على
08-17-2004, 10:22 PM
الفتوى التي أصدرها المرجع الشيعي بتحريم التعامل بأية صورة مع الذين انتهكوا حرمة مدينة النجف تثير سؤالاً كبيراً حول موقف الفقه الجعفري من الذين انتهكوا عرض العراق كله. ليس ذلك فحسب، وإنما يستدعي المشهد الدامي الذي طالعناه في العراق خلال الأسبوعين الأخيرين عديداً من الأسئلة المدببة الأخرى، التي ينبغي أن تبسط على الملأ، حتى وإن لم نعثر على اجابة مقنعة لها.
(1)
صاحب الفتوى التي تناقلتها وسائل الإعلام يوم الجمعة الماضي (13/8) هو آية الله محمد حسين فضل الله، الذي كان قد أدان الحملات العسكرية الأمريكية على المدن العراقية الأخرى، واعتبرها «جريمة إنسانية». ولأن المراجع لا يلقون الكلام على عواهنه، فقد لاحظت في تصريحاته تفاوتاً في تقييم الانتهاكات الامريكية. اذ في حين اعتبر اجتياح النجف «الاشرف» إثماً وعدواناً على المقدس، استحق اطلاق تحريم التعامل مع مرتكبيه، فانه صنف استباحة المدن الاخرى بحسبانها «جريمة انسانية» وسياسية تستحق الادانة والتنديد فقط. وهذا الاختلاف مفهوم، باعتبار القداسة التي تتمتع بها النجف في الوجدان الشيعي، من جراء احتوائها على رفات الامام علي بن ابي طالب. وهو موقف ربما كان مقبولاً اذا كان الاختلاف الذي نحن بصدده في الدرجة وليس في النوع، بمعنى ان تضفى القداسة على كرامة البشر الذين يسكنون الوطن بكل مدنه، ثم يكون لتلك القداسة موقعاً متميزاً فيما يتعلق ببعض الاماكن نظراً لخصوصيتها في اطار المذهب. من ثم فليس لنا اعتراض على تشديد الحكم فيما يتعلق بالنجف الاشرف، وانما تحفظنا على عدم شمول المدن العراقية الاخرى بذلك التشديد.
ولست اخفي انني في ذلك انطلق من المفهوم الشرعي الذي يشدد في الدفاع عن ديار الاسلام كافة اذا ما تعرضت للغزو والاحتلال، ويعلي في الوقت ذاته من شأن كرامة الانسان المنصوص عليها صراحة في القرآن، ومن ثم يضفي قداسة على تلك الكرامة، ويقدمها على اي مكان مهما كانت قيمته. واذكًّر هنا بما سبق ان اشرت اليه في سياق اخر حين هم النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة الى الحبشة، فنظر الى الكعبة ملياً وقال: ما اعظمك وما اعظم حرمتك عند الله. ثم اضاف: والذي نفسي بيدي لمحجمة (اناء صغير بحجم عقلة الاصبع) من دم امرىء مسلم اعظم حرمة عند الله منك.
هذا النص الاخير يقرر صراحة ان حرمة دم المسلم اعظم درجة عند الله من الكعبة ذاتها، التي هي اقدس مكان عند المسلمين. اكرر انها مقدسة لا ريب، ولكن الدم المسلم اعلا درجة منها عند الله. وهو منطوق اذا قمنا بتنزيله على الواقع الذي نحن بصدده فسوف يعني ان دم اي انسان اهدر في العراق اقدس عند الله من اي مكان مقدس آخر، تستوي في ذلك النجف مع الفلوجة والانبار والحلة والبصرة. وهي كلها من ديار الاسلام التي يظل الدفاع عنها واجباً شرعياً بامتياز.
(2)
لماذا كانت غيرة مراجع الشيعة على الطائفة ومقدساتها اكبر من غيرتهم على الوطن وناسه؟
السؤال يشغلني منذ بداية الاحتلال. حين لاحظت، ولاحظ معي كثيرون، ان مراجع الشيعة اتخذوا موقفاً مهادناً للاحتلال بدرجات متفاوتة. او قل ان موقفهم لم يكن بالقوة والحزم المعهودين والمنتظرين منهم، على النحو الذي شهدناه ضد الولايات المتحدة في ايران وضد الاسرائيليين في لبنان. صحيح ان منهم من عبر عن الاستياء والنفور بأشكال مختلفة (آية الله علي السيستاني رفض مقابلة ممثلي سلطة الاحتلال)، الا اننا لم نجد أحداً منهم انحاز صراحة الى موقف مقاومة الاحتلال، باستثناء السيد مقتدى الصدر، الذي ليس مرجعاً دينياً لكنه استطاع ان يفرض نفسه كمرجعية سياسية.
سواء كان الحذر من جانب المراجع الشيعية نابعاً من الحرص على تحقيق مكاسب سياسية للطائفة في ظل الوضع الجديد، او كان مجاملة لايران التي كانت لها حساباتها الخاصة في التعامل مع الوجود الامريكي وتأييد اسقاطه للنظام السابق. فالشاهد ان موقف المرجعية ظل متراوحاً بين المهادنة والالتباس. وفي الحالتين فان موقعها في خندق مقاومة الاحتلال ظل شاغراً طوال السبعة عشر شهراً الماضية على الاقل.
لعلك لاحظت انني كررت الاشارة الى «المراجع الشيعية»، لانني ازعم ان الجماهير الشيعية اختارت موقفاً اكثر تقدماً من المراجع، بل وكانت عنصراً ضاغطاً على المراجع ليس في العراق فحسب، وانما في ايران ولبنان أيضاً. ودون الدخول في تفاصيل لا مجال للافصاح عنها الان، فان قطاعات وهيئات تمثل تلك الجماهير، انحازت الى المقاومة، واختارت ان تأخذ مكانها في الصف الوطني، متجاوزة الحسابات المذهبية ومعادلات اللعبة السياسية. وقد وجد هؤلاء في السيد مقتدى الصدر النموذج الذي يمثلهم، فكان الالتفاف الكبير حوله في داخل العراق وخارجه.
يقتضينا الانصاف ان نقرر ان موقف السيد فضل الله الذي حرم التعامل مع المسؤولين عن استباحة النجف يظل افضل نسبياً من موقف مراجع الشيعة الاخرين الذين التزموا الصمت ازاء ما جرى. ومن تحدث منهم في الموضوع ظل يتحرك في اطار الادانة السياسية، أحياناً من باب رفع العتب وابراء الذمة. ويستوقف المرء في هذا الصدد البيان الذي صدر في 11/8 باسم اية الله علي السيستاني المتواجد في لندن للعلاج، ووجه فيه الدعوة الى «جميع الاطراف ذات العلاقة للعمل بجدية من اجل انهاء الازمة في اسرع وقت، ووضع أسس تضمن عدم تكرارها مستقبلاً» - وهو كلام دبلوماسي قد يظن لاول وهلة انه صادر عن كوفي عنان الامين العام للامم المتحدة.
لا يفوتنا في هذا الصدد ان نذكر بأن هيئة علماء المسلمين (السنة) اصدرت في اليوم التالي مباشرة (12/8) فتوى مهمة بخصوص اجتياح النجف نصَّت على انه «لا يجوز لمسلم ان يتعاون مع قوات الاحتلال في قتل اخوانه واهل بلده، سواء انتسب الى الحكومة العراقية او الى اي جهة اخرى». وفهم ان الفتوى موجهة الى رجال الشرطة والدفاع المدني الذين ارادت قيادة الاحتلال ان تستخدمهم في قمع مقاومة الجماهير العراقية في مختلف المدن.
(3)
هل هي مصادفة، ان تختفي المراجع الشيعية من العراق، بحيث يصبح مقتدى الصدر وحيداً في مواجهة الاحتلال والحكومة التي نصبها، بحيث يغدو الاختفاء عذراً شكلياً يسقط التكليف عن المراجع في تحديد موقف من حركته وتياره؟
اختفاء المراجع يبعث على الارتياب، ورغم ان السيد السيستاني الذي يعد المرجع الشيعي الاعلى هو الوحيد الذي اعلن عن المكان الذي ذهب اليه، الا ان أحداً لم يعد يعرف اين يوجد الباقون.
حتى فيما يخص السيد السيستاني فان سفره الى لندن في الظرف الراهن تحيط به عدة علامات استفهام. ذلك ان الرجل لم تكن حالته خطيرة على النحو الذي يستدعي سفره المفاجىء بينما القوات الامريكية تزحف نحو النجف لاقتحام اهم مقدسات الشيعة، وتصفية الصدر وحركته. ثم انه كان مستغرباً بالنسبة لمن في مكانته ان يختار لندن لكي يعالج فيها، متجاهلاً ان بريطانيا هي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في عملية غزو العراق وتدميره. حيث كان متوقعاً من رمز مثله الا يضع نفسه في هذا الموقف، خصوصاً ان علاج حالة القلب التي يشكو منها ليست من النوع الجسيم او المستعصي، ومن ثم يمكن ان يتم في اي بلد اوروبي آخر.
يعزز الرأي القائل بان حالته ليست خطرة، انه وهو متجه الى لندن توقف في بيروت وعقد لقاء استمر سبعين دقيقة مع السيد نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة «امل» التي اغلب اعضائها من مقلدي السيستاني. وقالت الصحف البيروتية ان اللقاء الذي احيط بسرية تامة تناول الموضوع العراقي وتداعياته. وفي اعقابه ذكرت تلك الصحف ان القيادات الشيعية اللبنانية، شكلت «خلية طوارىء» لمتابعة الاوضاع المتدهورة هناك، وان السيد نبيه بري بدأ باجراء اتصالات لتسوية الازمة.
انك اذا وضعت غياب المراجع عن العراق، جنباً الى جنب مع اغلاق مكتب قناة «الجزيرة» في العاصمة العراقية، ثم اضفت القرار الذي صدر بعدم التصريح للصحفيين بدخول النجف الاشرف وتقييد حركتهم في العراق. فلن تحتاج الى جهد كبير لكي تدرك ان القيادة الامريكية قررت ان تستفرد بالسيد مقتدى الصدر وتصفي قواته (جيش المهدي) الذي سبب لها ازعاجاً خاصاً، وفي الوقت نفسه فانها ارادت ان تحجب حقيقة الاجتياحات والمداهمات والقصف التي تقوم بها عن الرأي العام في العالم الخارجي.
(4)
ما علاقة ذلك كله بانتخابات الرئاسة الامريكية؟
العلاقة وثيقة للغاية، لان المستقبل السياسي للرئيس بوش اصبح مرهوناً بما يحدث في العراق خاصة والشرق الاوسط بوجه عام. وفوزه او فشله في الانتخابات معلق على مدى الهدوء او الانجاز الذي تشهده تلك الساحات. الامر الذي يمكنه من الادعاء بأنه حقق نجاحاً هناك، وان مهمته الرسالية التي شن من اجلها الحرب وحشد لها 160 الف جندي صار لها مردودها الملموس. وذلك هو الرد الوحيد الذي يمكن ان يصد به الحملات الموجهة اليه الان من كل صوب، متهمة سياسته الخارجية بالفشل، اضافة الى تلك الحملات التي ركزت على كذب الادعاءات التي استند اليها في قراره غزو العراق واحتلاله.
ولان الامر كذلك فان الرئيس بوش يبحث الان عن اي نجاح او انجاز في المنطقة. واذا لم يتوفر له ذلك النجاح المنشود فلا اقل من ان يسعى الى التستر على دلائل الفشل. آية ذلك ان مجلة «ذي نيو ريبابليك» الامريكية نشرت في 19/7 ان الادارة الامريكية مارست ضغوطاً كبيرة على الرئيس الباكستاني برويز مشرف للحصول منه على «هدية» للرئيس بوش في وقت انعقاد مؤتمر الحزب الديموقراطي (ما بين 27 و 29/7)، تكون عبارة عن تصفية او القبض على احد الاهداف القيمة الثلاثة في تنظيم القاعدة ـ والوصف للمجلة ـ اسامة بن لادن او ايمن الظواهري او الملا محمد عمر.
كان الهدف من «الهدية» المطلوبة هو توجيه ضربة الى مؤتمر الحزب الوطني. ولمرشحه جون كيري، قبل ان يصبح مؤتمر الحزب مسرحاً للتنديد بفشل سياسة الرئيس بوش الخارجية، لم تقصر الحكومة الباكستانية في القيام بما يلزم. فشنّ الجيش حملة واسعة في منطقة القبائل، وعلى الحدود الافغانية الباكستانية. ولم تجد حكومة الرئيس مشرف ما تقدمه لادارة بوش سوى الاعلان في 30/7 عن اعتقال شاب تنزاني اسمه احمد خليفة غيلاني، قدم باعتباره «احد اعضاء القادة البارزين» في تنظيم القاعدة. والمسؤول المباشر عن تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا.
في الوقت ذاته ليس سراً ان الادارة الامريكية قلقة للغاية من عدم الاستقرار في افغانستان والعراق. فقد فشل الرئيس حامد كرزاي في ان يجري الانتخابات الرئاسية في شهر يونيو الماضي، واجل الموعد الى شهر اكتوبر المقبل. ورغم عدم الاستقرار السياسي والامني في البلاد، الا انه كان مطلوباً منه ان ينجز هذه الخطوة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الامريكية. شريطة ان يفوز الرئيس كرزاي!!، ليكون ذلك دليلاً على نجاح سياسة الرئيس بوش في افغانستان. ولم تخف صحف الاسبوع الماضي ان زيارة وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد لكابول كان هدفها الرئيسي دفع هذه العملية وتعزيز موقف الرئيس كرزاي، الذي لم يعد يحظى بتأييد حلفائه الاصليين من الطاجيك، في حين ان اغلب البشتون يعارضونه، ويعتبرون حركة طالبان اكثر تمثيلاً لحضورهم القبلي.
أما العراق فقد تحول الى شوكة في خاصرة الادارة الامريكية بسبب استمرار المقاومة وشيوع الفوضى في البلاد، وفشل الحكومة في السيطرة على الاوضاع، ومقاطعة القوى السياسية للمؤتمر الوطني الذي دعت اليه لتكتسب منه بعض الشرعية. واكثر ما يقلق واشنطن ان ينضم الشيعة الى المقاومة، وهي التي راهنت طوال الوقت على تسكين ما سمي بالبيت الشيعي، والاستفراد بالسنة. ومن هنا تبدو خطورة حركة مقتدى الصدر، التي تحرص واشنطن على حصارها وتصفيتها بكل قوة، حتى لا تصبح في مواجهة مقاومة عراقية شاملة لا تستطيع مواجهتها. الامر الذي يعني أموراً كثيرة منها دق المسمار الاخير في نعش ادارة الرئيس بوش.
(5)
لا تزال هناك اسئلة اخرى يثيرها المشهد العراقي الراهن، اسجلها دون اجابة من باب لفت النظر الى ابعادها المختلفة، وفي مقدمة تلك الاسئلة ما يلي:
ھ ألا تدل الحوادث الاخيرة في النجف وغيرها من المدن العراقية على ان مقاومة الاحتلال حقيقة لا سبيل الى انكارها، وان الادعاء بانها من فعل متسللين اجانب، او بتحريك ومشاركة من فلول النظام السابق، لا اساس له، وانما اريد به تشويه صورة المقاومة واخفاء الحقيقة عن الناس؟
ھ أليس ما جرى دليلا على فشل المراهنة على التمايز السني الشيعي، وتأكيدا عن ان الوحدة الوطنية العراقية عميقة الجذور بأبعد واقوى مما تصور المغامرون الذين جاءت بهم الولايات المتحدة وفرضتهم ممثلين للطوائف والاعراق؟
ھ إذا استبعدنا فكرة ان قيادة الحكومة الحالية تمثل الشيعة، رغم انتمائها الى المذهب، فلماذا يحسب صدام حسين على السنة، ويقال انه قهر الشيعة بهذه الصفة. وان السنة احتكروا السلطة في العراق طيلة سنوات عهده؟
ھ بأي معيار يمكن ان يصنف الارهاب الحاصل في العراق الان ضمن حملة الحرب على الارهاب، والا يعني السحق الذي يتعرض له العراقيون الان في النجف وسامراء والفلوجة وغيرها، اننا بصدد اعادة انتاج الصدامية بدون صدام حسين؟
ھ أين العالم العربي مما يجري في العراق، وهل صحيح ان عواصمه اصبحت بدورها مشغولة «بدارفور»؟
http://www.alwatan.com.kw/default.aspx?page=5&topic=276889
(1)
صاحب الفتوى التي تناقلتها وسائل الإعلام يوم الجمعة الماضي (13/8) هو آية الله محمد حسين فضل الله، الذي كان قد أدان الحملات العسكرية الأمريكية على المدن العراقية الأخرى، واعتبرها «جريمة إنسانية». ولأن المراجع لا يلقون الكلام على عواهنه، فقد لاحظت في تصريحاته تفاوتاً في تقييم الانتهاكات الامريكية. اذ في حين اعتبر اجتياح النجف «الاشرف» إثماً وعدواناً على المقدس، استحق اطلاق تحريم التعامل مع مرتكبيه، فانه صنف استباحة المدن الاخرى بحسبانها «جريمة انسانية» وسياسية تستحق الادانة والتنديد فقط. وهذا الاختلاف مفهوم، باعتبار القداسة التي تتمتع بها النجف في الوجدان الشيعي، من جراء احتوائها على رفات الامام علي بن ابي طالب. وهو موقف ربما كان مقبولاً اذا كان الاختلاف الذي نحن بصدده في الدرجة وليس في النوع، بمعنى ان تضفى القداسة على كرامة البشر الذين يسكنون الوطن بكل مدنه، ثم يكون لتلك القداسة موقعاً متميزاً فيما يتعلق ببعض الاماكن نظراً لخصوصيتها في اطار المذهب. من ثم فليس لنا اعتراض على تشديد الحكم فيما يتعلق بالنجف الاشرف، وانما تحفظنا على عدم شمول المدن العراقية الاخرى بذلك التشديد.
ولست اخفي انني في ذلك انطلق من المفهوم الشرعي الذي يشدد في الدفاع عن ديار الاسلام كافة اذا ما تعرضت للغزو والاحتلال، ويعلي في الوقت ذاته من شأن كرامة الانسان المنصوص عليها صراحة في القرآن، ومن ثم يضفي قداسة على تلك الكرامة، ويقدمها على اي مكان مهما كانت قيمته. واذكًّر هنا بما سبق ان اشرت اليه في سياق اخر حين هم النبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة الى الحبشة، فنظر الى الكعبة ملياً وقال: ما اعظمك وما اعظم حرمتك عند الله. ثم اضاف: والذي نفسي بيدي لمحجمة (اناء صغير بحجم عقلة الاصبع) من دم امرىء مسلم اعظم حرمة عند الله منك.
هذا النص الاخير يقرر صراحة ان حرمة دم المسلم اعظم درجة عند الله من الكعبة ذاتها، التي هي اقدس مكان عند المسلمين. اكرر انها مقدسة لا ريب، ولكن الدم المسلم اعلا درجة منها عند الله. وهو منطوق اذا قمنا بتنزيله على الواقع الذي نحن بصدده فسوف يعني ان دم اي انسان اهدر في العراق اقدس عند الله من اي مكان مقدس آخر، تستوي في ذلك النجف مع الفلوجة والانبار والحلة والبصرة. وهي كلها من ديار الاسلام التي يظل الدفاع عنها واجباً شرعياً بامتياز.
(2)
لماذا كانت غيرة مراجع الشيعة على الطائفة ومقدساتها اكبر من غيرتهم على الوطن وناسه؟
السؤال يشغلني منذ بداية الاحتلال. حين لاحظت، ولاحظ معي كثيرون، ان مراجع الشيعة اتخذوا موقفاً مهادناً للاحتلال بدرجات متفاوتة. او قل ان موقفهم لم يكن بالقوة والحزم المعهودين والمنتظرين منهم، على النحو الذي شهدناه ضد الولايات المتحدة في ايران وضد الاسرائيليين في لبنان. صحيح ان منهم من عبر عن الاستياء والنفور بأشكال مختلفة (آية الله علي السيستاني رفض مقابلة ممثلي سلطة الاحتلال)، الا اننا لم نجد أحداً منهم انحاز صراحة الى موقف مقاومة الاحتلال، باستثناء السيد مقتدى الصدر، الذي ليس مرجعاً دينياً لكنه استطاع ان يفرض نفسه كمرجعية سياسية.
سواء كان الحذر من جانب المراجع الشيعية نابعاً من الحرص على تحقيق مكاسب سياسية للطائفة في ظل الوضع الجديد، او كان مجاملة لايران التي كانت لها حساباتها الخاصة في التعامل مع الوجود الامريكي وتأييد اسقاطه للنظام السابق. فالشاهد ان موقف المرجعية ظل متراوحاً بين المهادنة والالتباس. وفي الحالتين فان موقعها في خندق مقاومة الاحتلال ظل شاغراً طوال السبعة عشر شهراً الماضية على الاقل.
لعلك لاحظت انني كررت الاشارة الى «المراجع الشيعية»، لانني ازعم ان الجماهير الشيعية اختارت موقفاً اكثر تقدماً من المراجع، بل وكانت عنصراً ضاغطاً على المراجع ليس في العراق فحسب، وانما في ايران ولبنان أيضاً. ودون الدخول في تفاصيل لا مجال للافصاح عنها الان، فان قطاعات وهيئات تمثل تلك الجماهير، انحازت الى المقاومة، واختارت ان تأخذ مكانها في الصف الوطني، متجاوزة الحسابات المذهبية ومعادلات اللعبة السياسية. وقد وجد هؤلاء في السيد مقتدى الصدر النموذج الذي يمثلهم، فكان الالتفاف الكبير حوله في داخل العراق وخارجه.
يقتضينا الانصاف ان نقرر ان موقف السيد فضل الله الذي حرم التعامل مع المسؤولين عن استباحة النجف يظل افضل نسبياً من موقف مراجع الشيعة الاخرين الذين التزموا الصمت ازاء ما جرى. ومن تحدث منهم في الموضوع ظل يتحرك في اطار الادانة السياسية، أحياناً من باب رفع العتب وابراء الذمة. ويستوقف المرء في هذا الصدد البيان الذي صدر في 11/8 باسم اية الله علي السيستاني المتواجد في لندن للعلاج، ووجه فيه الدعوة الى «جميع الاطراف ذات العلاقة للعمل بجدية من اجل انهاء الازمة في اسرع وقت، ووضع أسس تضمن عدم تكرارها مستقبلاً» - وهو كلام دبلوماسي قد يظن لاول وهلة انه صادر عن كوفي عنان الامين العام للامم المتحدة.
لا يفوتنا في هذا الصدد ان نذكر بأن هيئة علماء المسلمين (السنة) اصدرت في اليوم التالي مباشرة (12/8) فتوى مهمة بخصوص اجتياح النجف نصَّت على انه «لا يجوز لمسلم ان يتعاون مع قوات الاحتلال في قتل اخوانه واهل بلده، سواء انتسب الى الحكومة العراقية او الى اي جهة اخرى». وفهم ان الفتوى موجهة الى رجال الشرطة والدفاع المدني الذين ارادت قيادة الاحتلال ان تستخدمهم في قمع مقاومة الجماهير العراقية في مختلف المدن.
(3)
هل هي مصادفة، ان تختفي المراجع الشيعية من العراق، بحيث يصبح مقتدى الصدر وحيداً في مواجهة الاحتلال والحكومة التي نصبها، بحيث يغدو الاختفاء عذراً شكلياً يسقط التكليف عن المراجع في تحديد موقف من حركته وتياره؟
اختفاء المراجع يبعث على الارتياب، ورغم ان السيد السيستاني الذي يعد المرجع الشيعي الاعلى هو الوحيد الذي اعلن عن المكان الذي ذهب اليه، الا ان أحداً لم يعد يعرف اين يوجد الباقون.
حتى فيما يخص السيد السيستاني فان سفره الى لندن في الظرف الراهن تحيط به عدة علامات استفهام. ذلك ان الرجل لم تكن حالته خطيرة على النحو الذي يستدعي سفره المفاجىء بينما القوات الامريكية تزحف نحو النجف لاقتحام اهم مقدسات الشيعة، وتصفية الصدر وحركته. ثم انه كان مستغرباً بالنسبة لمن في مكانته ان يختار لندن لكي يعالج فيها، متجاهلاً ان بريطانيا هي الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في عملية غزو العراق وتدميره. حيث كان متوقعاً من رمز مثله الا يضع نفسه في هذا الموقف، خصوصاً ان علاج حالة القلب التي يشكو منها ليست من النوع الجسيم او المستعصي، ومن ثم يمكن ان يتم في اي بلد اوروبي آخر.
يعزز الرأي القائل بان حالته ليست خطرة، انه وهو متجه الى لندن توقف في بيروت وعقد لقاء استمر سبعين دقيقة مع السيد نبيه بري رئيس مجلس النواب اللبناني وزعيم حركة «امل» التي اغلب اعضائها من مقلدي السيستاني. وقالت الصحف البيروتية ان اللقاء الذي احيط بسرية تامة تناول الموضوع العراقي وتداعياته. وفي اعقابه ذكرت تلك الصحف ان القيادات الشيعية اللبنانية، شكلت «خلية طوارىء» لمتابعة الاوضاع المتدهورة هناك، وان السيد نبيه بري بدأ باجراء اتصالات لتسوية الازمة.
انك اذا وضعت غياب المراجع عن العراق، جنباً الى جنب مع اغلاق مكتب قناة «الجزيرة» في العاصمة العراقية، ثم اضفت القرار الذي صدر بعدم التصريح للصحفيين بدخول النجف الاشرف وتقييد حركتهم في العراق. فلن تحتاج الى جهد كبير لكي تدرك ان القيادة الامريكية قررت ان تستفرد بالسيد مقتدى الصدر وتصفي قواته (جيش المهدي) الذي سبب لها ازعاجاً خاصاً، وفي الوقت نفسه فانها ارادت ان تحجب حقيقة الاجتياحات والمداهمات والقصف التي تقوم بها عن الرأي العام في العالم الخارجي.
(4)
ما علاقة ذلك كله بانتخابات الرئاسة الامريكية؟
العلاقة وثيقة للغاية، لان المستقبل السياسي للرئيس بوش اصبح مرهوناً بما يحدث في العراق خاصة والشرق الاوسط بوجه عام. وفوزه او فشله في الانتخابات معلق على مدى الهدوء او الانجاز الذي تشهده تلك الساحات. الامر الذي يمكنه من الادعاء بأنه حقق نجاحاً هناك، وان مهمته الرسالية التي شن من اجلها الحرب وحشد لها 160 الف جندي صار لها مردودها الملموس. وذلك هو الرد الوحيد الذي يمكن ان يصد به الحملات الموجهة اليه الان من كل صوب، متهمة سياسته الخارجية بالفشل، اضافة الى تلك الحملات التي ركزت على كذب الادعاءات التي استند اليها في قراره غزو العراق واحتلاله.
ولان الامر كذلك فان الرئيس بوش يبحث الان عن اي نجاح او انجاز في المنطقة. واذا لم يتوفر له ذلك النجاح المنشود فلا اقل من ان يسعى الى التستر على دلائل الفشل. آية ذلك ان مجلة «ذي نيو ريبابليك» الامريكية نشرت في 19/7 ان الادارة الامريكية مارست ضغوطاً كبيرة على الرئيس الباكستاني برويز مشرف للحصول منه على «هدية» للرئيس بوش في وقت انعقاد مؤتمر الحزب الديموقراطي (ما بين 27 و 29/7)، تكون عبارة عن تصفية او القبض على احد الاهداف القيمة الثلاثة في تنظيم القاعدة ـ والوصف للمجلة ـ اسامة بن لادن او ايمن الظواهري او الملا محمد عمر.
كان الهدف من «الهدية» المطلوبة هو توجيه ضربة الى مؤتمر الحزب الوطني. ولمرشحه جون كيري، قبل ان يصبح مؤتمر الحزب مسرحاً للتنديد بفشل سياسة الرئيس بوش الخارجية، لم تقصر الحكومة الباكستانية في القيام بما يلزم. فشنّ الجيش حملة واسعة في منطقة القبائل، وعلى الحدود الافغانية الباكستانية. ولم تجد حكومة الرئيس مشرف ما تقدمه لادارة بوش سوى الاعلان في 30/7 عن اعتقال شاب تنزاني اسمه احمد خليفة غيلاني، قدم باعتباره «احد اعضاء القادة البارزين» في تنظيم القاعدة. والمسؤول المباشر عن تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا.
في الوقت ذاته ليس سراً ان الادارة الامريكية قلقة للغاية من عدم الاستقرار في افغانستان والعراق. فقد فشل الرئيس حامد كرزاي في ان يجري الانتخابات الرئاسية في شهر يونيو الماضي، واجل الموعد الى شهر اكتوبر المقبل. ورغم عدم الاستقرار السياسي والامني في البلاد، الا انه كان مطلوباً منه ان ينجز هذه الخطوة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الامريكية. شريطة ان يفوز الرئيس كرزاي!!، ليكون ذلك دليلاً على نجاح سياسة الرئيس بوش في افغانستان. ولم تخف صحف الاسبوع الماضي ان زيارة وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد لكابول كان هدفها الرئيسي دفع هذه العملية وتعزيز موقف الرئيس كرزاي، الذي لم يعد يحظى بتأييد حلفائه الاصليين من الطاجيك، في حين ان اغلب البشتون يعارضونه، ويعتبرون حركة طالبان اكثر تمثيلاً لحضورهم القبلي.
أما العراق فقد تحول الى شوكة في خاصرة الادارة الامريكية بسبب استمرار المقاومة وشيوع الفوضى في البلاد، وفشل الحكومة في السيطرة على الاوضاع، ومقاطعة القوى السياسية للمؤتمر الوطني الذي دعت اليه لتكتسب منه بعض الشرعية. واكثر ما يقلق واشنطن ان ينضم الشيعة الى المقاومة، وهي التي راهنت طوال الوقت على تسكين ما سمي بالبيت الشيعي، والاستفراد بالسنة. ومن هنا تبدو خطورة حركة مقتدى الصدر، التي تحرص واشنطن على حصارها وتصفيتها بكل قوة، حتى لا تصبح في مواجهة مقاومة عراقية شاملة لا تستطيع مواجهتها. الامر الذي يعني أموراً كثيرة منها دق المسمار الاخير في نعش ادارة الرئيس بوش.
(5)
لا تزال هناك اسئلة اخرى يثيرها المشهد العراقي الراهن، اسجلها دون اجابة من باب لفت النظر الى ابعادها المختلفة، وفي مقدمة تلك الاسئلة ما يلي:
ھ ألا تدل الحوادث الاخيرة في النجف وغيرها من المدن العراقية على ان مقاومة الاحتلال حقيقة لا سبيل الى انكارها، وان الادعاء بانها من فعل متسللين اجانب، او بتحريك ومشاركة من فلول النظام السابق، لا اساس له، وانما اريد به تشويه صورة المقاومة واخفاء الحقيقة عن الناس؟
ھ أليس ما جرى دليلا على فشل المراهنة على التمايز السني الشيعي، وتأكيدا عن ان الوحدة الوطنية العراقية عميقة الجذور بأبعد واقوى مما تصور المغامرون الذين جاءت بهم الولايات المتحدة وفرضتهم ممثلين للطوائف والاعراق؟
ھ إذا استبعدنا فكرة ان قيادة الحكومة الحالية تمثل الشيعة، رغم انتمائها الى المذهب، فلماذا يحسب صدام حسين على السنة، ويقال انه قهر الشيعة بهذه الصفة. وان السنة احتكروا السلطة في العراق طيلة سنوات عهده؟
ھ بأي معيار يمكن ان يصنف الارهاب الحاصل في العراق الان ضمن حملة الحرب على الارهاب، والا يعني السحق الذي يتعرض له العراقيون الان في النجف وسامراء والفلوجة وغيرها، اننا بصدد اعادة انتاج الصدامية بدون صدام حسين؟
ھ أين العالم العربي مما يجري في العراق، وهل صحيح ان عواصمه اصبحت بدورها مشغولة «بدارفور»؟
http://www.alwatan.com.kw/default.aspx?page=5&topic=276889