جمال
08-15-2004, 10:11 AM
صورة موثقة للمشهد العراقي منذ ثورة العشرين إلى سقوط صدام
الباحث كمال ديب يسأل في كتابه الجديد: الغرب إطفائي مهووس بإشعال الحرائق.. فكيف بحريق يمطر ذهباً؟
http://www.asharqalawsat.com/2004/06/20/images/books.240306.jpg
لم يكتف الدكتور كمال ديب في كتابه الصادر حديثاً «زلزال في ارض الشقاق» بنقل صورة متكاملة للمشهد العراقي برمته، بل اضاف رؤية لمستقبله، تمكن من وضعها بكم المعلومات الموسوعية التي ادرجها في الكتاب، لتشكل خلفية وثائقية زاخرة استند اليها، فاستحق الكتاب عن جدارة عنوانه الفرعي المتطلع الى افق العام 2015 .
يبدأ الكتاب بعرض البيئة الاقليمية والدولية في العام 2003. فيؤكد ان لا علاقة للغزو الاميركي للعراق بحرب بوش الابن على الارهاب، وليس من رابط بينه وبين احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001، سوى ما اتاحته هذه الاحداث من ذريعة للتدخل في شؤون الدول المستقلة الداخلية، وترتيب العالم بشكل يمكنه من السيطرة عليه. فالحرب الاميركية على العراق بدأت عام 1991، وانتهت بسقوط بغداد واحتلال اميركي بريطاني لكامل العراق في 9 ابريل (نيسان) 2003 .
اما هدف الحرب فيرى المؤلف انه بعد ازالة السبب السطحي المتمثل في هوس الرئيس الاميركي بالانتقام لبوش الاب، تظل ثلاثة اسباب رئيسية هي: جلب احتياطي نفطي كبير تحت سيطرة واشنطن، ازالة قوة عربية اخرى من النزاع العربي ـ الاسرائيلي، كما اخرجت مصر من المعادلة عام 1979 وتأكيد الهيمنة الاميركية في العالم كقوة عظمى وحيدة.
بعد تفنيد اسباب الحرب وشرح الخلفيات والنتائج. ومن اجل اكمال اللوحة بأبعادها وظلالها وخلفياتها، يعرض الكتاب تاريخ العراق، ليؤكد ان العراق ليس وليد الاستعمار البريطاني كما تحاول ان توحي المراجع الغربية. فعلى ارض الرافدين حيث لا توجد حواجز طبيعية تمنع قيام دولة واحدة، قامت اقدم حضارة في التاريخ، واستمر التاريخ منذاك حاضراً، حتى يومنا الذي ما زلنا مشغولين به.
يعود المؤلف ويعرض دور بريطانيا واميركا في تاريخ العراق الحديث منذ احتلته بريطانيا بالقهر العسكري عام 1915. ويذكّر بقمع ثورة العشرين ضد الاحتلال باستخدام الغاز السام ضد المدنيين. وباستغلال النفط العراقي لمدة عقود عبر «شركة النفط العراقي». وبدعم الولايات المتحدة لسلسلة انقلابات عسكرية بطشت بالكوادر العلمية والمثقفة بين عامي 1963 ـ 1968.
ثم دعمها لحرب العراق ضد ايران. ومدها نظام صدام حسين بأسلحة تقليدية ومواد لتطوير الاسلحة الكيماوية والبيولوجية جنت منها الشركات الاميركية مليارات الدولارات. ثم صمتها فيما بعد عن استخدام هذه الاسلحة ضد الشعب العراقي وضد ايران. ثم اشتراك اميركا وبريطانيا في حرب ضد العراق عام 1991 قضت على البنية التحتية، وقتلت عشرات الآلاف من شعبه. واخيراً وليس آخراً فرض العقوبات الاقتصادية على العراق التي ذهب ضحيتها اكثر من مليون ونصف المليون من النساء والاطفال العراقيين بين عامي 1991 ـ 2003 .
يؤكد المؤلف، بعد استعراض هذا التاريخ، على ان الاحتلال الاميركي للعراق لم يأت من فراغ، بل تسلل من شقوق العراقيين انفسهم، ومن تنوع غايات زعمائهم، ومن الحكم الاستبدادي الذي وحّد البلاد بقوة القمع والاضطهاد والقتل.
اما على الصعيد الاقتصادي، يؤرخ المؤلف لبدايات ظهور النفط، فيرى ان فترة الثلاثينيات شهدت بداية الصعود الاقتصادي العراقي، والذي استمر حتى العام 1980. ففي بداية الثلاثينيات تم بناء المنشآت الاستخراجية النفطية، ومد الانابيب من شمال العراق الى شرق المتوسط عبر خطي طرابلس في لبنان وحيفا في فلسطين. وبدأت عملية تصدير النفط الى الاسواق العالمية في العام 1938.
وفي بداية الخمسينات بنيت انابيب نفط جديدة عبر بانياس في سورية لمواكبة ارتفاع الانتاج. في هذه الفترة خطت الحكومة العراقية اول خطوة لتملك وسائل الانتاج عبر شراء مصفاة كركوك من الشركة الاجنبية، والتعاقد مع شركة اميركية لبناء مصفاة وطنية قرب بغداد. كما طبّقت ضريبة تصاعدية، وصلت حتى 50% على الارباح التي تجنيها الشركات النفطية الاجنبية اسوة بالمملكة العربية السعودية.
غير ان قطاع النفط لم يستوعب اكثر من 1% من اليد العاملة، في حين كان هذا القطاع ينتج اكثر من 35% من الدخل الوطني، مما خلق هوّة بين القطاعات الانتاجية، فظلت الاغلبية الساحقة من العراقيين تقوم بأعمال قليلة الدخل، واستمر النزوح من الارياف الى المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، فانصرفت القوى المنتجة الى هامش المجتمع او لتلتحق بالقوات المسلحة. مما اسس لمفارقات اجتماعية خطيرة، شكلت الشرارة لسلسلة من الانقلابات العسكرية الدموية التي توقفت بقوة القمع والقتل مع نظام صدام، وبسقوط العراق مأساوياً في قبضة الاحتلال.
يقدم المؤلف صدام حسين بعيداً عن المؤثرات الغربية، فيخلص الى ان الرجل لعب في العام 1969 دوراً كبيراً في بناء اجهزة السلطة التي اوصلت العراق الى مناخ الاستقرار في تلك الفترة.
لكن هذا الاستقرار تمحور حول شخصية بعينها وجدت في الحزب مطيتها، وفي العشيرة ملاذها حتى اسف معظم العراقيين لانهم ليسوا من تكريت ليحصلوا على بعض الوظائف المربحة.
اما على الصعيد الاقتصادي فقد اقتطع النظام العراقي عمولة على كافة الصادرات العراقية اضافها الى المبالغ المرصودة للتصنيع العسكري والتي كانت قد بلغت 2.5 مليار دولار، كما استقطب آلاف العلماء العراقيين والعرب والاجانب في شتى المجالات، حتى اصبحوا ثروة استراتيجية دفعت الولايات المتحدة فيما بعد الكثير من رصيدها الدبلوماسي لاخراجهم من العراق.
والى جانب التصنيع العسكري، خطا العراق قدماً في تطوير الاقتصاد المدني، ففي العام 1980 اصبح دولة عصرية لها منشآتها الصناعية والمعاهد، ووضعت خطط لخلق بنية تحتية من العلماء والعقول. واستقدم مئات الوف من العمال والفلاحين من العالم العربي بلغوا 1.5 مليون عامل عوملوا معاملة ممتازة. كما بنى آلاف المدارس الثانوية في انحاء البلاد، وجعل التعليم اجبارياً. وحسّن وضع المرأة فوصلت نسبة انتسابها الى التعليم ما قبل الجامعي لحدود 34%. كما اهتم الحكم بالشأن الخدماتي فأوصل الكهرباء الى معظم ارجاء العراق، ووزع مجاناً ملايين البرادات واجهزة التلفزيون على المواطنين كي لا يسأل العراقيون «ماذا نفعل بالكهرباء»؟
هذه المنجزات تفرض سؤالا بات ضرورياً: اليس انطباعاً غريباً ونحن نطل على صدام حسين من منظور العام 2003 ان نقول إنه مصلح اجتماعي، وانه قدم لشعب العراق ما لم يستطعه غيره؟
يجيب المؤلف: ان الانفاق العام خلال الفترة من 1968 ـ 1978 كان من ثروة الشعب العراقي، لا من مال صدام حسين الشخصي، ولكن بسبب استفراده بالسلطة واستيلائه على مقدرات البلاد اصبحنا نسمع بأن صدّام اعطى، وصدّام اخذ فاختلط الخاص بالعام واصبح مصير العباد منّة في يد ولي الامر.
بداية الهبوط، على ما يرى المؤلف، كان في العام 1980 مع افتعال الحرب العراقية ـ الايرانية، وان هذه الحرب توازي بجسامة خطئها قيام دولة اسرائيل. فقد كانت حرباً عبثية لم يستطع صدّام الانتصار فيها وتركيع ايران، كما احتاج الى الارتهان للاميركيين اكثر بعد ان استطاع الايرانيون في العام 1986 احتلال الفاو، فسقطت قادسية صدّام، ومحت هذه الحرب كل المكتسبات التي حققها حكم البعث خلال السنوات العشر الاخيرة. بعد ان اسفرت الحرب عن مليون ضحية وعن تكلفة مشتركة بلغت 600 مليار دولار.
كما ان علاقات العراق مع الدول العربية التي اتسمت بالغطرسة والانفعال والتآمر والتدخل في الشؤون الداخلية، افقدته العمق العربي. فبعد ان وجّه اسلحته الى سورية من خلال حربه المخابراتية، ومؤامرات الاغتيال. قام باجتياح الكويت في العام 1990، الذي شكل قمة الغباء السياسي المشوب بالغطرسة الفارغة التي دفع العراق اثمانها باهظة، وفتح الباب واسعاً امام التدخل الاميركي المباشر في شؤونه.
ومن اسباب الهبوط ايضاً، اميّة النظام العراقي في قراءة التحولات الدولية، خصوصاً التحولات الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفياتي. كما انه لم يلتقط الارباك الدولي الناتج عن انفراد الولايات المتحدة في السيطرة على العالم، ولم يستطع التعامل مع انعكاسات احداث 11 سبتمبر 2001 فسقط في فخها، لم يدرك انه بالغ في العسكرة، وان التداعيات التي تسوغها المصالح الكبرى للدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الاميركية قد بلغت حداً لم يعد يسمح باستمراره.
اما على صعيد المستقبل فيرى المؤلف ان معدلات النمو ستتراوح بين 7 ـ 10% سنوياً خلال خمس سنوات. وإن ذلك يتوقف على القدرة في تنويع القاعدة الاقتصادية للعراق وعدم اتكاله كالسابق على سلعة واحدة هي النفط.
الا ان تكاليف الحرب التي تتراوح بين 150 ـ 400 مليار دولار، لا يمكن الركون اليها قبل استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار، فتبقى مفتوحة على حاجيات مالية يحتاجها السلام كما تحتاجها الحرب.
بعد استعراض مستفيض للحركات المرشحة لاعادة اعمار العراق، وللقوى السياسية التي تشكل مشروعاً سياسياً لتولي الشأن العام. يضيف الكتاب ملاحقاً تتكون من جداول احصائية عن مردود النفط، وجداول عن الانفاق على البضائع الاستهلاكية، وكذلك جداول عن القوى العاملة والقوات المسلحة، والانفاق العسكري، وشركات النفط الرئيسية في العالم، ومعدلات الدخل الفردي، والقدرة الانتاجية للعراق، ووفيات الاطفال، وعدد السكان التقديري، وغيرها من المعلومات الاساسية والدقيقة التي يضعها لبنة اساسية لدراسة لاحقة. ويعمد الى نشر كل قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالعراق، وكل ما يتعلق بالمسألة العراقية ليصبح الكتاب مرجعاً موثقاً لا يمكن الاستغناء عنه في هذا المضمار.
بعد قراءة هذه الموسوعة التي بحثت في الشأن العراقي من جوانبه كافة، يقف القارئ معجباً بالجهد الاستثنائي الذي بذله الكاتب بمدة وجيزة. وبالبحث الجاد، والتحليل الدقيق، والنتائج المنطقية التي تمكّن القارئ من تكوين رأي مستقل عن المأساة العراقية بعيداً عن المهاترات الاعلامية.
قدّم الدكتور جورج قرم للكتاب بمقدمة ساهمت في تكامل رؤية المؤلف، ونختم عرضنا للكتاب بمقولة له تلخّص واقع الحال: الغرب اطفائي مهووس بإشعال الحرائق. فكيف بحريق يمطر ذهباً.
الباحث كمال ديب يسأل في كتابه الجديد: الغرب إطفائي مهووس بإشعال الحرائق.. فكيف بحريق يمطر ذهباً؟
http://www.asharqalawsat.com/2004/06/20/images/books.240306.jpg
لم يكتف الدكتور كمال ديب في كتابه الصادر حديثاً «زلزال في ارض الشقاق» بنقل صورة متكاملة للمشهد العراقي برمته، بل اضاف رؤية لمستقبله، تمكن من وضعها بكم المعلومات الموسوعية التي ادرجها في الكتاب، لتشكل خلفية وثائقية زاخرة استند اليها، فاستحق الكتاب عن جدارة عنوانه الفرعي المتطلع الى افق العام 2015 .
يبدأ الكتاب بعرض البيئة الاقليمية والدولية في العام 2003. فيؤكد ان لا علاقة للغزو الاميركي للعراق بحرب بوش الابن على الارهاب، وليس من رابط بينه وبين احداث 11 سبتمبر (ايلول) 2001، سوى ما اتاحته هذه الاحداث من ذريعة للتدخل في شؤون الدول المستقلة الداخلية، وترتيب العالم بشكل يمكنه من السيطرة عليه. فالحرب الاميركية على العراق بدأت عام 1991، وانتهت بسقوط بغداد واحتلال اميركي بريطاني لكامل العراق في 9 ابريل (نيسان) 2003 .
اما هدف الحرب فيرى المؤلف انه بعد ازالة السبب السطحي المتمثل في هوس الرئيس الاميركي بالانتقام لبوش الاب، تظل ثلاثة اسباب رئيسية هي: جلب احتياطي نفطي كبير تحت سيطرة واشنطن، ازالة قوة عربية اخرى من النزاع العربي ـ الاسرائيلي، كما اخرجت مصر من المعادلة عام 1979 وتأكيد الهيمنة الاميركية في العالم كقوة عظمى وحيدة.
بعد تفنيد اسباب الحرب وشرح الخلفيات والنتائج. ومن اجل اكمال اللوحة بأبعادها وظلالها وخلفياتها، يعرض الكتاب تاريخ العراق، ليؤكد ان العراق ليس وليد الاستعمار البريطاني كما تحاول ان توحي المراجع الغربية. فعلى ارض الرافدين حيث لا توجد حواجز طبيعية تمنع قيام دولة واحدة، قامت اقدم حضارة في التاريخ، واستمر التاريخ منذاك حاضراً، حتى يومنا الذي ما زلنا مشغولين به.
يعود المؤلف ويعرض دور بريطانيا واميركا في تاريخ العراق الحديث منذ احتلته بريطانيا بالقهر العسكري عام 1915. ويذكّر بقمع ثورة العشرين ضد الاحتلال باستخدام الغاز السام ضد المدنيين. وباستغلال النفط العراقي لمدة عقود عبر «شركة النفط العراقي». وبدعم الولايات المتحدة لسلسلة انقلابات عسكرية بطشت بالكوادر العلمية والمثقفة بين عامي 1963 ـ 1968.
ثم دعمها لحرب العراق ضد ايران. ومدها نظام صدام حسين بأسلحة تقليدية ومواد لتطوير الاسلحة الكيماوية والبيولوجية جنت منها الشركات الاميركية مليارات الدولارات. ثم صمتها فيما بعد عن استخدام هذه الاسلحة ضد الشعب العراقي وضد ايران. ثم اشتراك اميركا وبريطانيا في حرب ضد العراق عام 1991 قضت على البنية التحتية، وقتلت عشرات الآلاف من شعبه. واخيراً وليس آخراً فرض العقوبات الاقتصادية على العراق التي ذهب ضحيتها اكثر من مليون ونصف المليون من النساء والاطفال العراقيين بين عامي 1991 ـ 2003 .
يؤكد المؤلف، بعد استعراض هذا التاريخ، على ان الاحتلال الاميركي للعراق لم يأت من فراغ، بل تسلل من شقوق العراقيين انفسهم، ومن تنوع غايات زعمائهم، ومن الحكم الاستبدادي الذي وحّد البلاد بقوة القمع والاضطهاد والقتل.
اما على الصعيد الاقتصادي، يؤرخ المؤلف لبدايات ظهور النفط، فيرى ان فترة الثلاثينيات شهدت بداية الصعود الاقتصادي العراقي، والذي استمر حتى العام 1980. ففي بداية الثلاثينيات تم بناء المنشآت الاستخراجية النفطية، ومد الانابيب من شمال العراق الى شرق المتوسط عبر خطي طرابلس في لبنان وحيفا في فلسطين. وبدأت عملية تصدير النفط الى الاسواق العالمية في العام 1938.
وفي بداية الخمسينات بنيت انابيب نفط جديدة عبر بانياس في سورية لمواكبة ارتفاع الانتاج. في هذه الفترة خطت الحكومة العراقية اول خطوة لتملك وسائل الانتاج عبر شراء مصفاة كركوك من الشركة الاجنبية، والتعاقد مع شركة اميركية لبناء مصفاة وطنية قرب بغداد. كما طبّقت ضريبة تصاعدية، وصلت حتى 50% على الارباح التي تجنيها الشركات النفطية الاجنبية اسوة بالمملكة العربية السعودية.
غير ان قطاع النفط لم يستوعب اكثر من 1% من اليد العاملة، في حين كان هذا القطاع ينتج اكثر من 35% من الدخل الوطني، مما خلق هوّة بين القطاعات الانتاجية، فظلت الاغلبية الساحقة من العراقيين تقوم بأعمال قليلة الدخل، واستمر النزوح من الارياف الى المدن بحثاً عن عمل غير متوفر، فانصرفت القوى المنتجة الى هامش المجتمع او لتلتحق بالقوات المسلحة. مما اسس لمفارقات اجتماعية خطيرة، شكلت الشرارة لسلسلة من الانقلابات العسكرية الدموية التي توقفت بقوة القمع والقتل مع نظام صدام، وبسقوط العراق مأساوياً في قبضة الاحتلال.
يقدم المؤلف صدام حسين بعيداً عن المؤثرات الغربية، فيخلص الى ان الرجل لعب في العام 1969 دوراً كبيراً في بناء اجهزة السلطة التي اوصلت العراق الى مناخ الاستقرار في تلك الفترة.
لكن هذا الاستقرار تمحور حول شخصية بعينها وجدت في الحزب مطيتها، وفي العشيرة ملاذها حتى اسف معظم العراقيين لانهم ليسوا من تكريت ليحصلوا على بعض الوظائف المربحة.
اما على الصعيد الاقتصادي فقد اقتطع النظام العراقي عمولة على كافة الصادرات العراقية اضافها الى المبالغ المرصودة للتصنيع العسكري والتي كانت قد بلغت 2.5 مليار دولار، كما استقطب آلاف العلماء العراقيين والعرب والاجانب في شتى المجالات، حتى اصبحوا ثروة استراتيجية دفعت الولايات المتحدة فيما بعد الكثير من رصيدها الدبلوماسي لاخراجهم من العراق.
والى جانب التصنيع العسكري، خطا العراق قدماً في تطوير الاقتصاد المدني، ففي العام 1980 اصبح دولة عصرية لها منشآتها الصناعية والمعاهد، ووضعت خطط لخلق بنية تحتية من العلماء والعقول. واستقدم مئات الوف من العمال والفلاحين من العالم العربي بلغوا 1.5 مليون عامل عوملوا معاملة ممتازة. كما بنى آلاف المدارس الثانوية في انحاء البلاد، وجعل التعليم اجبارياً. وحسّن وضع المرأة فوصلت نسبة انتسابها الى التعليم ما قبل الجامعي لحدود 34%. كما اهتم الحكم بالشأن الخدماتي فأوصل الكهرباء الى معظم ارجاء العراق، ووزع مجاناً ملايين البرادات واجهزة التلفزيون على المواطنين كي لا يسأل العراقيون «ماذا نفعل بالكهرباء»؟
هذه المنجزات تفرض سؤالا بات ضرورياً: اليس انطباعاً غريباً ونحن نطل على صدام حسين من منظور العام 2003 ان نقول إنه مصلح اجتماعي، وانه قدم لشعب العراق ما لم يستطعه غيره؟
يجيب المؤلف: ان الانفاق العام خلال الفترة من 1968 ـ 1978 كان من ثروة الشعب العراقي، لا من مال صدام حسين الشخصي، ولكن بسبب استفراده بالسلطة واستيلائه على مقدرات البلاد اصبحنا نسمع بأن صدّام اعطى، وصدّام اخذ فاختلط الخاص بالعام واصبح مصير العباد منّة في يد ولي الامر.
بداية الهبوط، على ما يرى المؤلف، كان في العام 1980 مع افتعال الحرب العراقية ـ الايرانية، وان هذه الحرب توازي بجسامة خطئها قيام دولة اسرائيل. فقد كانت حرباً عبثية لم يستطع صدّام الانتصار فيها وتركيع ايران، كما احتاج الى الارتهان للاميركيين اكثر بعد ان استطاع الايرانيون في العام 1986 احتلال الفاو، فسقطت قادسية صدّام، ومحت هذه الحرب كل المكتسبات التي حققها حكم البعث خلال السنوات العشر الاخيرة. بعد ان اسفرت الحرب عن مليون ضحية وعن تكلفة مشتركة بلغت 600 مليار دولار.
كما ان علاقات العراق مع الدول العربية التي اتسمت بالغطرسة والانفعال والتآمر والتدخل في الشؤون الداخلية، افقدته العمق العربي. فبعد ان وجّه اسلحته الى سورية من خلال حربه المخابراتية، ومؤامرات الاغتيال. قام باجتياح الكويت في العام 1990، الذي شكل قمة الغباء السياسي المشوب بالغطرسة الفارغة التي دفع العراق اثمانها باهظة، وفتح الباب واسعاً امام التدخل الاميركي المباشر في شؤونه.
ومن اسباب الهبوط ايضاً، اميّة النظام العراقي في قراءة التحولات الدولية، خصوصاً التحولات الناتجة عن انهيار الاتحاد السوفياتي. كما انه لم يلتقط الارباك الدولي الناتج عن انفراد الولايات المتحدة في السيطرة على العالم، ولم يستطع التعامل مع انعكاسات احداث 11 سبتمبر 2001 فسقط في فخها، لم يدرك انه بالغ في العسكرة، وان التداعيات التي تسوغها المصالح الكبرى للدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الاميركية قد بلغت حداً لم يعد يسمح باستمراره.
اما على صعيد المستقبل فيرى المؤلف ان معدلات النمو ستتراوح بين 7 ـ 10% سنوياً خلال خمس سنوات. وإن ذلك يتوقف على القدرة في تنويع القاعدة الاقتصادية للعراق وعدم اتكاله كالسابق على سلعة واحدة هي النفط.
الا ان تكاليف الحرب التي تتراوح بين 150 ـ 400 مليار دولار، لا يمكن الركون اليها قبل استتباب الأمن وتحقيق الاستقرار، فتبقى مفتوحة على حاجيات مالية يحتاجها السلام كما تحتاجها الحرب.
بعد استعراض مستفيض للحركات المرشحة لاعادة اعمار العراق، وللقوى السياسية التي تشكل مشروعاً سياسياً لتولي الشأن العام. يضيف الكتاب ملاحقاً تتكون من جداول احصائية عن مردود النفط، وجداول عن الانفاق على البضائع الاستهلاكية، وكذلك جداول عن القوى العاملة والقوات المسلحة، والانفاق العسكري، وشركات النفط الرئيسية في العالم، ومعدلات الدخل الفردي، والقدرة الانتاجية للعراق، ووفيات الاطفال، وعدد السكان التقديري، وغيرها من المعلومات الاساسية والدقيقة التي يضعها لبنة اساسية لدراسة لاحقة. ويعمد الى نشر كل قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالعراق، وكل ما يتعلق بالمسألة العراقية ليصبح الكتاب مرجعاً موثقاً لا يمكن الاستغناء عنه في هذا المضمار.
بعد قراءة هذه الموسوعة التي بحثت في الشأن العراقي من جوانبه كافة، يقف القارئ معجباً بالجهد الاستثنائي الذي بذله الكاتب بمدة وجيزة. وبالبحث الجاد، والتحليل الدقيق، والنتائج المنطقية التي تمكّن القارئ من تكوين رأي مستقل عن المأساة العراقية بعيداً عن المهاترات الاعلامية.
قدّم الدكتور جورج قرم للكتاب بمقدمة ساهمت في تكامل رؤية المؤلف، ونختم عرضنا للكتاب بمقولة له تلخّص واقع الحال: الغرب اطفائي مهووس بإشعال الحرائق. فكيف بحريق يمطر ذهباً.