جمال
01-24-2009, 03:53 PM
علي سيريني - elaph
(مثل الأكراد ضحايا العروبة)
وجود الأمازيغ في تأريخ وجغرافية بلاد المغرب والأطلسي، يشبه هامة الجبال تطل على المدى الواسع.
فهذا الشعب الصنديد الذي صنع التأريخ في تلك الأصقاع، كان بمثابة الجواهر الثمينة، لصناعة الحضارة على مدى طويل.
فالأمازيغ شعب قوي الشكيمة، عالي الهمة، سهل المعاشرة، ثاقب النظر والمعرفة. وفي ما مضى كان لهذا الشعب مزايا الفروسية والقوة والشجاعة، حتى سبقت شهرتهم وقع أقدامهم وهم ماضون لفتح الآفاق.
الأمازيغ في وجودهم يتقاسمون الكثير من أوجه الشبه مع الأكراد. فكلاهما يتكونان من سكان أصليين، مع موجات القبائل الشمالية التي اجتاحت المناطق الجنوبية الدافئة، هرباً من البرد أو غزواً للمزيد من الإستيلاء.
كلاهما ينتميان إلى حضارات سابقة قبل الميلاد. هناك رأي أن اليونانيين أطلقوا لقب (مازيس) على هذا الشعب العريق. الأمازيغ تعني الرجال الأحرار، والأكراد تعني الرجال الشجعان.
دخل الأمازيغ والأكراد الدين الإسلامي طواعية دون قتال. ثم لم يلبثوا حتى أخذوا زمام القيادة العلمية والسياسية. ودخل الإسلام الأندلس بقيادة القائد الأمازيغي الأشهر طارق بن زياد عام 92 هـ وعمره 42 عاما. ففي وادي لكّة قرب نهر برباط، قاد طارق إثنا عشر ألفاً من الأمازيغ ومعهم بضع مئات من العرب المسلمين من صفوة مختارة، لمواجهة "رودريك" ملك القوط، سماه المسلمون لوذريق، الذي جرّ مائة ألف جندي لوقف زحف طارق بن زياد وجيشه، جالباً إثنا عشر ألف حبل ليربط بها طارق بن زياد ورجاله، ويجرهم كعبيد لبيعهم في أوروبا!
في 28 رمضان عام 92 هـ الموافق 19 تموز عام 711م، بدأت المعركة واستمرت ثمانية أيام، قاوم فيها القوط بشدة إلا أن المسلمين استطاعوا تحقيق نصر ساحق في النهاية، وقدموا حوالي ثلاثة آلاف قتيل. من هنا زحف طارق نحو إشبيليا، وأستجة ومالقة وقرطبة وطليطلة وسالم وغيرها، فاتحاً الحصون والمدن واحدة بعد أخرى. هذه البداية فتحت الآفاق أمام المسلمين أمازيغاً وعرب، لإقامة حضارة كانت الأعظم في زمانها، وهي الأعظم في تأريخ المسلمين، واستمرت لأكثر من ثمانية قرون.
ومع ظهور مرحلة "الولاة" بعد الفتح المذكور، بدأت العنصريات العروبية/ القبلية المستوحاة من المنظومة الأموية التي انقلبت على البيت النبوي، تطغى على وجود المسلمين في الأندلس، حتى كاد الإسلام يُمحى في شبه الجزيرة "الإيبيرية" أي الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، لولا قدوم عبدالرحمن الداخل وتأسيسه للأمارة الأموية، بعد سقوط الأمويين في الشام على يد العجم الناقمين من العنصرية العروبية. فقد قاد الكُردي أبو مسلم الخراساني أكراد خراسان ثم الموالين لأهل بيت النبوة، الناقمين على الأمويين، إلى نصر ثمين عام 132 هـ. وبعد أن استتب له الأمر ذهب إلى الإمام جعفر الصادق ليسلمه الحكم، إلا أن قلة ثقة الصادق بالناس المعاصرين له وخشيته من فتنة عظيمة بسبب طمع آل عباس بالحكم، جعلتاه يرفض عرض أبا مسلم الخراساني.
وقد تسبب غياب أهل بيت الرسول (ص) في مسرح الأحداث، في نمو خلايا الإنكسار والتقهقر في تأريخ المسلمين، حتى بلغ تأثير ذلك ضياع الأندلس. سأتناول ذلك في مقال لاحق.
في فترة الولاة بدأت العصبية تنهش في جسد المجتمع، وكان من روادها الأوائل الهيثم بن عدي الكلابي أحد الولاة، وتولى الحكم عام 111 هـ. هذا الرجل كان متعصباً لعروبته وقبيلته فخلق هو وأمثاله (عبد الملك بن قطن ـ شارك في وقعة الحَرّة!ـ وعبد الرحمن بن يوسف الفهري) فساداً كبيراً في النظام، بل وسنّوا سنّة سيئة استمرت لقرون حتى ضاعت الأندلس. وكان أحد أسباب حدوث كارثة (بلاط الشهداء) في فرنسا عام 114 هـ، حيث إنهزم المسلمون، وجود إنقسامات عرقية ونزعات عنصرية بين العرب والأمازيغ، وفطن لذلك الفرنسييون آنئذٍ وآوان إحتلالهم للجزائر بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً من وقعة بلاط الشهداء!
هذه النزعات كانت شديدة بين العرب أنفسهم المضريين والحجازيين، والقحطانيين والعدنانيين، والفهريين والأمويين وكذلك بين بني قيس وبني ساعدة. وحدثت معارك كثيرة بين اليمنيين والحجازيين، وبين القبائل الأخرى!
وتكرر مشهد كارثة بلاط الشهداء، بعد قرون في عقر دار الإسلام بأندلس. ففي موقعة العُقاب التي يسميها الإسبان (لاس نافاس دي طولوسا) دارت معركة عظيمة بين المسلمين بقيادة السلطان محمد الناصر الموحدي، والصليبيين بقيادة الفونسو الثامن ملك كاستيلا في الإثنين 15 صفر 609 هـ الموافق 16 تموز 1212 م. فرغم ضخامة الجيش الإسلامي الذي بلغ تعداده ثلاثمائة ألف جندي، إلا أن الصليبيين إنتصروا نصرا حاسماً في تلك الموقعة، مما شكل إنعطافة هي الأخطر في تأريخ الأندلس حيث ضاعت من المسلمين بإستثناء غرناطة، التي حكمها بنو الأحمر لأكثر من قرنين من الزمان ثم سقطت أيضاً وانتهى الإسلام في الأندلس بالكليّة، تحت وطأة محاكم التفتيش المشهورة التي كوت وشوَت المسلمين وهم أحياء!
ففي العُقاب قام الناصر الموحدي بقتل القائد الشهير يوسف قادس الأندلسي مما أغضب الأندلسيين والأمازيغ. ولأسباب أخرى أيضاً، منها التمييز، ترك جناحا الجيش الإسلامي (أمازيغ وأندلسييون) ساحة المعركة فسال الخراب والهزيمة الكبيرين!
قبل ذلك وأثناء الإنتصارات المتواصلة لطارق بن زياد، التي أثارت عليه غيرة موسى بن نصير، حتى بعث بإبنه عبد العزيز بأمر من سليمان بن عبد الملك الأموي والياً على الأندلس، فعلت العروبة هناك فعلتها تمهيداً!
فقد تم إستدعاء طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى الشام، خوفاً من تعاظم قوتهما كي لا يستقلوا بها عن الأمويين، فتوقفت الفتوحات بأمرٍ أموي!
ومما أخاف سليمان بن عبد الملك، هو مظاهر الأبهة والعظمة لموسى بن نصير، في طريق عودته إلى الشام، وهو ينصب الخيام خارج المدن، على طول الطريق بين الأندلس والشام، مستقبلاً الوفود للتهنئة بفتح الأندلس كملكٍ منتصر!
وهو نفسه الذي سارع إلى توقيف طارق بن زياد، بعد أن علِم أن طارقاً فتح الكثير من بلاد الأندلس، ولكي لا يُختم النصر بسمه وهو قائد على حملةٍ معظم رجالها أمازيغ!
وسبحان الله، بقي إسم طارق الأكثر شهرة من موسى بن نصير على المستوى الإسلامي والغربي أيضا!
إستمرت النزعات العرقية والقبلية تتململ في الجوف، تنتظر أن تطل برؤوسها. وبعد إنقلاب محمد بن أبي عامر (الحاجب/ الملك المنصور) على خلافة الأمويين وهيمنته على الخليفة الصغير هشام المؤيد بالله في عام 336 هـ، خصبت الأرض لهذه الفتن!
لم يكن إبن عامر رغم كونه عربياً يثق بالعرب وقبائلهم، نظراً لمعرفته الدقيقة بتاريخهم الملئ بالصراع والقتال من أجل السلطة. لذلك فقد أعطى الأمازيغ الدور الأكبر، وقد يكون هذا الأمر السرّ وراء تقدمه في الفتوحات بسَمْتٍ لم يسبقه إليه أحدٌ غيره سابقاً أو لاحقا!
بعد موت محمد بن أبي عامر إنفرط العقد تماماً، وتحولت الأندلس إلى دويلات الطوائف، حتى وصل عددها إلى حوالي عشرين دويلة عربية وأمازيغية موزعة على القبائل.
إشتدت هيمنة الصليبيين على المسلمين حتى وصل الأمر إلى فرض الفونسو السادس ملك كاستيللا (قشتاله) إلى فرض شروط مهينة، لم يتحملها المعتمد بن عباد ملك إشبيليا. كان قد مرّ ثمانون عاماً على المسلمين وهم يدفعون الجزية للصليبيين في ذل وهوان. لكن الفونسو أراد ما هو أكثر!
فبعد سقوط طليطلة المدوّي عام 447 هـ، طمع الفونسو إلى المزيد من السيطرة. لكن المعتمد إجتمع بملوك الطوائف، وأخبرهم أنه يستنجد بقائد دولة المرابطين يوسف بن تاشفين الأمازيغي لمقاومة الصليبيين.
يوسف بن تاشفين هو أحد أعظم قادة المسلمين على مرّ التأريخ. فهو صلاح الدين الأيوبي في بلاد المغرب، أو لنقل إن صلاح الدين هو بن تاشفين المشرق!
لبّى بن تاشفين نداء الإغاثة، فجهز جيشاً من حوالي عشرة آلاف مقاتل وعبر البحر حتى وصل موقعة الزلاقة الشهيرة على رأس جيش من الأمازيغ والأندلسيين، وهزم الفونسو السادس هزيمة نكراء، وحرر المسلمين من الإحتلال والذل والجزية!
كان بن تاشفين قد ولّي الحكم من قبل إبن عمه أبوبكر عمر اللمتوني (من قبيلة لمتونة وهي جذع من قبائل صنهاجة الأمازيغية)، الذي أوصل الإسلام إلى أرجاء أفريقيا وأسلم على يديه ما يقارب خمسمائة ألف إنسان.
وهذا يثبت أن الأمازيغ الذين فتحوا الأندلس، هم أنفسهم الذين فتحوا أفريقيا.
قدّم الأمازيغ شخصيات مهمة على مرّ التأريخ. فمنهم أوغسطينوس، يوغارتا، أكسيل، يحيى بن يحيى بن كثير، عباس بن فرناس، إبراهيم عمر اللمتوني، إبن بطوطة، إبن خلدون، محمد بن تومرت (مؤسس الدولة الموحدية)، إبن بيطار، إبن ماجه، إبن طفيل وإبن رشد وآخرين كثيرين.
ويُذكر أن عباس بن فرناس هو أول من اخترع قلم الحبر والزجاج من الحجر، واخترع وسائل للطيران حتى قضى نحبه في سبيل ذلك بعد أن أتهِم بالكفر والزندقة من قبل شيوخ متحجرين.
يعيش الأمازيغ اليوم مشتتين في بلادهم بعد وقوعهم تحت ظلمين كبيرين. أحدهما ظلم الإستعمار الأوروبي الذي لم يشأ إقامة كيان أمازيغي قومي على غرار الكيانات القومية العربية، والظلم الآخر وقوع الأمازيغ تحت جور وبطش وإلغاء تلك الكيانات العنصرية، التي ركبت موجة العروبة التي لم تثمر غير الهزائم والفتن والتفرقة بين أبناء المنطقة!
يبلغ عدد الأمازيغ نحو خمسة وثلاثين مليونا، حسب أغلب الإحصائيات غير الرسمية. ولم يجر تعداد سكاني يأخذ في الحسبان هوية الأمازيغ، كونها ممنوعة ومقموعة على الصعيد السياسي والثقافي في الجزائر والمغرب، وسائر البلاد المجاورة. لذلك قد يكون عددهم أكثر من ذلك بكثير على الأرجح.
وكما في حالة الأكراد فإن الأمازيغ الذين قاوموا الإستعمار الخارجي إبان القرن العشرين، لم ينفعهم ذلك في إنجاز عيش كريم في ظل أنظمة قومية شديدة التبجح بمعاداة الإحتلال الخارجي، وشديدة البطش على الداخل المهلهل رغم إدعاءاتها وأفكارها المزيفة، في ما يتصل بقضايا حقوق الإنسان والتأريخ المشترك والحرية الثقافية!
لذلك فإن التيارات والجماعات الثقافية الأمازيغية لديها ميول غربية، ونفور من العروبة وأنظمتها وواجهاتها الثقافية، التي تشبه الخيام البدوية المنثورة التي تَغْيرُ على أطرافها كرّا وفرا!
وفرنسا لعبت دوراً كبيراً في ذلك، فهي التي سمحت للمراكز الثقافية الأمازيغية أن تنمو وتنتشر، بدل أن يقدم العروبييون هكذا مشروع لمن كان لهم الفضل في إنجاز تأريخ يفتخر به المسلمون في شتى بقاع الأرض.
الأمازيغ والأكراد، كانوا جناحين ذات بأس شديد في الدفاع عن هذه المنطقة عبر التأريخ. لكن تكوينات حاكمة مدعومة من الخارج تماهت في (ثقافتها) الأكثرية العروبية، حولت الجناحين إلى بؤر الإستنزاف والدمار حتى صار أمراً واقعاً أن يكون لسان حالهما: نريد أن نعيش بسلام حتى في ظل إحتلال خارجي قاومناه عبر قرون، خيرٌ من عروبة لا تثمر غير الشر والظلم والتخلف!
علي سيريني
alisirini1@gmail.com
http://www.elaph.com/Web/AsdaElaph/2009/1/402699.htm
(مثل الأكراد ضحايا العروبة)
وجود الأمازيغ في تأريخ وجغرافية بلاد المغرب والأطلسي، يشبه هامة الجبال تطل على المدى الواسع.
فهذا الشعب الصنديد الذي صنع التأريخ في تلك الأصقاع، كان بمثابة الجواهر الثمينة، لصناعة الحضارة على مدى طويل.
فالأمازيغ شعب قوي الشكيمة، عالي الهمة، سهل المعاشرة، ثاقب النظر والمعرفة. وفي ما مضى كان لهذا الشعب مزايا الفروسية والقوة والشجاعة، حتى سبقت شهرتهم وقع أقدامهم وهم ماضون لفتح الآفاق.
الأمازيغ في وجودهم يتقاسمون الكثير من أوجه الشبه مع الأكراد. فكلاهما يتكونان من سكان أصليين، مع موجات القبائل الشمالية التي اجتاحت المناطق الجنوبية الدافئة، هرباً من البرد أو غزواً للمزيد من الإستيلاء.
كلاهما ينتميان إلى حضارات سابقة قبل الميلاد. هناك رأي أن اليونانيين أطلقوا لقب (مازيس) على هذا الشعب العريق. الأمازيغ تعني الرجال الأحرار، والأكراد تعني الرجال الشجعان.
دخل الأمازيغ والأكراد الدين الإسلامي طواعية دون قتال. ثم لم يلبثوا حتى أخذوا زمام القيادة العلمية والسياسية. ودخل الإسلام الأندلس بقيادة القائد الأمازيغي الأشهر طارق بن زياد عام 92 هـ وعمره 42 عاما. ففي وادي لكّة قرب نهر برباط، قاد طارق إثنا عشر ألفاً من الأمازيغ ومعهم بضع مئات من العرب المسلمين من صفوة مختارة، لمواجهة "رودريك" ملك القوط، سماه المسلمون لوذريق، الذي جرّ مائة ألف جندي لوقف زحف طارق بن زياد وجيشه، جالباً إثنا عشر ألف حبل ليربط بها طارق بن زياد ورجاله، ويجرهم كعبيد لبيعهم في أوروبا!
في 28 رمضان عام 92 هـ الموافق 19 تموز عام 711م، بدأت المعركة واستمرت ثمانية أيام، قاوم فيها القوط بشدة إلا أن المسلمين استطاعوا تحقيق نصر ساحق في النهاية، وقدموا حوالي ثلاثة آلاف قتيل. من هنا زحف طارق نحو إشبيليا، وأستجة ومالقة وقرطبة وطليطلة وسالم وغيرها، فاتحاً الحصون والمدن واحدة بعد أخرى. هذه البداية فتحت الآفاق أمام المسلمين أمازيغاً وعرب، لإقامة حضارة كانت الأعظم في زمانها، وهي الأعظم في تأريخ المسلمين، واستمرت لأكثر من ثمانية قرون.
ومع ظهور مرحلة "الولاة" بعد الفتح المذكور، بدأت العنصريات العروبية/ القبلية المستوحاة من المنظومة الأموية التي انقلبت على البيت النبوي، تطغى على وجود المسلمين في الأندلس، حتى كاد الإسلام يُمحى في شبه الجزيرة "الإيبيرية" أي الأندلس (إسبانيا والبرتغال)، لولا قدوم عبدالرحمن الداخل وتأسيسه للأمارة الأموية، بعد سقوط الأمويين في الشام على يد العجم الناقمين من العنصرية العروبية. فقد قاد الكُردي أبو مسلم الخراساني أكراد خراسان ثم الموالين لأهل بيت النبوة، الناقمين على الأمويين، إلى نصر ثمين عام 132 هـ. وبعد أن استتب له الأمر ذهب إلى الإمام جعفر الصادق ليسلمه الحكم، إلا أن قلة ثقة الصادق بالناس المعاصرين له وخشيته من فتنة عظيمة بسبب طمع آل عباس بالحكم، جعلتاه يرفض عرض أبا مسلم الخراساني.
وقد تسبب غياب أهل بيت الرسول (ص) في مسرح الأحداث، في نمو خلايا الإنكسار والتقهقر في تأريخ المسلمين، حتى بلغ تأثير ذلك ضياع الأندلس. سأتناول ذلك في مقال لاحق.
في فترة الولاة بدأت العصبية تنهش في جسد المجتمع، وكان من روادها الأوائل الهيثم بن عدي الكلابي أحد الولاة، وتولى الحكم عام 111 هـ. هذا الرجل كان متعصباً لعروبته وقبيلته فخلق هو وأمثاله (عبد الملك بن قطن ـ شارك في وقعة الحَرّة!ـ وعبد الرحمن بن يوسف الفهري) فساداً كبيراً في النظام، بل وسنّوا سنّة سيئة استمرت لقرون حتى ضاعت الأندلس. وكان أحد أسباب حدوث كارثة (بلاط الشهداء) في فرنسا عام 114 هـ، حيث إنهزم المسلمون، وجود إنقسامات عرقية ونزعات عنصرية بين العرب والأمازيغ، وفطن لذلك الفرنسييون آنئذٍ وآوان إحتلالهم للجزائر بعد أكثر من ثلاثة عشر قرناً من وقعة بلاط الشهداء!
هذه النزعات كانت شديدة بين العرب أنفسهم المضريين والحجازيين، والقحطانيين والعدنانيين، والفهريين والأمويين وكذلك بين بني قيس وبني ساعدة. وحدثت معارك كثيرة بين اليمنيين والحجازيين، وبين القبائل الأخرى!
وتكرر مشهد كارثة بلاط الشهداء، بعد قرون في عقر دار الإسلام بأندلس. ففي موقعة العُقاب التي يسميها الإسبان (لاس نافاس دي طولوسا) دارت معركة عظيمة بين المسلمين بقيادة السلطان محمد الناصر الموحدي، والصليبيين بقيادة الفونسو الثامن ملك كاستيلا في الإثنين 15 صفر 609 هـ الموافق 16 تموز 1212 م. فرغم ضخامة الجيش الإسلامي الذي بلغ تعداده ثلاثمائة ألف جندي، إلا أن الصليبيين إنتصروا نصرا حاسماً في تلك الموقعة، مما شكل إنعطافة هي الأخطر في تأريخ الأندلس حيث ضاعت من المسلمين بإستثناء غرناطة، التي حكمها بنو الأحمر لأكثر من قرنين من الزمان ثم سقطت أيضاً وانتهى الإسلام في الأندلس بالكليّة، تحت وطأة محاكم التفتيش المشهورة التي كوت وشوَت المسلمين وهم أحياء!
ففي العُقاب قام الناصر الموحدي بقتل القائد الشهير يوسف قادس الأندلسي مما أغضب الأندلسيين والأمازيغ. ولأسباب أخرى أيضاً، منها التمييز، ترك جناحا الجيش الإسلامي (أمازيغ وأندلسييون) ساحة المعركة فسال الخراب والهزيمة الكبيرين!
قبل ذلك وأثناء الإنتصارات المتواصلة لطارق بن زياد، التي أثارت عليه غيرة موسى بن نصير، حتى بعث بإبنه عبد العزيز بأمر من سليمان بن عبد الملك الأموي والياً على الأندلس، فعلت العروبة هناك فعلتها تمهيداً!
فقد تم إستدعاء طارق بن زياد وموسى بن نصير إلى الشام، خوفاً من تعاظم قوتهما كي لا يستقلوا بها عن الأمويين، فتوقفت الفتوحات بأمرٍ أموي!
ومما أخاف سليمان بن عبد الملك، هو مظاهر الأبهة والعظمة لموسى بن نصير، في طريق عودته إلى الشام، وهو ينصب الخيام خارج المدن، على طول الطريق بين الأندلس والشام، مستقبلاً الوفود للتهنئة بفتح الأندلس كملكٍ منتصر!
وهو نفسه الذي سارع إلى توقيف طارق بن زياد، بعد أن علِم أن طارقاً فتح الكثير من بلاد الأندلس، ولكي لا يُختم النصر بسمه وهو قائد على حملةٍ معظم رجالها أمازيغ!
وسبحان الله، بقي إسم طارق الأكثر شهرة من موسى بن نصير على المستوى الإسلامي والغربي أيضا!
إستمرت النزعات العرقية والقبلية تتململ في الجوف، تنتظر أن تطل برؤوسها. وبعد إنقلاب محمد بن أبي عامر (الحاجب/ الملك المنصور) على خلافة الأمويين وهيمنته على الخليفة الصغير هشام المؤيد بالله في عام 336 هـ، خصبت الأرض لهذه الفتن!
لم يكن إبن عامر رغم كونه عربياً يثق بالعرب وقبائلهم، نظراً لمعرفته الدقيقة بتاريخهم الملئ بالصراع والقتال من أجل السلطة. لذلك فقد أعطى الأمازيغ الدور الأكبر، وقد يكون هذا الأمر السرّ وراء تقدمه في الفتوحات بسَمْتٍ لم يسبقه إليه أحدٌ غيره سابقاً أو لاحقا!
بعد موت محمد بن أبي عامر إنفرط العقد تماماً، وتحولت الأندلس إلى دويلات الطوائف، حتى وصل عددها إلى حوالي عشرين دويلة عربية وأمازيغية موزعة على القبائل.
إشتدت هيمنة الصليبيين على المسلمين حتى وصل الأمر إلى فرض الفونسو السادس ملك كاستيللا (قشتاله) إلى فرض شروط مهينة، لم يتحملها المعتمد بن عباد ملك إشبيليا. كان قد مرّ ثمانون عاماً على المسلمين وهم يدفعون الجزية للصليبيين في ذل وهوان. لكن الفونسو أراد ما هو أكثر!
فبعد سقوط طليطلة المدوّي عام 447 هـ، طمع الفونسو إلى المزيد من السيطرة. لكن المعتمد إجتمع بملوك الطوائف، وأخبرهم أنه يستنجد بقائد دولة المرابطين يوسف بن تاشفين الأمازيغي لمقاومة الصليبيين.
يوسف بن تاشفين هو أحد أعظم قادة المسلمين على مرّ التأريخ. فهو صلاح الدين الأيوبي في بلاد المغرب، أو لنقل إن صلاح الدين هو بن تاشفين المشرق!
لبّى بن تاشفين نداء الإغاثة، فجهز جيشاً من حوالي عشرة آلاف مقاتل وعبر البحر حتى وصل موقعة الزلاقة الشهيرة على رأس جيش من الأمازيغ والأندلسيين، وهزم الفونسو السادس هزيمة نكراء، وحرر المسلمين من الإحتلال والذل والجزية!
كان بن تاشفين قد ولّي الحكم من قبل إبن عمه أبوبكر عمر اللمتوني (من قبيلة لمتونة وهي جذع من قبائل صنهاجة الأمازيغية)، الذي أوصل الإسلام إلى أرجاء أفريقيا وأسلم على يديه ما يقارب خمسمائة ألف إنسان.
وهذا يثبت أن الأمازيغ الذين فتحوا الأندلس، هم أنفسهم الذين فتحوا أفريقيا.
قدّم الأمازيغ شخصيات مهمة على مرّ التأريخ. فمنهم أوغسطينوس، يوغارتا، أكسيل، يحيى بن يحيى بن كثير، عباس بن فرناس، إبراهيم عمر اللمتوني، إبن بطوطة، إبن خلدون، محمد بن تومرت (مؤسس الدولة الموحدية)، إبن بيطار، إبن ماجه، إبن طفيل وإبن رشد وآخرين كثيرين.
ويُذكر أن عباس بن فرناس هو أول من اخترع قلم الحبر والزجاج من الحجر، واخترع وسائل للطيران حتى قضى نحبه في سبيل ذلك بعد أن أتهِم بالكفر والزندقة من قبل شيوخ متحجرين.
يعيش الأمازيغ اليوم مشتتين في بلادهم بعد وقوعهم تحت ظلمين كبيرين. أحدهما ظلم الإستعمار الأوروبي الذي لم يشأ إقامة كيان أمازيغي قومي على غرار الكيانات القومية العربية، والظلم الآخر وقوع الأمازيغ تحت جور وبطش وإلغاء تلك الكيانات العنصرية، التي ركبت موجة العروبة التي لم تثمر غير الهزائم والفتن والتفرقة بين أبناء المنطقة!
يبلغ عدد الأمازيغ نحو خمسة وثلاثين مليونا، حسب أغلب الإحصائيات غير الرسمية. ولم يجر تعداد سكاني يأخذ في الحسبان هوية الأمازيغ، كونها ممنوعة ومقموعة على الصعيد السياسي والثقافي في الجزائر والمغرب، وسائر البلاد المجاورة. لذلك قد يكون عددهم أكثر من ذلك بكثير على الأرجح.
وكما في حالة الأكراد فإن الأمازيغ الذين قاوموا الإستعمار الخارجي إبان القرن العشرين، لم ينفعهم ذلك في إنجاز عيش كريم في ظل أنظمة قومية شديدة التبجح بمعاداة الإحتلال الخارجي، وشديدة البطش على الداخل المهلهل رغم إدعاءاتها وأفكارها المزيفة، في ما يتصل بقضايا حقوق الإنسان والتأريخ المشترك والحرية الثقافية!
لذلك فإن التيارات والجماعات الثقافية الأمازيغية لديها ميول غربية، ونفور من العروبة وأنظمتها وواجهاتها الثقافية، التي تشبه الخيام البدوية المنثورة التي تَغْيرُ على أطرافها كرّا وفرا!
وفرنسا لعبت دوراً كبيراً في ذلك، فهي التي سمحت للمراكز الثقافية الأمازيغية أن تنمو وتنتشر، بدل أن يقدم العروبييون هكذا مشروع لمن كان لهم الفضل في إنجاز تأريخ يفتخر به المسلمون في شتى بقاع الأرض.
الأمازيغ والأكراد، كانوا جناحين ذات بأس شديد في الدفاع عن هذه المنطقة عبر التأريخ. لكن تكوينات حاكمة مدعومة من الخارج تماهت في (ثقافتها) الأكثرية العروبية، حولت الجناحين إلى بؤر الإستنزاف والدمار حتى صار أمراً واقعاً أن يكون لسان حالهما: نريد أن نعيش بسلام حتى في ظل إحتلال خارجي قاومناه عبر قرون، خيرٌ من عروبة لا تثمر غير الشر والظلم والتخلف!
علي سيريني
alisirini1@gmail.com
http://www.elaph.com/Web/AsdaElaph/2009/1/402699.htm