المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : واشنطن بوست : ماذا بعد انتهاء الحرب في العراق؟



زوربا
01-03-2009, 08:38 AM
أوان الكويتية



مالك عسّاف، علي الموعي

ربما كانت الطلقة الوحيدة التي سُمِعت منذ أيام في هذه المدينة، التي اعتادت وقع إطلاق النار. وربما كانت الابتسامات عند نقاط التفتيش وصرخات رجال الشرطة العراقيين، الذين يحاولون تنظيم فوضى المرور، فيما يخاطبون سائقي السيارات بعبارات مثل «الله يرحم والديك» و«الله يبارك فيك».

وربما كان صندوق الموسيقى، في أحد الأكشاك المزدانة بأشجار عيد الميلاد والوسائد الحمراء المصمَّمة على شكل قلب، هو الذي يطلق أغنية «بابا نويل آتٍ إلى المدينة».

بالنسبة لأي شخص عائد إلى بغداد، بعد أن كان منذ سنتين قد أمضى فيها وقتا، في مرحلة تُعتبر الأشد ظلاما في تاريخها، إذ شُلَّت المدينة بفعل العنف الطائفي وسيطرة المسلحين الذين زرعوا فيها بذور اليأس، بدا أنه لا مفر من هذه النتيجة.

«انتهت الحرب»، قال حيدر العبودي، أحد تجار الشوارع.

نعم لقد انتهت الحرب في العراق، أو في الأقل انتهى ذلك الشكل من الصراع الذي رأيناه على مدى 5 سنوات، والذي تجلى في أعمال التمرد والتطهير العرقي وحرب العصابات.

بمعنى آخر انتهت الحرب الأهلية، علما أن مصطلح «الحرب الأهلية» يُعتبر في غاية الأناقة والتهذيب، بالنسبة للوضع الذي كان سائدا.

لقد وصلت الفوضى الجهنمية إلى أقصى مدى لها. والأمر نفسه ينسحب على القوى التي حرَّكتها الولايات المتحدة، بفعل غزوها للعراق في العام 2003، والذي أدى إلى تحويل البلاد إلى كيانٍ ممزَّق تسيطر عليه الأعمال الوحشية.

في ذلك العراق، كان الأميركيون هم الحكم والفيصل النهائي، وكانت النتيجة أنهم جرَّدوا كل شيء خلَّفوه وراءهم من الشرعية.

كي لا نقول إن السلام قد ساد العراق، نظرا لأن عدد الذين يُقتلون اليوم، لا يقل عن أولئك الذين كانوا يُقتلون في أي يوم خلال العامين 2003 و2004، وكي لا نقول إنه تم إحراز النصر، لأن العراقيين سيتساءلون على الفور «النصر لمن؟»، بالتأكيد ليس لعشرات الآلاف من المدنيين، الذين قُتلوا في حمأة الصدامات بين مختلف القوات التي كانت تفتقر للخبرة العسكرية في ذلك الوقت.

لهذا السبب، دعونا نطلق على هذه المرحلة اسم «اليوم المقبل».

يبدو العراق في الوقت الحالي شبيها إلى حدٍّ كبير بجنوب لبنان، بعد انتهاء تلك الحرب غير المتكافئة التي وقعت في العام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، ذلك التيار الشيعي المسلم الذي تمكن من إيقاف تقدم إسرائيل.

في ذلك الوقت، نهض الناجون من تحت ركام منازلهم ومكاتبهم ومحلاتهم، وعلى وجوههم ابتسامة تنم عن الرضا، لأنهم تمكنوا من البقاء على قيد الحياة، فاعتبروا أنهم انتصروا. بعد ذلك التفتوا حولهم ورأوا حجم الدمار الذي أحدثته المعارك الطاحنة، فاكفهرت وجوههم، كونهم أدركوا حجم المهمة التي تنتظرهم.

لهذا السبب قد يحق لنا أن نطلق على هذه المرحلة أيضا اسم «اليوم السابق».

«نحن لا نعرف ما هو الآتي»، قال شيدراك جورج، الذي كان من بين المتفرجين، عندما حاول مجموعة من الرجال في التاسع من أبريل (نيسان) 2003 الإطاحة بتمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، مستخدمين كل الوسائل المتاحة، إنما عبثاً؛ إلى أن جاءت المدرعة m88 وأسقطتْه. لم تتردد هذه العربة في القيام بما قامت به، وما كان ينبغي لها.

ثم أضاف أن كل شيء بقي غامضا «نريد أن نعلم كيف ستسير الأمور؟».

بغداد، التي تتكئ على تاريخ يمتد إلى 1250 عاما، أطلق عليها سكانها كثيرا من الأسماء.

بالنسبة لأبي جعفر المنصور، تُعتبر بغداد «مدينة السلام»؛ فهي العاصمة التي كانت أسوارها دائرية في منتهى الدقة، لدرجة أن أحد المؤرخين المعاصرين قال إنها صُبَّت في قالب.

أما بغداد صدام، فكانت دليلا على جنون العظمة الذي كان يعانيه هذا الرجل، فهي عبارة عن منبسطٍ شاسع وغريب ذي هالة من العظمة المشوَّهة.

وبعد سقوطه، تعرَّت هذه المدينة، كاشفة عن ابتكار معماري حديث من الطين والآجر، الذي كان يفتقر إلى الحصانة، كما هو حال سكان بغداد. ثم أصبحت «مدينة الفوانيس» بسبب انقطاع الكهرباء، و«مدينة الأشباح» بعد أن تمكَّن الخوف منها، وأيضا «المدينة المهجورة» بعد أن هجرها سكانها.

ولا ينبغي أن ننسى هنا فنون العمارة الخاصة بالاحتلال، التي تمثَّلت بأسوار إسمنتية كئيبة رمادية قاتمة، تماما كسماء بغداد المكفهرة... بغداد اليوم هي مدينة تلك الأسوار.

حي الدورة، الذي يتميز ببرج مراقبةٍ يعلوه الصدأ، يبدو أشبه بسجنٍ فُرِضت عليه الحراسة المشدَّدة. أما حي السعدية فليس له إلا مدخلٌ واحد، حيث يصل صف السيارات الداخلة إليه أو الخارجة منه إلى مسافة ميل أحيانا، بفعل الازدحام. مدينة الصدر مُغلقة ومقسَّمة إلى 3 مناطق صغيرة. وهناك كثير من الأحياء الأخرى المحاطة بالأسوار بشكلٍ تام، مثل العامرية والحرية والشعلة، إذ لا يستطيع الموجودون خارجها رؤية ما في داخلها، أما من هم داخلها فلا يستطيعون رؤية ما هو موجود خارجها.

في غضون سنتين، لم يطرأ أي تغيير على تلك الأسوار، باستثناء شكلها الخارجي. بعض الكتابات الموجودة على هذه الأسوار تعبِّر عن الاعتزاز بوحدات الجيش العراقي، مثل «لواء الأسد يبقى أسدا»، وبعضها الآخر يحذِّر، مثل «احترمْ حتى تُحتَرم»، فضلا عن بعض العبارات التي تهدف للتمجيد بالعراق، مثل «يحيا العراق الجديد».

باختصار، هذه الجدران تمثل لوحات لجداريات تتجاهل التاريخ المعاصر للعراق، وتركز على ماضيه البعيد، عبر استعادة الأمجاد البابلية والسومرية، وفي معظم الحالات تؤدي هذه الأسوار وظيفة التعتيم.

رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني، الذي استقال في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، استخدم مصطلح «دولة مدمَّرة» ليصف ما خلَّفه الأميركيون خلف تلك الأسوار. لكن هذه العبارة ما زال صداها، يتردد بشكلٍ عام في العراق الذي يطغى عليه اللون البني، الذي يُعتبر لون الفقر، وأيضا في بغداد بشكلٍ خاص، لأنها المدينة التي يبدو فيها كل شيء ممزقا ومكسورا، وعالقا في الأسلاك الشائكة التي فقدت بريقها.

نهاية هذه الحرب تبدو أقرب إلى الهدنة، منها إلى الاتفاقية، وأقرب إلى التأجيل منها إلى الوفاق. ليس هناك إحياء أو نهضة أو احتفال. بل هي تتجلى في أبهى صورها في رفع الحصار.

في استدارة كانت تُعرف سابقا بـ «ساحة علي بابا»، يتدفق الماء أحيانا من نافورة برونزية على شكل كهرمانة، وهي الجارية التي تفوقت على «الأربعين حرامي» في حكايات «ألف ليلة وليلة». الشباب يلعبون القمار على طاولات موجودة بجوار ضفاف نهر دجلة. أما الشاحنات التي تسير في شارع أبي نواس، فتجلب السمك الطازج من أجل تحضير «المسكوف»؛ ذلك الطبق العراقي المعروف.

إنه لمصطلح هش ذلك الذي يعتمده الأميركيون في وصف هذا العراق. في هذه اللحظة بالذات، يبدو وكأن البلاد على وشك أن تتعافى اقتصاديا، وليس جسديا، وذلك بفضل احتياطي النفط الموجود لديها، والذي يُعتقد أنه الأكبر في العالم. لكن يبدو أن العراق اعتاد الاعتماد على الولايات المتحدة، التي تبدو بدورها مصمِّمة على التحكم بمستقبله.

موضوع القوة والسلطة هو الذي يحدد أي شكلٍ سيتخذه العراق. والصراع على هذه السلطة عبر الانتخابات ليس سوى شارع واحد من بين عددٍ من الشوارع الأخرى، التي تتمثل في المال والسلاح والاضطهاد، الذي يسيطر على كل جوانب الحياة في العراق.

«قبل هبوب العاصفة، هناك دائما فترة من الهدوء»، تقول أمل سلمان، التي تعيش مع عائلتها في حي الكرّادة.

عندما كانت أمل في الثالثة عشرة من عمرها، كتبت عن سقوط صدام في مذكراتها «لا أحد يصدق بأنهم جميعهم رحلوا إلى الأبد»، حيث حافظت على تفاؤلها خلال كامل تلك الحقبة المظلمة من تاريخ العراق.

وتقول أيضا «الشمس تغرب اليوم، لكنها دائما تشرق من جديد. كل شيء ينهض من جديد. لا أعرف كيف أعبر عن الأمر. لكنني أفهمه».

والآن بعد أن بلغت أمل الثامنة عشرة من عمرها، تقول «الخطورة تكون في أعلى مستوياتها، عندما يكون هناك هدوء».

ثقافة الحذاء

في الوقت الذي كانت عربة المارينز تؤدّي مهمتها في ساحة الفردوس، يوم 9 أبريل (نيسان) 2003، بدا وكأنه من الصعب التصوّر بأن الولايات المتحدة، قد فهمت فعلا البلاد التي وضعت يدها عليها في ذلك اليوم.

كان العراق قد تعرّض لفترات طويلة من الوحشية والحروب والاستبداد، وكانت الشكوك تساوره حول المستقبل والحنين يشدّه بقوّة إلى الماضي. لم يستجب أبدا للتصوّرات الأميركية المُسبقة، ولم يستسغ الصيغة التي كانت تتبناها الولايات المتحدة حول ما ينبغي أن تكون عليه الدولة.

وفي غضون أشهر، انطلقت قوى لم تكن في الحسبان، ولعبت في ما بعد دورا في تشكيل صورة العراق من عقالها؛ انتعاش الحركة الشيعية، وتفكك السنّة، واستيراد نوع من الإسلام الأصولي، وتشدّد الفئوية والطائفية، ثم انتشار ثقافة لا يحكمها قانون لرجال مسلحين، الأمر الذي سماه صديق عراقي ثقافة الحذاء، أو «القندرة»، التي يقول إنه يضعها في فم أي شخص يختلف معه.

ويلوح في الأفق اليوم أن الكثير من تلك القوى قد استنفد دوره.

يقول أستاذ العلوم السياسية وميض نظمي، إن ثمة تفككا يحدث حاليا في المؤسسة الطائفية داخل العراق، وإن كل جهة تحاول أن تغسل يديها من الدماء التي لطّختها.

فقد عاد الهدوء يسود الحيّ الذي كان حتى وقت قريب مليئا بالمخاطر، حيث لم تعُدْ تُسمع الآن طلقات الرشاشات ولا هدير الطائرات المروحية، والبوابة الرئيسية المؤدية إلى منزله مفتوحة، وبابُ بيته غير مُقفل. لكن ابنه جمال، يحذّر بين الفينة والفينة من أن المواقد لاتزال مشتعلة.

لعل أفضل وصف للوضع السياسي السائد في العراق في الوقت الحاضر، هو «الزئبقي»، إذ تتحكّم به قوى تبدو متوهّمة ومتوترة على الدوام.

فالتحالف الشيعي الذي كان يثير مشاكل لا تُعدّ ولا تُحصى، والذي كان يباركه المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني قد انفرط عقده، وصورة واحد من زعمائه؛ عبدالعزيز الحكيم، الذي أصيب بالسرطان وأنهكه علاجه، تعكس صورة ما آل إليه مصيره.

والتكتل الذي زعم أنه ينطق باسم السنّة المترنحين، لم يعد قادراً على توحيد كلمته حول مرشح يحل محلّ رئيس البرلمان، ويواجه منافسة من «حركة أبناء العراق» التي تضم بين أعضائها كثيرين ممن رضخوا للتمرّد من أجل مقعد. ورئيس الوزراء الشيعي يستنهض السنّة على الكرد، وبعض حلفائه متمردون سابقون.

لطالما كان الشيعة العرب والسنّة العرب والكرد وصفا سهلا للعراق، لكنهم اليوم أبعد ما يكونون عن تقديم أجوبة على الأسئلة التي تدور في صلب السياسة العراقية. فإلى أي مدى ستصل قوة الحكومة المركزية في بغداد، وأي تحالف للمصالح سيكون بمثابة الضمانة لهذه القوة؟

الحرب لا تزال مستعرة بين السياسيين، ومن هذا المنطلق يبدو العام 2009 صورة مكرّرة عن يوم 9 أبريل (نيسان) 2003، ونهاية حرب هي ليست إلا مقدمة لحرب أخرى ولصراع أكبر.

ولأن جزءا كبيرا منها مازال غامضا وغير مفهوم، فإن نتائجها هي الأخرى ستبقى عَصية على الفهم.

عن «واشنطن بوست»