الدكتور عادل رضا
10-21-2008, 02:48 PM
كتب سامي عصاصة :
في عام 1945 كنت تلميذاً في مدرسة الفرير ماريست الفرنسية التبشيرية، وفي العام نفسه غادرت القوات الفرنسية الأراضي السورية فأغلقت مدرسة الفرير أبوابها وانتقل كثير من تلاميذها إلى كلية دمشق الأميركية التي افتتحت بعد خروج الفرنسيين، وكانت هذه الكلية فرعاً تابعاً للجامعة الأميركية في بيروت.
قبل دخولنا الكلية الأميركية كنا نحب أميركا والأميركيين بالفطرة، إننا كأولاد لم نحبها لأسباب سياسية وانما لأن أحاديث آبائنا عنها قبلنا كانت تدور في إطار شديد الإيجابية، لقد كان اسم أميركا مرتبطاً في عقلنا الباطن بالحرية والبحبوحة والعدالة والسخاء، ولا أنسى أبداً الحوار الذي دار مرة بين أولاد الحارة حول أميركا عندما كنا نسير في شارع «أبو رمانة» الراقي الجميل النظيف المجاور لحي الشعلان الذي نشأنا فيه، في هذا الحوار سأل أحد الأولاد:
«إذا كانت شوارع دمشق وأرصفتها نظيفة بهذا الشكل فكيف يمكن لشوارع نيويورك ان تكون؟».
فأجاب أحدنا بكل ما في العفوية من معنى:
«لا بد ان أرصفة شوارع نيويورك مرصوفة بالذهب».
اني لا أتعرض لذكر هذه التفاصيل المدرسية لمجرد سرد قصة تتعلق بسيرة ذاتية لمواطن عادي وانما لأن ما حصل هو حلقة شديدة الأهمية من مراحل تكوين وتطور فكر الإنسان العربي في منتصف القرن العشرين.
ازداد في سنوات الدراسة في المدرسة الأميركية تعلقنا بأميركا، وما زلت أتذكر معظم الأساتذة الذين علمونا في تلك الفترة مثل مستر «بيتون» الأميركي الذي كان يتبارى مع مستر «هاول» البريطاني في بذل الجهد لتعليمنا. كان مستر «بيتون» ذكياً جاداً احترمناه وكان مستر «هاول» ذكياً يطوف متأرجحاً بين الجد واللعب، كان ينزل إلى مستوانا فيكسب لدينا أكثر مما كان يكسبه الآخر.
ولأهمية دمشق وسورية في السياسة الأميركية كان أول مديرين للكلية رجلين من الصف الأول في ميدان الفكر القيادي الأميركي: مستر كروفورد ومستر بليس، وكان يأتينا من بيروت من وقت إلى آخر حفيد مؤسس الكلية السورية في بيروت ويلعب معنا كرة السلة: مستر دودج. (ولم تحمل الكلية السورية لدى تأسيسها اسم الجامعة الأميركية).
لم يدعنا مرور الزمن نستمر في محبة الولايات المتحدة لان شرخاً نشأ ونما وترعرع في قلوبنا وعقولنا فقلب بالتدريج الصورة الجميلة التي كنا نحتفظ بصفائها وبراءتها، بدأ الشرخ بقوة عندما أيدت حكومة الولايات المتحدة مشروع تقسيم فلسطين إلى إسرائيل وفلسطين، ثم لمسنا تحابيها لاسرائيل لدى تنفيذ قرار التقسيم الظالم، ثم عشنا محاولات السياسة الأميركية وضغوطها لاقناع جميع الدول العربية بالقوة بأن دولة إسرائيل دولة يجب أن نتصالح معها ونضمها إلى عقد دول الشرق الأوسط، واستمر دعمها لاسرائيل في جميع حروبها ضد العرب ما عدا حرب السويس. (لم تدعم حكومة أيزنهاور اسرائيل لأن مشاركتها في العدوان الثلاثي مع فرنسا وبريطانيا كانت تعاكس آنذاك أهداف الحكومة الأميركية التي ورطت فرنسا وبريطانيا في الحرب مع مصر لتستأصل سيطرتهما من مصر ومن المنطقة لتحل محلهما).
لن أتابع سرد الأحداث التي قلبت محبتنا إلى تحفظ ومن تحفظ إلى كراهية وانما أوجز الوضع في الخاتمة، لقد أصبح المواطن الأميركي اليوم مكروهاً في الشرق الأوسط وفي انحاء العالم أجمع تقريباً، حتى في أوروبا الغربية، حيث بذلت واشنطن مبالغ ضخمة في مشروع مارشال، وصلت شعبية الأميركيين إلى الحضيض وصار الاوروبيون يراجعون حسابات السياسة الأميركية السابقة، ليكتشفوا انها هي التي شطرت أوروبا إلى شرق وغرب لتسيطر على غربها مباشرة، بينما تسيطر على جميع دول الكتلة الشيوعية من خلال تفوقها العلمي والصناعي والاقتصادي وفي صناعة السلاح، ومن الغرائب التي ندعيها والتي يكاد العقل لا يصدقها ان يهود اسرائيل يكرهون الولايات المتحدة أكثر من كراهية العرب لها، يكرهونها لأنهم اكتشفوا مع مرور الزمن ان البذخ الأميركي على اسرائيل لا يؤدي إلا إلى استخدامهم في منع الوطن العربي من التقدم لكيلا يقاوموا جشع حيتان المال الأميركيين سواء أكانوا صهاينة أم أميركيين.
إننا لو كنا صادقين مع أنفسنا لوجدنا أن حكومات الولايات المتحدة عملت باستمرار على تقليم أظافر الشعب الأميركي نفسه. ترى هل يعرف العالم أن تحجيم الحكومة الأميركية لحرية الشعب الأميركي بلغ حداً جعل نسبة كبيرة من الشعب يخشى مجرد الاطلاع على الآراء الأخرى التي تثبت تورط المخابرات الأميركية في جرائم الحرب والتعذيب والإرهاب؟ هل يعرف العالم أن السواد الأعظم من الشعب الأميركي لا يصدق خبراً سياسياً أو استراتيجياً إذا لم تبثه قناة الـ cnn؟ ترى ماذا تقدم الـ cnn لهذا الشعب وللعالم الذي يخدره الإعلام الرأسمالي المتطرف ليفقد القدرة على التمييز؟
إني لن أتابع التدخل في سرد تفاصيل ما حدث مما سنقرأه في هذا الكتاب وإنما أقفز مباشرة لأختار موضوعين محددين:
الأول، هو صناعة السلاح، والثاني هو الأزمة المالية في سبتمبر أكتوبر 2008.
أما دعم حكومات لصناعات السلاح ومنحها أولوية بلا حدود فهو يتم على حساب الشعب الأميركي لأن قطاع صناعات السلاح الجبار يستهلك قدرات انتاجية لا حدود لها كان يمكن لها أن تجعل المواطن الأميركي (وغير الأميركي أيضاً) يطفو على بحار من البحبوحة والأمن الغذائي والصحي والخير. والأمر الآخر هو أن استهلاك الأموال المصروفة على الطاقات الجبارة في الحروب التي تفتعلها الحكومات الأميركية تذهب بسرعة البرق من جيوب شرائح عامة الشعب دافعي الضرائب لتنتقل إلى جيوب عدد محدود جداً من حيتان المال المسيطرين على صناعة الأسلحة الذين يثيرون الحروب حسب مخططات مدروسة.
ثم نأتي إلى الأزمة المالية التي تهدد اقتصاد العالم أجمع، فنكتفي بأن نتطرق إلى جانبٍ يلامس نقطتين منها لأننا لو أردنا معالجتها كما يجب لكتبنا عنها كتاباً كاملاً.
في النقطة الأولى نشير إلى أن الرئيس بوش قرر صرف 700 مليار دولار لتفادي آثار الأزمة. ولكن هل طرح أحد سؤالا: من أين يأتي بهذا المبلغ الضخم إذا كانت ديون الدولة الأميركية المرهقة تبلغ أضعاف أضعاف ذلك القرض المطلوب الآن؟ أليس دافع الضرائب الأميركي هو الذي سيدفع معظم المبلغ في نهاية الأمر؟ أما المستفيدون فهم الأعضاء القياديون في المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى الذين أساؤوا إدارة مؤسساتهم، فأوقعوها في ديون رهيبة الحجم فآلت بها إلى مرحلة الإفلاس أو ما قبل ذلك بقليل. وبكلمات أخرى: 'شفط' هؤلاء المديرون آلاف المليارات ولعبوا أو تلاعبوا بها واستخدموها لمصالحهم وجاء الآن دور الشعب ليسدد فاتورة خساراتهم بمراسيم حكومة الرئيس المنكوب جورج دبليو بوش. ترى هل سمع أحد بمشروع قانون أميركي بمصادرة ثروات أو نصف ثروات المديرين المسؤولين عن الأزمة لسد العجز الناجم عن تلاعبهم؟ هل حاولت الحكومة اجتزاء ثروات حيتان المال على شكل قرض يمكن تسديده بعد تجاوز الأزمة إن لم يُرغب باستخدام كلمات كالمصادرة أو التأميم؟
أما النقطة الثانية فتتعلق في احتمال أن تكون هذه الأزمة مفتعلة أميركياً عن عمد وسابق إصرار لكي تتهدد معظم دول العالم المرتبطة بالدولار، فتبادر طوعاً وبسرعة للبذل كي لا ينهار الاقتصاد الأميركي فيسقط الدولار. إن كان الأمر مفتعلاً نستنتج بالضرورة أن النكسات المتتالية التي أصابت وتصيب السياسة الأميركية والاقتصاد الأميركي دفعت الحكومة الأميركية إلى عملية هروب إلى الأمام بمغامرة تدفع دول العالم إلى 'فوضى مالية خلاقة كالتي وعدت بها السيدة كونداليسا رايس سياسياً! قد تكون واشنطن واثقة من متانة موقفها لامتلاكها أضخم كميات الذهب والمعادن الثمينة على الأرض، مما سيجعلها الأقدر على استعادة السيطرة على الموقف بعد حصول زلازل وزوابع مالية يروح ضحيتها جموع صغار المدخرين بالدرجة الأولى. ويضاف إلى ثقة حكومة واشنطن بقدرتها خوفُ معظم دول العالم الكبرى من انهيار الدولار لأن نسبة كبيرة جداً من عملاتها مغطاة بالدولار.
إن موقف أميركا ليس بالضعيف ولا بالميؤوس منه، وقد تستطيع تفادي الكارثة على حساب شعبها وحساب شعوب العالم وعلى رأسها دول النفط العربي. ولكن هذه الحركة لن تمر بسلام على الولايات المتحدة مهما كانت النتائج. إنها ستدفع الثمن بمزيد من الهبوط الذي قد يؤدي إلى انهيار لم يسبق للأرض أن شهدت مثيلاً له إذا ما فشلت الحكومة في السيطرة على الأزمة.
وبهذه المناسبة نشير إلى ما يلي:
نحن والعالم أجمع نسمع وندرك اليوم أن المضاربات المالية في البورصات هي السبب الرئيسي والأساسي في انهيارات المصارف الكبرى. ونحن نقرأ على صفحات الانترنت وفي الإعلام الصوتي والمرئي المطالبة بالحد من مضاربات البورصة. إن وصول الخبراء إلى هذه القناعة ينقلنا إلى جانب من جوانب الدين الإسلامي الذي حرم منذ 1400 سنة الربا ومضاربات البورصة ومنع شراء الخيارات (أوبشن). قد يعترض أحد القراء مبتسماً بل ساخراً فيقول:
وهل كان يعرف محمد صلى الله عليه وسلم البورصة أو الخيارات؟
بالطبع لم تكن في ذلك العصر بورصات ولا خيارات. ولكن المثال التالي يوضح الأمر:
علم محمد بأن رجلاً اشترى من جاره جمله الذي خرج من الحظيرة ولم يعد. ودفع ثمناً قليلاً بسبب عامل المجازفة في عملية الشراء. فحرم محمد هذا النوع من الشراء وأصدر نصاً يعتبرُ أي عملية شراء أو بيع مخالفة للشريعة إن لم تكن البضاعة المبيعة أو المشتراة موجودة يمكن تسلمها حسياً وليس مجرد احتمال. وهناك أمثلة أخرى مذكورة من هذا النوع. فإذا سحبنا هذا المبدأ على تجارة الأسهم لوجدنا أن شراء أي سهم موجود ومحدد جائز ومشروع طالما يشكل السهم جزءاً مهما كان بسيطاً من ملكية شركة موجودة محسوسة تنتج وتشتري وتبيع. ولو عُمل بهذا المبدأ في الاقتصاد العالمي ومنعت مضاربات البورصة لما حدثت الكوارث المالية التي عصفت بثروات البشر.
ونعود في خاتمة هذا الموضوع إلى نقطة ظهور الشرخ في فكرنا الذي أثار فينا البغضاء للسياسة الأميركية، أي منذ دعمت قرار تقسيم فلسطين حتى هذا اليوم. فبهذه المناسبة نقول:
ـ لو تمكنت الطبقة الواعية الإنسانية في أميركا من كسر طوق الحصار الإعلامي المفروض على الشعب الأميركي،
ـ ولو بلغ حجم ووزن تلك الشريحة التي تدرك حقاً كم تكلف الشعب الأميركي على مشروع تأسيس إسرائيل وحجم الظلم الذي مارسته حكومات أميركية منذ ثمانية عقود من السنين على دول الشرق الأوسط لتفرض سيطرتها،
ـ ولو وعت هذه الشريحة كم يتكلف الشعب الأميركي يومياً من مال وجاه ودماء وكراهية شعوب العالم للولايات المتحدة،
لو حصل ذلك لما تعجبنا من أن مصير اليهود الصهاينة في الولايات المتحدة سينقلب بين ليلة وضحاها إلى ما لا يبعث على السرور والانشراح.
ويل لليهود الأبرياء من ذلك اليوم عندما تضيع فرصة التمييز بين اليهودي الصهيوني واليهودي الشريف!
سامي عصاصة
في عام 1945 كنت تلميذاً في مدرسة الفرير ماريست الفرنسية التبشيرية، وفي العام نفسه غادرت القوات الفرنسية الأراضي السورية فأغلقت مدرسة الفرير أبوابها وانتقل كثير من تلاميذها إلى كلية دمشق الأميركية التي افتتحت بعد خروج الفرنسيين، وكانت هذه الكلية فرعاً تابعاً للجامعة الأميركية في بيروت.
قبل دخولنا الكلية الأميركية كنا نحب أميركا والأميركيين بالفطرة، إننا كأولاد لم نحبها لأسباب سياسية وانما لأن أحاديث آبائنا عنها قبلنا كانت تدور في إطار شديد الإيجابية، لقد كان اسم أميركا مرتبطاً في عقلنا الباطن بالحرية والبحبوحة والعدالة والسخاء، ولا أنسى أبداً الحوار الذي دار مرة بين أولاد الحارة حول أميركا عندما كنا نسير في شارع «أبو رمانة» الراقي الجميل النظيف المجاور لحي الشعلان الذي نشأنا فيه، في هذا الحوار سأل أحد الأولاد:
«إذا كانت شوارع دمشق وأرصفتها نظيفة بهذا الشكل فكيف يمكن لشوارع نيويورك ان تكون؟».
فأجاب أحدنا بكل ما في العفوية من معنى:
«لا بد ان أرصفة شوارع نيويورك مرصوفة بالذهب».
اني لا أتعرض لذكر هذه التفاصيل المدرسية لمجرد سرد قصة تتعلق بسيرة ذاتية لمواطن عادي وانما لأن ما حصل هو حلقة شديدة الأهمية من مراحل تكوين وتطور فكر الإنسان العربي في منتصف القرن العشرين.
ازداد في سنوات الدراسة في المدرسة الأميركية تعلقنا بأميركا، وما زلت أتذكر معظم الأساتذة الذين علمونا في تلك الفترة مثل مستر «بيتون» الأميركي الذي كان يتبارى مع مستر «هاول» البريطاني في بذل الجهد لتعليمنا. كان مستر «بيتون» ذكياً جاداً احترمناه وكان مستر «هاول» ذكياً يطوف متأرجحاً بين الجد واللعب، كان ينزل إلى مستوانا فيكسب لدينا أكثر مما كان يكسبه الآخر.
ولأهمية دمشق وسورية في السياسة الأميركية كان أول مديرين للكلية رجلين من الصف الأول في ميدان الفكر القيادي الأميركي: مستر كروفورد ومستر بليس، وكان يأتينا من بيروت من وقت إلى آخر حفيد مؤسس الكلية السورية في بيروت ويلعب معنا كرة السلة: مستر دودج. (ولم تحمل الكلية السورية لدى تأسيسها اسم الجامعة الأميركية).
لم يدعنا مرور الزمن نستمر في محبة الولايات المتحدة لان شرخاً نشأ ونما وترعرع في قلوبنا وعقولنا فقلب بالتدريج الصورة الجميلة التي كنا نحتفظ بصفائها وبراءتها، بدأ الشرخ بقوة عندما أيدت حكومة الولايات المتحدة مشروع تقسيم فلسطين إلى إسرائيل وفلسطين، ثم لمسنا تحابيها لاسرائيل لدى تنفيذ قرار التقسيم الظالم، ثم عشنا محاولات السياسة الأميركية وضغوطها لاقناع جميع الدول العربية بالقوة بأن دولة إسرائيل دولة يجب أن نتصالح معها ونضمها إلى عقد دول الشرق الأوسط، واستمر دعمها لاسرائيل في جميع حروبها ضد العرب ما عدا حرب السويس. (لم تدعم حكومة أيزنهاور اسرائيل لأن مشاركتها في العدوان الثلاثي مع فرنسا وبريطانيا كانت تعاكس آنذاك أهداف الحكومة الأميركية التي ورطت فرنسا وبريطانيا في الحرب مع مصر لتستأصل سيطرتهما من مصر ومن المنطقة لتحل محلهما).
لن أتابع سرد الأحداث التي قلبت محبتنا إلى تحفظ ومن تحفظ إلى كراهية وانما أوجز الوضع في الخاتمة، لقد أصبح المواطن الأميركي اليوم مكروهاً في الشرق الأوسط وفي انحاء العالم أجمع تقريباً، حتى في أوروبا الغربية، حيث بذلت واشنطن مبالغ ضخمة في مشروع مارشال، وصلت شعبية الأميركيين إلى الحضيض وصار الاوروبيون يراجعون حسابات السياسة الأميركية السابقة، ليكتشفوا انها هي التي شطرت أوروبا إلى شرق وغرب لتسيطر على غربها مباشرة، بينما تسيطر على جميع دول الكتلة الشيوعية من خلال تفوقها العلمي والصناعي والاقتصادي وفي صناعة السلاح، ومن الغرائب التي ندعيها والتي يكاد العقل لا يصدقها ان يهود اسرائيل يكرهون الولايات المتحدة أكثر من كراهية العرب لها، يكرهونها لأنهم اكتشفوا مع مرور الزمن ان البذخ الأميركي على اسرائيل لا يؤدي إلا إلى استخدامهم في منع الوطن العربي من التقدم لكيلا يقاوموا جشع حيتان المال الأميركيين سواء أكانوا صهاينة أم أميركيين.
إننا لو كنا صادقين مع أنفسنا لوجدنا أن حكومات الولايات المتحدة عملت باستمرار على تقليم أظافر الشعب الأميركي نفسه. ترى هل يعرف العالم أن تحجيم الحكومة الأميركية لحرية الشعب الأميركي بلغ حداً جعل نسبة كبيرة من الشعب يخشى مجرد الاطلاع على الآراء الأخرى التي تثبت تورط المخابرات الأميركية في جرائم الحرب والتعذيب والإرهاب؟ هل يعرف العالم أن السواد الأعظم من الشعب الأميركي لا يصدق خبراً سياسياً أو استراتيجياً إذا لم تبثه قناة الـ cnn؟ ترى ماذا تقدم الـ cnn لهذا الشعب وللعالم الذي يخدره الإعلام الرأسمالي المتطرف ليفقد القدرة على التمييز؟
إني لن أتابع التدخل في سرد تفاصيل ما حدث مما سنقرأه في هذا الكتاب وإنما أقفز مباشرة لأختار موضوعين محددين:
الأول، هو صناعة السلاح، والثاني هو الأزمة المالية في سبتمبر أكتوبر 2008.
أما دعم حكومات لصناعات السلاح ومنحها أولوية بلا حدود فهو يتم على حساب الشعب الأميركي لأن قطاع صناعات السلاح الجبار يستهلك قدرات انتاجية لا حدود لها كان يمكن لها أن تجعل المواطن الأميركي (وغير الأميركي أيضاً) يطفو على بحار من البحبوحة والأمن الغذائي والصحي والخير. والأمر الآخر هو أن استهلاك الأموال المصروفة على الطاقات الجبارة في الحروب التي تفتعلها الحكومات الأميركية تذهب بسرعة البرق من جيوب شرائح عامة الشعب دافعي الضرائب لتنتقل إلى جيوب عدد محدود جداً من حيتان المال المسيطرين على صناعة الأسلحة الذين يثيرون الحروب حسب مخططات مدروسة.
ثم نأتي إلى الأزمة المالية التي تهدد اقتصاد العالم أجمع، فنكتفي بأن نتطرق إلى جانبٍ يلامس نقطتين منها لأننا لو أردنا معالجتها كما يجب لكتبنا عنها كتاباً كاملاً.
في النقطة الأولى نشير إلى أن الرئيس بوش قرر صرف 700 مليار دولار لتفادي آثار الأزمة. ولكن هل طرح أحد سؤالا: من أين يأتي بهذا المبلغ الضخم إذا كانت ديون الدولة الأميركية المرهقة تبلغ أضعاف أضعاف ذلك القرض المطلوب الآن؟ أليس دافع الضرائب الأميركي هو الذي سيدفع معظم المبلغ في نهاية الأمر؟ أما المستفيدون فهم الأعضاء القياديون في المؤسسات المالية والاقتصادية الكبرى الذين أساؤوا إدارة مؤسساتهم، فأوقعوها في ديون رهيبة الحجم فآلت بها إلى مرحلة الإفلاس أو ما قبل ذلك بقليل. وبكلمات أخرى: 'شفط' هؤلاء المديرون آلاف المليارات ولعبوا أو تلاعبوا بها واستخدموها لمصالحهم وجاء الآن دور الشعب ليسدد فاتورة خساراتهم بمراسيم حكومة الرئيس المنكوب جورج دبليو بوش. ترى هل سمع أحد بمشروع قانون أميركي بمصادرة ثروات أو نصف ثروات المديرين المسؤولين عن الأزمة لسد العجز الناجم عن تلاعبهم؟ هل حاولت الحكومة اجتزاء ثروات حيتان المال على شكل قرض يمكن تسديده بعد تجاوز الأزمة إن لم يُرغب باستخدام كلمات كالمصادرة أو التأميم؟
أما النقطة الثانية فتتعلق في احتمال أن تكون هذه الأزمة مفتعلة أميركياً عن عمد وسابق إصرار لكي تتهدد معظم دول العالم المرتبطة بالدولار، فتبادر طوعاً وبسرعة للبذل كي لا ينهار الاقتصاد الأميركي فيسقط الدولار. إن كان الأمر مفتعلاً نستنتج بالضرورة أن النكسات المتتالية التي أصابت وتصيب السياسة الأميركية والاقتصاد الأميركي دفعت الحكومة الأميركية إلى عملية هروب إلى الأمام بمغامرة تدفع دول العالم إلى 'فوضى مالية خلاقة كالتي وعدت بها السيدة كونداليسا رايس سياسياً! قد تكون واشنطن واثقة من متانة موقفها لامتلاكها أضخم كميات الذهب والمعادن الثمينة على الأرض، مما سيجعلها الأقدر على استعادة السيطرة على الموقف بعد حصول زلازل وزوابع مالية يروح ضحيتها جموع صغار المدخرين بالدرجة الأولى. ويضاف إلى ثقة حكومة واشنطن بقدرتها خوفُ معظم دول العالم الكبرى من انهيار الدولار لأن نسبة كبيرة جداً من عملاتها مغطاة بالدولار.
إن موقف أميركا ليس بالضعيف ولا بالميؤوس منه، وقد تستطيع تفادي الكارثة على حساب شعبها وحساب شعوب العالم وعلى رأسها دول النفط العربي. ولكن هذه الحركة لن تمر بسلام على الولايات المتحدة مهما كانت النتائج. إنها ستدفع الثمن بمزيد من الهبوط الذي قد يؤدي إلى انهيار لم يسبق للأرض أن شهدت مثيلاً له إذا ما فشلت الحكومة في السيطرة على الأزمة.
وبهذه المناسبة نشير إلى ما يلي:
نحن والعالم أجمع نسمع وندرك اليوم أن المضاربات المالية في البورصات هي السبب الرئيسي والأساسي في انهيارات المصارف الكبرى. ونحن نقرأ على صفحات الانترنت وفي الإعلام الصوتي والمرئي المطالبة بالحد من مضاربات البورصة. إن وصول الخبراء إلى هذه القناعة ينقلنا إلى جانب من جوانب الدين الإسلامي الذي حرم منذ 1400 سنة الربا ومضاربات البورصة ومنع شراء الخيارات (أوبشن). قد يعترض أحد القراء مبتسماً بل ساخراً فيقول:
وهل كان يعرف محمد صلى الله عليه وسلم البورصة أو الخيارات؟
بالطبع لم تكن في ذلك العصر بورصات ولا خيارات. ولكن المثال التالي يوضح الأمر:
علم محمد بأن رجلاً اشترى من جاره جمله الذي خرج من الحظيرة ولم يعد. ودفع ثمناً قليلاً بسبب عامل المجازفة في عملية الشراء. فحرم محمد هذا النوع من الشراء وأصدر نصاً يعتبرُ أي عملية شراء أو بيع مخالفة للشريعة إن لم تكن البضاعة المبيعة أو المشتراة موجودة يمكن تسلمها حسياً وليس مجرد احتمال. وهناك أمثلة أخرى مذكورة من هذا النوع. فإذا سحبنا هذا المبدأ على تجارة الأسهم لوجدنا أن شراء أي سهم موجود ومحدد جائز ومشروع طالما يشكل السهم جزءاً مهما كان بسيطاً من ملكية شركة موجودة محسوسة تنتج وتشتري وتبيع. ولو عُمل بهذا المبدأ في الاقتصاد العالمي ومنعت مضاربات البورصة لما حدثت الكوارث المالية التي عصفت بثروات البشر.
ونعود في خاتمة هذا الموضوع إلى نقطة ظهور الشرخ في فكرنا الذي أثار فينا البغضاء للسياسة الأميركية، أي منذ دعمت قرار تقسيم فلسطين حتى هذا اليوم. فبهذه المناسبة نقول:
ـ لو تمكنت الطبقة الواعية الإنسانية في أميركا من كسر طوق الحصار الإعلامي المفروض على الشعب الأميركي،
ـ ولو بلغ حجم ووزن تلك الشريحة التي تدرك حقاً كم تكلف الشعب الأميركي على مشروع تأسيس إسرائيل وحجم الظلم الذي مارسته حكومات أميركية منذ ثمانية عقود من السنين على دول الشرق الأوسط لتفرض سيطرتها،
ـ ولو وعت هذه الشريحة كم يتكلف الشعب الأميركي يومياً من مال وجاه ودماء وكراهية شعوب العالم للولايات المتحدة،
لو حصل ذلك لما تعجبنا من أن مصير اليهود الصهاينة في الولايات المتحدة سينقلب بين ليلة وضحاها إلى ما لا يبعث على السرور والانشراح.
ويل لليهود الأبرياء من ذلك اليوم عندما تضيع فرصة التمييز بين اليهودي الصهيوني واليهودي الشريف!
سامي عصاصة