بركان
03-09-2009, 07:10 AM
تحقـيق: ثائـرة محمـد - القبس
قد تسير في شارع طويل على جانبيه وامتداده فلل كثيرة وكبيرة ومبهرة.. فتشاهدها مستمتعا بتصاميمها الفاخرة.. متمنيا في نفسك ان يرزقك الله بمثلها، وربما تدعو لأصحابها أن يبارك الله لهم بهذا الرزق.
حتى تصل بسيارتك أمام بيت اخيك الذي منّ الله عليه بفيلا ربما اقل بكثير مما رأيته طوال طريقك، فتجد قلبك تحول مائة درجة، وربما اسررت في نفسك، أو اعلنت، قائلا: «لعنة الله عليه.. من أين حصل على كل هذا المال.. وكيف أصبح صاحب فيلا، وانا ما زلت اسكن في السرداب؟».. أو قد تقول لمن معك: «طبعا مال الحرام والسرقة.. هذا اللئيم يعرف من أين تؤكل الكتف».
ثم تعود فتطمئن نفسك «يا الله مال الحرام لا يدوم».
اليس هذا ما يحدث كثيرا ونسمعه باستمرار؟ فهذا الإنسان الذي مر طوال طريقه بالقصور والفلل ولم يلتفت إليها اصلا إلا اعجابا أو داعيا لأصحابها، لا تكمن مشكلته مع الناس، بل تبرز فقط أمام غنى أخيه أو ابن عمه أو قريبه، أو ربما صديقه الذي يعيش بشكل افضل منه.
اذن لماذا نحن كبشر لا نستكثر الخير على الغرباء، ولا يشكل غناهم لنا هاجسا أو مشكلة.. لكننا نستكثره على اخوتنا أو على اي احد يخصنا من اقرباء واصدقاء؟.. الخ.
اليست هذه مشكلة تستحق منا الوقوف عندها لمعرفة ابعادها واسبابها؟
تحقيقنا التالي يبرز هذه العقدة الموجودة في النفس البشرية، وكيف يحللها الناس ويفسرها علم النفس. اما عن السبيل الى الخلاص من هذه المشاعر والحلول الايجابية لها فيجيبنا عنها رأي الشرع.. تحقيقنا التالي يجيب عن الكثير من الاسئلة فتابعونا...
هل المشاعر المذكورة في المقدمة تقتصر على اشخاص معينين.. أم أنها تعتري جميع الناس؟
تجيب آية حمادة:
ــ الغيرة طبع في الانسان، وهذه المشاعر لا تقتصر على أحد دون آخر، فحتى الانسان الطيب يغار ممن حوله، لأن الغيرة سمة بشرية. لكن التعبير عنها يختلف من شخص إلى آخر، فهناك من يكبتها وهناك من يحولها الى مشاعر ايجابية تحفزه على التقدم والتنافس مع اخيه ليصبح في مستواه نفسه أو افضل منه.. وهناك من يستغلها استغلالا سيئا عن طريق اثارة المشاكل والفتن للغدر بأخيه أو لمحاولة احباط نجاحه والاقلال من شأنه، فيعيش في حالة صراع لكونه يريد ان يكون الافضل سواء باسلوب ايجابي أو باسلوب سلبي.. لكن اسلوب الغيرة الايجابي يحتاج منه ايضا الى الشغل على نفسه لتطوير ذاته فكريا أو ماديا أو غير ذلك.
واضافت:
- عندما لا يكون هناك اي رابط بين شخص وآخر، لا يشعر احدهما بالغيرة من الآخر لعدم وجود صلة بينهما، أما عندما يكون الإنسان قريبا من الآخر وعلى صلة دائمة به ويراه بشكل مستمر.. هنا يلفت انتباهه نجاحه أو تميزه فتحدث المقارنة، وبالتالي الغيرة بين الناس.
ننفر منهم
هل مشاعر الغيرة من الاخ أو ابن العم أو القريب الافضل منا يجعلنا ننفر منه أو نقاطعه؟
تجيبنا عن ذلك نجوى الصواف قائلة:
ــ أغلب علاقات صلة الرحم تعتريها الغيرة والحسد، وقليل جدا من الناس لا يتعرضون لذلك، فغالبا ما يقارن الإنسان نفسه بأهله وأقربائه لوجود رابطة قوية بينهم، تحتم عليهم التعامل معهم بشكل دائم.
فإن كان ابن العم أو القريب مثلا يعيش بمستوى مادي مرتفع والآخر بمستوى متدنٍ، فمن الطبيعي جدا ان يكره الثاني الاول وينزعج منه، وقد يؤدي هذا الانزعاج الى الابتعاد عنه لأسباب عديدة.. منها أن يتعالى هذا الأخ أو القريب على الأقل منه ويشعره بنجاحه باستمرار، مما يجعل الثاني يشعر بالفشل فلا يطيقه.
وكثير من المعارف والاصدقاء قد يبتعدون بعضهم عن بعض اذا ما شعر احدهم ان الآخر افضل منه، فحتى لا يشعر بالنقص يؤثر الهروب من هذه العلاقة.
واشخاص آخرون يمتلكون القناعة والرضا بالواقع، فلا يهمهم ما فضّل الله به غيرهم من خير حرموا منه.
قابيل وهابيل
مشاعر الطمع وعدم القناعة تتفاوت من شخص إلى آخر، فهل هي من أسباب كرهنا لاقربائنا إذا تميزوا عنا؟
سالمة النجدي اعتبرته السبب الأهم، خصوصا في عصرنا هذا الذي يغلب فيه الطمع والجشع على النفوس، واستطردت قائلة:
- بتنا نسمع عن جرائم كثيرة تحدث بين صلة الرحم من اجل حفنة مال.. فهذا يقتل اباه ليرثه وآخر يقتل اخاه لانه استحوذ على ماله، وغيرهما الكثير من القصص التي ملأت الصحف والمجلات.
فمن الطبيعي جدا ان تحدث الغيرة والمشاكل بين اكثر الناس قربى نتيجة الاحتكاك المستمر بينهم، ومن الطبيعي ايضا ان يقارن الإنسان نفسه باقرب المقربين له وهو اخوه لانه لا يحب ان يراه افضل منه.
الابن الاستثناء الوحيد
لماذا يكره الإنسان ان يرى من هو افضل منه حتى ان كان اخاه؟
فيصل العنزي يجيبنا قائلا:
ــ الإنسان لا يحب ان يرى من هو افضل منه سوى ابنه، بدليل أنك لو قلت لطفل صغير ان شقيقه افضل منه يزعل. لكن عندما تقول للأب ان ابنه افضل منه يفرح ويجيب «هذه تربيتي».
كل شخص يحب ان يتميز عن غيره، وأن يكون الأفضل حتى على أخيه في البيت، وهذه فطرة في داخل كل انسان انه لا يحب ان يرى احدا افضل منه باستثناء ابنائه.
الأقارب عقارب
لكن هل الطرف الآخر (الشخص الافضل) هو من يدفعنا الى الاحساس بمشاعر الغيرة فيزيد من اشتعالها؟
نجاح الطوباسي تقول:
- نعم فهناك مثل شعبي لم يأت من فراغ مفاده «ان الاقارب عقارب» ولو منح هذا الاخ أو القريب بعضا مما رزقه الله الى من هو اقل منه في المستوى، لن تكون هناك مشكلة، بل على العكس قد يدعو له قريبه المحتاج، ويطلب من الله ان يزيده من النعم لانه لم يبخل عليه.
عموما يتوقف الامر على طبيعة كل شخصية واختلافها عن الأخرى، فهناك أشخاص «أعينهم مليانة» ولا يطمعون بقريب أو بعيد.. وأنفسهم كذلك عفيفة لانهم مقتنعون بما انعم به الله عليهم ومؤمنون بان الرزق مقدر من الله، وهذه القناعة تقوّم السلوك الداخلي وتدفع المرء الى ان يكون ايجابيا في التعامل مع من هم افضل منه.. فهناك غيرة تدفع الى الشر واخرى الى الخير.
النساء أكثر غيرة
من يشعر بالغيرة أكثر تجاه الأهل والاقرباء.. النساء ام الرجال؟
ام باسل ترى ان النساء أكثر غيرة، فهن يقارن دائما بينهن وبين اخواتهن أو قريباتهن والاخريات.
اما لماذا نغار ممن نعرفهم ونحسدهم ونتجاهل من لا نعرفهم، فتقول:
ــ لاننا ببساطة نغار من الذين نراهم بشكل دائم. ويتوقف مقدار هذه الغيرة على حسب طبيعة كل انسان وعلى حسب العصر أو الجو العام الذي نعيش فيه..
فطبيعة الناس بشكل عام تغيرت عن ذي قبل، حيث كانت نفوس الناس قبل عشرين عاما أصفى وأنقى وأطيب من الآن.. لانهم كانوا يعيشون على البساطة والبركة. الجيران مثلا كانوا اخوانا، اما اليوم فالجار لا يعرف جاره، واصبحت العمارة كانها فندق لا احد يعرف اسم جاره.
الحياة كلها تغيرت وتعقدت ولم تعد على البركة كما كانت لطغيان المظاهر والبحث عن المادة.. وارتفاع وتيرة التنافس بين البشر.
الأنانية والحرمان
عادل الحوطي اعتبر ان الإنسان اناني بطبعه، وهذه الانانية تجعله يستكثر الخير حتى على اخيه، خصوصا اذا حرم من هذا الخير، وأضاف:
- الإنسان تعتريه مشاعر الغيرة والحسد لانه بشر ويقارن دائما بينه وبين الآخرين، مفضلا الانا عن غيره.. لكن عليه ان يقوم بتفعيل الوازع الديني لديه والايمان بان الرزق مقدر من الله.
الغنى ليس بالمال فقط
هل يعد ارتفاع المستوى المادي أكثر الأمور التي يغار منها الإنسان حتى من اخيه ابن امه وابيه؟!
مشاري العلي يرى انه المجال الوحيد للغيرة بين الرجال ان كانوا اخوة أو اقارب، لكنه ليس المجال الوحيد للغيرة بين النساء اللواتي يتبارين دائما على الجمال والرشاقة والحسب والنسب وغيره، ويضيف:
- الغيرة اليوم قد لا تكون من المال فقط بل أيضا من تربية الأبناء ونجاحهم، أو من نجاح الآخر في عمله ومن ثقافته وتعليمه أو مركزه وغيرها الكثير.
التفرقة منذ الصغر
ينصح الأهل دائما بعدم التفرقة بين الاخوة منذ الصغر حتى لا يشعلوا الغيرة بينهم، فما مدى أهمية دور الأهل في التقريب بين أبنائهم؟
احمد بسام يجيب قائلا:
- التفرقة بين الابناء منذ الصغر تزيد من ارتفاع نسبة الغيرة بينهم، خصوصا عندما يشعرون بتفضيل احدهم عليهم أو منحه مزايا مالية أو معنوية تعزز شعوره بالفخر، وتزيد في المقابل من شعور الغيرة عند اخوته.
علم النفس:
نحمل عاطفة الحب والكراهية معا للمقربين منا
كيف يفسر علم النفس هذه المشاعر واسبابها؟
يجيب د. حسن الموسوي الاستشاري النفسي عن ذلك قائلا:
- ان هذه المشاعر موجودة داخل الإنسان لسببين أولهما ان عاطفة الحب والكراهية موجودة تجاه المقربين منا، فعاطفة الحب مخفية وغير واضحة، وعندما تبدر أي اشارة سلبية عن الطرف الآخر يظهر جانب الكراهية، وهي ايضا نسبية وتختلف من شخص إلى آخر.. فعندما اكره قريبي أو انسانا قريبا مني يكون هذا بسبب ان عنده شيء لا يوجد عندي.
والسبب الثاني ان من اعرفه دائما يشغل بالي اكثر من الذي لا اعرفه، فهو اصبح جزءا من ممتلكاتي وشخصيتي، اما الذي لا تربطني به علاقة فهناك مسافة بيني وبينه وامره لا يهمني لاني لا اعرف شيئا عن خصوصياته، وبالتالي لا تربطني به اي علاقة عاطفية أو اجتماعية.. ولهذا يهتم الإنسان دائما بمن هو في دائرته فإن تمرَّد عليه واصبح افضل منه فهذا يعني انه اصبح مختلفا عنه وبالتالي سيكرهه نتيجة ذلك ويكره نفسه.
وهذه الكراهية تجاه الذات لا يستطيع ان يعبر عنها لان عنده دفاعات تحميه من تشويه صورته، فينقل هذه الكراهية تجاه الذات الى الطرف الآخر، وبالتالي يكون اقرب الناس هو الضحية حيث يسقط عليه هذه المشاعر السلبية.
اما كيف يمكن ان نحل هذه التعقيدات في النفس البشرية فيقول:
- النفس الانسانية فيها اسرار وخفايا وليس سهلا فهم تلك الكتلة من التعقيدات أو حلها من دون ان نبني الانسان من جديد ونمنحه صورة مغايرة للتي هو عليها، لان اي انسان يمتلك الجانبين الايجابي والسلبي.. لذا نحاول ان نجعله يقارن بين ايجابيته وايجابية الآخر وبين سلبيته وسلبية الآخر.
رأي الشرع:
المال يغار على صاحبه والنعـمة تنـــاجي ربـها
علق د. هشام ابوالعزّ الإمام والداعية الاسلامي على هذه القضية قائلا:
- عندما خلق الله الانسان رزقه المائة في المائة كاملة فهذا رزقه مالا وسلب منه بعضا من الصحة فلا يأكل الطعام وهو امامه، اما الفقير الذي يكدح طوال يومه فرزقه الله الصحة وسلب منه المال وبهذا يتساوى في الرزق هذا وذاك، المائة في المائة كاملة.. ومن الخطأ ان نحصر الغنى في صاحب الثروة والمال فقط فالغني كما جاء في الصحيح «من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه عنده قوت يومه فقط حيزت له الدنيا بحذافيرها».
ولهذا فعلى اصحاب العيون (المبصرين) الذين يرون قدرة الله في الخلق ومنحهم القصور والشركات والمال ان يدعوا لاصحابها بالخير..
اما لماذا؟ فلأن المال يغار على صاحبه فاذا حسد فقير غنيا على حاله أو وظيفته أو اولاده فإن النعمة تغار على صاحبها وتناجي ربها ان تدوم على صاحبها وتزداد، كما انها تناجي ربها ألا يعطيها للحاسد. ولهذا فرّق الاسلام بين الحسد المحمود والحسد المذموم والحسد المطلوب.
فالمحمود: تمني ما عند الغير مع بقاء النعمة عند صاحبها.
المذموم: تمني زوال ما عند الغير لتصل اليه وحده.
المطلوب: وهو حسد التنافس، عندما يريد ان يصل الى ما وصل اليه الآخر من درجة علمية أو غيره. وهذا الحسد يجعل المجتمع يرقى وينهض، وكما قال الله في كتابه: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».
اما كيف نعالج تلك المشاعر فيقول:
- ان النار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله، فالغيرة من الاخ أو القريب أو الغريب مرض قلبي لا بد من التخلص منه لانه يجعل القلب اسود فيرى الدنيا سوداء، وبالتالي لا يرضى بقضاء الله وقدره. ويقول رب العالمين لامثال هؤلاء في الحديث القدسي.. «من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي.. فليخرج من تحت سمائي وليعبد ربا سواي» فالذي اعطى الغنى قادر ان يعطيك اكثر ان احببت الخير للناس.
- كثرة المال ليست دليلا على حب الله للعبد ولا قلة المال دليل على سخط الله على العبد حيث قال تعالى: «فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه فيقول ربّ اكرمن واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّ اهانن» ثم يقول بعد ذلك «كلا».
- لا تنظر الى من هو اعلى منك انظر الى من هو ادنى منك (حديث شريف) «ان اكرمكم عند الله اتقاكم».
قد تسير في شارع طويل على جانبيه وامتداده فلل كثيرة وكبيرة ومبهرة.. فتشاهدها مستمتعا بتصاميمها الفاخرة.. متمنيا في نفسك ان يرزقك الله بمثلها، وربما تدعو لأصحابها أن يبارك الله لهم بهذا الرزق.
حتى تصل بسيارتك أمام بيت اخيك الذي منّ الله عليه بفيلا ربما اقل بكثير مما رأيته طوال طريقك، فتجد قلبك تحول مائة درجة، وربما اسررت في نفسك، أو اعلنت، قائلا: «لعنة الله عليه.. من أين حصل على كل هذا المال.. وكيف أصبح صاحب فيلا، وانا ما زلت اسكن في السرداب؟».. أو قد تقول لمن معك: «طبعا مال الحرام والسرقة.. هذا اللئيم يعرف من أين تؤكل الكتف».
ثم تعود فتطمئن نفسك «يا الله مال الحرام لا يدوم».
اليس هذا ما يحدث كثيرا ونسمعه باستمرار؟ فهذا الإنسان الذي مر طوال طريقه بالقصور والفلل ولم يلتفت إليها اصلا إلا اعجابا أو داعيا لأصحابها، لا تكمن مشكلته مع الناس، بل تبرز فقط أمام غنى أخيه أو ابن عمه أو قريبه، أو ربما صديقه الذي يعيش بشكل افضل منه.
اذن لماذا نحن كبشر لا نستكثر الخير على الغرباء، ولا يشكل غناهم لنا هاجسا أو مشكلة.. لكننا نستكثره على اخوتنا أو على اي احد يخصنا من اقرباء واصدقاء؟.. الخ.
اليست هذه مشكلة تستحق منا الوقوف عندها لمعرفة ابعادها واسبابها؟
تحقيقنا التالي يبرز هذه العقدة الموجودة في النفس البشرية، وكيف يحللها الناس ويفسرها علم النفس. اما عن السبيل الى الخلاص من هذه المشاعر والحلول الايجابية لها فيجيبنا عنها رأي الشرع.. تحقيقنا التالي يجيب عن الكثير من الاسئلة فتابعونا...
هل المشاعر المذكورة في المقدمة تقتصر على اشخاص معينين.. أم أنها تعتري جميع الناس؟
تجيب آية حمادة:
ــ الغيرة طبع في الانسان، وهذه المشاعر لا تقتصر على أحد دون آخر، فحتى الانسان الطيب يغار ممن حوله، لأن الغيرة سمة بشرية. لكن التعبير عنها يختلف من شخص إلى آخر، فهناك من يكبتها وهناك من يحولها الى مشاعر ايجابية تحفزه على التقدم والتنافس مع اخيه ليصبح في مستواه نفسه أو افضل منه.. وهناك من يستغلها استغلالا سيئا عن طريق اثارة المشاكل والفتن للغدر بأخيه أو لمحاولة احباط نجاحه والاقلال من شأنه، فيعيش في حالة صراع لكونه يريد ان يكون الافضل سواء باسلوب ايجابي أو باسلوب سلبي.. لكن اسلوب الغيرة الايجابي يحتاج منه ايضا الى الشغل على نفسه لتطوير ذاته فكريا أو ماديا أو غير ذلك.
واضافت:
- عندما لا يكون هناك اي رابط بين شخص وآخر، لا يشعر احدهما بالغيرة من الآخر لعدم وجود صلة بينهما، أما عندما يكون الإنسان قريبا من الآخر وعلى صلة دائمة به ويراه بشكل مستمر.. هنا يلفت انتباهه نجاحه أو تميزه فتحدث المقارنة، وبالتالي الغيرة بين الناس.
ننفر منهم
هل مشاعر الغيرة من الاخ أو ابن العم أو القريب الافضل منا يجعلنا ننفر منه أو نقاطعه؟
تجيبنا عن ذلك نجوى الصواف قائلة:
ــ أغلب علاقات صلة الرحم تعتريها الغيرة والحسد، وقليل جدا من الناس لا يتعرضون لذلك، فغالبا ما يقارن الإنسان نفسه بأهله وأقربائه لوجود رابطة قوية بينهم، تحتم عليهم التعامل معهم بشكل دائم.
فإن كان ابن العم أو القريب مثلا يعيش بمستوى مادي مرتفع والآخر بمستوى متدنٍ، فمن الطبيعي جدا ان يكره الثاني الاول وينزعج منه، وقد يؤدي هذا الانزعاج الى الابتعاد عنه لأسباب عديدة.. منها أن يتعالى هذا الأخ أو القريب على الأقل منه ويشعره بنجاحه باستمرار، مما يجعل الثاني يشعر بالفشل فلا يطيقه.
وكثير من المعارف والاصدقاء قد يبتعدون بعضهم عن بعض اذا ما شعر احدهم ان الآخر افضل منه، فحتى لا يشعر بالنقص يؤثر الهروب من هذه العلاقة.
واشخاص آخرون يمتلكون القناعة والرضا بالواقع، فلا يهمهم ما فضّل الله به غيرهم من خير حرموا منه.
قابيل وهابيل
مشاعر الطمع وعدم القناعة تتفاوت من شخص إلى آخر، فهل هي من أسباب كرهنا لاقربائنا إذا تميزوا عنا؟
سالمة النجدي اعتبرته السبب الأهم، خصوصا في عصرنا هذا الذي يغلب فيه الطمع والجشع على النفوس، واستطردت قائلة:
- بتنا نسمع عن جرائم كثيرة تحدث بين صلة الرحم من اجل حفنة مال.. فهذا يقتل اباه ليرثه وآخر يقتل اخاه لانه استحوذ على ماله، وغيرهما الكثير من القصص التي ملأت الصحف والمجلات.
فمن الطبيعي جدا ان تحدث الغيرة والمشاكل بين اكثر الناس قربى نتيجة الاحتكاك المستمر بينهم، ومن الطبيعي ايضا ان يقارن الإنسان نفسه باقرب المقربين له وهو اخوه لانه لا يحب ان يراه افضل منه.
الابن الاستثناء الوحيد
لماذا يكره الإنسان ان يرى من هو افضل منه حتى ان كان اخاه؟
فيصل العنزي يجيبنا قائلا:
ــ الإنسان لا يحب ان يرى من هو افضل منه سوى ابنه، بدليل أنك لو قلت لطفل صغير ان شقيقه افضل منه يزعل. لكن عندما تقول للأب ان ابنه افضل منه يفرح ويجيب «هذه تربيتي».
كل شخص يحب ان يتميز عن غيره، وأن يكون الأفضل حتى على أخيه في البيت، وهذه فطرة في داخل كل انسان انه لا يحب ان يرى احدا افضل منه باستثناء ابنائه.
الأقارب عقارب
لكن هل الطرف الآخر (الشخص الافضل) هو من يدفعنا الى الاحساس بمشاعر الغيرة فيزيد من اشتعالها؟
نجاح الطوباسي تقول:
- نعم فهناك مثل شعبي لم يأت من فراغ مفاده «ان الاقارب عقارب» ولو منح هذا الاخ أو القريب بعضا مما رزقه الله الى من هو اقل منه في المستوى، لن تكون هناك مشكلة، بل على العكس قد يدعو له قريبه المحتاج، ويطلب من الله ان يزيده من النعم لانه لم يبخل عليه.
عموما يتوقف الامر على طبيعة كل شخصية واختلافها عن الأخرى، فهناك أشخاص «أعينهم مليانة» ولا يطمعون بقريب أو بعيد.. وأنفسهم كذلك عفيفة لانهم مقتنعون بما انعم به الله عليهم ومؤمنون بان الرزق مقدر من الله، وهذه القناعة تقوّم السلوك الداخلي وتدفع المرء الى ان يكون ايجابيا في التعامل مع من هم افضل منه.. فهناك غيرة تدفع الى الشر واخرى الى الخير.
النساء أكثر غيرة
من يشعر بالغيرة أكثر تجاه الأهل والاقرباء.. النساء ام الرجال؟
ام باسل ترى ان النساء أكثر غيرة، فهن يقارن دائما بينهن وبين اخواتهن أو قريباتهن والاخريات.
اما لماذا نغار ممن نعرفهم ونحسدهم ونتجاهل من لا نعرفهم، فتقول:
ــ لاننا ببساطة نغار من الذين نراهم بشكل دائم. ويتوقف مقدار هذه الغيرة على حسب طبيعة كل انسان وعلى حسب العصر أو الجو العام الذي نعيش فيه..
فطبيعة الناس بشكل عام تغيرت عن ذي قبل، حيث كانت نفوس الناس قبل عشرين عاما أصفى وأنقى وأطيب من الآن.. لانهم كانوا يعيشون على البساطة والبركة. الجيران مثلا كانوا اخوانا، اما اليوم فالجار لا يعرف جاره، واصبحت العمارة كانها فندق لا احد يعرف اسم جاره.
الحياة كلها تغيرت وتعقدت ولم تعد على البركة كما كانت لطغيان المظاهر والبحث عن المادة.. وارتفاع وتيرة التنافس بين البشر.
الأنانية والحرمان
عادل الحوطي اعتبر ان الإنسان اناني بطبعه، وهذه الانانية تجعله يستكثر الخير حتى على اخيه، خصوصا اذا حرم من هذا الخير، وأضاف:
- الإنسان تعتريه مشاعر الغيرة والحسد لانه بشر ويقارن دائما بينه وبين الآخرين، مفضلا الانا عن غيره.. لكن عليه ان يقوم بتفعيل الوازع الديني لديه والايمان بان الرزق مقدر من الله.
الغنى ليس بالمال فقط
هل يعد ارتفاع المستوى المادي أكثر الأمور التي يغار منها الإنسان حتى من اخيه ابن امه وابيه؟!
مشاري العلي يرى انه المجال الوحيد للغيرة بين الرجال ان كانوا اخوة أو اقارب، لكنه ليس المجال الوحيد للغيرة بين النساء اللواتي يتبارين دائما على الجمال والرشاقة والحسب والنسب وغيره، ويضيف:
- الغيرة اليوم قد لا تكون من المال فقط بل أيضا من تربية الأبناء ونجاحهم، أو من نجاح الآخر في عمله ومن ثقافته وتعليمه أو مركزه وغيرها الكثير.
التفرقة منذ الصغر
ينصح الأهل دائما بعدم التفرقة بين الاخوة منذ الصغر حتى لا يشعلوا الغيرة بينهم، فما مدى أهمية دور الأهل في التقريب بين أبنائهم؟
احمد بسام يجيب قائلا:
- التفرقة بين الابناء منذ الصغر تزيد من ارتفاع نسبة الغيرة بينهم، خصوصا عندما يشعرون بتفضيل احدهم عليهم أو منحه مزايا مالية أو معنوية تعزز شعوره بالفخر، وتزيد في المقابل من شعور الغيرة عند اخوته.
علم النفس:
نحمل عاطفة الحب والكراهية معا للمقربين منا
كيف يفسر علم النفس هذه المشاعر واسبابها؟
يجيب د. حسن الموسوي الاستشاري النفسي عن ذلك قائلا:
- ان هذه المشاعر موجودة داخل الإنسان لسببين أولهما ان عاطفة الحب والكراهية موجودة تجاه المقربين منا، فعاطفة الحب مخفية وغير واضحة، وعندما تبدر أي اشارة سلبية عن الطرف الآخر يظهر جانب الكراهية، وهي ايضا نسبية وتختلف من شخص إلى آخر.. فعندما اكره قريبي أو انسانا قريبا مني يكون هذا بسبب ان عنده شيء لا يوجد عندي.
والسبب الثاني ان من اعرفه دائما يشغل بالي اكثر من الذي لا اعرفه، فهو اصبح جزءا من ممتلكاتي وشخصيتي، اما الذي لا تربطني به علاقة فهناك مسافة بيني وبينه وامره لا يهمني لاني لا اعرف شيئا عن خصوصياته، وبالتالي لا تربطني به اي علاقة عاطفية أو اجتماعية.. ولهذا يهتم الإنسان دائما بمن هو في دائرته فإن تمرَّد عليه واصبح افضل منه فهذا يعني انه اصبح مختلفا عنه وبالتالي سيكرهه نتيجة ذلك ويكره نفسه.
وهذه الكراهية تجاه الذات لا يستطيع ان يعبر عنها لان عنده دفاعات تحميه من تشويه صورته، فينقل هذه الكراهية تجاه الذات الى الطرف الآخر، وبالتالي يكون اقرب الناس هو الضحية حيث يسقط عليه هذه المشاعر السلبية.
اما كيف يمكن ان نحل هذه التعقيدات في النفس البشرية فيقول:
- النفس الانسانية فيها اسرار وخفايا وليس سهلا فهم تلك الكتلة من التعقيدات أو حلها من دون ان نبني الانسان من جديد ونمنحه صورة مغايرة للتي هو عليها، لان اي انسان يمتلك الجانبين الايجابي والسلبي.. لذا نحاول ان نجعله يقارن بين ايجابيته وايجابية الآخر وبين سلبيته وسلبية الآخر.
رأي الشرع:
المال يغار على صاحبه والنعـمة تنـــاجي ربـها
علق د. هشام ابوالعزّ الإمام والداعية الاسلامي على هذه القضية قائلا:
- عندما خلق الله الانسان رزقه المائة في المائة كاملة فهذا رزقه مالا وسلب منه بعضا من الصحة فلا يأكل الطعام وهو امامه، اما الفقير الذي يكدح طوال يومه فرزقه الله الصحة وسلب منه المال وبهذا يتساوى في الرزق هذا وذاك، المائة في المائة كاملة.. ومن الخطأ ان نحصر الغنى في صاحب الثروة والمال فقط فالغني كما جاء في الصحيح «من بات آمنا في سربه، معافى في بدنه عنده قوت يومه فقط حيزت له الدنيا بحذافيرها».
ولهذا فعلى اصحاب العيون (المبصرين) الذين يرون قدرة الله في الخلق ومنحهم القصور والشركات والمال ان يدعوا لاصحابها بالخير..
اما لماذا؟ فلأن المال يغار على صاحبه فاذا حسد فقير غنيا على حاله أو وظيفته أو اولاده فإن النعمة تغار على صاحبها وتناجي ربها ان تدوم على صاحبها وتزداد، كما انها تناجي ربها ألا يعطيها للحاسد. ولهذا فرّق الاسلام بين الحسد المحمود والحسد المذموم والحسد المطلوب.
فالمحمود: تمني ما عند الغير مع بقاء النعمة عند صاحبها.
المذموم: تمني زوال ما عند الغير لتصل اليه وحده.
المطلوب: وهو حسد التنافس، عندما يريد ان يصل الى ما وصل اليه الآخر من درجة علمية أو غيره. وهذا الحسد يجعل المجتمع يرقى وينهض، وكما قال الله في كتابه: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون».
اما كيف نعالج تلك المشاعر فيقول:
- ان النار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله، فالغيرة من الاخ أو القريب أو الغريب مرض قلبي لا بد من التخلص منه لانه يجعل القلب اسود فيرى الدنيا سوداء، وبالتالي لا يرضى بقضاء الله وقدره. ويقول رب العالمين لامثال هؤلاء في الحديث القدسي.. «من لم يرض بقضائي ويصبر على بلائي.. فليخرج من تحت سمائي وليعبد ربا سواي» فالذي اعطى الغنى قادر ان يعطيك اكثر ان احببت الخير للناس.
- كثرة المال ليست دليلا على حب الله للعبد ولا قلة المال دليل على سخط الله على العبد حيث قال تعالى: «فاما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فاكرمه ونعمه فيقول ربّ اكرمن واما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربّ اهانن» ثم يقول بعد ذلك «كلا».
- لا تنظر الى من هو اعلى منك انظر الى من هو ادنى منك (حديث شريف) «ان اكرمكم عند الله اتقاكم».