yasmeen
02-03-2009, 11:35 AM
تينيت «الثمل» هاجم المحافظين الجدد المحيطين بتشيني: الأوغاد... اليهود
| تعريب عبدالعليم الحجار وعمرو علي زين العابدين |
صدر أخيراً عن دار «فارار، شتراوس وغريوكس» في الولايات المتحدة كتاب «عالم مضطرب... البيت الأبيض والشرق الأوسط من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب» للإعلامي الأميركي باتريك تايلر.
وقد أحدث الكتاب جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية والإعلامية كونه حوى الكثير من القصص التي استقاها تايلر من بعض «مصادره»، مركزاً على تعاطي الرؤساء الأميركيين من دوايت أيزنهاور حتى جورج دبليو بوش مع الشرق الأوسط، وتحديداً العملية السلمية.
كثيرون علقوا على هذا الكتاب، لكن العرض الذي سيأتي له سيركز على مراجع أربعة تشكل صورة عامة ونقدية لما أورده تايلر. الأول سانفورد دي هورويت في جريدة «سان فرانسيسكو كرونيكل»، الثاني روجر غاثمان في صحيفة «أميركان ستايتسمان»، الثالث جورج فالدين في موقع «بلومبرغ نيوز»، والرابع من «الإيكونوميست».
يفتتح تايلور كتابه بمشهد قصصي بطله مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق جورج تينيت، عندما «كان متواجداً في بداية العام 2004 في إحدى الدول الخليجية، إذ نزل حينها ضيفاً في قصر صديق له»، يقول تايلر ويضيف: «تينيت تلقى اتصالاً عبر أحد هواتفه الأمنية علم فيه من مساعديه أن البيت الأبيض خطط لإلقاء اللوم عليه وعلى الوكالة بسبب الفشل الاستخباري قبل الحرب على العراق، إذ زعمت التقارير السابقة امتلاك هذا البلد أسلحة دمار شامل.
لم يتمكن تينيت من النوم فتناول حبة دواء، لكنه خرج مكروباً من غرفته، مرتدياً سروالاً داخلياً وقميص نوم (تي شيرت) بصورة أثارت دهشة مضيفه ومساعده اللذين كانا يشاهدان التلفاز عندما دخل تينيت عليهما. طلب تينيت الويسكي فأحضر له الخادم قنينة احتسى نصفها في دقائق معدودة. ثم بدأ يصيح: (إنهم يتآمرون ضدي، الأوغاد يتآمرون ضدي. لكنني لن أعطيهم الفرصة لذلك)». ويضيف تايلر بأن تينيت لم يكن ليسمح بتلقي «اللوم على أسلحة الدمار الشامل المفقودة - الذريعة الكبرى لشن الحرب على العراق.
وكان كلما تناول مزيداً من الخمر ازداد هجوم تينيت على أعدائه في البنتاغون، وعلى أصحاب الأيديولوجيات في البيت الأبيض الخاضع لبوش وتشيني». وحسب ما كتب تايلر، وفقاً لأحد الشهود، فإن تينيت سخر من المحافظين الجدد في إدارة بوش وانحيازهم إلى جانب الجناح اليميني في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، مشيراً إليهم ساخطاً بكلمة «اليهود»، مشيراً بذلك إلى أولئك المحافظين الجدد الذين التفوا حول ديك تشيني، والذين، حسب زعم تينيت، روجوا لقصة أسلحة الدمار الشامل العراقية. ثم قرر تينيت السباحة في ثيابه الداخلية، رغم استمرار حال الغضب عنده وتدخينه سيجاراً وشربه المزيد من الخمر. بيد أن مضيفه ومساعده خافا عليه من الغرق تحت تأثير الدواء والكحول فأخذا يمشيان قرب البار بجوار حوض السباحة.
قد توحي هذه الحدوتة الافتتاحية بالاعتقاد أن سرد تايلر التاريخي سيركز بشكل أساسي على مسألة غزو العراق. لكن لن يكون هناك أي ذكر للمغامرة العسكرية الأميركية في العراق، حتى يصل المؤلف إلى الفصل الأخير، وحتى عندما يأتي ذكرها يتم تناولها بطريقة سريعة، مقارنة مع تفحصه الدقيق لديبلوماسية هنري كيسنجر الشرق أوسطية في السبعينات من القرن الماضي ولقمة «كامب ديفيد» التي رعاها جيمي كارتر، ولسياسة رونالد ريغان في لبنان، وحرب الخليج ومحاولة بيل كلينتون عقد اتفاق بين إيهود باراك وياسر عرفات.
ولعل الشيء البارز وراء سياق قصة تينيت ليس الإشارة إلى أن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية قد كشف عن بعض أحقاده الدفينة تحت الضغط والثمالة، بل من حقيقة أن القصة ربما تكون قد وردت بالفعل من مضيف تينيت، وهو مصدر بدا وكأنه أتاح لـ تايلر مدخلاً شكل كثيراً من كتابه الجديد.
وهذا المدخل ربما يفسر بعض النقاط العمياء لهذا الكتاب. وفي حين يلخص تايلر ببراعة السياسات الرئاسية الأميركية فهو يقدم أيضاً تفسيرا ديناميكياً للسياسات في الشرق الأوسط، إذ يسوق في كتابه قصة عن اقتراح قدمه أحد المسؤولين في إحدى الدول الشرق أوسطية إلى الرئيس الأميركي السابق كلينتون بأن تؤسس الدولتان حركة عسكرية جهادية للإطاحة بنظام صدام، قائلاً: «يمكننا أن نعيد ما فعلناه في أفغانستان... سنساهم بمليار دولار من جانبنا وتساهمون بمليار دولار من جانبكم ولن نستريح حتى نتخلص من هذا الرجل لأنه لا يمكنه أن يفرق بيننا». ويبدو أن تايلر اعتبر عدم متابعة كلينتون لهذا العرض بمثابة دليل على تهربه.
لكن ما يلوم عليه تايلر الرئيس كلينتون كيف أنه فشل في فهم شغب «القاعدة» وفوّت فرص مهاجمة قيادة أسامة بن لادن في أفغانستان. إن فكرة همس كلينتون في أذن زوجته هيلاري بعدما أصبحت وزيرة للخارجية يدعو إلى الإحساس بعدم السعادة.
وبين تينيت وتايلر - المراسل السابق لجريدة «الواشنطن بوست» وجريدة «نيويورك تايمز» - قاسم مشترك واحد بينهما على الأقل، وهو علاقتهما المقربة بالمضيف، وهو أحد أسلس اللاعبين الديبلوماسيين السابقين. ففي هذا الكتاب لا يستقي تايلر رواياته فقط عن المقابلات العديدة التي أُجريت مع المضيف وغيره من اللاعبين الأساسيين الآخرين المقربين ذوي السمعة المتفاوتة، بل كشف تايلر أيضاً عن اطلاعه الكامل على الأدبيات الفنية التي تحدثت عن دور الولايات المتحدة في سياسات الشرق الأوسط منذ عقد الخمسينات.
والصورة التي تبرز - بالطبع - ليست مثالية بسبب الإخفاقات الاستخباراتية والديبلوماسية الأميركية في المنطقة طوال مدة حكم ثمانية رؤساء على مدى ستة عقود تتجاوز بكثير عدد النجاحات. لكن بالفعل عندما جاء عام 1993، اتفقت إسرائيل و«منظمة التحرير الفلسطينية» - بمساعدة الولايات المتحدة - على صياغة إطار لإحلال السلام، وهو ما يعتبر بلا شك ثاني أكبر الإنجازات التي تحققت خلال تلك الفترة وهو «اتفاق أوسلو» فكما يقول تايلر: «مثلت (الاتفاقية) أعظم إنجاز ديبلوماسي في الشرق الأوسط منذ أن وقع أنور السادات ومناحيم بيغن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل».
لكن وعد «أوسلو» الذي تضمن موافقة إسرائيل على إنشاء دولة فلسطينية في نهاية المطاف على حدودها - لم يتحقق رغم محاولات كلينتون المستميتة لجمع إسرائيل و«منظمة التحرير الفلسطينية» إلى مسار «التفاوض» في أواخر أيام فترة حكم كلينتون. ومن وجهة نظر تايلر، ربما كان بإمكان كلينتون إنجاز أكثر مما حققه خلال فترة رئاسته لو تناسب تبنيه لمخاوف جميع الأطراف في الشرق الأوسط مع مزيد من الديبلوماسية المنضبطة. لكن تايلر لم يكن واضحاً بدرجة كافية عما يعنيه بلفظ «منضبطة».
ويعتبر عدم الثبات من الأمور التي تثير الغيظ لدى تايلر فهو ينظر بنظرة ناقدة تجاه كل رئيس تولى الحكم منذ أيزنهاور لعدم اتباعه لخط ثابت في المنطقة. فكتب: «...وفي حين أنه من المبالغة القول إن جون كنيدي قلب موقف أيزنهاور (في المنطقة)، فإن ليندون جونسون قلب نهج كيندي، ونيكسون قلب موقف جونسون، وهكذا».
والأمر البارز في هذا التاريخ للفكر الرئاسي وتحركه يظهر كيف يميّز كل قائد نفسه عن سابقه - وهذه سمة بشرية - وهكذا يظهر جانب عدم الثبات الدائم في السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
إن أسلوب السرد الذي ينتهجه تايلر في كتابه يذكر بأن الشرق الأوسط كان - ولا يزال - منطقة غير مضيافة - إن لم تكن مقبرة - للديبلوماسية الرئاسية الأميركية، سواء كان الذين يمارسونها «الديموقراطيون» أو «الجمهوريون». فجزء كبير من خسارة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر لمعركة إعادة انتخابه كان بسبب أن 52 ديبلوماسياً أميركياً تم احتجازهم كرهائن في إيران لمدة أكثر من عام بعد أن نجح أتباع الخميني في الإطاحة بالشاه الذي كان مدعوماً من جانب الولايات المتحدة. كما أن صورة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان تضررت بشكل سيئ بسبب المعضلة التي واجهتها الولايات المتحدة في لبنان وبسبب فضيحة «إيران - كونترا».
ووفقاً لما يلاحظه تايلر في كتابه، فإنه رغم النجاح الظاهري الذي حققه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في تنفيذ حرب الخليج (حرب تحرير الكويت)، فإن ذلك الأمر كانت له تكاليف أخلاقية وعواقب حادة استمرت تأثيراتها لفترة طويلة لاحقة. فالموقف الأميركي الرسمي في نهاية تلك الحرب كان مفاده أن قوة النيران الحربية الأميركية قد تم تركيزها بشكل حصري على القوات العسكرية التابعة لصدام التي كانت تحتل الكويت آنذاك.
لكن تايلر يعلق على ذلك الزعم في كتابه قائلاً: «لم يكن ذلك صحيحاً كلياً»، مستنداً في ذلك إلى سرد ذكريات ما كان قد شهده بنفسه كمراسل خارجي قام بتغطية مجريات تلك الحرب، ويقول: «عندما رأيت العراة بعد انتهاء الحرب مباشرة فإنني أدركت مدى الدمار الذي ألحقه الأميركيون بالسكان المدنيين... وسيأتي الوقت الذي سيتم فيه إلقاء اللوم على أميركا بسبب الحال المزرية التي عاش ملايين المدنيين العراقيين فيها بعد الحرب».
ولو أن ديك تشيني - كنائب للرئيس الأميركي - كان قد أدرك هذا الجزء من الميراث الذي خلّفته أميركا وراءها في العراق، فلربما لم يتكهن بأن القوات الأميركية التي غزت العراق في العام 2003 ستحظى باستقبال المحررين من جانب المواطنين العراقيين العاديين.
وفي سياق تحليله التاريخي، ذي التفكير الواقعي، يطرح تايلر في كتابه حجة مثالية تدعو إلى ضرورة إيجاد دور أكثر فاعلية للولايات المتحدة بحيث يكون ذلك الدور منسجماً مع تاريخ أميركا ومع مُثلها العليا، وكذلك مع استعدادها لخوض غمار المخاطر.
وعن تلك النقطة يقول تايلر: «من السهل أن ننسى أن الولايات المتحدة - في ظل حكم روزفلت وترومان وايزنهاور - كانت في طليعة مسيرة خلق وبناء منظمة الأمم المتحدة باعتبارها أداة فعالة لمنع نشوب الحروب، وللعمل المشترك، بالإضافة الى كونها أداة لسن القوانين الدولية، ولذلك فإن تقويض نظام عالمي - وهو النظام الذي بات الآن بمثابة نبض قوي في السياسة الأميركية - هو أمر يعني الانتكاس إلى النموذج الذي كان ابتكره الفيلسوف البريطاني توماس هوبس، وهو النموذج القائم على فكرة أن القوة الأحادية تندفع حتمياً في بعض الأوقات وفقاً لمقتضيات سياساتها الداخلية أو المصالح القومية الضيقة».
والواقع أنه لا يُتوقع من تايلر أن يكون رقيقاً في انتقاده للرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون ولوزير خارجيته هنري كيسنجر، أو حتى في انتقاده للرئيسين بوش الأب والابن، وهو، أي تايلر، ليس رقيقاً في انتقاده لهؤلاء، ومع ذلك فإن الرئيس الأميركي الذي تلّقى أكبر قدر من الانتقادات اللاذعة في هذا الكتاب هو الرئيس بيل كلينتون. وفي سياق تعليقه على تعامل كلينتون مع العراق، فإن تايلر يصف كلينتون بأنه كان «غافلاً وغير مطلع على حقائق الأمور ومشتت الانتباه».
وبالنسبة إلى محاولة كلينتون الفاشلة إبرام اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل، فإن تايلر يرى أن تلك المحاولة عانت مما وصفه بـ «قدرة كلينتون المذهلة على التقمص العاطفي»، ألا وهي الحساسية التي «أغرقته في بحر من النزاعات العاطفية وتسببت في تقويض الضغط الحاسم الذي هو بمثابة حجر الزاوية بالنسبة إلى الزعامة»، على حد تعبير تايلر.
ووفقاً لما يراه تايلر في كتابه، فإن هذا الأمر كلف أميركا نفوذها وتأثيرها لدى اسرائيل، وهو الأمر الذي سمح لقادة اسرائيل بأن يوهموا أنفسهم بالاعتقاد بأن دولتهم قد تصبح قوة عظمى مصغرة. والواقع أن الرئيس الأميركي الوحيد الذي كان حاسماً في سد الطريق أمام ذلك الطموح كان الرئيس أيزنهاور الذي أرغم اسرائيل وبريطانيا وفرنسا على التراجع عن الخطة التي كانت تلك الدول الثلاث قد اتفقت عليها لغزو مصر في عهد جمال عبدالناصر في العام 1956.
لكن ابتداء من حرب العام 1967، بدأ الرؤساء الأميركيون أكثر ميلاً الى عدم استخدام نفوذهم للتخفيف من حدة أحلام اليمين الاسرائيلي في شأن إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وقد أدى ذلك الأمر الى كوارث عدة مثل غزو لبنان في العام 1982، وإلى إخفاق عملية السلام الدائم من أن تسفر عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وإلى خلق الإرهاب كأداة فاعلة لتحقيق تقدم سياسي.
ولذلك فإن الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة أعاد إلى الأذهان عمليات غزو سابقة كانت قد قامت بها إسرائيل ضد لبنان، كما أن الولايات المتحدة بدت غير قادرة على إيقاف ذلك الهجوم ضد غزة أو حتى على التوسط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وهو الأمر الذي يعد بمثابة تأكيد قوي لوجهة نظر تايلر في كتابه.
بيد أنه كان من الممكن لرؤية تايلر أن تكون أكثر قوة لو أنه توقف قليلاً كي يتأمل أدوار لاعبين آخرين في خارج دائرة الأقوياء، أو القوى التي أسهمت في تشكيل المصالح الأميركية في المنطقة، مثل قوة اقتصاديات النفط. فبالنسبة إلى تايلر، يبدو التاريخ وكأنه يتألف من سلسلة أحداث تتقاطر تباعاً من القادة العظماء، بينما لا تلعب العناصر الأخرى كالاقتصاد والدين والجغرافيا وتوجهات الناس العاديين سوى أدوار ثانوية. إن هذا الأمر ليس مدهشاً بشكل تام، فالمراسلون الخارجيون للصحف العالمية المؤثرة يميلون عادة إلى الكتابة عن الأشخاص ذوي النفوذ في الدول التي يقومون بتغطية أحداثها.
لكن الواقع هو أن ما يصلح للصحافة لا يصلح بالدرجة ذاتها للتاريخ، ولذلك فإن الفكرة الهرمية التي يعتنقها تايلر إزاء التاريخ تدفعه إلى أن يتحسر على أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فشلا خلال فترة الحرب الباردة في أن «يقودا جهداً جماعياً نحو تحقيق تسوية سلمية شاملة في منطقة الشرق الأوسط».
لكن نغمة المطّلع على بواطن الأمور التي يتبناها تايلر أحياناً في كتابه لا تدعم ما يحاول التأكيد عليه من أفكار، ففي سياق سرده لقصة عن ساندي بيرغر، الذي كان مستشار الأمن القومي للرئيس كلينتون، وهي القصة التي يروي فيها كيف أن بيرغر حاول أن يتصل برئيس أركان الجيش الأميركي جون شاليكاشفيلي الذي كان يقوم بزيارة آنذاك إلى إحدى الدول الخليجية، فيكتب تايلر ما يلي: «أراد بيرغر أن يجعل شالي - وهو الاسم الذي كان الجميع يطلقونه على الجنرال - يسافر كي يقابل الحاكم»، وهو الأمر الذي يجعل القارئ يتساءل عن المقصود بكلمة «الجميع»، وبكل تأكيد فإن الاجابة عن ذلك السؤال هي أن كلمة «الجميع» تعني «أولئك كلهم الذين لهم أهمية».
لكن الحقيقة هي أن التاريخ يصنعه «أولئك كلهم الذين لهم أهمية»، وكذلك الآخرون سواهم. وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر سبب كثرة تأرجح وتذبذب السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. فتلك المنطقة تتغير باستمرار على نحو غير متوقع، ابتداء من الأسفل.
أما الأسلوب الحاسم الذي كان يتميز به الرئيس أيزنهاور فيبدي تايلر إعجابه به. لقد أدى ذلك الأسلوب الحاسم إلى الإطاحة بحكومة ديموقراطية في إيران والاستعاضة عن تلك الحكومة بنظام الشاه، وهو الخيار الذي يصفه تايلر بتسامح يدعو إلى الدهشة، مشيراً إلى أنه كان «إنقاذاً لحكم الشاه من القوميين الإيرانيين». وبالنظر إلى أن ذلك الأمر كان حلاً مفروضاً يخدم المصالح الأميركية على المدى القصير، فإنه لم يكن هناك أي شيء أفضل. إلا أن الإيرانيين لم يوافقوا على ذلك، ولهذا السبب فإن الشاه أُطيح به لاحقاً في فورة من الاشمئزاز الشعبي في العام 1979، وهو الأمر الذي أدى منذ ذلك الحين إلى مشاكل لا حصر لها بالنسبة إلى أميركا في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يخلص تايلر إلى استنتاج مفاده أن غزو الرئيس بوش للعراق كان أمراً وثيق الصلة بالأخطاء التي ارتكبها جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، ويقول تايلر:
«إن ذلك الغزو كان بمثابة محاكاة هزلية من الممكن أن يتم تحميلها برمتها على عاتق بوش». ويضيف تايلر: «ليس بوسع بوش أن يلوم إلا نفسه على انهيار النظام في العراق وإخفاق عملية التخطيط وعلى عدم كفاءة إدارة الأمور في العراق خلال مرحلة ما بعد الحرب. فبوش لم يسأل الأسئلة المهمة (قبل اتخاذ قرار شن الحرب) ثم استأثر بذلك القرار علاوة على أنه فشل بعد ذلك في تسوية مفهوم أحد مفاهيم الاحتلال، ألا وهو فترة قصيرة (من الاحتلال) يتبعها تسليم سريع للسلطة إلى العراقيين أو فترة طويلة مصحوبة بانخراط أميركي مكثف».
وقد يكون هذا الكلام كله صحيحاً، لكن ثمة من ينتقد كلام تايلر ويرى أن تحت أغواره الاتهامية تكمن الفكرة التي توحي بأنه لو كان هناك رئيس أميركي آخر غير بوش فلربما نجح في العراق. والواقع أن تايلر يخفق هنا في أن يدرك أن الولايات المتحدة ليست هي التي تتحكم في مصير منطقة الشرق الأوسط، بل إن الشرق أوسطيين أنفسهم هم الذين يتحكمون في ذلك المصير.
إنه من الخطأ مناقشة السياسة الخارجية بمعزل عن الشؤون الداخلية، ولذلك فإن تايلر يوضح في كتابه كيف أن «فضيحة ووترغيت» تسببت في خلق تعقيدات للاستراتيجيات الجيوسياسية الخاصة بالرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر. وعلاوة على ذلك، فإن تايلر يحصي التكاليف التي تكبدتها السياسة الخارجية الأميركية في عهده جراء إلتهائه مع (كيلوباترا) الخاصة به التي كان معه في البيت الأبيض.
لكن الأمر المؤسف هنا هو أن تايلر يجعل مناقشته لمثل تلك الأخطاء مقتصرة على الجانب الأميركي فقط، فليس هناك ما يشير إلى أن خصائص اجتماعية ودينية وسياسية متأصلة في الشرق الأوسط ستستمر في إجهاض المحاولات كلها الرامية إلى تحقيق سلام مستقر.
إن تايلر يبدو، وكأن لديه هاجس ما إزاء المسؤولية الرئاسية، فلقد ألف كتاباً في السابق تحت عنوان «سور عظيم: ستة رؤساء والصين». وصحيح أنه ليس هناك أي شيء خطأ في ذلك، باستثناء أن تأكيده العام يعكس قناعته بأن البيت الأبيض وإسرائيل مسؤولان بشكل مشترك عن كل شيء تقريباً. فالتعنت الإسرائيلي يندرج في إطار اللعب النظيف، لكن الأمر ذاته ينطبق - من وجهة نظر تايلر - على ألاعيب ومكائد موسكو في دول مثل مصر وسورية.
إن تحميل اللوم على أميركا بمثابة الإمبريالية المعكوسة، بمعنى أنها تملك العالم كله، وبالتالي فإنها تتحمل أخطاءه وعيوبه كلها. ولا يُعتقد بأن تايلر يؤمن بذلك. لكن كان ينبغي على تايلر أن يؤكد على أن صعوبة أوضاع منطقة الشرق الأوسط لها علاقة بتاريخ وثقافة المنطقة حتى قبل أن تنشأ الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى موقف كتاب تايلر، فإنه يمكن القول إن ذلك الموقف سيسهم في تعزيز الوهم الذي مفاده أن ما يُحتاج إليه كله كي يحطم الأميركيون أزمة الشرق الأوسط هو شخص جديد في البيت الأبيض يتمتع بالنوايا الحسنة. لكن الملاحظات التي يبديها تايلر نفسه في كتابه على بيل كلينتون تكشف عن مدى حماقة ذلك التصور الواهم.
وخلاصة القول ان هذا الكتاب ينطوي على الفضائل والمثالب التي يمكن للمرء أن يتوقعها. فهو سريع الوتيرة ويستند إلى مصادر جيدة، لكنه يغطي الفترة كلها منذ ما قبل حرب العام 1967 وحتى الآن، ولذلك فإنه يُضطر في كثير من الأحيان إلى الإفراط في التبسيط. وعلاوة على ذلك، فإن تايلر قد يبدو ميالاً بعض الشيء إلى إصدار الأحكام الارتجالية. فعلى سبيل المثال، يرى تايلر أن عملية السلام التي قادها الرئيس بيل كلينتون فشلت لأنه كان يفتقر إلى «المبادئ الثابتة والانضباط السياسي»، وأن غزو العراق في العام 2003 كان «عملاً عسكرياً احتياطياً».
ومع ذلك، فبالنسبة إلى أي شخص يحتاج إلى تذكير عن الكيفية التي وصلت أميركا من خلالها إلى ورطتها الحالية في منطقة الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يعتبر طريقة رشيقة وممتعة للحصول على ذلك التذكير.
http://www.alraimedia.com/Alrai/Resources/ArticlesPictures/2009/02/03/109336_03.ketab.01_smaller.jpg
غلاف الكتاب
http://www.alraimedia.com/Alrai/Resources/ArticlesPictures/2009/02/03/591b1baa-c4d2-4d81-aabb-d8547ba2e3a7_smaller.jpg
باتريك تايلر
| تعريب عبدالعليم الحجار وعمرو علي زين العابدين |
صدر أخيراً عن دار «فارار، شتراوس وغريوكس» في الولايات المتحدة كتاب «عالم مضطرب... البيت الأبيض والشرق الأوسط من الحرب الباردة إلى الحرب على الإرهاب» للإعلامي الأميركي باتريك تايلر.
وقد أحدث الكتاب جدلاً كبيراً في الأوساط السياسية والإعلامية كونه حوى الكثير من القصص التي استقاها تايلر من بعض «مصادره»، مركزاً على تعاطي الرؤساء الأميركيين من دوايت أيزنهاور حتى جورج دبليو بوش مع الشرق الأوسط، وتحديداً العملية السلمية.
كثيرون علقوا على هذا الكتاب، لكن العرض الذي سيأتي له سيركز على مراجع أربعة تشكل صورة عامة ونقدية لما أورده تايلر. الأول سانفورد دي هورويت في جريدة «سان فرانسيسكو كرونيكل»، الثاني روجر غاثمان في صحيفة «أميركان ستايتسمان»، الثالث جورج فالدين في موقع «بلومبرغ نيوز»، والرابع من «الإيكونوميست».
يفتتح تايلور كتابه بمشهد قصصي بطله مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق جورج تينيت، عندما «كان متواجداً في بداية العام 2004 في إحدى الدول الخليجية، إذ نزل حينها ضيفاً في قصر صديق له»، يقول تايلر ويضيف: «تينيت تلقى اتصالاً عبر أحد هواتفه الأمنية علم فيه من مساعديه أن البيت الأبيض خطط لإلقاء اللوم عليه وعلى الوكالة بسبب الفشل الاستخباري قبل الحرب على العراق، إذ زعمت التقارير السابقة امتلاك هذا البلد أسلحة دمار شامل.
لم يتمكن تينيت من النوم فتناول حبة دواء، لكنه خرج مكروباً من غرفته، مرتدياً سروالاً داخلياً وقميص نوم (تي شيرت) بصورة أثارت دهشة مضيفه ومساعده اللذين كانا يشاهدان التلفاز عندما دخل تينيت عليهما. طلب تينيت الويسكي فأحضر له الخادم قنينة احتسى نصفها في دقائق معدودة. ثم بدأ يصيح: (إنهم يتآمرون ضدي، الأوغاد يتآمرون ضدي. لكنني لن أعطيهم الفرصة لذلك)». ويضيف تايلر بأن تينيت لم يكن ليسمح بتلقي «اللوم على أسلحة الدمار الشامل المفقودة - الذريعة الكبرى لشن الحرب على العراق.
وكان كلما تناول مزيداً من الخمر ازداد هجوم تينيت على أعدائه في البنتاغون، وعلى أصحاب الأيديولوجيات في البيت الأبيض الخاضع لبوش وتشيني». وحسب ما كتب تايلر، وفقاً لأحد الشهود، فإن تينيت سخر من المحافظين الجدد في إدارة بوش وانحيازهم إلى جانب الجناح اليميني في المؤسسة السياسية الإسرائيلية، مشيراً إليهم ساخطاً بكلمة «اليهود»، مشيراً بذلك إلى أولئك المحافظين الجدد الذين التفوا حول ديك تشيني، والذين، حسب زعم تينيت، روجوا لقصة أسلحة الدمار الشامل العراقية. ثم قرر تينيت السباحة في ثيابه الداخلية، رغم استمرار حال الغضب عنده وتدخينه سيجاراً وشربه المزيد من الخمر. بيد أن مضيفه ومساعده خافا عليه من الغرق تحت تأثير الدواء والكحول فأخذا يمشيان قرب البار بجوار حوض السباحة.
قد توحي هذه الحدوتة الافتتاحية بالاعتقاد أن سرد تايلر التاريخي سيركز بشكل أساسي على مسألة غزو العراق. لكن لن يكون هناك أي ذكر للمغامرة العسكرية الأميركية في العراق، حتى يصل المؤلف إلى الفصل الأخير، وحتى عندما يأتي ذكرها يتم تناولها بطريقة سريعة، مقارنة مع تفحصه الدقيق لديبلوماسية هنري كيسنجر الشرق أوسطية في السبعينات من القرن الماضي ولقمة «كامب ديفيد» التي رعاها جيمي كارتر، ولسياسة رونالد ريغان في لبنان، وحرب الخليج ومحاولة بيل كلينتون عقد اتفاق بين إيهود باراك وياسر عرفات.
ولعل الشيء البارز وراء سياق قصة تينيت ليس الإشارة إلى أن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية قد كشف عن بعض أحقاده الدفينة تحت الضغط والثمالة، بل من حقيقة أن القصة ربما تكون قد وردت بالفعل من مضيف تينيت، وهو مصدر بدا وكأنه أتاح لـ تايلر مدخلاً شكل كثيراً من كتابه الجديد.
وهذا المدخل ربما يفسر بعض النقاط العمياء لهذا الكتاب. وفي حين يلخص تايلر ببراعة السياسات الرئاسية الأميركية فهو يقدم أيضاً تفسيرا ديناميكياً للسياسات في الشرق الأوسط، إذ يسوق في كتابه قصة عن اقتراح قدمه أحد المسؤولين في إحدى الدول الشرق أوسطية إلى الرئيس الأميركي السابق كلينتون بأن تؤسس الدولتان حركة عسكرية جهادية للإطاحة بنظام صدام، قائلاً: «يمكننا أن نعيد ما فعلناه في أفغانستان... سنساهم بمليار دولار من جانبنا وتساهمون بمليار دولار من جانبكم ولن نستريح حتى نتخلص من هذا الرجل لأنه لا يمكنه أن يفرق بيننا». ويبدو أن تايلر اعتبر عدم متابعة كلينتون لهذا العرض بمثابة دليل على تهربه.
لكن ما يلوم عليه تايلر الرئيس كلينتون كيف أنه فشل في فهم شغب «القاعدة» وفوّت فرص مهاجمة قيادة أسامة بن لادن في أفغانستان. إن فكرة همس كلينتون في أذن زوجته هيلاري بعدما أصبحت وزيرة للخارجية يدعو إلى الإحساس بعدم السعادة.
وبين تينيت وتايلر - المراسل السابق لجريدة «الواشنطن بوست» وجريدة «نيويورك تايمز» - قاسم مشترك واحد بينهما على الأقل، وهو علاقتهما المقربة بالمضيف، وهو أحد أسلس اللاعبين الديبلوماسيين السابقين. ففي هذا الكتاب لا يستقي تايلر رواياته فقط عن المقابلات العديدة التي أُجريت مع المضيف وغيره من اللاعبين الأساسيين الآخرين المقربين ذوي السمعة المتفاوتة، بل كشف تايلر أيضاً عن اطلاعه الكامل على الأدبيات الفنية التي تحدثت عن دور الولايات المتحدة في سياسات الشرق الأوسط منذ عقد الخمسينات.
والصورة التي تبرز - بالطبع - ليست مثالية بسبب الإخفاقات الاستخباراتية والديبلوماسية الأميركية في المنطقة طوال مدة حكم ثمانية رؤساء على مدى ستة عقود تتجاوز بكثير عدد النجاحات. لكن بالفعل عندما جاء عام 1993، اتفقت إسرائيل و«منظمة التحرير الفلسطينية» - بمساعدة الولايات المتحدة - على صياغة إطار لإحلال السلام، وهو ما يعتبر بلا شك ثاني أكبر الإنجازات التي تحققت خلال تلك الفترة وهو «اتفاق أوسلو» فكما يقول تايلر: «مثلت (الاتفاقية) أعظم إنجاز ديبلوماسي في الشرق الأوسط منذ أن وقع أنور السادات ومناحيم بيغن اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل».
لكن وعد «أوسلو» الذي تضمن موافقة إسرائيل على إنشاء دولة فلسطينية في نهاية المطاف على حدودها - لم يتحقق رغم محاولات كلينتون المستميتة لجمع إسرائيل و«منظمة التحرير الفلسطينية» إلى مسار «التفاوض» في أواخر أيام فترة حكم كلينتون. ومن وجهة نظر تايلر، ربما كان بإمكان كلينتون إنجاز أكثر مما حققه خلال فترة رئاسته لو تناسب تبنيه لمخاوف جميع الأطراف في الشرق الأوسط مع مزيد من الديبلوماسية المنضبطة. لكن تايلر لم يكن واضحاً بدرجة كافية عما يعنيه بلفظ «منضبطة».
ويعتبر عدم الثبات من الأمور التي تثير الغيظ لدى تايلر فهو ينظر بنظرة ناقدة تجاه كل رئيس تولى الحكم منذ أيزنهاور لعدم اتباعه لخط ثابت في المنطقة. فكتب: «...وفي حين أنه من المبالغة القول إن جون كنيدي قلب موقف أيزنهاور (في المنطقة)، فإن ليندون جونسون قلب نهج كيندي، ونيكسون قلب موقف جونسون، وهكذا».
والأمر البارز في هذا التاريخ للفكر الرئاسي وتحركه يظهر كيف يميّز كل قائد نفسه عن سابقه - وهذه سمة بشرية - وهكذا يظهر جانب عدم الثبات الدائم في السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
إن أسلوب السرد الذي ينتهجه تايلر في كتابه يذكر بأن الشرق الأوسط كان - ولا يزال - منطقة غير مضيافة - إن لم تكن مقبرة - للديبلوماسية الرئاسية الأميركية، سواء كان الذين يمارسونها «الديموقراطيون» أو «الجمهوريون». فجزء كبير من خسارة الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر لمعركة إعادة انتخابه كان بسبب أن 52 ديبلوماسياً أميركياً تم احتجازهم كرهائن في إيران لمدة أكثر من عام بعد أن نجح أتباع الخميني في الإطاحة بالشاه الذي كان مدعوماً من جانب الولايات المتحدة. كما أن صورة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان تضررت بشكل سيئ بسبب المعضلة التي واجهتها الولايات المتحدة في لبنان وبسبب فضيحة «إيران - كونترا».
ووفقاً لما يلاحظه تايلر في كتابه، فإنه رغم النجاح الظاهري الذي حققه الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في تنفيذ حرب الخليج (حرب تحرير الكويت)، فإن ذلك الأمر كانت له تكاليف أخلاقية وعواقب حادة استمرت تأثيراتها لفترة طويلة لاحقة. فالموقف الأميركي الرسمي في نهاية تلك الحرب كان مفاده أن قوة النيران الحربية الأميركية قد تم تركيزها بشكل حصري على القوات العسكرية التابعة لصدام التي كانت تحتل الكويت آنذاك.
لكن تايلر يعلق على ذلك الزعم في كتابه قائلاً: «لم يكن ذلك صحيحاً كلياً»، مستنداً في ذلك إلى سرد ذكريات ما كان قد شهده بنفسه كمراسل خارجي قام بتغطية مجريات تلك الحرب، ويقول: «عندما رأيت العراة بعد انتهاء الحرب مباشرة فإنني أدركت مدى الدمار الذي ألحقه الأميركيون بالسكان المدنيين... وسيأتي الوقت الذي سيتم فيه إلقاء اللوم على أميركا بسبب الحال المزرية التي عاش ملايين المدنيين العراقيين فيها بعد الحرب».
ولو أن ديك تشيني - كنائب للرئيس الأميركي - كان قد أدرك هذا الجزء من الميراث الذي خلّفته أميركا وراءها في العراق، فلربما لم يتكهن بأن القوات الأميركية التي غزت العراق في العام 2003 ستحظى باستقبال المحررين من جانب المواطنين العراقيين العاديين.
وفي سياق تحليله التاريخي، ذي التفكير الواقعي، يطرح تايلر في كتابه حجة مثالية تدعو إلى ضرورة إيجاد دور أكثر فاعلية للولايات المتحدة بحيث يكون ذلك الدور منسجماً مع تاريخ أميركا ومع مُثلها العليا، وكذلك مع استعدادها لخوض غمار المخاطر.
وعن تلك النقطة يقول تايلر: «من السهل أن ننسى أن الولايات المتحدة - في ظل حكم روزفلت وترومان وايزنهاور - كانت في طليعة مسيرة خلق وبناء منظمة الأمم المتحدة باعتبارها أداة فعالة لمنع نشوب الحروب، وللعمل المشترك، بالإضافة الى كونها أداة لسن القوانين الدولية، ولذلك فإن تقويض نظام عالمي - وهو النظام الذي بات الآن بمثابة نبض قوي في السياسة الأميركية - هو أمر يعني الانتكاس إلى النموذج الذي كان ابتكره الفيلسوف البريطاني توماس هوبس، وهو النموذج القائم على فكرة أن القوة الأحادية تندفع حتمياً في بعض الأوقات وفقاً لمقتضيات سياساتها الداخلية أو المصالح القومية الضيقة».
والواقع أنه لا يُتوقع من تايلر أن يكون رقيقاً في انتقاده للرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون ولوزير خارجيته هنري كيسنجر، أو حتى في انتقاده للرئيسين بوش الأب والابن، وهو، أي تايلر، ليس رقيقاً في انتقاده لهؤلاء، ومع ذلك فإن الرئيس الأميركي الذي تلّقى أكبر قدر من الانتقادات اللاذعة في هذا الكتاب هو الرئيس بيل كلينتون. وفي سياق تعليقه على تعامل كلينتون مع العراق، فإن تايلر يصف كلينتون بأنه كان «غافلاً وغير مطلع على حقائق الأمور ومشتت الانتباه».
وبالنسبة إلى محاولة كلينتون الفاشلة إبرام اتفاق سلام بين العرب وإسرائيل، فإن تايلر يرى أن تلك المحاولة عانت مما وصفه بـ «قدرة كلينتون المذهلة على التقمص العاطفي»، ألا وهي الحساسية التي «أغرقته في بحر من النزاعات العاطفية وتسببت في تقويض الضغط الحاسم الذي هو بمثابة حجر الزاوية بالنسبة إلى الزعامة»، على حد تعبير تايلر.
ووفقاً لما يراه تايلر في كتابه، فإن هذا الأمر كلف أميركا نفوذها وتأثيرها لدى اسرائيل، وهو الأمر الذي سمح لقادة اسرائيل بأن يوهموا أنفسهم بالاعتقاد بأن دولتهم قد تصبح قوة عظمى مصغرة. والواقع أن الرئيس الأميركي الوحيد الذي كان حاسماً في سد الطريق أمام ذلك الطموح كان الرئيس أيزنهاور الذي أرغم اسرائيل وبريطانيا وفرنسا على التراجع عن الخطة التي كانت تلك الدول الثلاث قد اتفقت عليها لغزو مصر في عهد جمال عبدالناصر في العام 1956.
لكن ابتداء من حرب العام 1967، بدأ الرؤساء الأميركيون أكثر ميلاً الى عدم استخدام نفوذهم للتخفيف من حدة أحلام اليمين الاسرائيلي في شأن إقامة دولة إسرائيل الكبرى، وقد أدى ذلك الأمر الى كوارث عدة مثل غزو لبنان في العام 1982، وإلى إخفاق عملية السلام الدائم من أن تسفر عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وإلى خلق الإرهاب كأداة فاعلة لتحقيق تقدم سياسي.
ولذلك فإن الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة أعاد إلى الأذهان عمليات غزو سابقة كانت قد قامت بها إسرائيل ضد لبنان، كما أن الولايات المتحدة بدت غير قادرة على إيقاف ذلك الهجوم ضد غزة أو حتى على التوسط للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، وهو الأمر الذي يعد بمثابة تأكيد قوي لوجهة نظر تايلر في كتابه.
بيد أنه كان من الممكن لرؤية تايلر أن تكون أكثر قوة لو أنه توقف قليلاً كي يتأمل أدوار لاعبين آخرين في خارج دائرة الأقوياء، أو القوى التي أسهمت في تشكيل المصالح الأميركية في المنطقة، مثل قوة اقتصاديات النفط. فبالنسبة إلى تايلر، يبدو التاريخ وكأنه يتألف من سلسلة أحداث تتقاطر تباعاً من القادة العظماء، بينما لا تلعب العناصر الأخرى كالاقتصاد والدين والجغرافيا وتوجهات الناس العاديين سوى أدوار ثانوية. إن هذا الأمر ليس مدهشاً بشكل تام، فالمراسلون الخارجيون للصحف العالمية المؤثرة يميلون عادة إلى الكتابة عن الأشخاص ذوي النفوذ في الدول التي يقومون بتغطية أحداثها.
لكن الواقع هو أن ما يصلح للصحافة لا يصلح بالدرجة ذاتها للتاريخ، ولذلك فإن الفكرة الهرمية التي يعتنقها تايلر إزاء التاريخ تدفعه إلى أن يتحسر على أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي فشلا خلال فترة الحرب الباردة في أن «يقودا جهداً جماعياً نحو تحقيق تسوية سلمية شاملة في منطقة الشرق الأوسط».
لكن نغمة المطّلع على بواطن الأمور التي يتبناها تايلر أحياناً في كتابه لا تدعم ما يحاول التأكيد عليه من أفكار، ففي سياق سرده لقصة عن ساندي بيرغر، الذي كان مستشار الأمن القومي للرئيس كلينتون، وهي القصة التي يروي فيها كيف أن بيرغر حاول أن يتصل برئيس أركان الجيش الأميركي جون شاليكاشفيلي الذي كان يقوم بزيارة آنذاك إلى إحدى الدول الخليجية، فيكتب تايلر ما يلي: «أراد بيرغر أن يجعل شالي - وهو الاسم الذي كان الجميع يطلقونه على الجنرال - يسافر كي يقابل الحاكم»، وهو الأمر الذي يجعل القارئ يتساءل عن المقصود بكلمة «الجميع»، وبكل تأكيد فإن الاجابة عن ذلك السؤال هي أن كلمة «الجميع» تعني «أولئك كلهم الذين لهم أهمية».
لكن الحقيقة هي أن التاريخ يصنعه «أولئك كلهم الذين لهم أهمية»، وكذلك الآخرون سواهم. وهذا هو أحد الأسباب التي تفسر سبب كثرة تأرجح وتذبذب السياسة الخارجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. فتلك المنطقة تتغير باستمرار على نحو غير متوقع، ابتداء من الأسفل.
أما الأسلوب الحاسم الذي كان يتميز به الرئيس أيزنهاور فيبدي تايلر إعجابه به. لقد أدى ذلك الأسلوب الحاسم إلى الإطاحة بحكومة ديموقراطية في إيران والاستعاضة عن تلك الحكومة بنظام الشاه، وهو الخيار الذي يصفه تايلر بتسامح يدعو إلى الدهشة، مشيراً إلى أنه كان «إنقاذاً لحكم الشاه من القوميين الإيرانيين». وبالنظر إلى أن ذلك الأمر كان حلاً مفروضاً يخدم المصالح الأميركية على المدى القصير، فإنه لم يكن هناك أي شيء أفضل. إلا أن الإيرانيين لم يوافقوا على ذلك، ولهذا السبب فإن الشاه أُطيح به لاحقاً في فورة من الاشمئزاز الشعبي في العام 1979، وهو الأمر الذي أدى منذ ذلك الحين إلى مشاكل لا حصر لها بالنسبة إلى أميركا في منطقة الشرق الأوسط.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، يخلص تايلر إلى استنتاج مفاده أن غزو الرئيس بوش للعراق كان أمراً وثيق الصلة بالأخطاء التي ارتكبها جميع الرؤساء الأميركيين الذين سبقوه، ويقول تايلر:
«إن ذلك الغزو كان بمثابة محاكاة هزلية من الممكن أن يتم تحميلها برمتها على عاتق بوش». ويضيف تايلر: «ليس بوسع بوش أن يلوم إلا نفسه على انهيار النظام في العراق وإخفاق عملية التخطيط وعلى عدم كفاءة إدارة الأمور في العراق خلال مرحلة ما بعد الحرب. فبوش لم يسأل الأسئلة المهمة (قبل اتخاذ قرار شن الحرب) ثم استأثر بذلك القرار علاوة على أنه فشل بعد ذلك في تسوية مفهوم أحد مفاهيم الاحتلال، ألا وهو فترة قصيرة (من الاحتلال) يتبعها تسليم سريع للسلطة إلى العراقيين أو فترة طويلة مصحوبة بانخراط أميركي مكثف».
وقد يكون هذا الكلام كله صحيحاً، لكن ثمة من ينتقد كلام تايلر ويرى أن تحت أغواره الاتهامية تكمن الفكرة التي توحي بأنه لو كان هناك رئيس أميركي آخر غير بوش فلربما نجح في العراق. والواقع أن تايلر يخفق هنا في أن يدرك أن الولايات المتحدة ليست هي التي تتحكم في مصير منطقة الشرق الأوسط، بل إن الشرق أوسطيين أنفسهم هم الذين يتحكمون في ذلك المصير.
إنه من الخطأ مناقشة السياسة الخارجية بمعزل عن الشؤون الداخلية، ولذلك فإن تايلر يوضح في كتابه كيف أن «فضيحة ووترغيت» تسببت في خلق تعقيدات للاستراتيجيات الجيوسياسية الخاصة بالرئيس نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر. وعلاوة على ذلك، فإن تايلر يحصي التكاليف التي تكبدتها السياسة الخارجية الأميركية في عهده جراء إلتهائه مع (كيلوباترا) الخاصة به التي كان معه في البيت الأبيض.
لكن الأمر المؤسف هنا هو أن تايلر يجعل مناقشته لمثل تلك الأخطاء مقتصرة على الجانب الأميركي فقط، فليس هناك ما يشير إلى أن خصائص اجتماعية ودينية وسياسية متأصلة في الشرق الأوسط ستستمر في إجهاض المحاولات كلها الرامية إلى تحقيق سلام مستقر.
إن تايلر يبدو، وكأن لديه هاجس ما إزاء المسؤولية الرئاسية، فلقد ألف كتاباً في السابق تحت عنوان «سور عظيم: ستة رؤساء والصين». وصحيح أنه ليس هناك أي شيء خطأ في ذلك، باستثناء أن تأكيده العام يعكس قناعته بأن البيت الأبيض وإسرائيل مسؤولان بشكل مشترك عن كل شيء تقريباً. فالتعنت الإسرائيلي يندرج في إطار اللعب النظيف، لكن الأمر ذاته ينطبق - من وجهة نظر تايلر - على ألاعيب ومكائد موسكو في دول مثل مصر وسورية.
إن تحميل اللوم على أميركا بمثابة الإمبريالية المعكوسة، بمعنى أنها تملك العالم كله، وبالتالي فإنها تتحمل أخطاءه وعيوبه كلها. ولا يُعتقد بأن تايلر يؤمن بذلك. لكن كان ينبغي على تايلر أن يؤكد على أن صعوبة أوضاع منطقة الشرق الأوسط لها علاقة بتاريخ وثقافة المنطقة حتى قبل أن تنشأ الولايات المتحدة.
وبالنظر إلى موقف كتاب تايلر، فإنه يمكن القول إن ذلك الموقف سيسهم في تعزيز الوهم الذي مفاده أن ما يُحتاج إليه كله كي يحطم الأميركيون أزمة الشرق الأوسط هو شخص جديد في البيت الأبيض يتمتع بالنوايا الحسنة. لكن الملاحظات التي يبديها تايلر نفسه في كتابه على بيل كلينتون تكشف عن مدى حماقة ذلك التصور الواهم.
وخلاصة القول ان هذا الكتاب ينطوي على الفضائل والمثالب التي يمكن للمرء أن يتوقعها. فهو سريع الوتيرة ويستند إلى مصادر جيدة، لكنه يغطي الفترة كلها منذ ما قبل حرب العام 1967 وحتى الآن، ولذلك فإنه يُضطر في كثير من الأحيان إلى الإفراط في التبسيط. وعلاوة على ذلك، فإن تايلر قد يبدو ميالاً بعض الشيء إلى إصدار الأحكام الارتجالية. فعلى سبيل المثال، يرى تايلر أن عملية السلام التي قادها الرئيس بيل كلينتون فشلت لأنه كان يفتقر إلى «المبادئ الثابتة والانضباط السياسي»، وأن غزو العراق في العام 2003 كان «عملاً عسكرياً احتياطياً».
ومع ذلك، فبالنسبة إلى أي شخص يحتاج إلى تذكير عن الكيفية التي وصلت أميركا من خلالها إلى ورطتها الحالية في منطقة الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يعتبر طريقة رشيقة وممتعة للحصول على ذلك التذكير.
http://www.alraimedia.com/Alrai/Resources/ArticlesPictures/2009/02/03/109336_03.ketab.01_smaller.jpg
غلاف الكتاب
http://www.alraimedia.com/Alrai/Resources/ArticlesPictures/2009/02/03/591b1baa-c4d2-4d81-aabb-d8547ba2e3a7_smaller.jpg
باتريك تايلر