زوربا
04-21-2009, 04:07 PM
كينيغي، رواندا - ستيفاني ماكرامن
أخيراً وصل الباص رقم 958... في نهاية فترة الظهيرة، حشر ليونارد هاكوريمانو نفسه، مع زوجته وولديه، في باص مكتظ يوشك على نقلهم إلى حياة جديدة ملؤها الغموض.
سأله أحد الركّاب: 'من أين تأتي؟'. فأجابه هاكوريمانو بهدوء، 'من الكونغو'، مشيراً إلى الدولة المجاورة حيث انضم إلى صفوف المتمردين. ثم سأله: 'متى غادرت رواندا؟'. فردّ فيما كان من دون أن تبدو على وجهه الصبياني والقاسي أية مشاعر: '1994'. هو العام الذي أصبح فيه في السادسة عشرة من عمره، ورأى عائلته للمرة الأخيرة، وارتُكبت خلاله المجزرة في رواندا حيث قُتل ما يقارب 800 ألف من التوتسي والهوتو المعتدلين على يد متطرّفين من الهوتو على مدى مئة يوم من العنف المخطَّط. وأضاف: 'مضى زمن طويل على مغادرتي البلاد'.
على غرار الآلاف الآخرين من الهوتو الذين فرّوا إلى كونغو الشرقية خوفاً من الثأر، انضم هاكوريمانو إلى المتمردّين الروانديين من الهوتو الذين وعدهم قادتهم بالعودة إلى رواندا يوماً ما للإطاحة بالحكومة ذات الأغلبية التوتسية. لتشجيع مجنّديهم على البقاء، أشاع القادة المتمردون- الذين يُتَّهم بعضهم بالمشاركة في الإبادة الجماعية- قصصاً محبطة عن أحوال العيش في ديارهم، عبر القول إن حياة الهوتو العائدين مهدّدة بالسجن أو القتل وإن العدالة غائبة في رواندا.
لكن هذا الشهر، كان هاكوريمانو (30 عاماً) من مئات المتمردين الذين قرّروا العودة إلى ديارهم مهما كانت الظروف، من دون أن يعلموا إن كانت أسرهم على قيد الحياة أو إن كانت القصص التي أخبرهم إياها قادتهم حقيقية فعلاً.
نضال
اتّخذوا هذا القرار انطلاقاً من إيمان هش بأنهم سيتمكنون من التخلّي عن مبدأ الاختباء المسبّب للشقاق وإيجاد متّسع لهم في أمّة تناضل في سبيل تخطّي ما خلّفته الإبادة الجماعية. يعكس هذا المسعى نضالاً أوسع ضمن المجتمع الرواندي لصقل هوية قومية أقوى من تلك العرقية التي شرذمته.
من جهتها، تشجّع الحكومة الرواندية بحماسة ذلك المسعى، فنجدها تحثّ الناجين من المجرزة على الغفران والعيش في قرىً مع قتلة سابقين. وبالفعل، يعضّ كثير من الناس على جرحهم هذه الأيام ويلتزمون الصمت بدلاً من التمييز بين فرد من التوتسي وآخر من الهوتو. في حالة المتمرّدين العائدين، تدير الحكومة مخيّم تدريب يهدف إلى جعلهم مواطنين مثاليين.
وصلت باصات محمّلة بالمتمرّدين العائدين إلى مخيّم موتوبو، عبارة عن امتداد من الأبنية المكسوّة بالحديد والقائمة على عشب مشذّب وسط هضاب خضراء داخل الحدود الرواندية. أمضى هاكوريمانو بضعة أيام هناك مع عائلته قبل أن يُمنح الإذن بالعودة إلى دياره.
جاء قراره بمغادرة كونغو الشرقية جزئياً بعد بدء العملية العسكرية المشتركة بين رواندا والكونغو الشهر الفائت للقضاء على المتمردين من الهوتو، المعروفين بـ{القوات الديمقراطية لتحرير رواندا}. ساهمت هذه العملية في تفرقة صفوف الميليشيا، وقد تطوّع مئات المقاتلين للعودة إلى الوطن. لكن قرار هاكوريمانو ينم عن دافع شخصي أيضاً.
يذكر: {فكّرت في عائلتي في الجانب الآخر وعقدت العزم على الانطلاق. فكّرت في أنني قد أموت هناك، أو أعيش. لكن في كلتا الحالتين، سأذهب}.
كانت الحياة في مخيّم موتوبو في نظره غريبة. قبل أسبوع، كان يتولّى قيادة مجموعة من اثني عشر متمرداً أو ما يقارب ذلك، لكنه اليوم يتلقى دروساً حول {تجنّب تآكل التربة} و{تخطّي عقيدة الإبادة الجماعية}. قيل له إن التوتسي هم العدو، لكنه اكتشف اليوم بأن الوحدة هي الشعار الذي يتردد في رواندا.
يصيح مدير المخيّم بالوافدين الجدد: {إنسوا أنكم كنتم قتلة في ما مضى في الكونغو. ها أنتم اليوم روانديون}.
طُلب من الرجال آنذاك إنشاد أغنية خاصة بحزب الرئيس بول كاغامي الحاكم. فراح معظمهم يغني، وهاكوريمانو يصفّق معهم: {نحن روانديون. علينا بناء هذه الأمة بأيدينا}. في تلك اللحظة، لم يكن واثقاً إن كان رواندياً أم متمرّداً، على حد قوله. يضيف: {كنت في حيرة من أمري. لمَ عليّ الدراسة وأنا أجهل حتّى إن كانت أمي على قيد الحياة أم لا؟}.
قبل الإبادة، حين كانت مقاليد الحكومة الرواندية بيد الهوتو، كانت عائلة هاكوريمانو تعيش حياةً رغيدةً نسبياً في قرية حيث ينتمي كثير من جيرانهم إلى قبيلة توتسي. يذكر هذا الأخير بأنهم كانوا يعيشون في منزل أرضه وجدرانه من الاسمنت. كان في الثانوية يحلم بأن يصبح قاضياً حين تحوّلت قريته إلى ساحة قتال واسعة.
في ذلك الوقت، قامت إحدى نخب الهوتو بتجنيد الغالبية من الهوتو في البلاد للقضاء على التوتسي والهوتو الذين لم يلتزموا بالخطّة، مخافة خسارة نفوذها أمام الأقلية التوتسية التي حكمت رواندا في السابق. نتيجةً لذلك، قّتل ثلاثة أرباع السكّان من التوتسي، وهي فترة لا يذكرها هاكوريمانو جيداً.
يوضح: {كنت مجرد صبي صغير}. كان يتعلّم في مدرسة مع التوتسي وفجأةً طُلب منه قطع علاقته بأصدقائه. فاضت قريته بالتوتسي الهاربين الذين كانوا يُصطادون كالحيوانات. على حد قول هاكوريمانو، قامت عائلته بإيواء عدة جيران من التوتسي في إحدى غرف النوم. لكنه لا يذكر ما حلّ بهم لاحقاً.
هروب
من ثم تغيّر الوضع جذرياً، فبدأ متمرّدو كاغامي ذوي الغالبية التوتسية بإلحاق الهزيمة بقوات الهوتو التي ترتكب المجازر. وما لبث أن أصبح الهوتو هم من يلوذون بالفرار، متقاطرين بأعداد كبيرة إلى كونغو الشرقية. يستذكر هاكوريمانو: { هربنا في جميع الاتجاهات}.
في مكان ما في الغابة، انفصل عن والدته، ما دفعه إلى المضي في طريقه نحو الكونغو بمفرده. في النهاية، انضم إلى أعضاء ميليشا الهوتو الذين كانوا يتجمّعون في مخيمات اللاجئين الواسعة في الكونغو، متعهدين بـ{إتمام المهمة} في رواندا.
مع ذلك، على مر السنين، بدأت هذه المطامح تذبل بعد أن أصبحت المجموعة تُعرَف باستغلالها الموارد المعدنية في الكونغو ونهبها القرويين الكونغوليين. يقول هاكوريمانو عن هذه المرحلة التي قضاها في المخبأ: {كانت حياةً بائسة}. لكنه يضيف: {لم أقتل شخصاً في حياتي}. تزوّج بلاجئة أخرى من رواندا وأصبح أباً لباراكا، 11 عاماً، وسولومون الذي يبلغ من العمر شهراً واحداً}. يوضح سبب مغادرته بالقول: {أيقنت بأنني أتقدم في السن}.
من ثم أكمل طريقه برفقة أسرته باتجاه إحدى القواعد التابعة للأمم المتحدة وفي النهاية إلى موتوبو، حيث استقل وعائلته، في أحد الأيام، باصاً أبيض عائداً إلى قريته. عندئذ بدأت المشاهد غير الواضحة تطابق ذكرياته.
فالهضاب مغطاة اليوم بأراض مرقّعة، والطرقات التي كانت سابقاً مليئةً بالحفر باتت معبّدة. وقد مرّ الباص بجانب عربات رفع لتوسيع خطوط السير. كذلك، كانت مجموعة من التلامذة، في سن هاكوريمانو حين فرّ من قريته، يتسكعون ببزاتهم الكاكية وقمصانهم القطنية البيضاء.
سار الباص عبر بلدات صغيرة فيها مقاهي إنترنت جديدة، فشعر هاكوريمانو، كما ذكر لاحقاً، بأنه متخلّف عن ركب التقدم. عندئذ التفت إلى زوجته، امرأة جميلة وهادئة توفي والداها في مخيمات اللاجئين في الكونغو وقال مشيراً بيده: {هذا هو المكان الذي لطالما حدّثتك عنه. هذا هو المنزل تحت تلك الهضاب}.
بعد وقت قصير، اتجّهوا نحو طريق ضيّقة غير معبّدة. فخرج هاكوريمانو وبدأ ينظر في الأرجاء، لكن الملامح كانت غير مألوفة بالنسبة إليه. وما إن خطوا بضع خطوات حتى رأى هاكوريمانو رجلاً طويلاً يرتدي سترةً بالية- هو خاله. ضمّه هذا الأخير وقال له: {أهلاً وسهلاً بك}.
فانضمت إليهما خالته، وسرعان ما علم هاكوريمانو أن والدته ما زالت على قيد الحياة. مع سير المجموعة باتجاه منزلها، لم ير البنية الاسمنتية التي هجرها وإنما كوخاً متداعياً جدرانه من الطين مغطّاة بألواح حديدية صدئة. لم يسع باتريسيا نييرا هابيمانا سوى التحديق بابنها الضائع. صاح هاكوريمانا: {أمي، ما زلت حية. أمي هذا أنا! هذا أنا!}. فشرعت بالبكاء وهي لا تزال تحدّق به.
مصالحة
أمضى أفراد العائلة الليل بطوله وهم يتحدثون مع بعضهم. فعلم هاكوريمانو أن والده قُتل وأن المشاكل رافقتهم منذ ذلك الوقت. في الصباح التالي، بدأت مظاهر السعادة الأولى البادية عليه بالاختفاء تدريجياً. فصحة والدته متدهورة، ومنزل العائلة دُمّر بعد هروبهم في العام 1994. كذلك خسروا معظم أراضيهم بسبب نزاعات عائلية وقانون إصلاح الأراضي الحكومي الذي لقي استحساناً واسعاً لكنه في نظر بعض المزارعين من الهوتو سياسية قمعية فرضتها حكومة ذات أغلبية توتسية.
بعدئذ، قدم بعض أصدقاء هاكوريمانو لزيارته. يذكر: {أخبروني أنهم ارتادوا المدرسة وبنوا المنازل. في الماضي، كان الناس يأتون للعمل لدينا. لكن اليوم علينا قصدهم لطلب وظائف في منازلهم. أنظري إلى هذا المنزل. ماذا فعلت الحكومة لأجلنا؟}. ثم حنى رأسه وقال: {قد يجبرني هذا الوضع على العودة إلى الكونغو للقتال حتى الموت}.
خرج هاكوريمانو بعد الظهر، ليمشي على درب ضيقة عبر حقول البطاطا والسمّاق، وكان شعوره بالمرارة يزداد مع كل خطوة يخطوها. في النهاية، وصل إلى فسحة معشوشبة، وقال: {هنا كان منزلنا}. يضيف مشيراً إلى أرض عائلته الضائعة: {الأشخاص الذين تربطهم علاقات بالحكومة هم من تسبّب بهذه الفوضى. إنهم التوتسي. لا أخشى القول إنّ التوتسي هم من تسبّب بهذه المشاكل}.
في وقت لاحق، جلس هاكوريمانو مع خاله في منزل والدته. قال له خاله: {تغيّرت الأمور كثيراً- أصبح هناك وحدة}. مع ذلك، كان ابن اخته حتى هذه اللحظة في حيرة من أمره. هل يصدّق كلام خاله أم القصص التي كان يرويها له قادته في الكونغو؟
على مر السنين، أصبح بعض المتمرّدين السابقين قادة مجتمع، وآخرون يكافحون من أجل كسب لقمة العيش كسائر من في رواندا. في المقابل، عاد عدد ضئيل من السكّان إلى الكونغو. قد يعود هاكوريمانو إلى مخيّم موتوبو في غضون أيام، حيث ستُعطى دروس حول تاريخ رواندا والمصالحة فيها. بعد ذلك، يتوّقع الحصول على بعض مئات الدولارات لبدء حياته الجديدة. كذلك سيُلقَّن المتمرّدون السابقون جميعهم النشيد الوطني الرواندي.
يلفت هاكوريمانو بالقول: {أعرف بعض مقاطع من الأغنية، وبعضها الآخر لا، لكنني سأحاول تعلّمها}.
أخيراً وصل الباص رقم 958... في نهاية فترة الظهيرة، حشر ليونارد هاكوريمانو نفسه، مع زوجته وولديه، في باص مكتظ يوشك على نقلهم إلى حياة جديدة ملؤها الغموض.
سأله أحد الركّاب: 'من أين تأتي؟'. فأجابه هاكوريمانو بهدوء، 'من الكونغو'، مشيراً إلى الدولة المجاورة حيث انضم إلى صفوف المتمردين. ثم سأله: 'متى غادرت رواندا؟'. فردّ فيما كان من دون أن تبدو على وجهه الصبياني والقاسي أية مشاعر: '1994'. هو العام الذي أصبح فيه في السادسة عشرة من عمره، ورأى عائلته للمرة الأخيرة، وارتُكبت خلاله المجزرة في رواندا حيث قُتل ما يقارب 800 ألف من التوتسي والهوتو المعتدلين على يد متطرّفين من الهوتو على مدى مئة يوم من العنف المخطَّط. وأضاف: 'مضى زمن طويل على مغادرتي البلاد'.
على غرار الآلاف الآخرين من الهوتو الذين فرّوا إلى كونغو الشرقية خوفاً من الثأر، انضم هاكوريمانو إلى المتمردّين الروانديين من الهوتو الذين وعدهم قادتهم بالعودة إلى رواندا يوماً ما للإطاحة بالحكومة ذات الأغلبية التوتسية. لتشجيع مجنّديهم على البقاء، أشاع القادة المتمردون- الذين يُتَّهم بعضهم بالمشاركة في الإبادة الجماعية- قصصاً محبطة عن أحوال العيش في ديارهم، عبر القول إن حياة الهوتو العائدين مهدّدة بالسجن أو القتل وإن العدالة غائبة في رواندا.
لكن هذا الشهر، كان هاكوريمانو (30 عاماً) من مئات المتمردين الذين قرّروا العودة إلى ديارهم مهما كانت الظروف، من دون أن يعلموا إن كانت أسرهم على قيد الحياة أو إن كانت القصص التي أخبرهم إياها قادتهم حقيقية فعلاً.
نضال
اتّخذوا هذا القرار انطلاقاً من إيمان هش بأنهم سيتمكنون من التخلّي عن مبدأ الاختباء المسبّب للشقاق وإيجاد متّسع لهم في أمّة تناضل في سبيل تخطّي ما خلّفته الإبادة الجماعية. يعكس هذا المسعى نضالاً أوسع ضمن المجتمع الرواندي لصقل هوية قومية أقوى من تلك العرقية التي شرذمته.
من جهتها، تشجّع الحكومة الرواندية بحماسة ذلك المسعى، فنجدها تحثّ الناجين من المجرزة على الغفران والعيش في قرىً مع قتلة سابقين. وبالفعل، يعضّ كثير من الناس على جرحهم هذه الأيام ويلتزمون الصمت بدلاً من التمييز بين فرد من التوتسي وآخر من الهوتو. في حالة المتمرّدين العائدين، تدير الحكومة مخيّم تدريب يهدف إلى جعلهم مواطنين مثاليين.
وصلت باصات محمّلة بالمتمرّدين العائدين إلى مخيّم موتوبو، عبارة عن امتداد من الأبنية المكسوّة بالحديد والقائمة على عشب مشذّب وسط هضاب خضراء داخل الحدود الرواندية. أمضى هاكوريمانو بضعة أيام هناك مع عائلته قبل أن يُمنح الإذن بالعودة إلى دياره.
جاء قراره بمغادرة كونغو الشرقية جزئياً بعد بدء العملية العسكرية المشتركة بين رواندا والكونغو الشهر الفائت للقضاء على المتمردين من الهوتو، المعروفين بـ{القوات الديمقراطية لتحرير رواندا}. ساهمت هذه العملية في تفرقة صفوف الميليشيا، وقد تطوّع مئات المقاتلين للعودة إلى الوطن. لكن قرار هاكوريمانو ينم عن دافع شخصي أيضاً.
يذكر: {فكّرت في عائلتي في الجانب الآخر وعقدت العزم على الانطلاق. فكّرت في أنني قد أموت هناك، أو أعيش. لكن في كلتا الحالتين، سأذهب}.
كانت الحياة في مخيّم موتوبو في نظره غريبة. قبل أسبوع، كان يتولّى قيادة مجموعة من اثني عشر متمرداً أو ما يقارب ذلك، لكنه اليوم يتلقى دروساً حول {تجنّب تآكل التربة} و{تخطّي عقيدة الإبادة الجماعية}. قيل له إن التوتسي هم العدو، لكنه اكتشف اليوم بأن الوحدة هي الشعار الذي يتردد في رواندا.
يصيح مدير المخيّم بالوافدين الجدد: {إنسوا أنكم كنتم قتلة في ما مضى في الكونغو. ها أنتم اليوم روانديون}.
طُلب من الرجال آنذاك إنشاد أغنية خاصة بحزب الرئيس بول كاغامي الحاكم. فراح معظمهم يغني، وهاكوريمانو يصفّق معهم: {نحن روانديون. علينا بناء هذه الأمة بأيدينا}. في تلك اللحظة، لم يكن واثقاً إن كان رواندياً أم متمرّداً، على حد قوله. يضيف: {كنت في حيرة من أمري. لمَ عليّ الدراسة وأنا أجهل حتّى إن كانت أمي على قيد الحياة أم لا؟}.
قبل الإبادة، حين كانت مقاليد الحكومة الرواندية بيد الهوتو، كانت عائلة هاكوريمانو تعيش حياةً رغيدةً نسبياً في قرية حيث ينتمي كثير من جيرانهم إلى قبيلة توتسي. يذكر هذا الأخير بأنهم كانوا يعيشون في منزل أرضه وجدرانه من الاسمنت. كان في الثانوية يحلم بأن يصبح قاضياً حين تحوّلت قريته إلى ساحة قتال واسعة.
في ذلك الوقت، قامت إحدى نخب الهوتو بتجنيد الغالبية من الهوتو في البلاد للقضاء على التوتسي والهوتو الذين لم يلتزموا بالخطّة، مخافة خسارة نفوذها أمام الأقلية التوتسية التي حكمت رواندا في السابق. نتيجةً لذلك، قّتل ثلاثة أرباع السكّان من التوتسي، وهي فترة لا يذكرها هاكوريمانو جيداً.
يوضح: {كنت مجرد صبي صغير}. كان يتعلّم في مدرسة مع التوتسي وفجأةً طُلب منه قطع علاقته بأصدقائه. فاضت قريته بالتوتسي الهاربين الذين كانوا يُصطادون كالحيوانات. على حد قول هاكوريمانو، قامت عائلته بإيواء عدة جيران من التوتسي في إحدى غرف النوم. لكنه لا يذكر ما حلّ بهم لاحقاً.
هروب
من ثم تغيّر الوضع جذرياً، فبدأ متمرّدو كاغامي ذوي الغالبية التوتسية بإلحاق الهزيمة بقوات الهوتو التي ترتكب المجازر. وما لبث أن أصبح الهوتو هم من يلوذون بالفرار، متقاطرين بأعداد كبيرة إلى كونغو الشرقية. يستذكر هاكوريمانو: { هربنا في جميع الاتجاهات}.
في مكان ما في الغابة، انفصل عن والدته، ما دفعه إلى المضي في طريقه نحو الكونغو بمفرده. في النهاية، انضم إلى أعضاء ميليشا الهوتو الذين كانوا يتجمّعون في مخيمات اللاجئين الواسعة في الكونغو، متعهدين بـ{إتمام المهمة} في رواندا.
مع ذلك، على مر السنين، بدأت هذه المطامح تذبل بعد أن أصبحت المجموعة تُعرَف باستغلالها الموارد المعدنية في الكونغو ونهبها القرويين الكونغوليين. يقول هاكوريمانو عن هذه المرحلة التي قضاها في المخبأ: {كانت حياةً بائسة}. لكنه يضيف: {لم أقتل شخصاً في حياتي}. تزوّج بلاجئة أخرى من رواندا وأصبح أباً لباراكا، 11 عاماً، وسولومون الذي يبلغ من العمر شهراً واحداً}. يوضح سبب مغادرته بالقول: {أيقنت بأنني أتقدم في السن}.
من ثم أكمل طريقه برفقة أسرته باتجاه إحدى القواعد التابعة للأمم المتحدة وفي النهاية إلى موتوبو، حيث استقل وعائلته، في أحد الأيام، باصاً أبيض عائداً إلى قريته. عندئذ بدأت المشاهد غير الواضحة تطابق ذكرياته.
فالهضاب مغطاة اليوم بأراض مرقّعة، والطرقات التي كانت سابقاً مليئةً بالحفر باتت معبّدة. وقد مرّ الباص بجانب عربات رفع لتوسيع خطوط السير. كذلك، كانت مجموعة من التلامذة، في سن هاكوريمانو حين فرّ من قريته، يتسكعون ببزاتهم الكاكية وقمصانهم القطنية البيضاء.
سار الباص عبر بلدات صغيرة فيها مقاهي إنترنت جديدة، فشعر هاكوريمانو، كما ذكر لاحقاً، بأنه متخلّف عن ركب التقدم. عندئذ التفت إلى زوجته، امرأة جميلة وهادئة توفي والداها في مخيمات اللاجئين في الكونغو وقال مشيراً بيده: {هذا هو المكان الذي لطالما حدّثتك عنه. هذا هو المنزل تحت تلك الهضاب}.
بعد وقت قصير، اتجّهوا نحو طريق ضيّقة غير معبّدة. فخرج هاكوريمانو وبدأ ينظر في الأرجاء، لكن الملامح كانت غير مألوفة بالنسبة إليه. وما إن خطوا بضع خطوات حتى رأى هاكوريمانو رجلاً طويلاً يرتدي سترةً بالية- هو خاله. ضمّه هذا الأخير وقال له: {أهلاً وسهلاً بك}.
فانضمت إليهما خالته، وسرعان ما علم هاكوريمانو أن والدته ما زالت على قيد الحياة. مع سير المجموعة باتجاه منزلها، لم ير البنية الاسمنتية التي هجرها وإنما كوخاً متداعياً جدرانه من الطين مغطّاة بألواح حديدية صدئة. لم يسع باتريسيا نييرا هابيمانا سوى التحديق بابنها الضائع. صاح هاكوريمانا: {أمي، ما زلت حية. أمي هذا أنا! هذا أنا!}. فشرعت بالبكاء وهي لا تزال تحدّق به.
مصالحة
أمضى أفراد العائلة الليل بطوله وهم يتحدثون مع بعضهم. فعلم هاكوريمانو أن والده قُتل وأن المشاكل رافقتهم منذ ذلك الوقت. في الصباح التالي، بدأت مظاهر السعادة الأولى البادية عليه بالاختفاء تدريجياً. فصحة والدته متدهورة، ومنزل العائلة دُمّر بعد هروبهم في العام 1994. كذلك خسروا معظم أراضيهم بسبب نزاعات عائلية وقانون إصلاح الأراضي الحكومي الذي لقي استحساناً واسعاً لكنه في نظر بعض المزارعين من الهوتو سياسية قمعية فرضتها حكومة ذات أغلبية توتسية.
بعدئذ، قدم بعض أصدقاء هاكوريمانو لزيارته. يذكر: {أخبروني أنهم ارتادوا المدرسة وبنوا المنازل. في الماضي، كان الناس يأتون للعمل لدينا. لكن اليوم علينا قصدهم لطلب وظائف في منازلهم. أنظري إلى هذا المنزل. ماذا فعلت الحكومة لأجلنا؟}. ثم حنى رأسه وقال: {قد يجبرني هذا الوضع على العودة إلى الكونغو للقتال حتى الموت}.
خرج هاكوريمانو بعد الظهر، ليمشي على درب ضيقة عبر حقول البطاطا والسمّاق، وكان شعوره بالمرارة يزداد مع كل خطوة يخطوها. في النهاية، وصل إلى فسحة معشوشبة، وقال: {هنا كان منزلنا}. يضيف مشيراً إلى أرض عائلته الضائعة: {الأشخاص الذين تربطهم علاقات بالحكومة هم من تسبّب بهذه الفوضى. إنهم التوتسي. لا أخشى القول إنّ التوتسي هم من تسبّب بهذه المشاكل}.
في وقت لاحق، جلس هاكوريمانو مع خاله في منزل والدته. قال له خاله: {تغيّرت الأمور كثيراً- أصبح هناك وحدة}. مع ذلك، كان ابن اخته حتى هذه اللحظة في حيرة من أمره. هل يصدّق كلام خاله أم القصص التي كان يرويها له قادته في الكونغو؟
على مر السنين، أصبح بعض المتمرّدين السابقين قادة مجتمع، وآخرون يكافحون من أجل كسب لقمة العيش كسائر من في رواندا. في المقابل، عاد عدد ضئيل من السكّان إلى الكونغو. قد يعود هاكوريمانو إلى مخيّم موتوبو في غضون أيام، حيث ستُعطى دروس حول تاريخ رواندا والمصالحة فيها. بعد ذلك، يتوّقع الحصول على بعض مئات الدولارات لبدء حياته الجديدة. كذلك سيُلقَّن المتمرّدون السابقون جميعهم النشيد الوطني الرواندي.
يلفت هاكوريمانو بالقول: {أعرف بعض مقاطع من الأغنية، وبعضها الآخر لا، لكنني سأحاول تعلّمها}.