مقاوم
01-18-2009, 12:23 AM
المشروب البني الساحر.. شاغل الدنيا
http://www.asharqalawsat.com/2008/12/28/images/food1.500678.jpg
غرونوبل: سيمون نصار
أيهما عرف أولاً في أوروبا، القهوة أم الفنجان؟ ربما، لن نجد أية إجابة على هذا السؤال الذي يذكرنا بقصة البيضة والدجاجة. لكنه سؤال مشروع إذا نظرنا بواقعية الى العلاقة الوطيدة بين القهوة والفنجان والتي عمرها في أوروبا ما يقرب من أربعة قرون ناجزة. لكن بعيداً عن السؤال السابق فإن أسئلة أكثر مشروعية تطرح عن علاقة الأوربيين بالقهوة. فإذا كانت القهوة قد دخلت الى القارة العجوز منذ أربعة قرون علينا أن نسأل من أدخلها وكيف دخلت ومن روج لها ولماذا؟.
معظم الكتب التي نشرت حول دخول القهوة الى أوروبا، الى ذكر هذا المشروب السحري البني المائل الى السواد في الموسوعة الفرنسية إضافة الى مئات الكتب تقول إن الفضل يعود الى السلطنة العثمانية في ذلك. والى العلاقة الغريبة بين الأتراك والقهوة، وهي علاقة فيها شيء من العشق وفيها شيء من السحر أيضاً. ربما، سحر العشق أو ذلك السحر الذي يضيف العشق الى الحياة. لكن كيف ومتى وعن أي طريق؟. فهذه المقالة لم تكتب للتعريف بالقهوة وفوائدها أو مضارها ولا البلدان المنتجة لها وقد أصبحت كثيرة اليوم.
بل هي فقط للتعريف عن تلك العلاقة الحميمة التي جمعت ما بين الأتراك والقهوة وبين الأوروبيين والقهوة أيضاً. ولكل قصة حب تاريخ وحكايات تروى على مر الأجيال لا بد من التوقف عندها ومراجعتها لأنها وبسبب مرور الزمن عليها تكون قد دخلت في النسق الثقافي للشعوب. يعود جذر كلمة قهوة أو café بالفرنسية الى ما يعتقد أنه المكان الذي سميت على اسمه. فقد ذكرت الموسوعة الفرنسية بأن أصل القهوة جاء من أثيوبيا (الحبشة) حيث كانت تنبت في أعالي الجبال هناك في منطقة اسمها kaffa ما يعتقد بأن التسمية جاءت من هذا الاسم.
لكن بعض العلماء يقول إن الاسم الآخر وهو (البن) جاء من اسم الحبشة بالفرنسية وهو bunn الذي يحمل أيضاً تشابها بين اسم البلد وواحد من أسماء القهوة. لكن هذه النبتة وهذا المشروب في ما بعد أعطي أسماء عديدة. فقد أضاف العرب له اسما وأضاف الأتراك اسماً آخر مثل (qahwah ، cahuah أو kaweh ). وهي نبتة برية لم تزرعها يد إنسان في البداية قبل أن تصبح تجارة معروفة عالمياً. ومن غير الواضح متى اكتشفت النبتة في اليمن ولماذا تعتبر القهوة العدنية من أجود الأنواع علماً أن اليمن اليوم لا يعتبر أبداً من الدول المنتجة للقهوة عالمياً.
بدأت القهوة في الإمبراطورية العثمانية في عام 1555 حين افتتح تاجران من سورية متجرا لبيعها في اسطنبول (القسطنطينية) وهما عملا في هذه التجارة رغم معارضة المجتمع التركي يومذاك. لكن هذا الشراب الغريب الذي أعده صاحبا المتجر الأصل أثار أحداثاً غير عادية في المدينة. فقد بدأ الرجال يترددون على المتجر لتجريب المشروب السحري وتأثيره على العقل والأعصاب والاستمتاع بالروائح الزكية التي تصدر عنه.
ورغم معارضة المجتمع له، إلا أن تقدم القهوة في المجتمع الاسطنبولي في ذلك الزمان تم بوتيرة سريعة للغاية وسرعان ما تحول الى ظاهرة اجتماعية وافتتح في المدينة أكثر من متجر لتحضير هذا المشروب، وبات رواد هذه المقاهي من علية القوم والباشوات وكبار الضباط وغيرهم.
ومن بين الإشاعات التي أطلقت في ذلك الزمان، اشاعة أطلقها بعض المحافظين بأن هذا المشروب من الشيطان لأن له قوة شيطانية على الإعراض عن النوم وفقدان الشهية لوقت قصير والأهم إلهاء الناس عن الدخول الى المساجد والبقاء في المقاهي.
وفي يوم وصلت المسألة الى حد تدخل المفتين في الأمر. فقد أصدر مفتي اسطنبول حينذاك فتوى تقول بأن كل ما لونه يقترب من لون الفحم حرام تناوله. وتنبأ بأعظم المصائب التي ستنزل على شاربي هذا الشراب البني. لكن جميع الجهود التي بذلها المفتي ذهبت هباءً.
لكن السلطان سليمان الذي أحب هذا الشراب حارب الإشاعات التي كانت تتنقل بين حارات اسطنبول وفي بيوتها وسمح بفتح العديد من المتاجر التي أصبحت اليوم تسمى المقاهي، على أن يتم شرب المشروب داخل المتاجر وليس خارجها وأمام العامة من الناس تلافياً للاستفزاز.
لكن هذا الأمر سرعان ما انتهى حين توفي المفتي وجاء مفتي جديد أفتى بأن هذا المشروب لا يضر وهو ليس حرام في أي مادة من مواده أو في طريقة تعاطيه. ويرد أن الدولة ساهمت الى حد كبير في انتشار هذه المقاهي لأنها كانت تفرض ضرائب عالية القيمة على هذه المحلات ما يعني أنها شكلت في ذلك الوقت مصدراً لدخل الدولة من تجارة جديدة ورائجة.
وقد كانت المدينة في ذلك الزمن مروراً إجبارياً للعديد من القوافل البرية والبحرية التي كانت تمر الى من الشرق الى الغرب وبالعكس. وكانت محطة للعديد من الأجانب من تجار ومسافرين ما جعل هذه المقاهي مرتعاً لهؤلاء للراحة وتزجية الوقت من جهة وللقاء تجار آخرين وعقد الصفقات معهم إضافة الى شرب القهوة. وكانت التجارة تتم عن طريق التبادل بين البضائع الأمر الذي لا يزال موجوداً لغاية اليوم تحت اسم التبادل التجاري. لكن مع ذلك فإن القهوة لم تنتقل بهذه البساطة الى القارة العجوز.
بدأ ظهور القهوة في الغرب أولاً في مدينة البندقية. فقد كانت المدينة مشهورة كميناء عظيم على المتوسط يربط ما بين أوروبا وآسيا ورحلات التجارة. وقد أدخل هذا المشروب إليها في عام 1453 كما تذكر غالبية المصادر. عند وجود هذا المشروب في إيطاليا لم تكن أي دولة في أوروبا باستثناء البرتغال قادرة على الاستيراد والتصدير خاصة التوابل.
لكن تجار البندقية كانوا على درجة عالية من الحنكة فقد كانوا يستوردون مواد أخرى من الشرق مثل الزبيب وبعض أنواع التوابل كاليانسون والكمون وغيرهما. وكان لهم تعامل وثيق الصلة مع التجار الأتراك حيث تعاملوا معهم لعدة قرون، وكان أهالي البندقية يقدرون الحضارة التركية وعاداتها وتقاليدها وينظرون الى هذه الثقافة على أنها ثقافة تستحق التبجيل حتى أنهم أخذوا العديد من عادات هذه الحضارة ومنها القهوة. ومن أهم الوثائق التي تتحدث عن العلاقة بين أهالي البندقية والقهوة تقرير كتبه سفير البندقية في اسطنبول جان فرانسيسكو موروسيني في عام 1585 يقول فيه (لقد اعتادوا على تناول شراب أسود في الأماكن العامة وحتى في الشارع، وهو يقدم ساخناً ويقطع من نبتة اسمها cafetier وله تأثير مهم جدا إذ يبقي من يتناوله مستيقظاً).
أما بيترو ديلا فالي فقد وصف القهوة في عام 1615 بأنها مشروب (بارد في الصيف ودافئ في الشتاء ويشرب ساخنا كما لو أنه النار نفسها). مع ذلك فإن أهالي البندقية لم يشربوا القهوة إلا في الربع الأخير من القرن السابع عشر وذلك أيضاً بسبب الهجمات الشرسة على هذا المشروب.
فقد وصف بييرو فوسكاريني المقاهي بأنها (أماكن يتجمع فيها حثالة القوم والعاطلون عن العمل ولاعبو الورق والشطرنج الذي لا يملكون الوقت إلا لتضييعه) وأضاف أن هؤلاء الناس هم خطر على الدولة وعلى الحكومة التي عليها أن تقفل هذه المحلات كلها. وبالفعل حصل ذلك وبقي استخدام البن في الصيدليات فقط لغاية عام 1683 حين افتتح أول مقهى في البندقية. وبعد ذلك حددت الحكومة عدد المحلات بأن لا يتجاوز 99 مقهى تتجاور فقط في الشارع الذي يربط بين سان مارك وجسر ريالتو. أما في فرنسا فقد دخلت القهوة في زمن لويس الرابع عشر. الذي سمح في ذلك الوقت لبعض نساء المجتمع المخملي من تناوله.
http://www.asharqalawsat.com/2008/12/28/images/food1.500678.jpg
غرونوبل: سيمون نصار
أيهما عرف أولاً في أوروبا، القهوة أم الفنجان؟ ربما، لن نجد أية إجابة على هذا السؤال الذي يذكرنا بقصة البيضة والدجاجة. لكنه سؤال مشروع إذا نظرنا بواقعية الى العلاقة الوطيدة بين القهوة والفنجان والتي عمرها في أوروبا ما يقرب من أربعة قرون ناجزة. لكن بعيداً عن السؤال السابق فإن أسئلة أكثر مشروعية تطرح عن علاقة الأوربيين بالقهوة. فإذا كانت القهوة قد دخلت الى القارة العجوز منذ أربعة قرون علينا أن نسأل من أدخلها وكيف دخلت ومن روج لها ولماذا؟.
معظم الكتب التي نشرت حول دخول القهوة الى أوروبا، الى ذكر هذا المشروب السحري البني المائل الى السواد في الموسوعة الفرنسية إضافة الى مئات الكتب تقول إن الفضل يعود الى السلطنة العثمانية في ذلك. والى العلاقة الغريبة بين الأتراك والقهوة، وهي علاقة فيها شيء من العشق وفيها شيء من السحر أيضاً. ربما، سحر العشق أو ذلك السحر الذي يضيف العشق الى الحياة. لكن كيف ومتى وعن أي طريق؟. فهذه المقالة لم تكتب للتعريف بالقهوة وفوائدها أو مضارها ولا البلدان المنتجة لها وقد أصبحت كثيرة اليوم.
بل هي فقط للتعريف عن تلك العلاقة الحميمة التي جمعت ما بين الأتراك والقهوة وبين الأوروبيين والقهوة أيضاً. ولكل قصة حب تاريخ وحكايات تروى على مر الأجيال لا بد من التوقف عندها ومراجعتها لأنها وبسبب مرور الزمن عليها تكون قد دخلت في النسق الثقافي للشعوب. يعود جذر كلمة قهوة أو café بالفرنسية الى ما يعتقد أنه المكان الذي سميت على اسمه. فقد ذكرت الموسوعة الفرنسية بأن أصل القهوة جاء من أثيوبيا (الحبشة) حيث كانت تنبت في أعالي الجبال هناك في منطقة اسمها kaffa ما يعتقد بأن التسمية جاءت من هذا الاسم.
لكن بعض العلماء يقول إن الاسم الآخر وهو (البن) جاء من اسم الحبشة بالفرنسية وهو bunn الذي يحمل أيضاً تشابها بين اسم البلد وواحد من أسماء القهوة. لكن هذه النبتة وهذا المشروب في ما بعد أعطي أسماء عديدة. فقد أضاف العرب له اسما وأضاف الأتراك اسماً آخر مثل (qahwah ، cahuah أو kaweh ). وهي نبتة برية لم تزرعها يد إنسان في البداية قبل أن تصبح تجارة معروفة عالمياً. ومن غير الواضح متى اكتشفت النبتة في اليمن ولماذا تعتبر القهوة العدنية من أجود الأنواع علماً أن اليمن اليوم لا يعتبر أبداً من الدول المنتجة للقهوة عالمياً.
بدأت القهوة في الإمبراطورية العثمانية في عام 1555 حين افتتح تاجران من سورية متجرا لبيعها في اسطنبول (القسطنطينية) وهما عملا في هذه التجارة رغم معارضة المجتمع التركي يومذاك. لكن هذا الشراب الغريب الذي أعده صاحبا المتجر الأصل أثار أحداثاً غير عادية في المدينة. فقد بدأ الرجال يترددون على المتجر لتجريب المشروب السحري وتأثيره على العقل والأعصاب والاستمتاع بالروائح الزكية التي تصدر عنه.
ورغم معارضة المجتمع له، إلا أن تقدم القهوة في المجتمع الاسطنبولي في ذلك الزمان تم بوتيرة سريعة للغاية وسرعان ما تحول الى ظاهرة اجتماعية وافتتح في المدينة أكثر من متجر لتحضير هذا المشروب، وبات رواد هذه المقاهي من علية القوم والباشوات وكبار الضباط وغيرهم.
ومن بين الإشاعات التي أطلقت في ذلك الزمان، اشاعة أطلقها بعض المحافظين بأن هذا المشروب من الشيطان لأن له قوة شيطانية على الإعراض عن النوم وفقدان الشهية لوقت قصير والأهم إلهاء الناس عن الدخول الى المساجد والبقاء في المقاهي.
وفي يوم وصلت المسألة الى حد تدخل المفتين في الأمر. فقد أصدر مفتي اسطنبول حينذاك فتوى تقول بأن كل ما لونه يقترب من لون الفحم حرام تناوله. وتنبأ بأعظم المصائب التي ستنزل على شاربي هذا الشراب البني. لكن جميع الجهود التي بذلها المفتي ذهبت هباءً.
لكن السلطان سليمان الذي أحب هذا الشراب حارب الإشاعات التي كانت تتنقل بين حارات اسطنبول وفي بيوتها وسمح بفتح العديد من المتاجر التي أصبحت اليوم تسمى المقاهي، على أن يتم شرب المشروب داخل المتاجر وليس خارجها وأمام العامة من الناس تلافياً للاستفزاز.
لكن هذا الأمر سرعان ما انتهى حين توفي المفتي وجاء مفتي جديد أفتى بأن هذا المشروب لا يضر وهو ليس حرام في أي مادة من مواده أو في طريقة تعاطيه. ويرد أن الدولة ساهمت الى حد كبير في انتشار هذه المقاهي لأنها كانت تفرض ضرائب عالية القيمة على هذه المحلات ما يعني أنها شكلت في ذلك الوقت مصدراً لدخل الدولة من تجارة جديدة ورائجة.
وقد كانت المدينة في ذلك الزمن مروراً إجبارياً للعديد من القوافل البرية والبحرية التي كانت تمر الى من الشرق الى الغرب وبالعكس. وكانت محطة للعديد من الأجانب من تجار ومسافرين ما جعل هذه المقاهي مرتعاً لهؤلاء للراحة وتزجية الوقت من جهة وللقاء تجار آخرين وعقد الصفقات معهم إضافة الى شرب القهوة. وكانت التجارة تتم عن طريق التبادل بين البضائع الأمر الذي لا يزال موجوداً لغاية اليوم تحت اسم التبادل التجاري. لكن مع ذلك فإن القهوة لم تنتقل بهذه البساطة الى القارة العجوز.
بدأ ظهور القهوة في الغرب أولاً في مدينة البندقية. فقد كانت المدينة مشهورة كميناء عظيم على المتوسط يربط ما بين أوروبا وآسيا ورحلات التجارة. وقد أدخل هذا المشروب إليها في عام 1453 كما تذكر غالبية المصادر. عند وجود هذا المشروب في إيطاليا لم تكن أي دولة في أوروبا باستثناء البرتغال قادرة على الاستيراد والتصدير خاصة التوابل.
لكن تجار البندقية كانوا على درجة عالية من الحنكة فقد كانوا يستوردون مواد أخرى من الشرق مثل الزبيب وبعض أنواع التوابل كاليانسون والكمون وغيرهما. وكان لهم تعامل وثيق الصلة مع التجار الأتراك حيث تعاملوا معهم لعدة قرون، وكان أهالي البندقية يقدرون الحضارة التركية وعاداتها وتقاليدها وينظرون الى هذه الثقافة على أنها ثقافة تستحق التبجيل حتى أنهم أخذوا العديد من عادات هذه الحضارة ومنها القهوة. ومن أهم الوثائق التي تتحدث عن العلاقة بين أهالي البندقية والقهوة تقرير كتبه سفير البندقية في اسطنبول جان فرانسيسكو موروسيني في عام 1585 يقول فيه (لقد اعتادوا على تناول شراب أسود في الأماكن العامة وحتى في الشارع، وهو يقدم ساخناً ويقطع من نبتة اسمها cafetier وله تأثير مهم جدا إذ يبقي من يتناوله مستيقظاً).
أما بيترو ديلا فالي فقد وصف القهوة في عام 1615 بأنها مشروب (بارد في الصيف ودافئ في الشتاء ويشرب ساخنا كما لو أنه النار نفسها). مع ذلك فإن أهالي البندقية لم يشربوا القهوة إلا في الربع الأخير من القرن السابع عشر وذلك أيضاً بسبب الهجمات الشرسة على هذا المشروب.
فقد وصف بييرو فوسكاريني المقاهي بأنها (أماكن يتجمع فيها حثالة القوم والعاطلون عن العمل ولاعبو الورق والشطرنج الذي لا يملكون الوقت إلا لتضييعه) وأضاف أن هؤلاء الناس هم خطر على الدولة وعلى الحكومة التي عليها أن تقفل هذه المحلات كلها. وبالفعل حصل ذلك وبقي استخدام البن في الصيدليات فقط لغاية عام 1683 حين افتتح أول مقهى في البندقية. وبعد ذلك حددت الحكومة عدد المحلات بأن لا يتجاوز 99 مقهى تتجاور فقط في الشارع الذي يربط بين سان مارك وجسر ريالتو. أما في فرنسا فقد دخلت القهوة في زمن لويس الرابع عشر. الذي سمح في ذلك الوقت لبعض نساء المجتمع المخملي من تناوله.