الدكتور عادل رضا
03-08-2009, 08:34 PM
مقالة في النقد الادبي لرواية" بنات يعقوب" ، للروائي المبدع محمود سعيد
نشرت بجريدة الزمان اللندنية بتاريخ 23/ 12 / 2008 ، ص : 11
محمود سعيد: العائد من بابل على صهوة روايته "بنات يعقوب"
د . موسى الحسيني
Mzalhussaini@btinternet.com
لااتذكر متى بدات علاقتي بالقصة تتفكك ، بعد ان كنت نهما في قرائتها ، خاصة ما هو مترجم منها، عندما تم قبولي في قسم علم النفس في كلية الاداب في الجامعة المسنصرية عام 1974-1975 ، بعد خروجي من الجيش وما فرضته متطلبات ومشاغل الحياة اليومية بوضعي الجديد ، والتزامات القراءة التي تلزمنا بها المناهج الدراسية ، تدخلت رويدا رويدا لتقطع اوصال العلاقة بيننا .
بعد الحرب العدوانية الاولى على العراق في عام 1991 ، لاحظت التفكك الاخلاقي الذي اصاب العرب والمثقفين منهم خاصة كنت ابحث عن سبب يمكن ان يقنعني كتفسير منطقي للظاهرة ، وتذكرت يوما وصفا لبيئة دوستوفسكي قدمه الكاتب والاديب النمساوي ستيفان تسفايج ، وهو يحاول ان يستقرئ شخصيات دوستوفسكي ليصل الى وصف حالة المجتمع الروسي في ايام دوستوفسكي : بانه مجتمع تخلى عن قيمه القديمة قبل ان يؤسس له منظومة قيم جديدة ، او كما وصفه ، كمن هدم كوخة القديم البالي قيل ان يبني بيتا جديدا ، فظل يعيش في العراء . عندها هرعت لدوستوفسكي باحثا عن تفسير لهذا الاضطراب في الشخصية العربية .فالظروف السياسية والاجتماعية في الوطن العربي ،كانت قريبة من ذاك الوصف الذي قال به تسفايج . مازلت مداوما على قراءة دوستوفسكي ، ولوبشكل متقطع ، بين الحين والاخر . هذا كل ما بقي من علاقتي بالقصة .
ما اريد قوله من هذه المقدمة اني لست ناقداً ادبياً ، ولا امتلك من ادوات النقد ، لاملكة الناقد ، ولا المعرفة بمدارسه او اساليبه للحكم على جمالية الصورة الفنية في هذا العمل الروائي او ذاك .ولم يبق في الذاكرة مما كتبه تسفايج او محمد مندور غير نتف من افكار لاتؤهلني لكتابة نقد لرواية من الجمال وعمق الرؤى والافكار كتلك الرواية الرائعة " بنات يعقوب " التي كتبها الروائي العراقي " محمود سعيد ." .
عندما وصلتني قصة " بنات يعقوب " للروائي العراقي محمود سعيد ، تضايقت ، كثيرا من وصولها وهي بهذا الحجم . وانا ملزم بقرائتها ، خوفاً من ان يسالني الكاتب عن انطباعي عنها .وكانت ورطة ، فمن الصفحة الاولى وجدتني التصق بالرواية ابحث عن اي فرصة لمتابعة القراءة ، وعندما لااجد هذه الفرصة خلال ساعات النهار ، اجد نفسي اني احاول ان اؤجل اي التزامات اخرى في الليل لاتفرغ لمتابعة قراءة القصة .
تبدا القصة بذكريات للكاتب عن موقع اثري مخفي عن الانظار في مكان ما في جبال حمرين ، شمال العراق ، في مكان ليس بعيدا عن مدينة الشرقاط ، استدعت حضوره بشكل ضاغط على ذاكرة الكاتب قصة لمعركة حقيقية حصلت في المنطقة بين مجموعة من الضباط العراقيين كانوا بمهمة خاصة ، وفصيلة من مشاة البحرية الاميركية المنقولة جوا .
كان لمشاهد البطولة التي لاتخلوا من الغرابة ، لضباط الجيش العراقي ، كما روتها مجلة نيوز تودي ، أن تتداخل مع الصور القديمة التي سبق ان تشكلت في مخيلة الكاتب ، تلك التي استمع لها ايام الطفولة ، ما اجج فضوله للسفر للعراق بحثا عن الموقع ،فاكتشف انه لم يتبق منه شئ بعد ان دمرت قنابل اليانكي ورعاة البقركل المعالم والاثار والكتابات التي صنعها ابن الرافدين خلال اكثر من الفي عام قبل ان يسمع الناس بمدينة اسمها واشنطن او نيويورك . هذه الهمجية البربرية ، لم تمنع الكاتب من ان يشبع فضوله عن معرفة هوية سكان هذا الموقع والاسباب التي دفعتهم لاختياره والعيش هناك مع انه موقع منزو يصعب الوصول اليه الا من خلال ممر ضيق لايسمح الا بمرور شخص واحد .حاول الكاتب على مايبدو ان يقرأ عن الفترات التاريخية المحتملة التي عاصرت نشوء الموقع وتشكله بتلك الصورة الجميلة ، وسواء استطاع ان يحدد من هم سكان هذا الموقع ولماذا لجؤا اليه او لم يتمكن فعليا ، فانه هندسه على شكل ساحة لتتدرب بها بنات يعقوب مع عشاقهن الذين تزوجن منهم فيما بعد ، على رمي السهام وركوب الخيل ، وسمى الموقع ب " الخلوة " التي افرد لها فصلا طويلا من بين فصول القصة .
إن السمات الحضارية للموقع ورواده من ابناء القرية المجاورة ، قرية حمور ، اعادا تشكيل التركيبة السايكولوجية ، وحفزا القيم والمشاعر الانسانية لبنات يعقوب ، الذين لم يعرفن من الحياة غير حياة الترحال الدائم والتنقل من مكان الى اخر بحثا عن الضحايا التي يمكن ان تشبع تعطش ابيهن واخوتهن للدماء .
فالنبي العبراني ، يعقوب هذا، بتخرصاته وهلاوسه التي جعلت منه نبيا لملك شيطاني يوحي له انه ما خلق الخلق وكل البشر ، الا ليتمتع يعقوب وابنائه من العبرانيين ، بسفك دمائهم . اله يعقوب ليس هو الله الذي نعرفه بل هو شيطان شرير ، لايرضى من عبدته ان يتقربوا اليه الا بدماء بقية خلقه الاخرين من غير العبرانيين . يخاطب روابين – الابن الاكبر ليعقوب - خنجره :" أعلم أنك أشتقت للدم ،لاتقلق حان الوقت ستشبع من الدماء....لاحياة من دون دماء ، دم القتيل يمنح القاتل قوة "( ص : 59 ) ليعكس بذلك ما مدفون باعماقه من مشاعر الاحساس بالضعف والخور والنقص الذي يعاني منه روابين ، صاحب الانف الضخم " كأنه صخرة معوجة التصقت تحت العينين كيفما اتفق " . الاحساس بالضعة هو ما يصور له القتل وكأنه أرتقاء على هذا الاحساس بالدونية .
لاتؤشر هذه الصورالى وجود ميول عنصرية متطرفة ضد العبرانيين عند الكاتب ، ترى ان التركيبة السيكولوجية للعبرانيين معجونة بالشر، بالعكس تشكلت هذه الشرورفي النفس العبرية ، واتخذت شكلها الشيطاني بفعل بعض الميول الاجرامية المرضية عند بعض انبيائهم ممن يعاني من حالات شيزوفرينيا ترافقها هلاوس وتخرصات ، اتخذت هذه الهلاوس عند العبراني العادي شكل النزوة او الميل السيكولوجي المميز بفعل تحولها الى معتقدات دينية اختلطت مع ما يعنيه الدين احيانا ومايتضمنه من خرافات واوهام تربط ،عادة الجريمة بارادة الخالق .
. فموقف بعض ابناء وبنات يعقوب حيال التوجهات الشريرة لابيهم، يؤكد ان نفوسهم تختزن الكثير من الشحنات الانسانية الخيرة، والحية التي سرعان ما تُستفز الى حد اعلان تمردها على النوايا الخبيثة لابيهم يعقوب ، الذي لم يراع ما قدمته قرية حمور من كرم وحسن استقبال وضيافة لهذا البدوي القادم ، لبضعة ايام كما قال يعقوب ، ، وجعلها حمور مفتوحة الى حد الاستعداد لقبول يعقوب للمشاركة بعيش دائم، وما ينعمون به من خيرفي مراعيهم ومائهم ،والموقع المميز لقريتهم على مفترق طرق اهم عواصم العالم ومدنها ، في ذلك الوقت ، اذا رغب بالتخلي عن طريقة عيشه في التنقل الدائم والترحال ، حتى ان حمور لم يتردد في تزويج بنات يعقوب لاولاده الثلاث بامل ان يقوي عرى الصلة والقربة ، الا ان يعقوب الذي تظاهر بانه يبادله نفس الشعور ، اراد ان يستخدم كل هذه الطيبة من اجل ان يطمئن حمور الى سلامة نواياه ليتمكن من الغدربه وبابناء قريته الذين يريدهم يعقوب ان يكونوا قربانا لالهه الشرير .
ان اله يعقوب اباح كل شئ لاتباعه ، الجنس والغدر ،ليفرغوا الارض من بقية العباد ويستفردوا بها . حتى الزواج يمكن ان يكون بضاعة للغدر ، ووسيلة للوصول لتنفيذ الفعل الشرير ، يفسر يعقوب لابنه روابين اسباب قبوله تزوج بناته لمن يخطط لقتلهم "ثم ماذا ليتزوجن اسبوعا ، اسبوعين ، ما المانع ... سيبقين كما هن ، بعدئذ نزوجهن لذوينا زواجاً ابديا " ( ص : 90 )
.بعد ان يطمئن سكان القرية وشيخها حمور لهذا القادم المجهول ، يتمكن يعقوب و ستة من ابائه ان يذبحوا سكان القرية ، بمن فيهم ازواج بناته ، وهن نائمات باحضان الزوجية .
تنتهي الصفحة الاولى من الرواية بحدث القتل الجماعي هذا ، فتقرر بنات يعقوب الثلاثة الهرب الى بابل ، هروبا من هذه العائلة التي امتهنت الجريمة ديناً ، وللعيش عند قريب ازواجهن اللمينو نمو، الذي ذاعت شهرته كامهر مهندس في بابل ، ما اعطاه مكانة مميزة عند الملك نبوخذ نصر وزوجته ، فهو واحد من افراد الحلقة الخاصة في حاشية الملك .
لم تكن رحلة بنات يعقوب سهلة وهن يجتزن البراري ، حتى تنكرهن بزي الرجال لم يخلصهن من المخاطر ، والعراك مع قطاع الطرق ، من بعض السجناء الهاربين . اجاد محمود سعيد استخدام ادواته الفنية لتصعيد غريزة التشوق والفضول عند القارئ ليتعرف كيف يمكن ان يصلن بنات يعقوب الى بابل . ، فالقارئ لايتوقف عن القراءة ، يظل يلهث متابعا مسيرة دينة وشمة حتى بعد فقدان بسمة ، تتملكه المخاوف عليهن من مفاجأة ، من قاطع طريق يختل وراء صخرة . ، او حيوان بري جائع
اركبني محمود سعيد ، لاادري ، او اني امتطيت على فرس من الرؤى والخيال والاحلام لاتابع معهن رحلتهن، من دون ان اشعر متمنيا لهن السلامة ، وكل مرة اهم ان اتدخل لمساعدتهن ، لاكتشف ان محمود سعيد كان من اللطف في حساب مشاعر قرائه فيخلصهن بانسيابية غيرمقصودة ومن دون ان يشعرك بتدخله لتغيير مجرى الحدث ، يحترم رغبات القارئ للحفاظ على سلامة البنات وبقائهن بعيدا عن الشر الذي هربن منه . حتى فقدان اصغرهن بسمة لايستوقف لاالكاتب ولا القارئ للشعور بالندم والالم عليها فتصاعد الاحداث يشد الجميع للالتصاق بتمني سلامة دينة وشمة .
يدرك الراوي محمود سعيد حجم التعب والارهاق الذي عانت منه بنات يعقوب في رحلتهن الشاقة الى بابل ، كما يدرك عبأ الارهاق الذي عاشه القارئ وهويتتبعهن في رحلتهن ، تتخذ احداث الرواية شكلها الهادئ بما يتناسب مع ما توفره المدن الحضارية الكبيرة من هدوء ، واشباع لمختلف حاجات ساكنها ، اضافة لتوفر الامن والطمانينة لمواطنيها . على ان هذه الانسيابية في السرد لاتلغي عاملي التشويق والرغبة في متابعة تفاصيل الحياة اليومية لبنات يعقوب - دينة وشمة - في حاضرة عصرها بابل . ولولا الاستحالة ، او لو كنت ممن يؤمن بتناسخ الارواح ، لأقسمت الف يمين من ان محمود سعيد الذي نراه روائيا من أبناء القرن الواحد والعشرين ما هو الا تجسيد لروح مواطن من مواطني بابل ، ولأخذته دليلا على أيماني هذا ، فهو يعرف بابل بشوارعها ، وأسواقها وأزقتها كانه أبنها ، من قضى طفولته وشبابه وكهولته بها ، فهو يصفها وصف من عاشها وعايش أزدهارها ، وطبيعة وعادات الحياة الاجتماعية السائدة فيها .
وصفه لطبيعة الحياة في بابل يجسد حضارتها بما قد لايتمكن أحسن المؤرخين المختصين بالعصر الاشوري من تقديم مثل هذا الوصف .
ظلت بابل تنعم بعزها وحضارتها ، وما يضفيه عقل ابنائها من أبداعات على حياتها اليومية ، مصدرا لحياة ناعمة هنيئة لعموم ابنائها ، كما لبنات يعقوب ، حتى وصلت أولى طلائع سبابيا العبرانيين اليها ، ليبدأ حقدهم ينخر هذه الحضارة من داخلها ، يتامر بعض السبابيا سراً مع قورش ملك الفرس ، يبعثون له أحلى نسائهم ليحفزوه للانتقام من بابل وملكها نبوخذ نصر . رغم ان نبوخذ نصر كان رحيما بهم فلم يقتلهم ويمضي السيف بهم كعادة المتحاربين حينذاك، التي تقضي بذبح السبايا والتخلص منهم او أستخدامهم كعبيد . الا ان رقي مشاعر واخلاق وحضارة اهل العراق من سومر حتى نبوخذ نصر والبابليين ارادت ان تعطيهم فرصة لاعادة تركيبتهم السايكولوجية لمسح صدأ الشرورالتي تراكمت عليها ، بفعل الهلاوس الشيزوفرينية لرجالات دينهم ، علها تعود لطبيعتها الانسانية الخيرة . ورغم ان بعض الاسرى استجاب فعلا لبيئة الخير الجديدة التي وفرها لهم البابليين ، كما حصل لبنات يعقوب الا ان دانيال المبتلى بمرض الخبث ، المنفصلة روحه عن طبيعتها الانسانية ، ظل يتامر بنشاط مع قورش . وبدأت بعض مظاهر الحقد المريض تظهر وتؤثر في الحياة البابليين اليومية .
فلا شك ان البلد تضعف ، وتبدأ حضارته وتقدمه بالتفكك من خلال اغتيال رجالاته المبدعين ، مفكريه ومهندسيه، فهم مصدر قوته ، ونهايتهم ستكون الخطوة الاولى لنهاية ذلك البلد كما خطط لذلك دانيال كبير الكهنة العبرانيين :
فيسقط كبير المهندسين الليمو نمو صريعا بفعل سهم مجهول يخترق نحره وهو جالس في جلسة تفكير واسترخاء في شرفة قصره ، المفتوحة . كأن الكاتب اراد تذكيرنا باستراتيجية قديمة ما زال العبريون يمارسونها في تعاونهم مع الفرس في اغتيال الخبراء والمهندسين العراقيين بعد الاحتلال .
ما الذي يريد ان يقوله محمود سعيد . هل اراد ان يقدم نفسه على انه قادر على ان يصنع ويركب صوراً جمالية ، حبا بالجمال لذاته فقط ، ليدخل المتعة واللذةعلى قلوب القراء . او انه اراد ان يوظف الجمال في خدمة معتقداته الاجتماعية والاخلاقية ليؤشر على استمرارية الحقد العبري على وادي الرافدين ، فهو حقد يتجدد كلما اراد شعبه ان ينهض ويتجاوز التخلف ويلحق او يشارك في بناء الحضارة والمدنية تتجسد روح الغدر والخيانة التي تبرر كل السلوكيات الساقطة الخبيثة عند العبرانيين للانتقام خوفاً من نبوخذ نصر أخر يمكن ان يتقدم من هذه الارض ليوقف سطوهم وسلبهم لارض عربية . كما استثمروا قوة قورش يمكنهم الان استغلال واستثمار همجية رعاة البقر ، لتدمير بغداد واثار بابل . وهل كان قورش بعيدا عما يجري الآن في بغداد وارض الرافدين من تخريب لايمكن فهمه وتبريره تحت اي معيار او قيمة اقتصادية او سياسية .او استراتيجية . ولايفسر الا بمضمون الحقد الذي التقى بمنتصفه اطماع قورش مع خبث دانيال وهمجية اليانكي من رعاة البقر . تلك هي على ما اعتقد الوظيفة الاخلاقية للرواية .
ان ذلك لايلغي أنسانية العبري ، المشبعة بالاخلاق بمفهومها الكلاسيكي عندما تتجرد من تخرصات وهلاوس الدين القائم على اوهام وخرافات ، لايدري الانسان هل هي السبب في تشكل عقدة الاضطهاد عندهم ، او انها كانت سببا لاضطهاد الاخرين لهم في فترات عاشوها من الزمن .فدينة وشمة ، واخويهما المتمردين جاد واشير ، كانوا عبرانيين ايضاً ،
قال محمود سعيد كل ذلك برمزية ، فيها الكثير من الصور الرومانسية ، تجسد الواقع وتصوره ، بلغة ادبية راقية ، منتقاة ، تقترب احيانا من لغة الشعر ، في رواية هي اقرب الى لوحة ضمت مجموعة من الصور، المتجانسة الاجزاء ، المتداخلة الابعاد والزوايا بحيث تكمل عناصر بعضها البعض . فهو يصور الواقع لاكخيال يجهد الكاتب نفسه ليضفي عليه شيئاً من سمات الواقع ، بل يبدو كراوي يوصف حدثاً كان قد عاشه او رأه ، بلغة وطريقة يشعر القارئ فيها ان الكاتب لايريد ان ينفرد برؤيته هذه ويعزل نفسه عن القارئ ، ليقول هذا ما رايته ،في وصف لامور غريبة او عجيبة مما لايسهل تصديقه، بل ينقل صوراً حياتية، او يصف حوادث يمكن ان تحدث فعلا ، فهو يشترك بها مع القارئ ، ويرسم بالكلمات صوراً طبيعية مقبولة تجسد حقائق يمكن ان يراها الانسان في حياته. فكما قلت من يدري قد يكون في رؤى اصحاب نظرية تجسيد الارواح ما يوحي ان روح محمود سعيد كانت قد عاشت الحدث او سمعت به قبل ان تتجسد بجسد كاتب الرواية الذي يعيش بيننا الان .
بعيداً عن المبالغة والاوهام لاشك ان الرواية تعكس جمالية وجدان الكاتب ، وعمق خبراته بالحياة .فوصفه ، مثلا ، لحركة الخيول خلال رحلة او هروب بنات يعقوب من اهلهن الى حين وصول بابل ، خاصة حركات الحصن وهن يعبرن الفرات ، لايمكن لكاتب ان يقدم هذا الوصف مالم يكن قد مر بتجربة مماثله او على الاقل راقب وراى تجارب مماثلة كثيرة. نفس الشئ يمكن ان يقال عن استخدامه للذباب في القصة عندما يريد ان يعطي الحدث واقعية ، اويحوله الى صورة ملموسة ، لايمكن ان يتوصل الكاتب لمثل هذا الاستخدام ما لم يكن قد نام فعلا على سطح المنزل في قرية متخلفة من قرى العراق ، او بعض أحياء المدنه الفقيرة .
لاشك ان الكاتب أجاد توظيف الخيال ليقدم لنا كل هذه المعاني بصور جميلة دون ان يثقل جمله او عبارات بالتزويق اللفظي أو الغريب من الكلمات .فهو يفصح عن افكاره وعواطفه ورؤاه بلغة جميلة لاتخلو من البساطة ، او مايوصف بلغة اهل الادب : بالسهل الممتنع . فهو يصف الشر والحقد واللؤم ، الحب والرضاوالامل والعطاء والحب ، دون تكلف او غرابة ، ودون ان يؤشر صراحة بوصفه هذا ، معاني يدركها القارئ حتى بدون ان يقولها الكاتب ،ومن دون ان يحرم القارئ من الاحساس بالمتعة الراقية ، فهو يجيد فن استخدام التشويق ، كاتب تاريخ يمزج الخيال بالواقع ليعرف القارئ بروعة حضارة بابل ، دون شعور با لملل فهو يسجل الظواهر الاجتماعية من عادات واخلاق وحياة يومية السائدة في ذلك الزمن ، دياناتهم ومعتقداتهم ، دون ان يفوته نقد ما يخلقه الدين من صور مبهمة قد تبدو احيانا اطارات مناسبة ليغلف بها الانسان نزعاته الشريرة بنسبتها لارادة الخالق . ويُعبر بطريقة اقرب لما تمثلة الحيرة الوجودية عند الانسان ليفسر كيف يمكن ان تتداخل هذه الصور المبهمة مع التساؤلات التقليدية عن غموض الوجود ، فيغدوا الناتج او الحصيلة ايمان ، يضفي شعورا من الهدوء والسكينة على صاحبه ، فيتمسك بكل هذا المبهم والغامض الى حد الاستعداد لقتل الاخر لالزامه على قبول ما يراه حقاً ، رغبة في ان يظل المؤمن محافظاً على شعوره باليقين المصنع او المغلف بالوهم وخوفاً من العودة لقلق التفكير والتساؤل . الهروب بالمبهم والغامض الى السكينة ، هروباً من الخوف من ان يستثار العقل ثانية ، ليبدأ رحلته بالتفكير عن الاصل والمصير. فهو ليس ايمان مقتنع بل هو نتاج الاحساس بالضعف والخور ، بحثاً عن قوة خارقة يريد ان يسرقها المتدين من قدرات الخالق ليضفيها لنفسه ، هو هارب من الخوف . كان دين يعقوب وروابين ، نموذج لمثل هذا التدين الذي يجعل القتل فريضة واحساساً بالقوة .
لاتختص العبرانية بمثل هذا النوع من المتدينين ، وحدة التركيبة السيكولوجية للمتدينين ، لا جوهر الدين نفسه ، هي ما يجعل القتل دينا عندهم مع اختلاف منطلقاتهم .
نشرت بجريدة الزمان اللندنية بتاريخ 23/ 12 / 2008 ، ص : 11
محمود سعيد: العائد من بابل على صهوة روايته "بنات يعقوب"
د . موسى الحسيني
Mzalhussaini@btinternet.com
لااتذكر متى بدات علاقتي بالقصة تتفكك ، بعد ان كنت نهما في قرائتها ، خاصة ما هو مترجم منها، عندما تم قبولي في قسم علم النفس في كلية الاداب في الجامعة المسنصرية عام 1974-1975 ، بعد خروجي من الجيش وما فرضته متطلبات ومشاغل الحياة اليومية بوضعي الجديد ، والتزامات القراءة التي تلزمنا بها المناهج الدراسية ، تدخلت رويدا رويدا لتقطع اوصال العلاقة بيننا .
بعد الحرب العدوانية الاولى على العراق في عام 1991 ، لاحظت التفكك الاخلاقي الذي اصاب العرب والمثقفين منهم خاصة كنت ابحث عن سبب يمكن ان يقنعني كتفسير منطقي للظاهرة ، وتذكرت يوما وصفا لبيئة دوستوفسكي قدمه الكاتب والاديب النمساوي ستيفان تسفايج ، وهو يحاول ان يستقرئ شخصيات دوستوفسكي ليصل الى وصف حالة المجتمع الروسي في ايام دوستوفسكي : بانه مجتمع تخلى عن قيمه القديمة قبل ان يؤسس له منظومة قيم جديدة ، او كما وصفه ، كمن هدم كوخة القديم البالي قيل ان يبني بيتا جديدا ، فظل يعيش في العراء . عندها هرعت لدوستوفسكي باحثا عن تفسير لهذا الاضطراب في الشخصية العربية .فالظروف السياسية والاجتماعية في الوطن العربي ،كانت قريبة من ذاك الوصف الذي قال به تسفايج . مازلت مداوما على قراءة دوستوفسكي ، ولوبشكل متقطع ، بين الحين والاخر . هذا كل ما بقي من علاقتي بالقصة .
ما اريد قوله من هذه المقدمة اني لست ناقداً ادبياً ، ولا امتلك من ادوات النقد ، لاملكة الناقد ، ولا المعرفة بمدارسه او اساليبه للحكم على جمالية الصورة الفنية في هذا العمل الروائي او ذاك .ولم يبق في الذاكرة مما كتبه تسفايج او محمد مندور غير نتف من افكار لاتؤهلني لكتابة نقد لرواية من الجمال وعمق الرؤى والافكار كتلك الرواية الرائعة " بنات يعقوب " التي كتبها الروائي العراقي " محمود سعيد ." .
عندما وصلتني قصة " بنات يعقوب " للروائي العراقي محمود سعيد ، تضايقت ، كثيرا من وصولها وهي بهذا الحجم . وانا ملزم بقرائتها ، خوفاً من ان يسالني الكاتب عن انطباعي عنها .وكانت ورطة ، فمن الصفحة الاولى وجدتني التصق بالرواية ابحث عن اي فرصة لمتابعة القراءة ، وعندما لااجد هذه الفرصة خلال ساعات النهار ، اجد نفسي اني احاول ان اؤجل اي التزامات اخرى في الليل لاتفرغ لمتابعة قراءة القصة .
تبدا القصة بذكريات للكاتب عن موقع اثري مخفي عن الانظار في مكان ما في جبال حمرين ، شمال العراق ، في مكان ليس بعيدا عن مدينة الشرقاط ، استدعت حضوره بشكل ضاغط على ذاكرة الكاتب قصة لمعركة حقيقية حصلت في المنطقة بين مجموعة من الضباط العراقيين كانوا بمهمة خاصة ، وفصيلة من مشاة البحرية الاميركية المنقولة جوا .
كان لمشاهد البطولة التي لاتخلوا من الغرابة ، لضباط الجيش العراقي ، كما روتها مجلة نيوز تودي ، أن تتداخل مع الصور القديمة التي سبق ان تشكلت في مخيلة الكاتب ، تلك التي استمع لها ايام الطفولة ، ما اجج فضوله للسفر للعراق بحثا عن الموقع ،فاكتشف انه لم يتبق منه شئ بعد ان دمرت قنابل اليانكي ورعاة البقركل المعالم والاثار والكتابات التي صنعها ابن الرافدين خلال اكثر من الفي عام قبل ان يسمع الناس بمدينة اسمها واشنطن او نيويورك . هذه الهمجية البربرية ، لم تمنع الكاتب من ان يشبع فضوله عن معرفة هوية سكان هذا الموقع والاسباب التي دفعتهم لاختياره والعيش هناك مع انه موقع منزو يصعب الوصول اليه الا من خلال ممر ضيق لايسمح الا بمرور شخص واحد .حاول الكاتب على مايبدو ان يقرأ عن الفترات التاريخية المحتملة التي عاصرت نشوء الموقع وتشكله بتلك الصورة الجميلة ، وسواء استطاع ان يحدد من هم سكان هذا الموقع ولماذا لجؤا اليه او لم يتمكن فعليا ، فانه هندسه على شكل ساحة لتتدرب بها بنات يعقوب مع عشاقهن الذين تزوجن منهم فيما بعد ، على رمي السهام وركوب الخيل ، وسمى الموقع ب " الخلوة " التي افرد لها فصلا طويلا من بين فصول القصة .
إن السمات الحضارية للموقع ورواده من ابناء القرية المجاورة ، قرية حمور ، اعادا تشكيل التركيبة السايكولوجية ، وحفزا القيم والمشاعر الانسانية لبنات يعقوب ، الذين لم يعرفن من الحياة غير حياة الترحال الدائم والتنقل من مكان الى اخر بحثا عن الضحايا التي يمكن ان تشبع تعطش ابيهن واخوتهن للدماء .
فالنبي العبراني ، يعقوب هذا، بتخرصاته وهلاوسه التي جعلت منه نبيا لملك شيطاني يوحي له انه ما خلق الخلق وكل البشر ، الا ليتمتع يعقوب وابنائه من العبرانيين ، بسفك دمائهم . اله يعقوب ليس هو الله الذي نعرفه بل هو شيطان شرير ، لايرضى من عبدته ان يتقربوا اليه الا بدماء بقية خلقه الاخرين من غير العبرانيين . يخاطب روابين – الابن الاكبر ليعقوب - خنجره :" أعلم أنك أشتقت للدم ،لاتقلق حان الوقت ستشبع من الدماء....لاحياة من دون دماء ، دم القتيل يمنح القاتل قوة "( ص : 59 ) ليعكس بذلك ما مدفون باعماقه من مشاعر الاحساس بالضعف والخور والنقص الذي يعاني منه روابين ، صاحب الانف الضخم " كأنه صخرة معوجة التصقت تحت العينين كيفما اتفق " . الاحساس بالضعة هو ما يصور له القتل وكأنه أرتقاء على هذا الاحساس بالدونية .
لاتؤشر هذه الصورالى وجود ميول عنصرية متطرفة ضد العبرانيين عند الكاتب ، ترى ان التركيبة السيكولوجية للعبرانيين معجونة بالشر، بالعكس تشكلت هذه الشرورفي النفس العبرية ، واتخذت شكلها الشيطاني بفعل بعض الميول الاجرامية المرضية عند بعض انبيائهم ممن يعاني من حالات شيزوفرينيا ترافقها هلاوس وتخرصات ، اتخذت هذه الهلاوس عند العبراني العادي شكل النزوة او الميل السيكولوجي المميز بفعل تحولها الى معتقدات دينية اختلطت مع ما يعنيه الدين احيانا ومايتضمنه من خرافات واوهام تربط ،عادة الجريمة بارادة الخالق .
. فموقف بعض ابناء وبنات يعقوب حيال التوجهات الشريرة لابيهم، يؤكد ان نفوسهم تختزن الكثير من الشحنات الانسانية الخيرة، والحية التي سرعان ما تُستفز الى حد اعلان تمردها على النوايا الخبيثة لابيهم يعقوب ، الذي لم يراع ما قدمته قرية حمور من كرم وحسن استقبال وضيافة لهذا البدوي القادم ، لبضعة ايام كما قال يعقوب ، ، وجعلها حمور مفتوحة الى حد الاستعداد لقبول يعقوب للمشاركة بعيش دائم، وما ينعمون به من خيرفي مراعيهم ومائهم ،والموقع المميز لقريتهم على مفترق طرق اهم عواصم العالم ومدنها ، في ذلك الوقت ، اذا رغب بالتخلي عن طريقة عيشه في التنقل الدائم والترحال ، حتى ان حمور لم يتردد في تزويج بنات يعقوب لاولاده الثلاث بامل ان يقوي عرى الصلة والقربة ، الا ان يعقوب الذي تظاهر بانه يبادله نفس الشعور ، اراد ان يستخدم كل هذه الطيبة من اجل ان يطمئن حمور الى سلامة نواياه ليتمكن من الغدربه وبابناء قريته الذين يريدهم يعقوب ان يكونوا قربانا لالهه الشرير .
ان اله يعقوب اباح كل شئ لاتباعه ، الجنس والغدر ،ليفرغوا الارض من بقية العباد ويستفردوا بها . حتى الزواج يمكن ان يكون بضاعة للغدر ، ووسيلة للوصول لتنفيذ الفعل الشرير ، يفسر يعقوب لابنه روابين اسباب قبوله تزوج بناته لمن يخطط لقتلهم "ثم ماذا ليتزوجن اسبوعا ، اسبوعين ، ما المانع ... سيبقين كما هن ، بعدئذ نزوجهن لذوينا زواجاً ابديا " ( ص : 90 )
.بعد ان يطمئن سكان القرية وشيخها حمور لهذا القادم المجهول ، يتمكن يعقوب و ستة من ابائه ان يذبحوا سكان القرية ، بمن فيهم ازواج بناته ، وهن نائمات باحضان الزوجية .
تنتهي الصفحة الاولى من الرواية بحدث القتل الجماعي هذا ، فتقرر بنات يعقوب الثلاثة الهرب الى بابل ، هروبا من هذه العائلة التي امتهنت الجريمة ديناً ، وللعيش عند قريب ازواجهن اللمينو نمو، الذي ذاعت شهرته كامهر مهندس في بابل ، ما اعطاه مكانة مميزة عند الملك نبوخذ نصر وزوجته ، فهو واحد من افراد الحلقة الخاصة في حاشية الملك .
لم تكن رحلة بنات يعقوب سهلة وهن يجتزن البراري ، حتى تنكرهن بزي الرجال لم يخلصهن من المخاطر ، والعراك مع قطاع الطرق ، من بعض السجناء الهاربين . اجاد محمود سعيد استخدام ادواته الفنية لتصعيد غريزة التشوق والفضول عند القارئ ليتعرف كيف يمكن ان يصلن بنات يعقوب الى بابل . ، فالقارئ لايتوقف عن القراءة ، يظل يلهث متابعا مسيرة دينة وشمة حتى بعد فقدان بسمة ، تتملكه المخاوف عليهن من مفاجأة ، من قاطع طريق يختل وراء صخرة . ، او حيوان بري جائع
اركبني محمود سعيد ، لاادري ، او اني امتطيت على فرس من الرؤى والخيال والاحلام لاتابع معهن رحلتهن، من دون ان اشعر متمنيا لهن السلامة ، وكل مرة اهم ان اتدخل لمساعدتهن ، لاكتشف ان محمود سعيد كان من اللطف في حساب مشاعر قرائه فيخلصهن بانسيابية غيرمقصودة ومن دون ان يشعرك بتدخله لتغيير مجرى الحدث ، يحترم رغبات القارئ للحفاظ على سلامة البنات وبقائهن بعيدا عن الشر الذي هربن منه . حتى فقدان اصغرهن بسمة لايستوقف لاالكاتب ولا القارئ للشعور بالندم والالم عليها فتصاعد الاحداث يشد الجميع للالتصاق بتمني سلامة دينة وشمة .
يدرك الراوي محمود سعيد حجم التعب والارهاق الذي عانت منه بنات يعقوب في رحلتهن الشاقة الى بابل ، كما يدرك عبأ الارهاق الذي عاشه القارئ وهويتتبعهن في رحلتهن ، تتخذ احداث الرواية شكلها الهادئ بما يتناسب مع ما توفره المدن الحضارية الكبيرة من هدوء ، واشباع لمختلف حاجات ساكنها ، اضافة لتوفر الامن والطمانينة لمواطنيها . على ان هذه الانسيابية في السرد لاتلغي عاملي التشويق والرغبة في متابعة تفاصيل الحياة اليومية لبنات يعقوب - دينة وشمة - في حاضرة عصرها بابل . ولولا الاستحالة ، او لو كنت ممن يؤمن بتناسخ الارواح ، لأقسمت الف يمين من ان محمود سعيد الذي نراه روائيا من أبناء القرن الواحد والعشرين ما هو الا تجسيد لروح مواطن من مواطني بابل ، ولأخذته دليلا على أيماني هذا ، فهو يعرف بابل بشوارعها ، وأسواقها وأزقتها كانه أبنها ، من قضى طفولته وشبابه وكهولته بها ، فهو يصفها وصف من عاشها وعايش أزدهارها ، وطبيعة وعادات الحياة الاجتماعية السائدة فيها .
وصفه لطبيعة الحياة في بابل يجسد حضارتها بما قد لايتمكن أحسن المؤرخين المختصين بالعصر الاشوري من تقديم مثل هذا الوصف .
ظلت بابل تنعم بعزها وحضارتها ، وما يضفيه عقل ابنائها من أبداعات على حياتها اليومية ، مصدرا لحياة ناعمة هنيئة لعموم ابنائها ، كما لبنات يعقوب ، حتى وصلت أولى طلائع سبابيا العبرانيين اليها ، ليبدأ حقدهم ينخر هذه الحضارة من داخلها ، يتامر بعض السبابيا سراً مع قورش ملك الفرس ، يبعثون له أحلى نسائهم ليحفزوه للانتقام من بابل وملكها نبوخذ نصر . رغم ان نبوخذ نصر كان رحيما بهم فلم يقتلهم ويمضي السيف بهم كعادة المتحاربين حينذاك، التي تقضي بذبح السبايا والتخلص منهم او أستخدامهم كعبيد . الا ان رقي مشاعر واخلاق وحضارة اهل العراق من سومر حتى نبوخذ نصر والبابليين ارادت ان تعطيهم فرصة لاعادة تركيبتهم السايكولوجية لمسح صدأ الشرورالتي تراكمت عليها ، بفعل الهلاوس الشيزوفرينية لرجالات دينهم ، علها تعود لطبيعتها الانسانية الخيرة . ورغم ان بعض الاسرى استجاب فعلا لبيئة الخير الجديدة التي وفرها لهم البابليين ، كما حصل لبنات يعقوب الا ان دانيال المبتلى بمرض الخبث ، المنفصلة روحه عن طبيعتها الانسانية ، ظل يتامر بنشاط مع قورش . وبدأت بعض مظاهر الحقد المريض تظهر وتؤثر في الحياة البابليين اليومية .
فلا شك ان البلد تضعف ، وتبدأ حضارته وتقدمه بالتفكك من خلال اغتيال رجالاته المبدعين ، مفكريه ومهندسيه، فهم مصدر قوته ، ونهايتهم ستكون الخطوة الاولى لنهاية ذلك البلد كما خطط لذلك دانيال كبير الكهنة العبرانيين :
فيسقط كبير المهندسين الليمو نمو صريعا بفعل سهم مجهول يخترق نحره وهو جالس في جلسة تفكير واسترخاء في شرفة قصره ، المفتوحة . كأن الكاتب اراد تذكيرنا باستراتيجية قديمة ما زال العبريون يمارسونها في تعاونهم مع الفرس في اغتيال الخبراء والمهندسين العراقيين بعد الاحتلال .
ما الذي يريد ان يقوله محمود سعيد . هل اراد ان يقدم نفسه على انه قادر على ان يصنع ويركب صوراً جمالية ، حبا بالجمال لذاته فقط ، ليدخل المتعة واللذةعلى قلوب القراء . او انه اراد ان يوظف الجمال في خدمة معتقداته الاجتماعية والاخلاقية ليؤشر على استمرارية الحقد العبري على وادي الرافدين ، فهو حقد يتجدد كلما اراد شعبه ان ينهض ويتجاوز التخلف ويلحق او يشارك في بناء الحضارة والمدنية تتجسد روح الغدر والخيانة التي تبرر كل السلوكيات الساقطة الخبيثة عند العبرانيين للانتقام خوفاً من نبوخذ نصر أخر يمكن ان يتقدم من هذه الارض ليوقف سطوهم وسلبهم لارض عربية . كما استثمروا قوة قورش يمكنهم الان استغلال واستثمار همجية رعاة البقر ، لتدمير بغداد واثار بابل . وهل كان قورش بعيدا عما يجري الآن في بغداد وارض الرافدين من تخريب لايمكن فهمه وتبريره تحت اي معيار او قيمة اقتصادية او سياسية .او استراتيجية . ولايفسر الا بمضمون الحقد الذي التقى بمنتصفه اطماع قورش مع خبث دانيال وهمجية اليانكي من رعاة البقر . تلك هي على ما اعتقد الوظيفة الاخلاقية للرواية .
ان ذلك لايلغي أنسانية العبري ، المشبعة بالاخلاق بمفهومها الكلاسيكي عندما تتجرد من تخرصات وهلاوس الدين القائم على اوهام وخرافات ، لايدري الانسان هل هي السبب في تشكل عقدة الاضطهاد عندهم ، او انها كانت سببا لاضطهاد الاخرين لهم في فترات عاشوها من الزمن .فدينة وشمة ، واخويهما المتمردين جاد واشير ، كانوا عبرانيين ايضاً ،
قال محمود سعيد كل ذلك برمزية ، فيها الكثير من الصور الرومانسية ، تجسد الواقع وتصوره ، بلغة ادبية راقية ، منتقاة ، تقترب احيانا من لغة الشعر ، في رواية هي اقرب الى لوحة ضمت مجموعة من الصور، المتجانسة الاجزاء ، المتداخلة الابعاد والزوايا بحيث تكمل عناصر بعضها البعض . فهو يصور الواقع لاكخيال يجهد الكاتب نفسه ليضفي عليه شيئاً من سمات الواقع ، بل يبدو كراوي يوصف حدثاً كان قد عاشه او رأه ، بلغة وطريقة يشعر القارئ فيها ان الكاتب لايريد ان ينفرد برؤيته هذه ويعزل نفسه عن القارئ ، ليقول هذا ما رايته ،في وصف لامور غريبة او عجيبة مما لايسهل تصديقه، بل ينقل صوراً حياتية، او يصف حوادث يمكن ان تحدث فعلا ، فهو يشترك بها مع القارئ ، ويرسم بالكلمات صوراً طبيعية مقبولة تجسد حقائق يمكن ان يراها الانسان في حياته. فكما قلت من يدري قد يكون في رؤى اصحاب نظرية تجسيد الارواح ما يوحي ان روح محمود سعيد كانت قد عاشت الحدث او سمعت به قبل ان تتجسد بجسد كاتب الرواية الذي يعيش بيننا الان .
بعيداً عن المبالغة والاوهام لاشك ان الرواية تعكس جمالية وجدان الكاتب ، وعمق خبراته بالحياة .فوصفه ، مثلا ، لحركة الخيول خلال رحلة او هروب بنات يعقوب من اهلهن الى حين وصول بابل ، خاصة حركات الحصن وهن يعبرن الفرات ، لايمكن لكاتب ان يقدم هذا الوصف مالم يكن قد مر بتجربة مماثله او على الاقل راقب وراى تجارب مماثلة كثيرة. نفس الشئ يمكن ان يقال عن استخدامه للذباب في القصة عندما يريد ان يعطي الحدث واقعية ، اويحوله الى صورة ملموسة ، لايمكن ان يتوصل الكاتب لمثل هذا الاستخدام ما لم يكن قد نام فعلا على سطح المنزل في قرية متخلفة من قرى العراق ، او بعض أحياء المدنه الفقيرة .
لاشك ان الكاتب أجاد توظيف الخيال ليقدم لنا كل هذه المعاني بصور جميلة دون ان يثقل جمله او عبارات بالتزويق اللفظي أو الغريب من الكلمات .فهو يفصح عن افكاره وعواطفه ورؤاه بلغة جميلة لاتخلو من البساطة ، او مايوصف بلغة اهل الادب : بالسهل الممتنع . فهو يصف الشر والحقد واللؤم ، الحب والرضاوالامل والعطاء والحب ، دون تكلف او غرابة ، ودون ان يؤشر صراحة بوصفه هذا ، معاني يدركها القارئ حتى بدون ان يقولها الكاتب ،ومن دون ان يحرم القارئ من الاحساس بالمتعة الراقية ، فهو يجيد فن استخدام التشويق ، كاتب تاريخ يمزج الخيال بالواقع ليعرف القارئ بروعة حضارة بابل ، دون شعور با لملل فهو يسجل الظواهر الاجتماعية من عادات واخلاق وحياة يومية السائدة في ذلك الزمن ، دياناتهم ومعتقداتهم ، دون ان يفوته نقد ما يخلقه الدين من صور مبهمة قد تبدو احيانا اطارات مناسبة ليغلف بها الانسان نزعاته الشريرة بنسبتها لارادة الخالق . ويُعبر بطريقة اقرب لما تمثلة الحيرة الوجودية عند الانسان ليفسر كيف يمكن ان تتداخل هذه الصور المبهمة مع التساؤلات التقليدية عن غموض الوجود ، فيغدوا الناتج او الحصيلة ايمان ، يضفي شعورا من الهدوء والسكينة على صاحبه ، فيتمسك بكل هذا المبهم والغامض الى حد الاستعداد لقتل الاخر لالزامه على قبول ما يراه حقاً ، رغبة في ان يظل المؤمن محافظاً على شعوره باليقين المصنع او المغلف بالوهم وخوفاً من العودة لقلق التفكير والتساؤل . الهروب بالمبهم والغامض الى السكينة ، هروباً من الخوف من ان يستثار العقل ثانية ، ليبدأ رحلته بالتفكير عن الاصل والمصير. فهو ليس ايمان مقتنع بل هو نتاج الاحساس بالضعف والخور ، بحثاً عن قوة خارقة يريد ان يسرقها المتدين من قدرات الخالق ليضفيها لنفسه ، هو هارب من الخوف . كان دين يعقوب وروابين ، نموذج لمثل هذا التدين الذي يجعل القتل فريضة واحساساً بالقوة .
لاتختص العبرانية بمثل هذا النوع من المتدينين ، وحدة التركيبة السيكولوجية للمتدينين ، لا جوهر الدين نفسه ، هي ما يجعل القتل دينا عندهم مع اختلاف منطلقاتهم .