فاتن
04-10-2009, 02:48 PM
سعاد سليمان
4/10/2009
جاءت شهرة السياسي هنري كيسنجر في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تولى ملف المنطقة لكي يعيد هندستها وصياغتها وفق مخططات السياسة الأمريكية، ويقول كيسنجر إنه قبل توليه هذا الملف لم يكن يعرف شيئاً عن المنطقة، ولم يزر أي بلد عربي قبل ذلك، وعلى عادة الأمريكان، الذين يفضلون الصراحة خاصة فيما يتعلق بالزعماء العرب الذين يفضلون على العكس السرية في العلاقات، فإن مذكرات كيسنجر والتي نعرض لها اليوم في "السياسي" تحمل الكثير من الأسرار التي نطلع عليها لأول مرة.
ويعتبر كيسنجر حجة ودليلاً في التعامل مع المنطقة الملتهبة في العالم، والتي يُطلق عليها الشرق الأوسط، وفي الجزء الأول من هذه المذكرات، نتعرف على التكوين الأول والمراحل التي مر بها كيسنجر، حتى يرقى إلى مصاف المفكرين السياسيين في التاريخ الأمريكي والأوروبي، ويُذكر اسمه بجوار شخصيات بارزة في الدبلوماسية العالمية من أمثال بسمارك ومترنيخ، فهو شخصية متعددة الاتجاهات، وله مساهمات مهمة في التاريخ والسياسة الدولية، وصاحب رؤية نقدية في السياسة الأمريكية على وجه الخصوص، ويختلف كيسنجر عن الخمسة وأربعين وزيراً للخارجية الأمريكية الذين سبقوه في أن سياسته إنما تتأسس على نظرية محددة، وليست على مجرد الاستجابة اليومية للأحداث.
وفي مذكراته نتابع أهم الأحداث التي مرت في حياته، التي كتبها بقلمه، تحت عنوان "مذكرات ـ هنري كيسنجر"، وترجمة عاطف أحمد عمران، وصدرت عن الأهلية للنشر والتوزيع ـ المملكة الأردنية الهاشمية ـ الطبعة الثانية 2008، ويبدأ كيسنجر سرد مذكراته منذ توليه منصب مستشار شؤون الأمن، للرئيس نيكسون، فيقول:
"في الحقيقة كان عليّ أن أتعايش مع واجباتي، ووجب عليّ البدء بتأسيس التحليل والتخطيط اللذين وعد بهما الرئيس في حملته الانتخابية، حصلت على قسم من معلوماتي بأخذ رأي الكثير من الرجال والنساء الذين لعبوا دوراً هاماً خلال حكم أيزنهاور، وكينيدي وجونسون. يجب القول إن السياسة الخارجية بعد الحرب قام بها بنشاط رجال ذوو اعتبار، خصصوا أنفسهم لوطنهم مثل: ين أشيسون، دافيد بروس، اللزوورت بونكر، أفريك هاريمان، جون ماك كلوي، روبرت لوفق، دوجلاس ديللون، كانوا رجال موهبة فريدة، ينتمون لنوع من الأرستقراطية التي جعلت نفسها في خدمة الأمة تحت اسم مبادئ أرفع من التناصر الحزبي.
سافر كيسنجر مع الرئيس نيكسون إلى أوروبا لإقامة علاقات ثقة مع الحكام الأوروبيين، والسعي لتحرير الولايات المتحدة من الأوروبية الداخلية، وكان الهدف تهدئة الأوروبيين حول موضوع تواطؤ أمريكي ـ سوفيتي كانوا يحسبون حسابه، وأكد نيكسون على أعضاء حلف شمال الأطلسي بوجوب المساهمة المنصفة في نفقات الحلف الأطلسي، ويوضح كيسنجر هذا الأمر بقوله:
"من الثابت أن زيارة بسيطة من الرئيس أو تبادل وجهات النظر مع الحكام الأوروبيين لا تكفي للتغلب على روح المعارضة الكائنة في حلف الأطلسي، وبين الخوف من تسوية أمريكية ـ سوفيتية، والرغبة في الانفراج، وبين الاندفاع في تجهيز جيش قوي، ومحاولة تكريس القوى العسكرية للبرامج الداخلية وبين الرغبة في رؤية الفرق الأمريكية باقية في أوروبا، ومن خوف رؤية الدفاع في أوروبا تقوم به قوى استراتيجية أمريكية ليست مشتركة في حلق شمال الأطلسي، وكل هذه القضايا قد طُرحت، وكان أمامنا مدة حكم رئاسي طويل لوضع حلول لها وإعطاء الجواب عنها".
ويستطرد كيسنجر في توضيح العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي اتسمت بالاضطراب والتقلبات، ويتضح مفهومه العام في قوله "كنت أبني وجهة نظري على مفهومي العام لوجهة السياسة الخارجية، إذ كنت أعتبر أن علاقتنا، مع من نتوقع معاداتهم، يجب أن تكون إمكانيات الانفراج مع كل منهم أكبر مما هي عليه بينهم، وإذا توصلنا يوماً إلى إعتاق سياستنا من جمود عشرين سنة، فإن كل قوة عظمى شيوعية، ستطالب بإقامة علاقات ثقافية معنا".
كان نيكسون يعتقد أن الانفتاح على الصين سيسمح له بالضغط على الروس للحد من تأييدهم لفيتنام، أما أنا فكنت أهتم كثيراً بأثر هذا الانفتاح الحاسم على بنية العلاقات الدولية. يقول كيسنجر "كان نيكسون يميل إلى الاعتقاد أن في وضع حد لعزلة ثمانمائة مليون صيني يجنب السلام تهديداً خطيراً، وبتقديري أن نشاط الصين في السياسة الخارجية يتطلب منا سياسة دقيقة وتوجيهها في اتجاه معقد ربما أثر على مجموع العلاقات الدولية، لكن هذه الاختلافات في وجهة النظر كانت ترتكز على التفكير الأساسي ذاته: علاقات ثلاثية بين الاتحاد السوفيتي والصين والولايات المتحدة تكون لمصلحة السعي لإيجاد السلام، وتلاقينا كلانا في النتيجة ذاتها".
وعن السياسة الدفاعية والتوازن الاستراتيجي يقول كيسنجر "البحث عن القدرة ليس سوى بداية السياسة ولا يمكن أن يكون غاية بذاته، وإذا لم تكن القوة بجانبها، فإن جميع الأهداف، مهما كانت شريفة بحد ذاتها، توشك أن تسحق من قبل الأنظمة لدى الآخرين".
ويستمر كيسنجر، ذلك المحلل التاريخي السياسي، في الكشف عن السياسة الأمريكية، فيقول "كنا نعتقد، طيلة أكثر من قرن، أن لا حاجة بنا للاهتمام بالمشاكل الاستراتيجية ما دام محيطان يحميان حدودنا، وتخيلنا لقاء ذلك من قدرات كبيرة أخرى، كنا نلزم أنفسنا بها، بفضل سلامة تحركاتنا، وبما أن أهميتنا في العالم كانت مستقلة عن قدرتنا المادية، وكان لدينا الميل على ترك عزلتنا، والانخراط في التزامات مفاجئة، كانت غاية جميعها أدبية، حتى أن جهودنا العسكرية كانت معنوية وكانت ترتكز كثيراً على المنطق الرمزي أكثر مما هو على الجغرافية السياسية، وعندما كنا نخوض حروباً كان علينا بوجه عام كسب الانتصار في وسائلنا أكثر مما يكون سبب الغلبة من جرأتنا أو مهارتنا الاستراتيجية".
ويواصل كيسنجر حديثه عن التوازنات الاستراتيجية والمشكلة النووية فيقول "وجهت كتاباً للرئيس، اختصرت له فيه هذه الخيارات مع إمكانيات تطبيقها في الموازنة، وكان للأجهزة الوزارية، وجهات نظر مختلفة، أوردتها فيه أيضاً بدقة، لكن الرئيس كان يرغب كعادته في معرفة رأيي، عندما تُعرض عليه خيارات عدة: ( تأمين دفاع مبدئي لمدة 90 يوماً عن أوروبا الغربية ضد هجوم سوفيتي ـ تأمين دفاع مستمر ضد هجوم عام من قبل الصين في آسيا الجنوبية الشرقية أو في كوريا ـ مواجهة أي حدث يطرأ في موضع آخر، في الشرق الأوسط مثلاً )، فأكدت عليه أن يتبع الاستراتيجية الثانية "إذ إني أعتقد بعد احتمال هجوم تقليدي من حلف وارسو في أوروبا والصين في آسيا في آن واحد، وعلى كل الأحوال لم أكن أفكر أن هجوماً كهذا إذا حصل، تمكن مقابلته بأسلحة أرضية. اتبع الرئيس نيكسون نصيحتي وهذا كان أعظم قرار اتخذه طيلة مدة ولايته.
ثم يأتي الحديث عن فيتنام والتي يتحدث عنها هنري كيسنجر في مرارة وألم وحزن عميق، فيقول "ذهب أسلافنا إلى تلك الأرض بنية ورغبة صادقين، وهم على اقتناع أن هذه الحرب الأهلية القاسية، كانت تظهر الجهة المرئية من مخطط تكافؤ عالمي وقد تبين لهم بعد أربع سنوات من القتال، أنهم كانوا غير قادرين على اختطاط استراتيجية تعطيهم الغلبة، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك، اليوم، أن الوصول إلى النصر مستحيل، لقد حاولوا كثيراً البرهنة عن قوة وصدق أمريكا بصورة ملموسة، لكنهم لم يجربوا وضع أي حد لمغامرتهم، وخلال السنة الأخيرة من حكم جونسون، كان الشيوعيون قد قاموا بهجوم عام في كل البلد، هناك أخصائيون قليلون بهذا الأمر، ينكرون اليوم أن ذلك كان هزيمة ساحقة، لكن عظمتها والتضحية التي كانت تتطلبها جعلتا منها نصراً سيكولوجياً، وفي غمرة التأثير الحاسم لهجوم رأس السنة الفيتنامية بدأنا بتقليل القصف على الشمال، قبل إيقافه كلياً، دون الحصول على شيء من الجانب الآخر، سوى افتتاح مفاوضات، أصبح خصمنا اللدود من جرائها في مأزق، وأخذ الرأي العام ينكر علينا خوض حرب، ليس فقط لن ننتصر فيها بل أيضاً لا نستطيع إيقافها".
عزم نيكسون، منذ بداية توليه الحكم، على وضع حد لالتزامنا في فيتنام لكنه اصطدم سريعاً، بالحقيقة التي كانت قد دمرت سلفه، علماً أنه منذ ما يقرب من جيل فإن أمن وتقدم الشعوب الحرة، كانا يتوقفان على الثقة بأمريكا، وكيف السبيل للخلاص من مغامرة غاصت في مستنقعها حكومتان وخمس دول متحالفة، وحيث كانت سبب موت واحد وثلاثين ألف رجل، ولم يكن أسهل من إدارة زر مذياع لتغيير برنامج !
كان ينصحنا الكثيرون، باتخاذ دي جول مثالاً لنا ونحذو حذوه، لكنهم كانوا يتناسون أن دي جول بالذات، قضى أربعة أعوام حتى تمكن من وضع حل للقضية الجزائرية، معتبراً أن من الأهمية بمكان، أن تخرج فرنسا من هذه التجربة، وهي محافظة على تلاحمها الداخلي وبنيتها الدولية كاملين، وكان انسحاب فرنسا مجرد عمل سياسي، لا انهياراً، ونتيجة قرار قومي لا هزيمة.
كان الشعب الأمريكي يتمنى إنهاء الحرب، لكن كل الاستفتاءات ـ بما فيها انتخابات نيكسون ـ كانت تُظهر أن الشعب الأمريكي يعتبر المبادئ التي اتبعتها بلادهم مشرفة ولا يروق لهم أبداً رؤية أمريكا في المدى القريب ذليلة، وكان على الحكومة الجديدة أن تأخذ بعين الاعتبار، ليس فقط سيادة المعارضة للحرب، بل كذلك عليها أن تعتبر قلق العوائل، التي كان أولادها يتألمون، أو قد فارقوا الحياة في سبيل بلادهم، وأن هذه العوائل ذاتها لن تقبل أبداً، بعد تلقي ضربة ما، أن تكون تضحياتهم قد ذهبت سدى.
ويستمر سرد كيسنجر عن المسألة الفيتنامية قائلاً : "إن الهيجان الشعبي في البلاد الذي يسببه الخلاف حول القضية الفيتنامية أتعبني جداً، ولم أوافق على عدد كبير من القرارات التي أوصلتنا إلى مأزق الهند الصينية، غير أني كنت أقدر أن تعييني في هذا المنصب الخطير، كان يفرض علي واجب أن أضع حداً للحرب، بطريقة تتماشى مع عظمة أمريكا، ومع الفكرة التي كان يتمتع بها كل الرجال والنساء، أصحاب الإدارة الخيرة، من احترام لقدرة أمريكا والأهداف التي كانت تسير بموجبها، ومن الأمور الجوهرية ألا تُذل أمريكا ولا تتحطم، لكن يجب عليها مغادرة الأراضي الفيتنامية ضمن شروط يعتبرها خصومها مستقبلاً خياراً قومياً، أقدمت عليه أمريكا في ظلال كرامتها واحترامها لنفسها.
إن مخطط الصلح الذي اقترحته على نيكسون، من خلال مذكرة أرسلت بها إليه، كان أبعد بكثير من كل الاقتراحات التي أعطيت ضمن الحكومة، أو غيرها مما قيل في هذا المجال من قبل معظم وفودنا المفاوضة، فقد كان هذا المخطط يتجاوز اقتراحات البرنامج المعتدل، الذي رُفض قبل ثمانية أشهر من قبل المؤتمر الديموقراطي، وكان يتضمن إيقاف إطلاق النار، الذي عارضه البنتاجون بشدة حتى الآن، وكان يشمل كذلك انسحاباً إجمالياً للقوات ( دون النظر إلى القوات المتبقية ) وكان يوافق على السماح لجبهة التحرير الوطنية أن تقوم بدور في الحياة السياسية في سايغون، وكنا نعرف القليل عن هانوي في هذه الفترة، لتفهم ما كان يريده حكامها، فلم يكن ذلك وقف إطلاق نار بأكثر مما هو انتصار، وأن الذي يهمهم كان الاستيلاء على السلطة لا القيام بدور في انتخابات حرة.
وننتقل مع كيسنجر إلى الشرق الأوسط والاستراتيجية الأمريكية هناك، فيقول "لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الشرق الأوسط عند استلامي الوظيفة، ما نعمت بزيارة أي بلد عربي، وما اعتدت أبداً على طريقة المفاوضات في الشرق الأوسط، وخلال حفلة عشاء أقيمت في شهر شباط من عام 1969 في سفارة بريطانيا العظمى، سمعت لأول مرة صيغة أساسية للعلاقات الدبلوماسية في الرقم ـ 242 ـ الصادر عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وأتبعها ببعض كلمات حول ضرورة إقامة سلام عادل وثابت بموجب الحدود الآمنة والمعترف بها فظهر لي ذلك وكأنه كليشيه، وتجاسرت فاتهمت قائلها أنه يهزأ بي، وحين سنحت لي الظروف بترك منصبي، أصبحت خبيراً في شؤون الشرق الأوسط، وأضحت الكلمات الحقيقية، صيغتها وكنهها يشكلان وحدة، ووجدت نفسي منهمكاً ومنغمساً في غموض وانفعال وحقد لهذه المنطقة. وحتى عام 1969 فإن اتصالاتي الشخصية الوحيدة مع هذه المنطقة كانت عبارة عن ثلاث زيارات قصيرة خاصة إلى إسرائيل.
ويرى كيسنجر أن نزاع الشرق الأوسط لا يعود إلى آلاف السنين، كما يزعمون غالباً، أنه حصيلة القرن العشرين حصراً، وبالحقيقة فإن الحركات الصهيونية والعربية القومية ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها لم تكن موجهة ضد بعضها البعض، ووجب علينا أن ننتظر زوال الاستعمار البريطاني الذي جاء بعد أجيال من التسلط العثماني، حتى أن اليهود والعرب، الذين كانوا حتى هذا التاريخ في تعايش سلمي، يأخذون في عراك مميت حول مستقبل سياسي لهذه الأرض.
لقد جعل العصر الحاضر من هذا النزاع مصدراً لجميع الشرور، وأن ضحايا اليهود التي أقدم عليها الحكم النازي، أضفت طابعاً معنوياً لتشكيل دولة يهودية، ولم تنشأ هذه الدولة وتعترف بها الجمعية العالمية عام 1947 إلا بعد أن دافعت عن استقلالها، ضد جيرانها العرب، الذين لم يبالوا بعدد الضحايا التي قدموها في سبيل قهر البغي الأوروبي، ومن جهة أخرى فإن غلبة إسرائيل في حرب الأعوام 1948 ـ 1949 ، أذكى نار القومية العربية بقدر ما كانت النظم التقليدية، التي أفقدتها الهزيمة الثقة، تخضع للإيديولوجية الراديكالية حول توحيد العرب والاشتراكية، ثم أصبحت المنطقة أرضاً خصبة لحرب باردة، الأمر الذي هيج النزاع المحلي حتى أوشك أن تجري فيه مجابهة عظمى بين القوات الأجنبية.
ويُرجع كيسنجر تعميق نزاع الشرق الأوسط إلى وجهات النظر المتعارضة حيث منعت كل مساومة حقيقية، لأن كل فريق كان يسعى إلى الوصول لأول أهدافه حتى قبل البدء بالمفاوضات، وتؤكد مصر أن الانسحاب الإسرائيلي يجب أن يسبق أي إنجاز أو مفاوضة للبنود الأخرى، وإسرائيل من جهتها كانت تطالب ببدء مفاوضات مباشرة، ستكون لها فائدة كبرى في تسريع الاعتراف بها ولو ضمنياً، وتقليص خطر تدخل قوة عظمى.
إن الشعور الذي كان يهيمن على أفكار كل طرف كان مؤثراً، إسرائيل تطالب "بسلام ثابت ودائم"، وما دامت هي البلد الوحيد الذي لم يعرف السلام، كان يمكنها إضفاء أهمية كبرى على هذه العبارة، وفي الواقع ماذا يعني "سلام ثابت" بين شعوب ذات سيادة، عندما يكون شعار السيادة هو فعلاً تبديل قرارات؟
4/10/2009
جاءت شهرة السياسي هنري كيسنجر في منطقة الشرق الأوسط بعد أن تولى ملف المنطقة لكي يعيد هندستها وصياغتها وفق مخططات السياسة الأمريكية، ويقول كيسنجر إنه قبل توليه هذا الملف لم يكن يعرف شيئاً عن المنطقة، ولم يزر أي بلد عربي قبل ذلك، وعلى عادة الأمريكان، الذين يفضلون الصراحة خاصة فيما يتعلق بالزعماء العرب الذين يفضلون على العكس السرية في العلاقات، فإن مذكرات كيسنجر والتي نعرض لها اليوم في "السياسي" تحمل الكثير من الأسرار التي نطلع عليها لأول مرة.
ويعتبر كيسنجر حجة ودليلاً في التعامل مع المنطقة الملتهبة في العالم، والتي يُطلق عليها الشرق الأوسط، وفي الجزء الأول من هذه المذكرات، نتعرف على التكوين الأول والمراحل التي مر بها كيسنجر، حتى يرقى إلى مصاف المفكرين السياسيين في التاريخ الأمريكي والأوروبي، ويُذكر اسمه بجوار شخصيات بارزة في الدبلوماسية العالمية من أمثال بسمارك ومترنيخ، فهو شخصية متعددة الاتجاهات، وله مساهمات مهمة في التاريخ والسياسة الدولية، وصاحب رؤية نقدية في السياسة الأمريكية على وجه الخصوص، ويختلف كيسنجر عن الخمسة وأربعين وزيراً للخارجية الأمريكية الذين سبقوه في أن سياسته إنما تتأسس على نظرية محددة، وليست على مجرد الاستجابة اليومية للأحداث.
وفي مذكراته نتابع أهم الأحداث التي مرت في حياته، التي كتبها بقلمه، تحت عنوان "مذكرات ـ هنري كيسنجر"، وترجمة عاطف أحمد عمران، وصدرت عن الأهلية للنشر والتوزيع ـ المملكة الأردنية الهاشمية ـ الطبعة الثانية 2008، ويبدأ كيسنجر سرد مذكراته منذ توليه منصب مستشار شؤون الأمن، للرئيس نيكسون، فيقول:
"في الحقيقة كان عليّ أن أتعايش مع واجباتي، ووجب عليّ البدء بتأسيس التحليل والتخطيط اللذين وعد بهما الرئيس في حملته الانتخابية، حصلت على قسم من معلوماتي بأخذ رأي الكثير من الرجال والنساء الذين لعبوا دوراً هاماً خلال حكم أيزنهاور، وكينيدي وجونسون. يجب القول إن السياسة الخارجية بعد الحرب قام بها بنشاط رجال ذوو اعتبار، خصصوا أنفسهم لوطنهم مثل: ين أشيسون، دافيد بروس، اللزوورت بونكر، أفريك هاريمان، جون ماك كلوي، روبرت لوفق، دوجلاس ديللون، كانوا رجال موهبة فريدة، ينتمون لنوع من الأرستقراطية التي جعلت نفسها في خدمة الأمة تحت اسم مبادئ أرفع من التناصر الحزبي.
سافر كيسنجر مع الرئيس نيكسون إلى أوروبا لإقامة علاقات ثقة مع الحكام الأوروبيين، والسعي لتحرير الولايات المتحدة من الأوروبية الداخلية، وكان الهدف تهدئة الأوروبيين حول موضوع تواطؤ أمريكي ـ سوفيتي كانوا يحسبون حسابه، وأكد نيكسون على أعضاء حلف شمال الأطلسي بوجوب المساهمة المنصفة في نفقات الحلف الأطلسي، ويوضح كيسنجر هذا الأمر بقوله:
"من الثابت أن زيارة بسيطة من الرئيس أو تبادل وجهات النظر مع الحكام الأوروبيين لا تكفي للتغلب على روح المعارضة الكائنة في حلف الأطلسي، وبين الخوف من تسوية أمريكية ـ سوفيتية، والرغبة في الانفراج، وبين الاندفاع في تجهيز جيش قوي، ومحاولة تكريس القوى العسكرية للبرامج الداخلية وبين الرغبة في رؤية الفرق الأمريكية باقية في أوروبا، ومن خوف رؤية الدفاع في أوروبا تقوم به قوى استراتيجية أمريكية ليست مشتركة في حلق شمال الأطلسي، وكل هذه القضايا قد طُرحت، وكان أمامنا مدة حكم رئاسي طويل لوضع حلول لها وإعطاء الجواب عنها".
ويستطرد كيسنجر في توضيح العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي اتسمت بالاضطراب والتقلبات، ويتضح مفهومه العام في قوله "كنت أبني وجهة نظري على مفهومي العام لوجهة السياسة الخارجية، إذ كنت أعتبر أن علاقتنا، مع من نتوقع معاداتهم، يجب أن تكون إمكانيات الانفراج مع كل منهم أكبر مما هي عليه بينهم، وإذا توصلنا يوماً إلى إعتاق سياستنا من جمود عشرين سنة، فإن كل قوة عظمى شيوعية، ستطالب بإقامة علاقات ثقافية معنا".
كان نيكسون يعتقد أن الانفتاح على الصين سيسمح له بالضغط على الروس للحد من تأييدهم لفيتنام، أما أنا فكنت أهتم كثيراً بأثر هذا الانفتاح الحاسم على بنية العلاقات الدولية. يقول كيسنجر "كان نيكسون يميل إلى الاعتقاد أن في وضع حد لعزلة ثمانمائة مليون صيني يجنب السلام تهديداً خطيراً، وبتقديري أن نشاط الصين في السياسة الخارجية يتطلب منا سياسة دقيقة وتوجيهها في اتجاه معقد ربما أثر على مجموع العلاقات الدولية، لكن هذه الاختلافات في وجهة النظر كانت ترتكز على التفكير الأساسي ذاته: علاقات ثلاثية بين الاتحاد السوفيتي والصين والولايات المتحدة تكون لمصلحة السعي لإيجاد السلام، وتلاقينا كلانا في النتيجة ذاتها".
وعن السياسة الدفاعية والتوازن الاستراتيجي يقول كيسنجر "البحث عن القدرة ليس سوى بداية السياسة ولا يمكن أن يكون غاية بذاته، وإذا لم تكن القوة بجانبها، فإن جميع الأهداف، مهما كانت شريفة بحد ذاتها، توشك أن تسحق من قبل الأنظمة لدى الآخرين".
ويستمر كيسنجر، ذلك المحلل التاريخي السياسي، في الكشف عن السياسة الأمريكية، فيقول "كنا نعتقد، طيلة أكثر من قرن، أن لا حاجة بنا للاهتمام بالمشاكل الاستراتيجية ما دام محيطان يحميان حدودنا، وتخيلنا لقاء ذلك من قدرات كبيرة أخرى، كنا نلزم أنفسنا بها، بفضل سلامة تحركاتنا، وبما أن أهميتنا في العالم كانت مستقلة عن قدرتنا المادية، وكان لدينا الميل على ترك عزلتنا، والانخراط في التزامات مفاجئة، كانت غاية جميعها أدبية، حتى أن جهودنا العسكرية كانت معنوية وكانت ترتكز كثيراً على المنطق الرمزي أكثر مما هو على الجغرافية السياسية، وعندما كنا نخوض حروباً كان علينا بوجه عام كسب الانتصار في وسائلنا أكثر مما يكون سبب الغلبة من جرأتنا أو مهارتنا الاستراتيجية".
ويواصل كيسنجر حديثه عن التوازنات الاستراتيجية والمشكلة النووية فيقول "وجهت كتاباً للرئيس، اختصرت له فيه هذه الخيارات مع إمكانيات تطبيقها في الموازنة، وكان للأجهزة الوزارية، وجهات نظر مختلفة، أوردتها فيه أيضاً بدقة، لكن الرئيس كان يرغب كعادته في معرفة رأيي، عندما تُعرض عليه خيارات عدة: ( تأمين دفاع مبدئي لمدة 90 يوماً عن أوروبا الغربية ضد هجوم سوفيتي ـ تأمين دفاع مستمر ضد هجوم عام من قبل الصين في آسيا الجنوبية الشرقية أو في كوريا ـ مواجهة أي حدث يطرأ في موضع آخر، في الشرق الأوسط مثلاً )، فأكدت عليه أن يتبع الاستراتيجية الثانية "إذ إني أعتقد بعد احتمال هجوم تقليدي من حلف وارسو في أوروبا والصين في آسيا في آن واحد، وعلى كل الأحوال لم أكن أفكر أن هجوماً كهذا إذا حصل، تمكن مقابلته بأسلحة أرضية. اتبع الرئيس نيكسون نصيحتي وهذا كان أعظم قرار اتخذه طيلة مدة ولايته.
ثم يأتي الحديث عن فيتنام والتي يتحدث عنها هنري كيسنجر في مرارة وألم وحزن عميق، فيقول "ذهب أسلافنا إلى تلك الأرض بنية ورغبة صادقين، وهم على اقتناع أن هذه الحرب الأهلية القاسية، كانت تظهر الجهة المرئية من مخطط تكافؤ عالمي وقد تبين لهم بعد أربع سنوات من القتال، أنهم كانوا غير قادرين على اختطاط استراتيجية تعطيهم الغلبة، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك، اليوم، أن الوصول إلى النصر مستحيل، لقد حاولوا كثيراً البرهنة عن قوة وصدق أمريكا بصورة ملموسة، لكنهم لم يجربوا وضع أي حد لمغامرتهم، وخلال السنة الأخيرة من حكم جونسون، كان الشيوعيون قد قاموا بهجوم عام في كل البلد، هناك أخصائيون قليلون بهذا الأمر، ينكرون اليوم أن ذلك كان هزيمة ساحقة، لكن عظمتها والتضحية التي كانت تتطلبها جعلتا منها نصراً سيكولوجياً، وفي غمرة التأثير الحاسم لهجوم رأس السنة الفيتنامية بدأنا بتقليل القصف على الشمال، قبل إيقافه كلياً، دون الحصول على شيء من الجانب الآخر، سوى افتتاح مفاوضات، أصبح خصمنا اللدود من جرائها في مأزق، وأخذ الرأي العام ينكر علينا خوض حرب، ليس فقط لن ننتصر فيها بل أيضاً لا نستطيع إيقافها".
عزم نيكسون، منذ بداية توليه الحكم، على وضع حد لالتزامنا في فيتنام لكنه اصطدم سريعاً، بالحقيقة التي كانت قد دمرت سلفه، علماً أنه منذ ما يقرب من جيل فإن أمن وتقدم الشعوب الحرة، كانا يتوقفان على الثقة بأمريكا، وكيف السبيل للخلاص من مغامرة غاصت في مستنقعها حكومتان وخمس دول متحالفة، وحيث كانت سبب موت واحد وثلاثين ألف رجل، ولم يكن أسهل من إدارة زر مذياع لتغيير برنامج !
كان ينصحنا الكثيرون، باتخاذ دي جول مثالاً لنا ونحذو حذوه، لكنهم كانوا يتناسون أن دي جول بالذات، قضى أربعة أعوام حتى تمكن من وضع حل للقضية الجزائرية، معتبراً أن من الأهمية بمكان، أن تخرج فرنسا من هذه التجربة، وهي محافظة على تلاحمها الداخلي وبنيتها الدولية كاملين، وكان انسحاب فرنسا مجرد عمل سياسي، لا انهياراً، ونتيجة قرار قومي لا هزيمة.
كان الشعب الأمريكي يتمنى إنهاء الحرب، لكن كل الاستفتاءات ـ بما فيها انتخابات نيكسون ـ كانت تُظهر أن الشعب الأمريكي يعتبر المبادئ التي اتبعتها بلادهم مشرفة ولا يروق لهم أبداً رؤية أمريكا في المدى القريب ذليلة، وكان على الحكومة الجديدة أن تأخذ بعين الاعتبار، ليس فقط سيادة المعارضة للحرب، بل كذلك عليها أن تعتبر قلق العوائل، التي كان أولادها يتألمون، أو قد فارقوا الحياة في سبيل بلادهم، وأن هذه العوائل ذاتها لن تقبل أبداً، بعد تلقي ضربة ما، أن تكون تضحياتهم قد ذهبت سدى.
ويستمر سرد كيسنجر عن المسألة الفيتنامية قائلاً : "إن الهيجان الشعبي في البلاد الذي يسببه الخلاف حول القضية الفيتنامية أتعبني جداً، ولم أوافق على عدد كبير من القرارات التي أوصلتنا إلى مأزق الهند الصينية، غير أني كنت أقدر أن تعييني في هذا المنصب الخطير، كان يفرض علي واجب أن أضع حداً للحرب، بطريقة تتماشى مع عظمة أمريكا، ومع الفكرة التي كان يتمتع بها كل الرجال والنساء، أصحاب الإدارة الخيرة، من احترام لقدرة أمريكا والأهداف التي كانت تسير بموجبها، ومن الأمور الجوهرية ألا تُذل أمريكا ولا تتحطم، لكن يجب عليها مغادرة الأراضي الفيتنامية ضمن شروط يعتبرها خصومها مستقبلاً خياراً قومياً، أقدمت عليه أمريكا في ظلال كرامتها واحترامها لنفسها.
إن مخطط الصلح الذي اقترحته على نيكسون، من خلال مذكرة أرسلت بها إليه، كان أبعد بكثير من كل الاقتراحات التي أعطيت ضمن الحكومة، أو غيرها مما قيل في هذا المجال من قبل معظم وفودنا المفاوضة، فقد كان هذا المخطط يتجاوز اقتراحات البرنامج المعتدل، الذي رُفض قبل ثمانية أشهر من قبل المؤتمر الديموقراطي، وكان يتضمن إيقاف إطلاق النار، الذي عارضه البنتاجون بشدة حتى الآن، وكان يشمل كذلك انسحاباً إجمالياً للقوات ( دون النظر إلى القوات المتبقية ) وكان يوافق على السماح لجبهة التحرير الوطنية أن تقوم بدور في الحياة السياسية في سايغون، وكنا نعرف القليل عن هانوي في هذه الفترة، لتفهم ما كان يريده حكامها، فلم يكن ذلك وقف إطلاق نار بأكثر مما هو انتصار، وأن الذي يهمهم كان الاستيلاء على السلطة لا القيام بدور في انتخابات حرة.
وننتقل مع كيسنجر إلى الشرق الأوسط والاستراتيجية الأمريكية هناك، فيقول "لم أكن أعرف الشيء الكثير عن الشرق الأوسط عند استلامي الوظيفة، ما نعمت بزيارة أي بلد عربي، وما اعتدت أبداً على طريقة المفاوضات في الشرق الأوسط، وخلال حفلة عشاء أقيمت في شهر شباط من عام 1969 في سفارة بريطانيا العظمى، سمعت لأول مرة صيغة أساسية للعلاقات الدبلوماسية في الرقم ـ 242 ـ الصادر عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة، وأتبعها ببعض كلمات حول ضرورة إقامة سلام عادل وثابت بموجب الحدود الآمنة والمعترف بها فظهر لي ذلك وكأنه كليشيه، وتجاسرت فاتهمت قائلها أنه يهزأ بي، وحين سنحت لي الظروف بترك منصبي، أصبحت خبيراً في شؤون الشرق الأوسط، وأضحت الكلمات الحقيقية، صيغتها وكنهها يشكلان وحدة، ووجدت نفسي منهمكاً ومنغمساً في غموض وانفعال وحقد لهذه المنطقة. وحتى عام 1969 فإن اتصالاتي الشخصية الوحيدة مع هذه المنطقة كانت عبارة عن ثلاث زيارات قصيرة خاصة إلى إسرائيل.
ويرى كيسنجر أن نزاع الشرق الأوسط لا يعود إلى آلاف السنين، كما يزعمون غالباً، أنه حصيلة القرن العشرين حصراً، وبالحقيقة فإن الحركات الصهيونية والعربية القومية ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها لم تكن موجهة ضد بعضها البعض، ووجب علينا أن ننتظر زوال الاستعمار البريطاني الذي جاء بعد أجيال من التسلط العثماني، حتى أن اليهود والعرب، الذين كانوا حتى هذا التاريخ في تعايش سلمي، يأخذون في عراك مميت حول مستقبل سياسي لهذه الأرض.
لقد جعل العصر الحاضر من هذا النزاع مصدراً لجميع الشرور، وأن ضحايا اليهود التي أقدم عليها الحكم النازي، أضفت طابعاً معنوياً لتشكيل دولة يهودية، ولم تنشأ هذه الدولة وتعترف بها الجمعية العالمية عام 1947 إلا بعد أن دافعت عن استقلالها، ضد جيرانها العرب، الذين لم يبالوا بعدد الضحايا التي قدموها في سبيل قهر البغي الأوروبي، ومن جهة أخرى فإن غلبة إسرائيل في حرب الأعوام 1948 ـ 1949 ، أذكى نار القومية العربية بقدر ما كانت النظم التقليدية، التي أفقدتها الهزيمة الثقة، تخضع للإيديولوجية الراديكالية حول توحيد العرب والاشتراكية، ثم أصبحت المنطقة أرضاً خصبة لحرب باردة، الأمر الذي هيج النزاع المحلي حتى أوشك أن تجري فيه مجابهة عظمى بين القوات الأجنبية.
ويُرجع كيسنجر تعميق نزاع الشرق الأوسط إلى وجهات النظر المتعارضة حيث منعت كل مساومة حقيقية، لأن كل فريق كان يسعى إلى الوصول لأول أهدافه حتى قبل البدء بالمفاوضات، وتؤكد مصر أن الانسحاب الإسرائيلي يجب أن يسبق أي إنجاز أو مفاوضة للبنود الأخرى، وإسرائيل من جهتها كانت تطالب ببدء مفاوضات مباشرة، ستكون لها فائدة كبرى في تسريع الاعتراف بها ولو ضمنياً، وتقليص خطر تدخل قوة عظمى.
إن الشعور الذي كان يهيمن على أفكار كل طرف كان مؤثراً، إسرائيل تطالب "بسلام ثابت ودائم"، وما دامت هي البلد الوحيد الذي لم يعرف السلام، كان يمكنها إضفاء أهمية كبرى على هذه العبارة، وفي الواقع ماذا يعني "سلام ثابت" بين شعوب ذات سيادة، عندما يكون شعار السيادة هو فعلاً تبديل قرارات؟