أخبار المجتمع: ليس سوى ولي عهد إيطاليا الأمير فيكتور إمانويل دو سافوا، وجه اجتماعي ينوء تحت ثقل مزدوج يُخضعه له حتى الانسحاق نسبٌ عريق وأنانيةٌ مفرطة، فيسعى إلى لفت انتباه الجميع في كل لحظة من اللحظات.
خلال عشاء «التعارف» هذا الذي غلب عليه الملل، عرفت معلومة مهمة للغاية: كان الأمير دو سافوا شريك آفي شيسنر في قضية إنشاء قنوات وجر مياه في منطقة بحيرة طبريا. وبلغني لاحقاً أن طبيب الأسنان صاحبنا كان مسؤولاً عن التجهيزات وإدارة الشبكتين المائيتين في هضبة الجولان وبحيرة طبريا، وهما ملفان استراتيجيان مهمان جداً بالنسبة إلى إسرائيل. كنا بعيدين البعد كلّه عن ترميم الأسنان.
في السهرة، لم يكن يوري دان مهتماً بأبحاثي عن «دولارات الإرهاب» بقدر ما كان المدعو «كساس» الذي أراد، «حتماً» هو أيضاً، أن يقابلني في جلسة أكثر هدوءاً حول فنجان قهوة في بلدة كالفين الساكنة البعيدة عن الأضواء. فحُدِّد إذاً موعد جديد بعد ثلاثة أيام في مقهى فندق بيرغيس، وهو المكان المفضل لدى تجار الأسلحة والمصرفيين في جنيف والوصيفات الروسيات.
شعرت بأن الدماء جمدت في عروقي عندما ادّعى كساس أنه يعرفني، مؤكداً أننا تقابلنا منذ عشر سنوات أثناء مؤتمرَي لوزان وجنيف المتعلقين بلبنان! في حياتي المهنية، قابلت أشخاصاً من الموساد أشد منه تكتماً، لا سيما في الهندوراس، إبان الثورة الساندينية حيث دعموا بقوة مجموعات «الكونترا» السيئة الذكر. كان كساس محيرِّاً إلى حد ما؛ لقد كان ملاكماً في ما مضى، ولم يبقَ له من الملاكمة الشكلُ الخارجي فحسب بل العقل أيضاً.
صار هذا الرجل، الذي «عمل سابقاً في لبنان»، يهتم الآن بالمنظمات الإسلامية الجزائرية والمصرية، وهو الموضوع الذي كنت أعمل عليه في ذلك الحين. وإذ كنت أتحرّق شوقاً لجمع المعلومات وأسعى إلى الابتعاد عن موضوع أبحاثي، حاولت أن أقلب الأدوار من خلال تركيز الحوار على الطريقة التي قدّم بها الشاباك التمويل والمساعدة لدعم قيام الإخوان المسلمين الفلسطينيين، الذين يمثّلون أسلاف حركة «حماس»، في الأراضي المحتلة في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، واستكشاف الأسباب الكامنة وراء هذه العملية وطريقة تنفيذها.
في عام 1992، كانت هذ القضية لا تزال من المحظورات، ولكن ما أفادني هو أنني كنت قد حظيت بمقابلة عن هذا الموضوع أجريتها مع ضابط إسرائيلي متقاعد هو الجنرال سيرغيف، حاكم غزة الأسبق الذي أكد لي: «قدمنا بعض المساعدة المالية إلى مجموعات إسلامية معينة. كنا ندعم مساجد ومدارس بقصد تنمية حركة تأتي رد فعل على قوى اليسار التي تدعم منظمة التحرير الفلسطينية».
وكان كساس، شأنه شأن الجنرال، يدّعي لنفسه «استخدام هذه الوسيلة» من أجل «إدخال الثعلب الإسلامي في قن ياسر عرفات الوطني». وسرعان ما تفاخر بأنه كان من بين الذين حاولوا، بعد ست سنوات، أن يستخدموا الوسيلة نفسها في لبنان مع الموارنة المسيحيين «الأقل جدية من الإخوان المسلمين لسوء الحظ».
وإذ بقي كساس عند «الحقبة اللبنانية» من عمله، وهي حقبة يستطيع التحدث عنها بما أنها أضحت «من التاريخ القديم»، شرح لي أنه كان من أبرز مساعدي ديفيد كيمش، وكنت على علم بالدور التاريخي الذي لعبه الأخير مع الكتائب ومع بشير الجميل في خلال اجتياح لبنان عام 1982.
لم نذهب بحديثنا إلى أبعد من هذه الاعتبارات «التاريخية»، فاللعبة كانت قد طالت إلى حد ما، إذ أدركت أنني، عاجلاً أو آجلاً، سأضطر إلى التطرق إلى الموضوع الذي أعمل عليه من قريب أو من بعيد، وهذا أمر لم أرغب فيه بتاتاً. ثم امتنعت عن تلبية دعوات ملحة واظبت سيمونا على توجيهها إليّ ودعوات جديدة من كساس الذي قابلته مجدداً بعد مرور عام في مقديشو في الصومال؛ لقد أصبح صحافياً مرافقاً لوحدة من القوات الخاصة الأميركية التي تعمل مع الجنرال مونتغومري، فهنّأته على ترقيته.
كان السفير الأميركي في نيروبي، روبرت أوكلي، قد أطلق جملته الشهيرة: «إن كنتم تحبون بيروت فستعشقون مقديشو»! وفي فندق سآفي حيث كل وسائل الإعلام العالمية، كان كساس يشعر بملل شديد ويكثر من شرب الخمر. تكلمنا عن أوكلي الذي نعرفه حق المعرفة نحن الاثنين، وعن «الأيام الخوالي في لبنان» وعن استخدام المسيحيين كوسيلة، المسيحيون الذين أكّد لي كساس أنه قدّم «تحاليل لشخصياتهم» لرئيسه، ديفيد كيمش. وتساءلتُ على أي أساس يستطيع ملاكم يبدو جلياً أنه ليس من أعز أصدقاء سيغموند فرويد أن يقيّم بجدية اللاوعي لدى أحد معارفه.
لم أرَ كساس مجدداً إلا في عام 1995 في جنيف حيث كان يرافق يوري دان لدى صدور كتابه المعنون «الموساد ــ 50 عاماً من الحرب السرية»، الذي نُشر لتمجيد الاستخبارات الإسرائلية وقُصِد منه الردّ على كتاب آخر خلّف آثاراً مدمرة عليها يحمل عنوانَ «عن طريق الخداع» وتوقيعَ فيكتور أوستروفسكي، أحد قدامى الموساد. فقد كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية التي يقوم بها رجل من صفوفها بالكشف عن خفايا أساليبها العملانية ولا سيما عن تقنيات الاغتيال التي تعتمدها.
13/05/2009
إنّها الوجوه نفسها. إنّه الموت نفسه. بعد ما عرف بحادثة بصرما العام الماضي، سار أهالي زغرتا في جنازة يوسف فرنجية (أبو جو). قبل ذلك بثلاثين عاماً، كان أبو جو يطلّ من نافذة أحد المباني ليطلق الرصاص باتجاه شخص لا يعرفه كان على رأس قوّة من «الكتائب» يحاصر قصر آل فرنجيّة. تبيّن في ما بعد أنّ ذاك الشخص ليس إلا سمير جعجع الذي أصبح لاحقاً قائداً للقوّات اللبنانيّة. لكنّ تفاصيل عمليّة إهدن وخلفيّاتها السياسيّة ودور الموساد فيها، بقيت مجهولة إلى حدّ كبير، إلى أن صدر الأسبوع الفائت كتاب «مجزرة إهدن أو لعنة العرب المسيحيّين» (دار «فايار») للصحافي الفرنسي ريشار لابيفيير.
بعد مرور قرابة واحد وثلاثين عاماً على اغتيال طوني فرنجية وزوجته وابنته وثمانية وعشرين شخصاً آخرين (يرى لابيفيير أبو جو الضحية الثانية والثلاثين لمجزرة إهدن، إذ قُتل بعد إدلائه بشهادته عن تلك المجزرة ضمن برنامج عرض على محطة «أو تي في»)، يعود لابيفيير إلى مسرح الجريمة، ليطرح الأسئلة السياسيّة والقانونيّة الصعبة، وليجيب عن بعضها ويترك بعضها الآخر ملكاً للتاريخ.
يحتوي الكتاب على وقائع المجزرة التفصيلية، الأحداث السياسية والأمنية التي مهّدت لها والتي تلتها، رافضاً التفسيرات الأنثروبولوجية الضيقة لرواية ما جرى. فمجزرة إهدن لم تكن حدثاً عابراً، بل مفصل أساسي ما زالت تأثيراته حاضرة، وخصوصاً في ما يتعلّق بدور العرب المسيحيّين وعلاقتهم بعضهم ببعض، ونظرتهم إلى أنفسهم ودورهم.
هنا ترجمة للفصل الحادي عشر الذي حمل عنوان «دسيسة الموساد»، والذي قد يكون أكثر الفصول إثارة من الكتاب الذي يتألف من ثلاثة وعشرين جزءاً موزّعة على ثلاثمئة وخمسين صفحة.
يروي لابيفيير دور الموساد في التخطيط للعمليّة، بما في ذلك الضغط على بشير الجميّل من أجل اختيار سمير جعجع لقيادة عمليّة إهدن، ضمن مخطّط يقضي بالسيطرة على تلك المنطقة من الجبل تمهيداً لوصول بشير الجميّل إلى السلطة.
عمل لابيفيير في إذاعة فرنسا الدولية حتى تسريحه في آب عام 2008 على خلفيّة مواقفه من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. له عشرات المؤلفات، منها: «دولارات الإرهاب» الذي حاول قبل عامين من أحداث 11 أيلول تفكيك آليات تمويل الحركات الاسلاميّة، وكتاب «التحوّل الكبير أو القصة السريّة للقرار 1559»
«ستكون فلسطين وطننا التاريخي الذي لا يُنتسى. وحده اسمها سيمثّل بالنسبة إلى شعبنا صرخة استثنائية في قوّتها تلمّ شمله. إذا وافق صاحب الجلالة السلطان على أن يعطينا فلسطين، فسنأخذ على عاتقنا ترتيب شؤون تركيا المالية. بالنسبة إلى أوروبا، سنكون بمثابة جدار بوجه آسيا ومركز الحضارة المتقدّم بوجه البربرية».
(ثيودور هرتزل (1860 ــ 1904)، من كتاب «دولة اليهود»)
في مستهل تسعينيات القرن المنصرم، رحتُ أعمل على موضوع تمويل المنظمات الإسلامية والفصائل المسلحة، مثل المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية والجماعات الإسلامية المصرية. وكان صديق جزائري من أصدقاء طفولتي قد وقع لتوّه أولى ضحايا المواجهة المفتوحة بين المنظمات الإسلامية والسلطة الجزائرية.
وفيما كنت أتمشى في أروقة مقر لجنة حقوق الإنسان في جنيف ذات يوم، صُعقت لدى سماعي الناطق باسم منظمة غير حكومية يعلن بتبجح مسؤوليته عن اغتيال هذا الصديق. ثم اكتشفت أن المنظمة التي ينتمي إليها هذا الشخص كانت تلعب دور الواجهة لجمعيات عدة تقيم علاقات مباشرة مع المجموعات الإسلامية المسلحة الجزائرية في سويسرا وفي أوروبا.
وإذ أجريت تحقيقاً عن هذا الموضوع الذي يتصف بالغموض، كشفتُ النقاب تدريجياً عن نظام هذه المجموعات التمويلي الذي شمل عدة مصارف وشركات توظيف رؤوس أموال غربية وسعودية. كنت أجهل حينها أن هذا التحقيق سيستغرق خمسة عشر عاماً من حياتي.
سبّب لي عملي هذا قدراً لا يُستهان به من المتاعب مع مصارف ورجال أعمال سعوديين، كما لفت انتباه الاستخبارات الإسرائيلية أيضاً. وفي يوم من أيام عام 1992، دُعيت إلى زيارة بعثة إسرائيل الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف.
باستثناء إجراءات التفتيش البوليسية العادية في مطار تل أبيب، وهو أحد المنافذ المؤدية إلى خارج فلسطين وداخلها، كانت تلك أول مرة في حياتي أقيم فيها اتصالاً رسمياً مع الدولة العبرية.
قبلت الذهاب إلى الموعد بدافع الحشرية، فاستقبلتني السكرتيرة الأولى في السفارة، السيدة سيمونا فرانكل، استقبالاً حاراً وشرحت لي أن الأبحاث التي أجريها عن «التمويلات الإسلامية» لفتت انتباه سلطات بلدها التي ترغب في «التعرف إليّ أكثر». أطربني كلامها هذا وشعرت، في الوقت عينه، بأن عليّ أن أبقى متنبهاً، لأن تعاطفي مع الفلسطينيين والتحقيقات العديدة التي أجريتها في الأراضي المحتلة ما كانت لتفوت ضيوفي ولا سلطتهم. فأصغيت بتهذيب فيما كنت أحاول أن أفهم الغاية من هذا اللقاء، وقد تملكني الفضول لأعرف التتمة التي تبيّن أنها مثيرة جداً للاهتمام.
وسرعان ما تلقيت دعوة ثانية إلى حفل عشاء كبير أُقيم على شرف «الصحافي» الإسرائيلي يوري دان الذي قيل لي إنه يرغب «حتماً» في التعرف إليّ. وكانت الشخصية النافذة الداعية إلى هذا العشاء رجلاً يثير الفضول ينادونه أفي شيسنر، وكان، رسمياً، اختصاصياً بطب وجراحة الأسنان. فاستقبلنا في دارته المهيبة في كولوني في أعالي جنيف، وهو مكان استجمام يقصده كبار المصرفيين الخاصين وعائلات جنيف العريقة.
كانت الدارة محاطة بسياج عالٍ زُوِّد بكاميرات مراقبة في كل زواياه. فكيف لاختصاصي وجراح في طب الأسنان أن يموّل بنية تحتية من هذا النوع، وخصوصاً لماذا قد يحتاج اختصاصي بالرمامة إلى أن يؤمن لنفسه حماية شبيهة بحماية مجلس الاحتياطي الاتحادي؟
التقيت مجدداً بسيدة السفارة التي تلت سيرتي الذاتية على مسمع مضيفنا قبل أن تعرّفني إلى شخص قُدِّم إلي بأنه «أهم الصحافيين الإسرائيليين». وبدا واضحاً أننا كـ«زميلين»، لا يسعنا إلا أن نتفاهم. في هذا العشاء، أثار فضولي شخصان آخران: كان للأوّل مظهر ملاكم ومشيته ولُقِّب بـ«كساس»؛ فيما كان الثاني ممن ترد أسماؤهم دوماً في صحف أخبار المجتمع: ليس سوى ولي عهد إيطاليا الأمير فيكتور إمانويل دو سافوا، وجه اجتماعي ينوء تحت ثقل مزدوج يُخضعه له حتى الانسحاق نسبٌ عريق وأنانيةٌ مفرطة، فيسعى إلى لفت انتباه الجميع في كل لحظة من اللحظات.
خلال عشاء «التعارف» هذا الذي غلب عليه الملل، عرفت معلومة مهمة للغاية: كان الأمير دو سافوا شريك آفي شيسنر في قضية إنشاء قنوات وجر مياه في منطقة بحيرة طبريا. وبلغني لاحقاً أن طبيب الأسنان صاحبنا كان مسؤولاً عن التجهيزات وإدارة الشبكتين المائيتين في هضبة الجولان وبحيرة طبريا، وهما ملفان استراتيجيان مهمان جداً بالنسبة إلى إسرائيل. كنا بعيدين البعد كلّه عن ترميم الأسنان.
في السهرة، لم يكن يوري دان مهتماً بأبحاثي عن «دولارات الإرهاب» بقدر ما كان المدعو «كساس» الذي أراد، «حتماً» هو أيضاً، أن يقابلني في جلسة أكثر هدوءاً حول فنجان قهوة في بلدة كالفين الساكنة البعيدة عن الأضواء. فحُدِّد إذاً موعد جديد بعد ثلاثة أيام في مقهى فندق بيرغيس، وهو المكان المفضل لدى تجار الأسلحة والمصرفيين في جنيف والوصيفات الروسيات.
شعرت بأن الدماء جمدت في عروقي عندما ادّعى كساس أنه يعرفني، مؤكداً أننا تقابلنا منذ عشر سنوات أثناء مؤتمرَي لوزان وجنيف المتعلقين بلبنان! في حياتي المهنية، قابلت أشخاصاً من الموساد أشد منه تكتماً، لا سيما في الهندوراس، إبان الثورة الساندينية حيث دعموا بقوة مجموعات «الكونترا» السيئة الذكر. كان كساس محيرِّاً إلى حد ما؛ لقد كان ملاكماً في ما مضى، ولم يبقَ له من الملاكمة الشكلُ الخارجي فحسب بل العقل أيضاً.
صار هذا الرجل، الذي «عمل سابقاً في لبنان»، يهتم الآن بالمنظمات الإسلامية الجزائرية والمصرية، وهو الموضوع الذي كنت أعمل عليه في ذلك الحين. وإذ كنت أتحرّق شوقاً لجمع المعلومات وأسعى إلى الابتعاد عن موضوع أبحاثي، حاولت أن أقلب الأدوار من خلال تركيز الحوار على الطريقة التي قدّم بها الشاباك التمويل والمساعدة لدعم قيام الإخوان المسلمين الفلسطينيين، الذين يمثّلون أسلاف حركة «حماس»، في الأراضي المحتلة في بداية السبعينيات من القرن المنصرم، واستكشاف الأسباب الكامنة وراء هذه العملية وطريقة تنفيذها.
في عام 1992، كانت هذ القضية لا تزال من المحظورات، ولكن ما أفادني هو أنني كنت قد حظيت بمقابلة عن هذا الموضوع أجريتها مع ضابط إسرائيلي متقاعد هو الجنرال سيرغيف، حاكم غزة الأسبق الذي أكد لي: «قدمنا بعض المساعدة المالية إلى مجموعات إسلامية معينة. كنا ندعم مساجد ومدارس بقصد تنمية حركة تأتي رد فعل على قوى اليسار التي تدعم منظمة التحرير الفلسطينية».
وكان كساس، شأنه شأن الجنرال، يدّعي لنفسه «استخدام هذه الوسيلة» من أجل «إدخال الثعلب الإسلامي في قن ياسر عرفات الوطني». وسرعان ما تفاخر بأنه كان من بين الذين حاولوا، بعد ست سنوات، أن يستخدموا الوسيلة نفسها في لبنان مع الموارنة المسيحيين «الأقل جدية من الإخوان المسلمين لسوء الحظ».
وإذ بقي كساس عند «الحقبة اللبنانية» من عمله، وهي حقبة يستطيع التحدث عنها بما أنها أضحت «من التاريخ القديم»، شرح لي أنه كان من أبرز مساعدي ديفيد كيمش، وكنت على علم بالدور التاريخي الذي لعبه الأخير مع الكتائب ومع بشير الجميل في خلال اجتياح لبنان عام 1982.
لم نذهب بحديثنا إلى أبعد من هذه الاعتبارات «التاريخية»، فاللعبة كانت قد طالت إلى حد ما، إذ أدركت أنني، عاجلاً أو آجلاً، سأضطر إلى التطرق إلى الموضوع الذي أعمل عليه من قريب أو من بعيد، وهذا أمر لم أرغب فيه بتاتاً. ثم امتنعت عن تلبية دعوات ملحة واظبت سيمونا على توجيهها إليّ ودعوات جديدة من كساس الذي قابلته مجدداً بعد مرور عام في مقديشو في الصومال؛ لقد أصبح صحافياً مرافقاً لوحدة من القوات الخاصة الأميركية التي تعمل مع الجنرال مونتغومري، فهنّأته على ترقيته.
كان السفير الأميركي في نيروبي، روبرت أوكلي، قد أطلق جملته الشهيرة: «إن كنتم تحبون بيروت فستعشقون مقديشو»! وفي فندق سآفي حيث كل وسائل الإعلام العالمية، كان كساس يشعر بملل شديد ويكثر من شرب الخمر. تكلمنا عن أوكلي الذي نعرفه حق المعرفة نحن الاثنين، وعن «الأيام الخوالي في لبنان» وعن استخدام المسيحيين كوسيلة، المسيحيون الذين أكّد لي كساس أنه قدّم «تحاليل لشخصياتهم» لرئيسه، ديفيد كيمش. وتساءلتُ على أي أساس يستطيع ملاكم يبدو جلياً أنه ليس من أعز أصدقاء سيغموند فرويد أن يقيّم بجدية اللاوعي لدى أحد معارفه.
لم أرَ كساس مجدداً إلا في عام 1995 في جنيف حيث كان يرافق يوري دان لدى صدور كتابه المعنون «الموساد ــ 50 عاماً من الحرب السرية»، الذي نُشر لتمجيد الاستخبارات الإسرائلية وقُصِد منه الردّ على كتاب آخر خلّف آثاراً مدمرة عليها يحمل عنوانَ «عن طريق الخداع» وتوقيعَ فيكتور أوستروفسكي، أحد قدامى الموساد. فقد كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الاستخبارات الإسرائيلية التي يقوم بها رجل من صفوفها بالكشف عن خفايا أساليبها العملانية ولا سيما عن تقنيات الاغتيال التي تعتمدها.