المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إشكاليّات الواقع الشيعي في ظل النظام المرجعي الحالي



سيد مرحوم
08-16-2004, 06:03 PM
إشكاليّات الواقع الشيعي


عادل القاضي

في نظرة استشرافية يرسلها العلاّمة المرجع فضل الله نحو المستقبل، يعود مُحمّلاً بعدم الرضا. فهو لا يرى أنّ موقع المرجعية سيكون على النحو الذي صنعه الإمام الخميني، والذي جعله يرتفع إلى أعلى مستوى في مواجهة الواقع السياسي العالمي. لأنه كما يقول: (لا نملك هناك أسماء كبيرة في العالم المتحرك للمرجعية).


إنّ هذا القول يثير مباشرة شعوراً بالغموض والخوف حول واقع ومستقبل المرجعية الشيعية، فتندفع أسئلة ملحّة ساخنة:


- هل أنّ المرجعية الشيعية تواجه أزمة؟

- هل ستواجه المرجعية زمن تحدٍّ بعد ما كانت هي التي تصنع زمن التحدي؟

- هل انتهى عصر العطاء المرجعي؟

- ما هي مسؤولية الحوزات العلمية إزاء واقعها الذاتي وإزاء الواقع الإسلامي؟

ثمّ: من هو البديل المستقبلي؟


هذه التساؤلات تستوجب الوقوف والتأمل من أجل استكشاف الحلول. فالمسألة لا ترتبط بشخص أو بموقع، إنّما بواقع إسلامي كبير يريد أن يحقق مكاسبه وينقل خطواته إلى حيث الهدف. ويراد له _ من الجهة المضادة _ أن ينكمش في حدوده، ويتراجع عن المساحات التي شغلها. وبين الإرادتين فارق زمني يقاس بالعقود الطويلة.

إنّها تساؤلات تبحث بالضبط عن مسارات المستقبل القادم للمرجعية، والذي بدأت محدداته تتكون حاضراً، وبما يشبه الضواغط على الواقع الإسلامي في دائرته الشيعية.

وعلى هذا فإننا سنحاول التنقل على الأسئلة الآنفة، للتوصل إلى أجوبة لها في ضوء مناقشة ودراسة ما يطرحه العلاّمة فضل الله من أفكار وتصورات حول المرجعية.

أزمة تتكوّن

ترك رحيل الإمام الخميني في حزيران 1989، أكثر من فراغ في المواقع التي شغلها طوال حياته. وإذا كانت القيادة الإيرانية قد استطاعت أن تملأ فراغه القيادي بتعيين السيّد عليّ خامنئي قائداً للدولة وخليفة للإمام الراحل كولي فقيه، بعد أقل من 24 ساعة على الوفاة، فإنّ هناك فراغاً آخر ظلّ شاغراً، ولم يكن بإمكان القيادة الإيرانية أن تتخذ قراراً بشأنه، لأنه من القضايا التي لا تخضع لقرار سياسي، إنما يرتبط بالجانب العقائدي للشيعة، ذلك هو موقع المرجعية الدينية التي تصدَّى لها الإمام الخميني في حياته.

صحيح أنّ الفراغ المرجعي الذي ولدته وفاة الإمام، لا يشكل أزمة خطيرة أمام الدولة، إلاّ أنه يمثل حاجة ملّحة على الدوام. وقد ازدادت هذه الحاجة بعد أن أعطى الإمام الخميني المرجعية أدواراً أكثر سعة مما كانت عليه سابقاً، حيث جعل مساحتها تتعدى دائرة الشؤون الدينية لتشمل كل شؤون الحياة العامة من سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها.

لم تكن مهمة الإمام سهلة، فلقد صرف من أجل تثبيت هذه المسألة عمره السياسي كله، ولم تخل محاولاته في هذا الخصوص من احتجاجات مختلفة الشدّة من قبل الكثير من علماء الدين التقليدين الذين لا يؤمنون فقهياً برأي الإمام الخميني بولاية الفقيه.. أو أولئك الذين يؤثرون عدم التدخل في الشؤون السياسية.

ولولا نجاح الإمام الخميني في ثورته، لما قدر لرأيه الفقهي أن يتحول إلى تيار قوي في الأوساط العلمية الشيعية. كما إنّ انتصاره أثرٌ كثيراً على حجم قاعدة التقليد التي كان يتمتع بها مراجع الدين الآخرون.

وثمة ملاحظة مهمة في هذا السياق، تلك هي أنّ مقلّدي المراجع الآخرين من الحركيين كانوا ينظرون إلى الإمام الخميني على أنه قائد المسلمين وولي أمرهم. لذلك فإنهم كانوا يتبعون أمره في الشؤون السياسية والاجتماعية وغيرها، باستثناء الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات حيث يرجعون فيها إلى مراجعهم. مما يعني أنّ مرجعية الإمام الخميني لم تتحرك في دائرة مقلديه فقط، إنما تجاوزتها إلى غيرهم، نتيجة التصدي القيادي والولاية الفقهية التي تبنّاها.

لقد خلقت المرجعية الخمينية إحساساً عميقاً في نفوس الشيعة ولا سيما الحركيين منهم، بضرورة انطلاق المرجعية الدينية، انطلاقة جديدة تتجاوز الأطر التي وضعت نفسها فيها أو التي فرضت عليها.. وأن تسير على طريقة الإمام الخميني، حتى وإن اختلفت معه في بعض الأسس الفقهية.

إلاّ أنّ المسلَّم به، أنّ هذه الرغبة ليس من السهولة أن تتحقق. فالمرجع الذي قضى القسم الأعظم من عمره الطويل، وهو يؤمن بنمط معين من العمل والتعامل مع الحياة _ استناداً إلى رؤيته الفقهية _ من الصعب جداً أن يتحول إلى أسلوب آخر غريب عليه من وجوه عديدة. إنّ هذه الرغبة كانت تموت على أبواب مراجع الدين الشيعة، وكان أفضل مكسب تحققه، أنها لا تصطدم بمعارضتهم.. وقد تحظى بتأييد من قبيل الإشارة أو السكوت الدال على الرضا.

إلاّ أنّ النجاح الذي حققه اتجاه الإمام الخميني، أنه فرض نفسه على جو الحوزات العلمية، بحيث أنّ الكثير من العلماء الذين لم يكونوا يهتمون بالسياسة اهتماماً ملحوظاً، أصبحوا يتابعون شؤونها بصورة أفضل بكثير من السابق، بعد أن شعروا أنّ عزلتهم الاجتماعية والسياسية ستنتهي بهم إلى زوايا هامشية.

كما أنّ هذا الاتجاه دفع العديد من طلبة الحوزات والعلماء السائرين في برنامجهم الحياتي نحو الوصول إلى رتبة الإجتهاد، إلى اقتفاء أثر الإمام الخميني، ويؤمن هؤلاء بالأسس الفقهية للإمام. وقد أشارت هذه الظاهرة الجديدة إلى أنّ المرجعية الشيعية ستتحول ذات يوم من الأيام إلى مرجعية على شاكلة المرجعية التي صنعها الإمام الخميني.

غير أنّ هذا اليوم يبدو بعيداً، على اعتبار أنّ الوصول إلى درجة المرجع لا تحتاج إلى مقدرة عقلية فائقة وكفاءة علمية رفيعة فقط، بل إنها تحتاج إلى اعتبارات مهمة تتطلب بمجموعها عمراً زمنياً يستند إلى التاريخ والعطاء وغيرهما.

إشكالات العلاقة بين المرجعية والقيادة

ويلخّص السيّد العلاّمة هذه المسألة بقوله:

(إنّ الإمام أعطى أفقاً للمرجعية قد يتعب الكثيرون قبل أن يصلوا إليه، إذا كانت لديهم القدرة على الوصول إليه، لأنّ مرجعية الإمام التي أخذت هذا الحجم العالمي كانت منطلقة من عناصر الشخصية الذاتية ولا سيّما شجاعة الموقف ورحابة الأفق، ومن الظروف الموضوعية التي هيأت له الكثير من الشروط الواقعية التي ساهمت في الوصول إلى هذه النتائج، مما قد لا يحصل لمراجع آخرين قد يملكون شجاعة الإمام، وقد يملكون رحابة الأفق، ولكنّهم لا يملكون الظروف الموضوعية التي قد تدفع بالواقع إلى الآفاق الكبيرة التي أوصله إليها الإمام).

وإضافة إلى ذلك فإنّ وجود المراجع الحاليين يمثل واقعاً ملموساً ثابتاً.. وليس ثمة ما يشير إلى أنهم سيتخلون عن تقليديتهم في الحركية، بل إنّ عدداً لا بأس به من تلاميذهم المتقدّمين، يؤمنون بمنحاهم في التعامل مع الحياة.

خلال حياة الإمام الخميني، كان الشيخ حسين علي منتظري يعتبر جسر الإنقاذ بين الضفتين الزمنيتين، باعتباره المرجع الجاهز بعد الإمام الخميني، والذي يتفق معه في أسسه الفقهية، ولكن المشكلة الكبيرة كانت في طريقة تعامله مع الأشخاص والمواقف. وهو ما تطور في أواخر حياة الإمام، حتى انتهى بتنحيته على يد الإمام نفسه.

إنّ انهيار جسر التواصل، أثار مرة واحدة قضية القيادة التي ستخلف الإمام. فلم يكن من بين مراجع الدين البارزين من يتفّق مع الإمام الخميني في أسسه الفقهية القائلة بتصدي الفقيه لقيادة الدولة. ورغم أنهم لا يعارضون الإمام في الرأي، إلاّ أنّ هناك فارقاً كبيراً بين القناعة الفقهية وبين الموقف السياسي. إنه الفرق الذي يفصل بين تولي مهام الإمام وبين عدم تولّيها.

وإذا كانت جماهير الشيعة _ ولا سيّما الأوساط الحركية _ قد نظرت بخوف إلى المستقبل فيما يتعلق بقيادة الجمهورية الإسلامية في مرحلة ما بعد الإمام، وراحت أوساطهم العلمية تناقش إمكانية الخروج من الأزمة القادمة.. فإنّ الإمام الخميني قدّم حلاً منطقياً حين أوصى بإجراء تعديلات دستورية، وأوضح إمكانية الفصل بين قيادة الدولة وبين المرجعية، فلا يشترط في الولي الفقيه أن يكون مرجعاً دينياً.

وبذلك لم تعد هناك مشكلة في قيادة الدولة الإسلامية، والتي كانت تصل لدرجة التهديد المستقبلي لو لم يحسمها الإمام قبيل وفاته.

لكن المشكلة التي ولدت لحظة وفاته هي المرجعية التي تخلف الإمام الخميني، بحيث تستطيع أن تستقطب مقلِّديه وتحظى بالقداسة والتأثير في نفوسهم وفي نفوس غيرهم.

وثمة مشكلة أخرى، قد تكون عناصرها في طور التكوين؛ إنها العلاّقة بين القيادة والمرجعية. فربما اختلف الموقعان في القضية الواحدة، مما يسبب أزمة في دائرة الدولة والأمة. ويفسّر آية الله السيّد فضل الله هذه المسألة بقوله:

(إنّ مسألة المرجعية التي تتحرك في واقعها الحالي في دائرة الفتاوى، قد تختلف في خطوطها الفتوائية عن نظرة القيادة إلى ما فيه مصلحة الأمة. وبذلك يحصل التجاذب بين فتوى المرجعية وبين حركة القيادة، كما إنّ طبيعة موقعي القيادتين اللذين يطلّ أحدهما على الآخر قد يوجد الكثير من الضغط والضغط المضاد... الحركة والحركة المضادة، مما يتسبب في إرباك الواقع الإسلامي).

لا يرفض السيّد العلاّمة فكرة الفصل بين الموقعين، لكنه يجد فيها حلاً استثنائياً تفرضه ظروف الواقع، وأنّ هذه الإثنينيّة المفروضة تختزن في داخلها مشكلة تسير مع الزمن، وقد تتفجر حين يختلف الموقعان في الموقف الواحد. والاختلاف لن يكون حدثاً عابراً يمكن السيطرة عليه بالتوفيقية، إنه سيكون بين فتوى شرعية وبين موقف سياسي، ولنا أن نصوّر حجم المشكلة وآثارها الممتدّة في الصعيدين السياسي والاجتماعي.

ويحقّ لنا أن ننطلق من كلام السيّد فضل الله في النظر إلى مشكلة أخرى هي من مستتبعات الفصل بين القيادة والمرجعية. حيث نلاحظ أنها تكرّس حالة تقليدية في الواقع الشيعي، متمثلة في الإبقاء على تقليدية المرجعية، وعدم انفتاحها على الواقع السياسي، وهذا ما يمثل عودة إلى الوراء، إلى ما قبل مرجعية الإمام الخميني.

وحين نصل إلى هذه النقطة، فإننا نجد أنفسنا تتطلع إلى شكل المستقبل الذي ستكون عليه الحركة الإسلامية الشيعية في مناطق تحركها المختلفة في العالم الإسلامي، بعد أن فقدت المرجع الذي أعطاها قوة دفع ضخمة، ووفر لها عناصر الثقة المطلوبة.

صحيح أنّ الحركات الإسلامية قد انطلقت بقوة وفاعلية، وأحدثت تغييرات وتحولات ومواقف كبيرة في ساحات عملها في وقت كانت فيها المرجعية ضعيفة الحضور في الميدان السياسي والاجتماعي، أو على الأقل لم تكن بمستوى النموذج الخميني، ومع ذلك فقد وصلت بالتحرك إلى درجات مقنعة من النجاح.

وصحيح أنّ الحركات الإسلامية تنطلق من قاعدة إسلامية شرعية واضحة هي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو لا يحتاج إلى إذن شرعي. بمعنى أنّ كون المرجعية تقليدية أو حركية، لا يؤثر من حيث الأساس على عمل الحركات الإسلامية، وأنّ التفاوت يحدث في حجم التبنّي والدعم الذي يقدّمه كل واحد من نمطي المرجعية للتحرك.

وصحيح كذلك أنّ غياب الإمام الخميني لا يمثل انتكاسة للعمل الإسلامي، لأنّ ما صنعه الإمام في حياته سيظلّ ثابتاً بعد رحيله وممتداً في أجيال قادمة.

كل ذلك صحيح، ولا إشكال عليه ولا اعتراض. ولكن المهم هنا أن نميّز بين المراوحة والانطلاق.. بين أن نقنع بالإنجاز ونقف عنده وبين أن نحقق الإنجاز وندفع به.

الفصل بين المرجعية والقيادة

لقد غيّرت قيادة الإمام الخميني الكثير من الثوابت، وصار التحرك الإسلامي حالة متحدّية بعدما كان مدافعاً. وقد تبدلت نتيجة ذلك أساليب التعامل معه وطرق مواجهته. مما يستلزم أن يكون التحرك الإسلامي بحجم تحديات الواقع الجديد، وأن يفكّر ويخطّط وينفّذ في ضوء الحسابات الجديدة. وهذا ما يبرز ضرورة وجود مرجعية على نمط المرجعية الخمينية.. مرجعية تدفع بالتحرك الإسلامي إلى الأمام، وتقدّم له الدعم في مواجهة التحدّي المضاد.

إنّ الفصل بين القيادة والمرجعية كان حلاً مفروضاً، لغياب المرجع القائد في الساحة الإيرانية. وربّما استطاعت القيادة الإيرانية أن تسيطر على مصادر الارتباك الناجمة عن هذه الإثنينية، ضمن دائرتها الإقليمية.

لكن المسألة لا تنحصر بالوضع الإيراني وحده. إنّما هي تتصل بالمحيط الشيعي كله، بكل امتداداته وحركاته ومؤسساته المتحركة في الخط الإسلامي الواعي. والتي تجد نفسها مشدودة من الناحية الفقهية إلى شخص المرجع الديني، وملتزمة بما يصدر عنه من فتاوى وأحكام.

إنّها أزمة حقيقية، تتضخم مع الأيّام، وتستدعي البحث عن حل موضوعي يستند إلى حسابات الواقع.

الإنطلاقات المتفاوتة

من الظواهر البارزة في الوسط الشيعي، أنّ المرجعية الدينية رغم موقعها الشرعي المقدس، إلاّ أنّها كانت في معظم الفترات موضع عتب القاعدة الشيعية، ولا سيّما الوسط الحركي. وقد برزت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ منذ الخمسينات من هذا القرن، نظراً للتطورات السريعة والخطيرة التي شهدها العالم الإسلامي.

لقد كان جيل الحركيين يتطلع إلى آفاق كبيرة في حركة تغييرية شاملة تعيد المجتمع إلى جذوره الإسلامية فكراً وسلوكاً، وقد خاضت إثر ذلك مواجهة واعية مع التيارات الفكرية والسياسية المنحرفة عن الإسلام.

وقد كانت هذه الحركات تنظر صوب المرجعية بحثاً عن الموقف المطلوب الذي يناسب طبيعة الظروف المحيطة بالجو الإسلامي. لكنّها كانت _ في الأغلب _ تصطدم بحاجز من التقليدية يكاد يكون معترضاً على أسلوب التحرك، بل إنّه في بعض الحالات يكون معترضاً ورافضاً، مما يشكل عقبة كبيرة بوجه حركة الدعوة إلى الإسلام. وقد تتضخم هذه العقبة لتصبح مشكلة أساسية في واقع التحرك الإسلامي، إذ أنّ الحركة لا يمكن أن تتجاوز المرجعية، لأنّ من جملة أهدافها أن تنقل المرجعية من الجمود إلى الحركة، وأن تخرجها من عزلتها في حدود الحوزة إلى الانفتاح على سعة الأمة وقضاياها لتأخذ دورها الطبيعي في الساحة الإسلامية.

وقد كانت الحركات الإسلامية الشيعية _ وما تزال _ تجد في الزمن الواحد مرجعاً يدعم توجهاتها، وآخر يقف معارضاً، ضمن التعقيدات الكثيرة التي تحكم علاقات المراجع فيما بينهم، أو التي تسيطر على رؤيتهم للحياة.

ونتيجة ذلك كانت الحركة تعيش واقعاً مهدداً على الدوام، وحالة غير مستقرة باستمرار. لأنّ المرجع الحركي الذي يتبنّى منهاجها ويقدم لها الدعم، قد يخلفه ثانٍ لا يؤمن بالحركية، ولا يرى جدوى من العمل السياسي، وله طريقته الخاصة في فهم المجتمع.

هذه الظاهرة المضطربة يفسّرها العلاّمة فضل الله، بأنّ المرجع هو نتاج عاملين أساسيين:

الأوّل: الحوزة العلمية التي نشأ فيها، ووصل من خلالها إلى رتبة الاجتهاد ومن ثم المرجعية.

والثاني: الظروف الموضوعية التي تحكم ذهنيّته من خلال التأثيرات التي تحيط به، أو من خلال الظروف التي تحكم خطوطه الفكرية.

وبالاستناد إلى هذين العاملين وتفاعلهما مع بعضهما، تتحدّد هوية المرجع وشخصيته الاجتماعية، ولذلك _ يقول العلاّمة فضل الله _:

(كانت حركة المرجعيات بين مد وجزر، فهناك مرجعيات استطاعت أن تنفتح على الواقع الإسلامي بحجم الظروف التي كانت تعيشها، وبذلك كانت مرجعيتها تعطي بعض اللمعات وبعض الإضاءات في كثير من مراحل الواقع الإسلامي.

بينما نجد أنّ هناك مرجعيات انكمشت انكماشاً شديداً حتى كان يخيّل للناس أنّها غائبة تماماً عن كل شيء في الواقع، فيما عدا العلاقات الفقهية المباشرة بينها وبين الناس في المسائل الفقهية التقليدية، حتى أنّها لا تشارك حتى في القضايا الثقافية العامة التي تطرح فيها الأفكار في مستوى الفعل أو ردّ الفعل في ساحة التحديات للإسلام ولأهله.

وهذه هي المشكلة التي عاشها الواقع الإسلامي الشيعي في الارتباكات التي كانت تحدث بين الطلائع الإسلامية التي تحاول أن تنفتح على الواقع بطريقة حركية أو بطريقة ثقافية منفتحة، أو من خلال توسيع الساحات التي يتحرك فيها الإسلام في هذا الموقع أو ذاك الموقع. فقد كانت تواجه إهمالاً من بعض المرجعيات أو سكوتاً أو إبعاداً أو موقفاً مضاداً في هذا المجال أو ذاك المجال).

حول كلام السيّد فضل الله، هناك الكثير من المصاديق في الماضي والحاضر. فمثلاً كان الشيخ محمّد كاظم الخراساني، يمثل مرجعية منفتحة على قضايا العالم الإسلامي. لكنه بعد وفاته، لم تخلفه مرجعية بمستوى انفتاحه، إنّما كانت مرجعية تقليدية، استمرت ما يقرب من عقد من الزمن، حتى خلفتها مرجعية الميرزا محمّد تقي الشيرازي ذات الاتجاهات المنفتحة على حركة الأمة، وشؤون المسلمين السياسية والاجتماعية. وعلى هذا الخط المتذبذب سارت المرجعيات السابقة واللاحقة.

كما إنّ هناك شخصيات في الحوزات العلمية، يشهد لها العلماء بالاجتهاد والتقدم في مجال الدراسات الفقهية والأصولية، إلاّ أنها لا تكاد تُعرف إلاّ في دائرة خاصة محدودة، ولا يعيش هؤلاء أزمة داخلية أو معاناة شخصية، إنهم قانعون بهذا القدر من حياتهم، لأنهم يجدون فيه تحقيقاً لدورهم في الحياة، وحين تحين ساعة الموت ربما لا يحزن الواحد منهم على ما مضى من عمره.

إنّ السيّد فضل الله يرى في هذه الظاهرة مشكلة كبيرة تواجه الحركة الإسلامية، وتؤثر سلباً على الواقع الإسلامي. لأنّ تقليدية المرجعية وانغلاقها في حدودها الخاصة، يجعلها تعيش التخلف أمام حركة التطور في الواقع الإسلامي. وفي ذلك اهتزاز مخيف في أساسيات التركيبية الشيعية، حيث تقضي الحالة الصحيحة أن يكون الموقع القيادي للأمة والمتمثل بمرجعيتها، هو الرائد والموجه للأمة، لا أن يحدث العكس فتكون الأمة أسبق منه في حركة التطور.

وتبدو هذه المشكلة بمظهر مرعب حين ننظر إلى ما يحيط بالواقع الإسلامي من تحديات ممنهجة تستهدفه فكراً وسلوكاً. وقد قطعت هذه التحديات مسافات بعيدة وعميقة في أوساط الأمة بمختلف قطاعاتها، وإلى جانب ذلك، فإنّ هناك الكثير من التساؤلات المتعلقة بالقضايا الأساسية والمصيرية للمجتمع المسلم، تستلزم إجابات قاطعة ومحددة وعاجلة من أجل قطع الطريق على البديل اللاّإسلامي.

رغم كل ذلك، فإنّ صورة الرعب الفكري والثقافي لا تكاد تكون واضحة عند المرجعية، وهي إن توضحت، فلا تحرك فيها رغبة جادة لتقديم مشاريع حل. وفي ذلك يقول السيّد فضل الله: (إنّ العالّم الإسلامي يسبق المرجعية بالتطور).

هذه العبارة المباشرة، رغم كونها تبدو قاسية بالنسبة لموقع متقدم في المؤسسة الشيعية، إلاّ أنها تمثل الحقيقة دون ريب إذ لم يحدثنا التاريخ المرجعي في فتراته الطويلة، إلاّ عن حالات نادرة كان فيها المرجع مبادراً في فعل سياسي أو اجتماعي مؤثر. فلقد كانت الحالة المألوفة أن يستجيب المرجع لنداء الواعين من أبناء الأمة، فيصدر عنه موقف مؤيد. وحين يرفض النداء فليس في ذلك خرق للعادة والتقليد.

إنّ الحوزة العلمية في النجف الأشرف والتي تمثل مركز المرجعية الشيعية في العالم الإسلامي، وثقلها الأكبر، كانت حتى الخمسينات من هذا القرن، يرفض جوّها العام مجرد التفكير في الشؤون السياسية ويرى فيه خروجاً على المألوف، باعتبار أنّ طالب الحوزة والعالم والمرجع، إنما مهمته تنحصر في دراسة الفقه والأصول والمنطق واللغة العربية وغيرها من مناهج الحوزة العلمية.

كان ذلك في الوقت الذي انتشرت فيه الشيوعية انتشاراً كاسحاً في المجتمع، وراجت الأفكار المنحرفة بشكل خطير، للدرجة التي أصبح فيها الإسلام غريباً في أهله.

والأكثر من ذلك أنّ الجو العام في الحوزة كان يعارض مشاريع الإصلاح، ويبادل المصلحين من العلماء والمجتهدين، نظرة النفور، لأنهم يخرجون على العرف السائد.

إنّ استعراض التاريخ المرجعي وصولاً إلى هذه الفترة، يؤكد لنا ما قاله السيّد فضل الله:

(إنّ العالَم الإسلامي يسبق المرجعية بالتطور. لا أريد أن أتكلم عن التطور في المسألة الفقهية، ولكنّه في وعي القضايا وفي الحاجات الجديدة وفي الأوضاع الجديدة التي تحتاج إلى حل، وفي المبادرات الجديدة التي تحتاج إلى حركة. إنني أتصور أنّ الواقع الإسلامي الذي يواجه التحديات التي لم تواجهه في كل تاريخه حتى في صدر الدعوة الإسلامية الأولى، يسبق المرجعيات ويسبق الحوزات بأجمعها في حركة التطور التي تحتاج إلى أفكار جديدة وحلول جديدة ومبادرات جديدة. ولا أقصد بالجدة هنا أن نتجاوز الأصول الإسلامية فيما هي الأحكام والمفاهيم الإسلامية.

ولكنني أعتقد أنّ هذا الأمور لا بدّ أن تكون موضع الفكر وموضع البحث وموضع التحرّك، لأنّنا نلاحظ أنّ كثيراً من هذه القضايا لا تدور في ذهن الواقع المرجعي ولا تتحرّك في اتجاهه).

واقع التحدي وخيارات المرجع

إنّ هذه المشكلة التي يتحدّث عنها العلاّمة السيّد فضل الله تمثل منطقة خلل كبير في الواقع الشيعي والإسلامي بشكل عام. لأنّ التحدي الذي يترصد بالحركة الإسلامية وبالجمهور الإسلامي، لم يعد يتحرك باتجاه واحد وبمظهر مشخص حتى يمكن تحديده ومن ثم مواجهته. إنما صارت أساليب التحدي متحركة في اتجاهات عديدة ومتداخلة مع غيرها من مفردات الحياة. وهذه مسألة طبيعية أفرزها التطور العام لكل شؤون الحياة، مما جعل قضايا الثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها، تعيش حالة من التداخل والتشابك المعقد. فلم يعد الفكر حالة تجريدية متقومة في نطاقها الخاص، إنما فرضت الطبيعة المعقدة للتطور أن تكون الفكرة مفردة ضمن حالة عامة.

وفي ضوء هذا التداخل لم يعد القرار الشخصي مسألة تعيش في نطاق الفرد وحده، إلاّ إذا أراد أن يتخلف عن تيار التطور المتسارع الخطوات.. وأن يعيش أجواءه الخاصة، وفي هذه الحالة يكون أشبه بالنموذج التاريخي، حتى وإن امتلك عناصر الحياة في الحاضر.

وفي ضوء هذه الحقيقة، فإنّ توجهات المرجع وقناعاته ليست خيارات حرة مطروحة أمامه بلا ترتيب.. وعليه أن يختار ما يريد وفق نظرته الخاصة، وتقييمه الفردي. إنّما هناك عوامل موضوعية لا يمكن تجاوزها إذا أراد أن يحقق للإسلام ولجمهوره طموحاته الكبيرة.

إنّ المرجع _ في صورته المطلوبة _ ليس بمقدوره أن يختار طريقة التعامل وفق رؤيته الخاصة، وفهمه الشخصي للأمور، إذا ما أراد أن يكون مرجعاً للأمة، يملأ عن جدارة موقع المرجعية. لأنّ هذا الموقع لم يعد حالة تقليدية، إنما أصبح موقعاً متقدماً متفاعلاً مع شؤون الحياة العامة، ممّا يفرض على المرجع مواكبة واعية لحركة التطور العام في الواقع الإنساني.

وإذا تجاوزنا الشأن الخاص في قرار المرجع الديني وخياراته في العمل والتعامل مع شؤون الحياة، فإننا سنلتقي مع الجانب الآخر للمشكلة والذي يتمثل في علاقة القاعدة الشيعية بمرجعيتها الدينية.

فمن الطبيعي أنّ القاعدة الجماهيرية تريد من مرجعها أن يكون بحجم الواقع الذي تعيشه... وأن يتملك عناصر القوة والوعي في فهم مفرداته، وفي رصد جزئياته، وفي استيعاب حقائقه الحاضرة.. وأن يتمتّع بحس سياسي واجتماعي وثقافي يمكّنه من إرسال النظرة إلى البعيد، من أجل أن تطمئن القاعدة إلى أنّها لا تواجه التحديات لوحدها، بل إنّ هناك قيادة واعية تستطيع أن ترسم الخط بوضوح، وأن تعطي الموقف المطلوب في قضايا الفكر والسياسة والاجتماع وغيرها، انطلاقاً من استيعابها الشامل للواقع الذي تعيشه.

سيد مرحوم
08-16-2004, 06:04 PM
إنّ الجمهور الذي اكتسب ثقافة واعية، بحكم معايشته وقراءته للتجارب المريرة التي خاضها العالم الإسلامي.. وبحكم التطور المفروض الذي أحاط بكل تفصيلات حياته، لا يمكنه أن يقنع بالصورة التقليدية للمرجعية، لا سيّما وأنّ النظرة الحركية أصبحت حالة شيعية عامة.

ربّما لم تواجه المؤسسة الشيعية هذه المشكلة بحجمها الحقيقي في وقتنا الحاضر. لكن ذلك لا يلغي الإمكانية الحقيقية لتجمع مكوناتها مع تقادم الزمن. فمن المؤكّد، أنّه في ضوء المتغيرات التي يعيشها الواقع الإسلامي والتطور الذي يحققه الفرد المسلم في حياته الخاصة والعامة، في مقابل بقاء المرجعية على تقليديتها، من المؤكّد أنّ هذا الاختلال سيفاجئ المؤسسة الشيعية ذات يوم بأزمة كبيرة، تتمثل بانفصام مؤسف بين القاعدة الجماهيرية وبين المرجعية الدينية.

ولا نعني من خلال هذه المسألة، أنّ تمرّداً شيعياً سيحدث ضدّ المرجعية. فمثل هذه الصورة المظلمة مستبعدة في الحياة الشيعية لاعتبارات مذهبية وتاريخية واجتماعية كثيرة. ولكننا نعني أنّ الانفصام سيكون أمراً عملياً وواقعاً محتوماً، بفعل الفاصلة العريضة بين الجمهور والمرجعية... إنّها الفاصلة التي تزداد اتساعاً بين جمهور يتطور ويعيش التطور في حياته... وبين مرجعية ظلت تعيش التقليدية في أجوائها الخاصة.

حرس الثورة
08-16-2004, 10:07 PM
لا الثقافة ولا الوعي ولا غيرها يسمح لمن هو يقلد المرجع اللذي تثبت أعلميته بالتجاوز على ذلك المرجع
( الراد علينا كالراد على الله )
بعد ثبوت اعلمية المرجع واجتهاده وأورعيته وتقواه فان اراءه تكون مطابقة لما يستنبطه من احكام من الأدلة التفصيلية فلا تطلع علينا برأي طلع علينا به فضل الله بكذا خطبة ومقالة حول تجريء المقلدين على من يرجعون اليه من المراجع
الفاصلة بدت واضحة منذ امد بعيد وتتضح الآن أكثر والنية لا يعلمها الا الله تعالى

bineid
08-16-2004, 11:10 PM
السلام عليكم

سماحة السيد القائد الخامنئي هو أحد أبرز مصاديق المرجعية الحركية التي حملت واقعية التحدي ضد الاستكبار والانحراف. وسماحة السيد فضل الله يشهد بذلك وهو يتحرك في هذا الخط أيضًا. وكلاهما امتداد لخط الثورة الإسلامية التي قادها السيد الإمام الخميني العظيم (قده).

فأين التحريض ياحبيبي ؟

وفقكم الله جميعا

سيد مرحوم
08-17-2004, 01:21 AM
لا الثقافة ولا الوعي ولا غيرها يسمح لمن هو يقلد المرجع اللذي تثبت أعلميته بالتجاوز على ذلك المرجع
( الراد علينا كالراد على الله )
بعد ثبوت اعلمية المرجع واجتهاده وأورعيته وتقواه فان اراءه تكون مطابقة لما يستنبطه من احكام من الأدلة التفصيلية فلا تطلع علينا برأي طلع علينا به فضل الله بكذا خطبة ومقالة حول تجريء المقلدين على من يرجعون اليه من المراجع
الفاصلة بدت واضحة منذ امد بعيد وتتضح الآن أكثر والنية لا يعلمها الا الله تعالى


هذا كلام انشائي 00ولك ان ترجع لنقاش ذات النقطة -ان كنت تقصد الشرط الفقهي لتحقق هذا الكلام تطبيقيا - مع الشيخ الكوراني في شبكة العراق الثقافية حيث دخلنا في حوار خاص حول هذه النقاط وخلصنا الى اجنبية ذلك عن المعاني الحركية التي لابد ان يتوفر عليها المرجع مهما اختلفت الطرق والاساليب والرؤية ولاداعي لتكرار ذلك مع من لايتوفر على روحية الحوار قبل التأكد من توفر الشروط الاخرى0