فاتن
01-26-2009, 12:47 AM
من محمد حسين فضل الله إلى باراك أوباما: سياسات الإقصاء الأميركية أقصتكم من وجدان الشعوب
http://www.aldaronline.com/AlDar/Upload/Article%20Pictures/2009/1/25/M1/175939644-p26-01_med_thumb.jpg
تساءل سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، عمّا إذا كانت إسرائيل ستبقى هي المحور والمحرّك للسياسة الأميركية في منطقتنا، أم أن الولايات المتحدة الأميركية ستكون هي نفسها المحرّك لهذه السياسة؟ ورأى أن سياسة الإقصاء التي مارستها الإدارات الأميركية المتعاقبة أدت إلى إقصاء الولايات المتحدة الأميركية من وجدان الشعوب.
وأكد سماحته في رسالة الى الرئيس الاميركي الجديد باراك أوباما أننا لا نحمّل العهد الجديد في أميركا أكثر مما نتحمّل، مشددا في المقابل على أن من يأخذ على نفسه سلوك نهج مختلف عن السائد السابق فعليه أن يكون صادقا مع نفسه ومع الناس، وأن تسبق أفعاله أقواله.
وفيما يلي نص الرسالة:
من الواضح للعالم كلّه ما وصلت إليه الولايات المتّحدة الأميركية من موقع، جعلها قادرة على التحكّم بكثير من مفاصل سياسة العالم واقتصاده وأمنه، وقد كان من العوامل المساعدة على ذلك قدرتها على الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى واختزانها؛ الأمر الذي جعل المجتمع الأميركي عبارة عن مجتمع يتحرّك بتنوّعٍ من الثقافات والسمات الحضاريّة. وقد كان وصول شخصٍ من أصول أفريقيّة إلى سدّة الرئاسة إحدى القيم الحضاريّة التي يتميّز بها هذا المجتمع، والتي اعتبرت، أو يُراد لها أن تكون أحد أوجه التغيير في السياسات العامّة للولايات المتّحدة الأميركية.
إنّ شعار التغيير، والذي طُرح كعنوان لحركة العهد الجديد، يعكس ـ بطبيعته ـ فلسفة لحركة الإنسان في الحياة، وهي الفلسفة التي ترتكز إلى اعتبار النقد وإعادة إنتاج الذات مسألة استمراريّة وتمثّل حركة دائميّة، ما يعني أنّ الثبات والديمومة وعدم التغيّر في نتاج الإنسان يعكس اختزالا للنفس وللذات في حجم لحظة تاريخيّة معيّنة، في الوقت الذي يتطوّر فيه الزمن، في الفكر والوسائل.
لذلك، نحن نرى أنّ التغيير لا يُمكن أن يكون جزئيّا ولا انتقائيّا، بل ينبغي أن يكون شاملا لكلّ أوجه النشاط الإنساني، سواء أكان فرديّا أم اجتماعيّا، وسواء تحرّكت به الجماعات أو الأحزاب أو الدول أو الأمم، وأن يكون حركة تبدأ من دراسة الأمور في عمقها لا في السطح، حتّى في ما يخصّ الفلسفات التي يقوم عليها الفكر الإنساني في مرحلة من الزمن.
ونحن نؤكّد في هذا المجال أنّ كلّ نتاجٍ بشريّ هو نتاجٌ يمثّل الحقيقة من وجهة نظر صاحبها، وهو نتاجٌ ينطلق من خصوصيّة الثقافة التي يحملها الإنسان، ما يعني أنّ الحياة الإنسانية محكومةٌ بالحوار عندما يخلص الإنسان للحقيقة في مسيرته.
ويهمّنا في هذه الرسالة أن نتعرّض لجملة من النقاط التي نحسبها مهمّة في هذا المجال:
أوّلا: ممّا لا شكّ فيه أنّ حركة الاقتصاد العالمي قد أصيبت بانتكاسة كُبرى، ممّا عكس ضرورة في مراجعة النظام الاقتصادي العالمي لا في وسائله فحسب، بل في قواعده وأسسه وفلسفاته. وإنّنا نرى أنّ أحد أهمّ المنزلقات التاريخيّة التي يُمكن أن يقع بها اقتصادٌ ما هو في تغييب الضوابط الأخلاقيّة عن آليّات حركته، ممّا يحوّل السوق نفسه إلى وحشٍ يفترس حتى الذين أنتجوه، ويُفقد السيطرة عليه حتّى من أولئك الذين وضعوا له أدوات التحكّم به. ولقد كنّا دعونا مع بوادر الأزمة العالميّة إلى تلمّس عناصر الغنى لدى الإسلام، على مستوى المزاوجة بين الاقتصاد وبين القيم، وعلى مستوى التوازن بين الفرديّة والاجتماعيّة، وهذا كلّه يُمكن أن يؤسّس لحوارٍ عالميّ جادّ، ينطلق فيه الجهد العلمي والنقدي بهدف استكشاف عناصره، وبناء قواعده، ممّا يُمكن أن يكون جسرا متينا للتعاون العالمي، ولتضييق المساحات بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والاتجاهات الوضعيّة، إذا وجدت أطرها الملائمة وفُتحت مجالاتها المناسبة.
ثانيا: لقد أشعلت الولايات المتحدة الأميركية العالم الإسلامي بالحروب المدمّرة، وهزّته بالفتن الداخليّة؛ ونحن لن نناقش ـ هنا ـ في أسباب ذلك، ولن نتناول عناصر الضعف الإسلامي والعربي التي أفسحت في المجال لذلك، وإنّما نريد أن نشير إلى عدّة مظاهر للمنحى غير الأخلاقي وغير الحضاري الذي تحكّم بحركة الولايات المتحدة الأميركية في مقاربة قضايا حسّاسة في العالم، وهو ممّا يحتاج إلى التغيير في المنهج، وليس في السطح فحسب:
أ ـ لقد قامت الحرب على أفغانستان كردّ فعلٍ على أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وهذه الأحداث استنكرها العالم كلّه، وكنّا أوّل المبادرين لاستنكارها؛ لأنّنا لا نراها منسجمة مع قيمنا الإسلاميّة؛ ولكن ثمّة قيمة حضاريّة أخلاقيّة للعدالة نطق بها القرآن الكريم، وهي تقوم على مبدأ أنّ كلّ شخصٍ يتحمّل مسؤوليّة فعله هو، ولا يتحمّل نتيجة أفعال الآخرين، فقد قال تعالى: {ولا تكسب كلّ نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} [سورة الأنعام:164]؛ ومن قام بأحداث 11 سبتمبر هم أناسٌ محدودون، أو جهات معيّنة، بينما اضطرمت نار الحرب بشموليّةٍ أكّدت للكثيرين أنّ تلك الأحداث لم تكن إلا ذريعة تحرّك الحرب من أجل تحقيق مصالح استراتيجيّة للولايات المتحدة، عبر خطط جاهزة للسيطرة على مقدّرات عالمنا الإسلاميّ مقدّمة لكسب أوراق في الصراع مع أكثر من دولة أو محور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
هل يُمكن السماح بمثل هذا القانون، بمعنى أنّ من المبرّر لمن اعتدي عليه من شخصٍ أو جهةٍ أن يعلن الحرب ويحرّكها على كلّ فردٍ من أفراد عائلة ذلك الشخص، أو على كلّ المجتمع الذي تنتمي إليه تلك الجهة؟! ولغة القانون ـ وأنت تعرفها ـ تفيد أنّ المجرم هو المؤاخَذ بإجرامه، وليس أحدا ممّن يتّصل به ما دام لم يكن شريكا في الجريمة. وعند هذه النقطة، فلماذا لا تبرّرون ـ ونحن لا نبرّر ـ لمن تعتدي عليه جيوشكم أو تفتك به سياساتكم أن يخطف ويقتل كلّ من انتمى إلى دولتكم؟! أليس المنطق هو المنطق الذي تتحرّكون فيه؟! وإنّنا إذ نعرض لذلك، فلكي نُشير إلى طبيعة المشكلة والأزمة التي تنتج المآسي والحروب والدمار للإنسانيّة، عندما تغيب قيم العدالة، لتحلّ محلّها عقدة الثأر على الطريقة القبليّة التي تنتمي إلى عصور التخلّف.
ب ـ لقد شنّت الولايات المتّحدة الأميركية الحرب على العراق على أساس «كذبة» وجود أسلحة الدمار الشامل، وقد كانت منظّمة الأمم المتّحدة تعارض التفرّد الأميركي بقرار الحرب آنذاك، وقد أدخلت الحرب العراق والمنطقة بأسرها في أتون نارٍ وصل لهيبها إلى أيديكم، والسؤال: ما هي الضوابط التي ينبغي أن تحكم حركة السياسات الدوليّة حتّى لا تؤدّي كذبة أخرى إلى وقوع العالم في مآس جديدة قد يكون من غير الممكن السيطرة على تداعياتها؟ ومن الذي يمنح الحقّ لأيّ دولةٍ، مهما كانت عظمتها، أن تنصّب نفسها شرطيّا للعالم، بل وقاضيا وجلاّدا في آنٍ معا؟!
ألا يتطلّب هذا تغييرا فيما يخصّ الطريقة التي تتعامل بها دولتكم مع القانون الدولي، وتشلّ بها عمل المنظّمات الدوليّة؟!
ج ـ لقد بات معروفا حجم الدعم والتغطية التي تمنحها دولتكم للكيان الصهيوني الذي أقيم على أرض اقتُلع شعبها منها بقوّة الحديد والنار؛ وقد كانت السياسات الأميركية المتعاقبة سببا في تضييع قضيّة فلسطين، بالرغم من صدور أكثر من قرار دولي عن مجلس الأمن بحقّها، وقد كان آخر الفصول الرهيبة ما حصل في قطاع غزّة الذي مثّل جريمة من أفظع الجرائم في التاريخ.. والسؤال الذي يطرح نفسه:
إلى أيّ مدى يُمكن أن تتغيّر سياسة الولايات المتّحدة الأميركية لتنظر بعينين إلى ما يجري على أرض فلسطين، حتّى فيما يخصّ التنازلات التي لم يقدّمها العرب أو الفلسطينيّون إلا تحت الضغط الأميركي الذي أخذ ويأخذ أشكالا وألوانا متنوّعة؟ وهل من الممكن أن نرى ضغطا أميركيا لإعادة الكيان العبري إلى جادّة القانون الدولي الذي يدلّل كل تاريخه أنّه لم يعبأ به يوما.. ثمّ إنّ ثمّة سؤالا يفرض نفسه ـ ولا سيّما بعد خطابك الأخير الذي أعلنت فيه تعيين مبعوثين للمنطقة العربية والإسلاميّة ـ هو: هل ستبقى «إسرائيل» هي المحور والمحرّك للسياسة الأميركية في منطقتنا، أم أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستكون هي نفسها المحرّك للسياسة؟ إنّنا نفهم حجم ما تمارسه جماعات الضغط المختلفة على سياستكم من الداخل، ولكنّنا نعرف ـ وتعرفون ـ أن للعدالة وجها واحدا، يخضع لمعايير موضوعيّة تنطلق من طبيعة الحقّ الذي يملكه أيّ طرفٍ مهما كان حجمه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، وقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب: «الضعيف الذليل عندي قويّ عزيز حتى آخذ له بحقّه، والقويّ العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحقّ، والقريب والبعيد في ذلك سواء»، وقد قال الله تعالى ـ قبل ذلك ـ في القرآن الكريم: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [سورة الأنعام:152].
د ـ لقد كانت السياسات الأميركية المتعاقبة سببا في سحق إرادة الشعوب العربيّة والإسلاميّة، عن طريق تمكين وحماية أنظمة ديكتاتوريّة ظالمة، تعمل على تحقيق المصالح الأميركية رغما عن إرادة الشعوب؛ حتّى رأينا جيشكم خلال حرب الخليج الأولى يمكّن النظام العراقي البائد من قمع الانتفاضة العراقيّة الشعبيّة في الوقت الذي يشنّ حربا عليه...
إنّ كلّ ذلك يفرض على الإنسان الذي يتّخذ من التغيير شعارا له أن يقف مليّا، وأن يتسلّح بالشجاعة التي يُمليها عليه ضميره الإنسانيّ بهدف الوقوف موقف حقّ وشرف أمام عدالة التاريخ.
ثالثا: لعلّه بات واضحا لكم أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنّ سياسة الإقصاء التي مارستها سياسات بلدكم المتعاقبة قد انتهت إلى إقصائكم من وجدان الشعوب، وهذا ما يحيلنا إلى حتميّة تاريخيّة، وهي أنّ الذي يبرّر ظلمه واضطهاده للشعوب عن طريق إقصائها، وتوزيع الاتهامات لها بالجملة، فهو إنّما يصنع سجنا لذاته؛ وهذا ما رأيناه عندما كانت إداراتكم المتعاقبة تكيل التهم بالإرهاب لكلّ من لا تتفق مصالحه مع مصالح دولتكم، حتّى انتهى الأمر، أو يكاد، إلى اتهام العالم كلّه بالإرهاب؛ فمن يبقى حينئذٍ؟! هذا الأمر يفترض إعادة النظر، عن طريق تحديد القيم التي تكتسبها العناوين بشكل واضح، ونحسب أننا لا نحتاج إلا إلى تحريك قيمة «العدالة» التي تملك شموليّة في المدى،
وتفصيليّة في المصاديق؛ وهذا من شأنه أن يجنّبنا الاتجاه نحو حرب المصطلحات التي تتحرّك ضمن قوالب جاهزة تفرضها طبيعة الصراع الذي تديره هذه الدولة أو تلك ضمن مصالحها. وإلا فهل يُعقل أن مفهوما مرتبطا بسياسات دول لا يمتلك اليوم تعريفا واضحا، ولا يتحرّك ضمن معيار دقيقة لا يخطئ في عالم التطبيق؟!
رابعا: إنّ المشكلة التي تعاني منها البشريّة بدأت منذ بدء الخليقة، وهي مشكلة الاستكبار الخاضع لعناوين جوفاء، يبرّر بها الإنسان دائما تعاليه عن الحقّ، وتجاوزه للعدالة، ونزوعه نحو الهيمنة والتسلّط والافتراس والإلغاء؛ وهنا ينطلق السؤال: هل سيبدأ التغيير على أساس الخلاص من هذه الذهنيّة في كل السياسات التي تحكم حركة الدول الكبرى في العالم، وفي مقدمتها دولتكم؟
خامسا: إنّنا لا نحمّل العهد الجديد في الولايات المتحدة الأميركية أكثر ممّا يتحمّل، ولكنّ من يأخذ على نفسه سلوك نهجٍ مختلفٍ عن السائد والسابق، فعليه أن يكون صادقا مع نفسه ومع الناس، وأن تسبق أفعاله أقواله؛ لأنّ الذي يحكم في النهاية هو التاريخ الذي يقيس النجاحات والفشل بمنطق الفعل، لا بمنطق الكلمات.
وأخيرا: إنّ أيدينا ـ كعالمٍ عربيّ وإسلامي ـ بقيت طوال عقودٍ كثيرةٍ ممدودة، إلى المستوى الذي تساءل فيه الكثيرون، منّا ومن غيرنا، عمّا افترضوه سذاجة سياسيّة لا تكفّ عن إعطاء الورود لجلاديها وقتلتها؛ لأنّنا نعتقد أنّ العالم لا يُمكن أن يقوم ويزدهر إلا بتعاون كلّ الأمم والشعوب على أساس الخير والحقّ والعدل، ولكنّنا دعاة تغيير، وستبقى يدنا ممدودة للتغيير من موقع المسؤوليّة عن صناعة التاريخ لكلّ الذين يؤمنون بالتغيير، مُصدَّقا بالأفعال، لا بالأقوال، ودائما على أساس الحقّ والخير والعدالة، والسلام الذي يرتكز إلى ذلك كلّه؛ والله من وراء القصد.
http://www.aldaronline.com/AlDar/Upload/Article%20Pictures/2009/1/25/M1/175939644-p26-01_med_thumb.jpg
تساءل سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، عمّا إذا كانت إسرائيل ستبقى هي المحور والمحرّك للسياسة الأميركية في منطقتنا، أم أن الولايات المتحدة الأميركية ستكون هي نفسها المحرّك لهذه السياسة؟ ورأى أن سياسة الإقصاء التي مارستها الإدارات الأميركية المتعاقبة أدت إلى إقصاء الولايات المتحدة الأميركية من وجدان الشعوب.
وأكد سماحته في رسالة الى الرئيس الاميركي الجديد باراك أوباما أننا لا نحمّل العهد الجديد في أميركا أكثر مما نتحمّل، مشددا في المقابل على أن من يأخذ على نفسه سلوك نهج مختلف عن السائد السابق فعليه أن يكون صادقا مع نفسه ومع الناس، وأن تسبق أفعاله أقواله.
وفيما يلي نص الرسالة:
من الواضح للعالم كلّه ما وصلت إليه الولايات المتّحدة الأميركية من موقع، جعلها قادرة على التحكّم بكثير من مفاصل سياسة العالم واقتصاده وأمنه، وقد كان من العوامل المساعدة على ذلك قدرتها على الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى واختزانها؛ الأمر الذي جعل المجتمع الأميركي عبارة عن مجتمع يتحرّك بتنوّعٍ من الثقافات والسمات الحضاريّة. وقد كان وصول شخصٍ من أصول أفريقيّة إلى سدّة الرئاسة إحدى القيم الحضاريّة التي يتميّز بها هذا المجتمع، والتي اعتبرت، أو يُراد لها أن تكون أحد أوجه التغيير في السياسات العامّة للولايات المتّحدة الأميركية.
إنّ شعار التغيير، والذي طُرح كعنوان لحركة العهد الجديد، يعكس ـ بطبيعته ـ فلسفة لحركة الإنسان في الحياة، وهي الفلسفة التي ترتكز إلى اعتبار النقد وإعادة إنتاج الذات مسألة استمراريّة وتمثّل حركة دائميّة، ما يعني أنّ الثبات والديمومة وعدم التغيّر في نتاج الإنسان يعكس اختزالا للنفس وللذات في حجم لحظة تاريخيّة معيّنة، في الوقت الذي يتطوّر فيه الزمن، في الفكر والوسائل.
لذلك، نحن نرى أنّ التغيير لا يُمكن أن يكون جزئيّا ولا انتقائيّا، بل ينبغي أن يكون شاملا لكلّ أوجه النشاط الإنساني، سواء أكان فرديّا أم اجتماعيّا، وسواء تحرّكت به الجماعات أو الأحزاب أو الدول أو الأمم، وأن يكون حركة تبدأ من دراسة الأمور في عمقها لا في السطح، حتّى في ما يخصّ الفلسفات التي يقوم عليها الفكر الإنساني في مرحلة من الزمن.
ونحن نؤكّد في هذا المجال أنّ كلّ نتاجٍ بشريّ هو نتاجٌ يمثّل الحقيقة من وجهة نظر صاحبها، وهو نتاجٌ ينطلق من خصوصيّة الثقافة التي يحملها الإنسان، ما يعني أنّ الحياة الإنسانية محكومةٌ بالحوار عندما يخلص الإنسان للحقيقة في مسيرته.
ويهمّنا في هذه الرسالة أن نتعرّض لجملة من النقاط التي نحسبها مهمّة في هذا المجال:
أوّلا: ممّا لا شكّ فيه أنّ حركة الاقتصاد العالمي قد أصيبت بانتكاسة كُبرى، ممّا عكس ضرورة في مراجعة النظام الاقتصادي العالمي لا في وسائله فحسب، بل في قواعده وأسسه وفلسفاته. وإنّنا نرى أنّ أحد أهمّ المنزلقات التاريخيّة التي يُمكن أن يقع بها اقتصادٌ ما هو في تغييب الضوابط الأخلاقيّة عن آليّات حركته، ممّا يحوّل السوق نفسه إلى وحشٍ يفترس حتى الذين أنتجوه، ويُفقد السيطرة عليه حتّى من أولئك الذين وضعوا له أدوات التحكّم به. ولقد كنّا دعونا مع بوادر الأزمة العالميّة إلى تلمّس عناصر الغنى لدى الإسلام، على مستوى المزاوجة بين الاقتصاد وبين القيم، وعلى مستوى التوازن بين الفرديّة والاجتماعيّة، وهذا كلّه يُمكن أن يؤسّس لحوارٍ عالميّ جادّ، ينطلق فيه الجهد العلمي والنقدي بهدف استكشاف عناصره، وبناء قواعده، ممّا يُمكن أن يكون جسرا متينا للتعاون العالمي، ولتضييق المساحات بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والاتجاهات الوضعيّة، إذا وجدت أطرها الملائمة وفُتحت مجالاتها المناسبة.
ثانيا: لقد أشعلت الولايات المتحدة الأميركية العالم الإسلامي بالحروب المدمّرة، وهزّته بالفتن الداخليّة؛ ونحن لن نناقش ـ هنا ـ في أسباب ذلك، ولن نتناول عناصر الضعف الإسلامي والعربي التي أفسحت في المجال لذلك، وإنّما نريد أن نشير إلى عدّة مظاهر للمنحى غير الأخلاقي وغير الحضاري الذي تحكّم بحركة الولايات المتحدة الأميركية في مقاربة قضايا حسّاسة في العالم، وهو ممّا يحتاج إلى التغيير في المنهج، وليس في السطح فحسب:
أ ـ لقد قامت الحرب على أفغانستان كردّ فعلٍ على أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وهذه الأحداث استنكرها العالم كلّه، وكنّا أوّل المبادرين لاستنكارها؛ لأنّنا لا نراها منسجمة مع قيمنا الإسلاميّة؛ ولكن ثمّة قيمة حضاريّة أخلاقيّة للعدالة نطق بها القرآن الكريم، وهي تقوم على مبدأ أنّ كلّ شخصٍ يتحمّل مسؤوليّة فعله هو، ولا يتحمّل نتيجة أفعال الآخرين، فقد قال تعالى: {ولا تكسب كلّ نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} [سورة الأنعام:164]؛ ومن قام بأحداث 11 سبتمبر هم أناسٌ محدودون، أو جهات معيّنة، بينما اضطرمت نار الحرب بشموليّةٍ أكّدت للكثيرين أنّ تلك الأحداث لم تكن إلا ذريعة تحرّك الحرب من أجل تحقيق مصالح استراتيجيّة للولايات المتحدة، عبر خطط جاهزة للسيطرة على مقدّرات عالمنا الإسلاميّ مقدّمة لكسب أوراق في الصراع مع أكثر من دولة أو محور. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا:
هل يُمكن السماح بمثل هذا القانون، بمعنى أنّ من المبرّر لمن اعتدي عليه من شخصٍ أو جهةٍ أن يعلن الحرب ويحرّكها على كلّ فردٍ من أفراد عائلة ذلك الشخص، أو على كلّ المجتمع الذي تنتمي إليه تلك الجهة؟! ولغة القانون ـ وأنت تعرفها ـ تفيد أنّ المجرم هو المؤاخَذ بإجرامه، وليس أحدا ممّن يتّصل به ما دام لم يكن شريكا في الجريمة. وعند هذه النقطة، فلماذا لا تبرّرون ـ ونحن لا نبرّر ـ لمن تعتدي عليه جيوشكم أو تفتك به سياساتكم أن يخطف ويقتل كلّ من انتمى إلى دولتكم؟! أليس المنطق هو المنطق الذي تتحرّكون فيه؟! وإنّنا إذ نعرض لذلك، فلكي نُشير إلى طبيعة المشكلة والأزمة التي تنتج المآسي والحروب والدمار للإنسانيّة، عندما تغيب قيم العدالة، لتحلّ محلّها عقدة الثأر على الطريقة القبليّة التي تنتمي إلى عصور التخلّف.
ب ـ لقد شنّت الولايات المتّحدة الأميركية الحرب على العراق على أساس «كذبة» وجود أسلحة الدمار الشامل، وقد كانت منظّمة الأمم المتّحدة تعارض التفرّد الأميركي بقرار الحرب آنذاك، وقد أدخلت الحرب العراق والمنطقة بأسرها في أتون نارٍ وصل لهيبها إلى أيديكم، والسؤال: ما هي الضوابط التي ينبغي أن تحكم حركة السياسات الدوليّة حتّى لا تؤدّي كذبة أخرى إلى وقوع العالم في مآس جديدة قد يكون من غير الممكن السيطرة على تداعياتها؟ ومن الذي يمنح الحقّ لأيّ دولةٍ، مهما كانت عظمتها، أن تنصّب نفسها شرطيّا للعالم، بل وقاضيا وجلاّدا في آنٍ معا؟!
ألا يتطلّب هذا تغييرا فيما يخصّ الطريقة التي تتعامل بها دولتكم مع القانون الدولي، وتشلّ بها عمل المنظّمات الدوليّة؟!
ج ـ لقد بات معروفا حجم الدعم والتغطية التي تمنحها دولتكم للكيان الصهيوني الذي أقيم على أرض اقتُلع شعبها منها بقوّة الحديد والنار؛ وقد كانت السياسات الأميركية المتعاقبة سببا في تضييع قضيّة فلسطين، بالرغم من صدور أكثر من قرار دولي عن مجلس الأمن بحقّها، وقد كان آخر الفصول الرهيبة ما حصل في قطاع غزّة الذي مثّل جريمة من أفظع الجرائم في التاريخ.. والسؤال الذي يطرح نفسه:
إلى أيّ مدى يُمكن أن تتغيّر سياسة الولايات المتّحدة الأميركية لتنظر بعينين إلى ما يجري على أرض فلسطين، حتّى فيما يخصّ التنازلات التي لم يقدّمها العرب أو الفلسطينيّون إلا تحت الضغط الأميركي الذي أخذ ويأخذ أشكالا وألوانا متنوّعة؟ وهل من الممكن أن نرى ضغطا أميركيا لإعادة الكيان العبري إلى جادّة القانون الدولي الذي يدلّل كل تاريخه أنّه لم يعبأ به يوما.. ثمّ إنّ ثمّة سؤالا يفرض نفسه ـ ولا سيّما بعد خطابك الأخير الذي أعلنت فيه تعيين مبعوثين للمنطقة العربية والإسلاميّة ـ هو: هل ستبقى «إسرائيل» هي المحور والمحرّك للسياسة الأميركية في منطقتنا، أم أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستكون هي نفسها المحرّك للسياسة؟ إنّنا نفهم حجم ما تمارسه جماعات الضغط المختلفة على سياستكم من الداخل، ولكنّنا نعرف ـ وتعرفون ـ أن للعدالة وجها واحدا، يخضع لمعايير موضوعيّة تنطلق من طبيعة الحقّ الذي يملكه أيّ طرفٍ مهما كان حجمه الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، وقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب: «الضعيف الذليل عندي قويّ عزيز حتى آخذ له بحقّه، والقويّ العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحقّ، والقريب والبعيد في ذلك سواء»، وقد قال الله تعالى ـ قبل ذلك ـ في القرآن الكريم: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى} [سورة الأنعام:152].
د ـ لقد كانت السياسات الأميركية المتعاقبة سببا في سحق إرادة الشعوب العربيّة والإسلاميّة، عن طريق تمكين وحماية أنظمة ديكتاتوريّة ظالمة، تعمل على تحقيق المصالح الأميركية رغما عن إرادة الشعوب؛ حتّى رأينا جيشكم خلال حرب الخليج الأولى يمكّن النظام العراقي البائد من قمع الانتفاضة العراقيّة الشعبيّة في الوقت الذي يشنّ حربا عليه...
إنّ كلّ ذلك يفرض على الإنسان الذي يتّخذ من التغيير شعارا له أن يقف مليّا، وأن يتسلّح بالشجاعة التي يُمليها عليه ضميره الإنسانيّ بهدف الوقوف موقف حقّ وشرف أمام عدالة التاريخ.
ثالثا: لعلّه بات واضحا لكم أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنّ سياسة الإقصاء التي مارستها سياسات بلدكم المتعاقبة قد انتهت إلى إقصائكم من وجدان الشعوب، وهذا ما يحيلنا إلى حتميّة تاريخيّة، وهي أنّ الذي يبرّر ظلمه واضطهاده للشعوب عن طريق إقصائها، وتوزيع الاتهامات لها بالجملة، فهو إنّما يصنع سجنا لذاته؛ وهذا ما رأيناه عندما كانت إداراتكم المتعاقبة تكيل التهم بالإرهاب لكلّ من لا تتفق مصالحه مع مصالح دولتكم، حتّى انتهى الأمر، أو يكاد، إلى اتهام العالم كلّه بالإرهاب؛ فمن يبقى حينئذٍ؟! هذا الأمر يفترض إعادة النظر، عن طريق تحديد القيم التي تكتسبها العناوين بشكل واضح، ونحسب أننا لا نحتاج إلا إلى تحريك قيمة «العدالة» التي تملك شموليّة في المدى،
وتفصيليّة في المصاديق؛ وهذا من شأنه أن يجنّبنا الاتجاه نحو حرب المصطلحات التي تتحرّك ضمن قوالب جاهزة تفرضها طبيعة الصراع الذي تديره هذه الدولة أو تلك ضمن مصالحها. وإلا فهل يُعقل أن مفهوما مرتبطا بسياسات دول لا يمتلك اليوم تعريفا واضحا، ولا يتحرّك ضمن معيار دقيقة لا يخطئ في عالم التطبيق؟!
رابعا: إنّ المشكلة التي تعاني منها البشريّة بدأت منذ بدء الخليقة، وهي مشكلة الاستكبار الخاضع لعناوين جوفاء، يبرّر بها الإنسان دائما تعاليه عن الحقّ، وتجاوزه للعدالة، ونزوعه نحو الهيمنة والتسلّط والافتراس والإلغاء؛ وهنا ينطلق السؤال: هل سيبدأ التغيير على أساس الخلاص من هذه الذهنيّة في كل السياسات التي تحكم حركة الدول الكبرى في العالم، وفي مقدمتها دولتكم؟
خامسا: إنّنا لا نحمّل العهد الجديد في الولايات المتحدة الأميركية أكثر ممّا يتحمّل، ولكنّ من يأخذ على نفسه سلوك نهجٍ مختلفٍ عن السائد والسابق، فعليه أن يكون صادقا مع نفسه ومع الناس، وأن تسبق أفعاله أقواله؛ لأنّ الذي يحكم في النهاية هو التاريخ الذي يقيس النجاحات والفشل بمنطق الفعل، لا بمنطق الكلمات.
وأخيرا: إنّ أيدينا ـ كعالمٍ عربيّ وإسلامي ـ بقيت طوال عقودٍ كثيرةٍ ممدودة، إلى المستوى الذي تساءل فيه الكثيرون، منّا ومن غيرنا، عمّا افترضوه سذاجة سياسيّة لا تكفّ عن إعطاء الورود لجلاديها وقتلتها؛ لأنّنا نعتقد أنّ العالم لا يُمكن أن يقوم ويزدهر إلا بتعاون كلّ الأمم والشعوب على أساس الخير والحقّ والعدل، ولكنّنا دعاة تغيير، وستبقى يدنا ممدودة للتغيير من موقع المسؤوليّة عن صناعة التاريخ لكلّ الذين يؤمنون بالتغيير، مُصدَّقا بالأفعال، لا بالأقوال، ودائما على أساس الحقّ والخير والعدالة، والسلام الذي يرتكز إلى ذلك كلّه؛ والله من وراء القصد.