على
07-20-2008, 10:25 AM
التجربة الأضخم في تاريخ العلوم تنطلق الشهر المقبل ... عملية «مُصادِم هادرون الكبير» تشهد تضارب موجات نووية بسرعة الضوء ومئة ألف شمس تندلع في أنفاق مغناطيسية ... وقد تدمّر العالم!
جنيف - تامر أبو العينين - الحياة - 20/07/08//
http://www.alhayat.com/science_tech/07-2008/Article-20080719-3b942dba-c0a8-10ed-0007-ae6d6d1bcf91/Machine_17.jpg_200_-1.jpg
مولدات ضخمة للوصول بتصادم النيوترونات الى سرعة تقارب الضوء
«هل يُدمّر «مُصادِم هادرون الكبير» الكُرة الأرضية هذا الصيف»؟
بهذا العنوان الصادِم، قدّمت صحيفة «كريستاين ساينس مونيتور» مقالاً رئيسياً في صفحتها الأولى، عن التجربة الهائلة التي تنطلق في مطالع شهر آب (أغسطس) المقبل. ولم يكن ذلك العنوان المثير وحيداً من نوعه، بل جاء في سياق سلسلة من مقالات محملة بالذعر من احتمال نهاية مرعبة للحضارة البشرية على يد أحد أهم التجارب العلمية وأشدها طموحاً. فمنذ بضع سنوات، تتناقل الصحف والمُدوّنات الالكترونية مثل تلك الصيحات المُنذرة والمُثقلة بالتشاؤم. ولا تعدم تلك الأصوات القلقة سنداً فعلياً لها، فالتجربة المقبلة تتضمن تصادماً بين مُكوّنات نووية منطلقة في حُزَم بسرعة تقارب الضوء، فتُصدر طاقة وحرارة تفوقان ما يتفاعل في قلب الفرن الشمسي الهائل بنحو مئة ألف مرة!
ويتذكّر البعض أن التفجير الأول للقنبلة الذرية جرى تحت «جبل جيميز» في ولاية نيومكسيكو الأميركية ووُصف حينها بأنه «تجربة علمية»، قادها العالِم الشهير أنريكو فيرمي مع فريق من الاختصاصيين من «مختبر لوس آلموس». ولكن الطاقة التي يتوقع أن يولدها «مُصادِم هادرون الكبير» تفوق تلك التجربة بملايين المرات. فهل يمكن تخيل لحظة اندلاع مئة ألف شمس، في قلب أنابيب هائلة تمتد في أنفاق ضخمة تحت جبال أوروبا الكبيرة؟
الأكثر سخونة وبرودة في المجرّة
في مقابل تلك الأصوات القلِقَة، التي لم يتردّد بعض أصحابها في الذهاب الى المحاكم ورفع دعاوى قضائية لتأخير هذه التجربة، يأتي صوت علمي مُطمئن من «المركز الأوروبي للبحوث النووية» Centre Européenne pour la Recherche Nucléaire ، الذي يُعرف باسمه المُختَصَر «سيرن» CERN. والمعلوم أن «سيرن» يتولى أمر التجربة. وأعلن أخيراً الانتهاء من عملية تجهيز المُصادِم الفائق السرعة للجزيئات (المُعجّل) «هادرون» وإعداده للخوض في تجربة مصادمة الجزيئات الذرية، وذلك بعد أعوام من العمل والبناء والتخطيط. ولعل آخر تلك الخطوات، كان المؤتمر المُغلق الذي نظّمته جامعة «برن» السويسرية، قبل أسبوعين.
وفي سياقه، وضع 350 خبيراً في الذرة وعلوم الكومبيوتر، ما وُصِفَ بأنه «اللمسات الأخيرة قبل التشغيل النهائي».
وعلى موقعه الالكتروني يخصّص مركز «سيرن» قسماً مستقلاً للمُصادِم «هادرون» وتجربته المثيرة التي تتضمن عملاً متناسقاً بين ثلاثة أجهزة عملاقة هي مُعجّل الجزيئات النووية «هادورن» والكاشف «أطلس» وأسطول الحواسيب «غريد» الذي يتولى جمع المعلومات ومراكمتها.
ويؤكد علماء «سيرن» أن هذه التجربة الفريدة من نوعها تُفضي الى نتائج تفتح آفاقا جديدة تماماً حول نشأة المادة وتشكّل الكون والمجرات والنُظُم الشمسية، بما فيه النظام الذي تعيش الكرة الأرضية في كنفه.
وفي عرض تبسيطي عن موضوع التجربة المعقدة والشيّقة قدّمه إلى «الحياة» البروفسور أنطونيو إريديتاتو رئيس قسم «فيزياء الطاقة» Energy Physics في جامعة «برن» السويسرية، قائل: «لقد عرفنا كيف تنشطر الذرات وأنويتها (خصوصاً في القنابل النووية)، ورأينا آثار التفاعلات الناجمة عن هذه العملية وأشهرها القنبلة الذرية... ونُحاول أن نُجري عملية معاكسة في التجربة المُنتظرة لمُصادِم «هادورن». وبقول آخر، سنحاول أن يُهيّء المُعجّل التصادمي الفائق السرعة ظروفاً مشابهة لما يحدث بعد الإنشطار النووي وانفجاراته».
والمعلوم أن نواة الذرّة تتألف أساساً من بروتونات ونيوترونات متلاصقة بشدة. وفي المواد المُشعة، يكون هذا التلاصق «قلقاً» وحساساً، ما يجعل فصله ممكناً. ولذا، تُقصف النواة بكمية كافية من الطاقة، فتنفصل تلك الجُزيئات عن بعضها البعض، مُصدرة كميات هائلة من الطاقة والحرارة، التي تندفع حاملة معها بقية مُكونّات الذرة والأشعة وغيرها.
وفي تجربة «هادرون»، تُطلق حُزم من البروتونات داخل المُعجّل، الذي يتولى رفع سرعتها لتسير بسرعة تقل قليلاً عن سرعة الضوء. وعند ارتطام تلك الأمواج الضوئية، تندلع حرارة هائلة تفوق آلاف المرات قوة الشمس وحرارتها. وبذا، تتحول أنابيب «هادرون» التي تسير تحت أرض المنطقة الحدودية بين سويسرا وفرنسا إلى أحد أكثر النقاط سخونة في المجرّة. ولعل تلك الحرارة الخيالية هي التي تثير الذعر عند الذين يخشون من أن تنفلت تلك التجربة من السيطرة، فتجر ويلات لا تستطيع البشرية تحمل عواقبها.
وفي المقابل، تتولى أجهزة خاصة تبريد تلك أنابيب «هادرون» العملاقة. إذ تحتاج التجربة إلى تبريد يصل إلى 271 درجة مئوية تحت الصفر. وتأتي البرودة من 120 طناً من غاز الهيليوم السائل، التي تسير بموازاة المُعجّل الضخم، يدفعها جهاز يعمل بضغط عال قوّته 13 ألف أمبير.
وتحوّل الغازات المندفعة بسرعة هائلة، أنابيب «هادرون» إلى أحد أكثر النقاط برودة في المجرّة أيضاً!
ويضمن هذا التناقض أن تسير التجربة في أمان كبير.
ولا يعرف العلماء إن كانت البروتونات ستتصادم فور انطلاق موجاتها داخل المُعجّل أم أن هذا الصدام يستغرق وقتاً على رغم السرعة الهائلة التي تسير بها البروتونات.
ذاكرة الـ «بيغ - بانغ»
تحدثت «الحياة» إلى عدد من العلماء في المشروع، الذين يفترضون أن تلك التجربة تُحاكي ما حدث في اللحظات الأولى التي تلت لحظة «البيغ - بانغ» أو «الانفجار العظيم» عند بدايات تشكّل الكون قبل 13.7 بليون سنة. ويرى هؤلاء أن الجزيئات الذرية تصادمت حينها بمعدل 600 مليون مرة في الثانية. ولذا، يترقب العلماء أن تأتي التجربة بنتائج فائقة الأهمية، وسيستمر تحليل المعلومات والبيانات التي تتجمع في سياقها، أشهراً وربما سنوات.
ومن الطبيعي أن يحتاج العلماء إلى أجهزة بالغة الدِقّة لرصد ما يحدث داخل مُصادِم «هادرون» بما يتناسب مع الكم الهائل من المعلومات التي يتوقع ان تأتي بها هذه التجربة، التي لم يحاول العلماء مثلها قبلاً.
وتحدث اختصاصيون عن فترات زمنية تصل إلى أجزاء متناهية الصغر من الثانية، تسير فيها عشرات الآلاف من البروتونات التي يحتاج العلماء إلى متابعة مسارها بدقة. ويتولى المهمة الكاشف «أطلس» Atlas، وهو مُكوّن رئيسي في المشروع.
http://www.alhayat.com/science_tech/07-2008/Article-20080719-3b942dba-c0a8-10ed-0007-ae6d6d1bcf91/Alah_17.jpg_440_-1.jpg
يرصد الكاشف أطلس جميع الإشعاعات الصادرة عن أي تلامس بين البروتونات، وتكون النتائج أكثر اهمية عندما تتصادم تلك الجزيئات. وعند الصدم، تخرج إشعاعات قوية تدلّ على ما يحدث داخل المُعجّل. ويشبه «أطلس» العين الساهرة التي تراقب كل ما يحدث للبروتونات من لحظة السير بسرعة تُقارب الضوء إلى التصادم وما ينجم عنها.
وفي وحدة خاصة بداخله، تتولى ملايين رقائق السليزيوم الالكترونية تجميع البيانات ثم تنقلها إلى شبكة عملاقة من الحواسيب.
ويصل حجم البيانات التي يتوقع أن يجمعها «أطلس» إلى مئة ألف اسطوانة مُدمجة في الثانية. ولاحقاً، «يُصفيها» العلماء إلى 27 قرصا في الثانية، ما يجعلها أكثر قابلية للتحليل والدراسة.
ونظراً الى أهمية عمل «أطلس» وتعقيد مهماته وضع العلماء القائمون خواصه وتجاربه في كتاب يعتبر مرجعا فيزيائيا مهماً.
واختلفت آراء الفيزيائيين حول ما يمكن أن تسفر عنه التجربة الفريدة من نوعها. فهناك من يرى أنها ستُعيد صوغ ما يعرفه العلم إلى اليوم عن نظرية تشكّل الكون وفيزياء الجزيئات النووية وأسرار وجود المادة.
وكذلك تُجيب عن مئات الأسئلة التي لا يجد لها العلم جواباً مشفوعاً بالدليل العلمي من نوع «لماذا يجب أن تكون للمادة كتلة»؟ و»لماذا يزن البروتون 1836 مرة ضعف وزن الإلكترون»، و «ما هي المادة المضادة»؟ و «ما هو الثقب الأسود»؟ و «ما هي الطاقة السوداء»؟ و «ماذا يحدث للبروتونات بعد تصادمها بسرعة الضوء»؟ وغيرها.
وفي حديث إلى «الحياة»، رأى البروفسور روبير أيمار مدير «سيرن» «أن كل ما نعرفه راهناً عن تركيب المادة وفيزياء الجزيئات هو نظريات بعضها ثبت عملياً، والآخر نظرياً فقط ويفتقر إلى الدليل العلمي. وتتيح النتائج التي نتوقع أن نحصل عليها توضيح هذه الأمور».
فمثلاً، يعرف الفيزيائيون من مكونات الذرة والنواة 6 أنواع من الكوارك، و3 من النيوترونات ومثلهم من الليبتونات التي يندرج تحتها الالكترونات والميونات، هي مكونات المادة الأساسية التي يعرفها العلماء اليوم. وبحسب البروفسور ايمار، لا يعرف الإنسان سوى 4 في المئة من المادة المنتشرة في الكون.
ولعل أكثر النتائج تشويقاً للعلماء هي تلك التي يعتقدون بأنها ستقودهم إلى التعرف على أصل المادة. إذ تقول النظرية السائدة إلى اليوم ان الكون قبل نشأته كان في مرحلة توصف بأنها «مجال هيغز»، الذي أكسب جميع الجزئيات المتواجدة آنذاك طاقة ساهمت في صنع كتلة كل جزء.
ولنتخيل أن هناك حفلاً كبيراً يؤمه عدد كبير من الزوار (مجال هيغز)، وما أن تدخل شخصيات مرموقة إلى القاعة حتى يتلف حولها الناس فتكتسب من هذا الحضور ثقلها (الكتلة).
ويعرف العلماء الكثير من خواص مجال هيغز هذا لكنهم لا يعرفون إن كان موجوداً! ولم يتمكنوا من العثور عليه عملياً أو توليده اصطناعياً. وقد يعمل مُعجّل «هادرون» الكبير على توليد هذا المجال، ما يمكن تالياً من رصد ما يحدث للجزيئات في دواخلة.
وعلى رغم طموحات العلماء بالنسبة الى تجربة «هادرون»، هناك من يثيرون المخاوف من التجربة، بل ذهب بعضهم إلى القول إنها نهاية العالم لأن تصادم البروتونات بسرعة الضوء وما سينجم عنها من طاقة، إذا انفلت، ربما اختفاء الأرض وتحوّلها الى شيء يشبه «الثقب الأسود»، ما يجعلها تبتلع الكواكب السيّارة المجاورة لها لاحقاً!
ويستندون إلى أن قوة التصادم بين البروتونات تسفر عن طاقة تصل إلى 14 تيرا اليكتروفولت، أي 14 والى جانبها 12 صفراً.
وفي المقابل، يشير علماء «سيرن» إلى أن سرعة دوران البروتونات داخل أنابيب «هادرون», وتحت الضغط القوي لحقوله المغناطيسية، يجعلها أشبه بدوران بعوضة نشطة.
وكذلك تشير حساباتهم الى أن التصادم المتوقع يُشبه وقوع بضعة غرامات على الأرض من ارتفاع 100 سنتيمتر.
وفي هذا السياق، قال إريديتاتو: «لسنا أمام تفاعل انشطاري، بل تفاعل عكسي نحاول فيه رصد اللحظات التي تتكون فيها المادة أي أن الطاقة الناجمة عن هذا التصادم ليست مثل طاقة الإنشطار».
وكذلك قلّل أيمار من شأن تلك المخاوف قائلاً: «لم تغب عن حساباتنا كل المخاطر. درسناها ووضعنا جميع الإحتمالات. صحيح أن ثقباً أسود سينشأ من تصادم البروتونات، لكنه يبقى لثوان معدودة فقط قبل أن يتلاشى، كما يجب أن يكون الثقب الأسود الذي يمكنه ابتلاع الأرض كبيراً، وهو ما تلافينا حدوثه».
وفي هذا الصدّد، يشير علماء «سيرن» أيضاً إلى تجارب ميدانية استمرت أعواماً للتأكد من فعالية الجهاز والاستفادة من الأعطال التي يمكن أن تنجم من أي خطأ تقني يحدث أو ظهور نتائج غير متوقعة.
وعلى عكسهم، يتمسك المعارضون بآرائهم مستدلين الى صحة مخاوفهم بأعطال متعددة حدثت في التجارب الأولية لـ «سيرن» طيلة العام الماضي، وأدت إلى تأخير إقلاع المُعجّل هادرون إلى اليوم.
وعلّق إريديتاتو على ذلك قائلاً: «من الطبيعي أن تحدث مشكلات أثناء المراحل التجريبية، لمثل هذا الجهاز الكبير ولكنها لم تكن ذات خطورة عالية بل كانت لأسباب تقنية وليست علمية، عالج التقنيون المشكلات على الفور، وهو ما يعكس إدراك العاملين في سيرن أهمية التجربة والتأكد من جميع خطواتها».
وحتى لو لم يعثر العلماء على أي شيء جديد، فإن اختصاصيي «سيرن» يرون أن جميع النتائج ستكون دليلاً مهماً لتأكيد أو نفي النظريات التي لم يتم التأكد من صحتها عملياً، إذ أنها المرة الأولى التي يتمكن فيها العلماء من وضع كل مكونات المادة في مجال واحد.
ويحاول «المركز الأوروبي للبحوث النووية» أن تنطلق التجربة من دون أدنى مشكلة تعوق الحدث العلمي، الذي يتفق معارضوه وأنصاره على أنه سيُحدث تغييراً جذرياً في مسيرة العلوم الطبيعية.
وسواء جاءت النتائج لتؤكد ما هو معروف الآن نظرياً على الأقل، أو لتوضح غموضاً يلف بعض الظواهر التي لم يجد لها العلماء تفسيراً يستند إلى حقائق منطقية، أو لتكشف عن أبعاد غير معروفة في أسرار المادة والكون، فالعالم يقف أمام خيال علمي استطاع العلماء تطبيقه عملياً للمرة الأولى.
أجهزة التجربة المقلقة
أرقام للتأمل...
جنيف - تامر أبو العينين - الحياة - 20/07/08//
http://www.alhayat.com/science_tech/07-2008/Article-20080719-3b942dba-c0a8-10ed-0007-ae6d6d1bcf91/Machine_17.jpg_200_-1.jpg
مولدات ضخمة للوصول بتصادم النيوترونات الى سرعة تقارب الضوء
«هل يُدمّر «مُصادِم هادرون الكبير» الكُرة الأرضية هذا الصيف»؟
بهذا العنوان الصادِم، قدّمت صحيفة «كريستاين ساينس مونيتور» مقالاً رئيسياً في صفحتها الأولى، عن التجربة الهائلة التي تنطلق في مطالع شهر آب (أغسطس) المقبل. ولم يكن ذلك العنوان المثير وحيداً من نوعه، بل جاء في سياق سلسلة من مقالات محملة بالذعر من احتمال نهاية مرعبة للحضارة البشرية على يد أحد أهم التجارب العلمية وأشدها طموحاً. فمنذ بضع سنوات، تتناقل الصحف والمُدوّنات الالكترونية مثل تلك الصيحات المُنذرة والمُثقلة بالتشاؤم. ولا تعدم تلك الأصوات القلقة سنداً فعلياً لها، فالتجربة المقبلة تتضمن تصادماً بين مُكوّنات نووية منطلقة في حُزَم بسرعة تقارب الضوء، فتُصدر طاقة وحرارة تفوقان ما يتفاعل في قلب الفرن الشمسي الهائل بنحو مئة ألف مرة!
ويتذكّر البعض أن التفجير الأول للقنبلة الذرية جرى تحت «جبل جيميز» في ولاية نيومكسيكو الأميركية ووُصف حينها بأنه «تجربة علمية»، قادها العالِم الشهير أنريكو فيرمي مع فريق من الاختصاصيين من «مختبر لوس آلموس». ولكن الطاقة التي يتوقع أن يولدها «مُصادِم هادرون الكبير» تفوق تلك التجربة بملايين المرات. فهل يمكن تخيل لحظة اندلاع مئة ألف شمس، في قلب أنابيب هائلة تمتد في أنفاق ضخمة تحت جبال أوروبا الكبيرة؟
الأكثر سخونة وبرودة في المجرّة
في مقابل تلك الأصوات القلِقَة، التي لم يتردّد بعض أصحابها في الذهاب الى المحاكم ورفع دعاوى قضائية لتأخير هذه التجربة، يأتي صوت علمي مُطمئن من «المركز الأوروبي للبحوث النووية» Centre Européenne pour la Recherche Nucléaire ، الذي يُعرف باسمه المُختَصَر «سيرن» CERN. والمعلوم أن «سيرن» يتولى أمر التجربة. وأعلن أخيراً الانتهاء من عملية تجهيز المُصادِم الفائق السرعة للجزيئات (المُعجّل) «هادرون» وإعداده للخوض في تجربة مصادمة الجزيئات الذرية، وذلك بعد أعوام من العمل والبناء والتخطيط. ولعل آخر تلك الخطوات، كان المؤتمر المُغلق الذي نظّمته جامعة «برن» السويسرية، قبل أسبوعين.
وفي سياقه، وضع 350 خبيراً في الذرة وعلوم الكومبيوتر، ما وُصِفَ بأنه «اللمسات الأخيرة قبل التشغيل النهائي».
وعلى موقعه الالكتروني يخصّص مركز «سيرن» قسماً مستقلاً للمُصادِم «هادرون» وتجربته المثيرة التي تتضمن عملاً متناسقاً بين ثلاثة أجهزة عملاقة هي مُعجّل الجزيئات النووية «هادورن» والكاشف «أطلس» وأسطول الحواسيب «غريد» الذي يتولى جمع المعلومات ومراكمتها.
ويؤكد علماء «سيرن» أن هذه التجربة الفريدة من نوعها تُفضي الى نتائج تفتح آفاقا جديدة تماماً حول نشأة المادة وتشكّل الكون والمجرات والنُظُم الشمسية، بما فيه النظام الذي تعيش الكرة الأرضية في كنفه.
وفي عرض تبسيطي عن موضوع التجربة المعقدة والشيّقة قدّمه إلى «الحياة» البروفسور أنطونيو إريديتاتو رئيس قسم «فيزياء الطاقة» Energy Physics في جامعة «برن» السويسرية، قائل: «لقد عرفنا كيف تنشطر الذرات وأنويتها (خصوصاً في القنابل النووية)، ورأينا آثار التفاعلات الناجمة عن هذه العملية وأشهرها القنبلة الذرية... ونُحاول أن نُجري عملية معاكسة في التجربة المُنتظرة لمُصادِم «هادورن». وبقول آخر، سنحاول أن يُهيّء المُعجّل التصادمي الفائق السرعة ظروفاً مشابهة لما يحدث بعد الإنشطار النووي وانفجاراته».
والمعلوم أن نواة الذرّة تتألف أساساً من بروتونات ونيوترونات متلاصقة بشدة. وفي المواد المُشعة، يكون هذا التلاصق «قلقاً» وحساساً، ما يجعل فصله ممكناً. ولذا، تُقصف النواة بكمية كافية من الطاقة، فتنفصل تلك الجُزيئات عن بعضها البعض، مُصدرة كميات هائلة من الطاقة والحرارة، التي تندفع حاملة معها بقية مُكونّات الذرة والأشعة وغيرها.
وفي تجربة «هادرون»، تُطلق حُزم من البروتونات داخل المُعجّل، الذي يتولى رفع سرعتها لتسير بسرعة تقل قليلاً عن سرعة الضوء. وعند ارتطام تلك الأمواج الضوئية، تندلع حرارة هائلة تفوق آلاف المرات قوة الشمس وحرارتها. وبذا، تتحول أنابيب «هادرون» التي تسير تحت أرض المنطقة الحدودية بين سويسرا وفرنسا إلى أحد أكثر النقاط سخونة في المجرّة. ولعل تلك الحرارة الخيالية هي التي تثير الذعر عند الذين يخشون من أن تنفلت تلك التجربة من السيطرة، فتجر ويلات لا تستطيع البشرية تحمل عواقبها.
وفي المقابل، تتولى أجهزة خاصة تبريد تلك أنابيب «هادرون» العملاقة. إذ تحتاج التجربة إلى تبريد يصل إلى 271 درجة مئوية تحت الصفر. وتأتي البرودة من 120 طناً من غاز الهيليوم السائل، التي تسير بموازاة المُعجّل الضخم، يدفعها جهاز يعمل بضغط عال قوّته 13 ألف أمبير.
وتحوّل الغازات المندفعة بسرعة هائلة، أنابيب «هادرون» إلى أحد أكثر النقاط برودة في المجرّة أيضاً!
ويضمن هذا التناقض أن تسير التجربة في أمان كبير.
ولا يعرف العلماء إن كانت البروتونات ستتصادم فور انطلاق موجاتها داخل المُعجّل أم أن هذا الصدام يستغرق وقتاً على رغم السرعة الهائلة التي تسير بها البروتونات.
ذاكرة الـ «بيغ - بانغ»
تحدثت «الحياة» إلى عدد من العلماء في المشروع، الذين يفترضون أن تلك التجربة تُحاكي ما حدث في اللحظات الأولى التي تلت لحظة «البيغ - بانغ» أو «الانفجار العظيم» عند بدايات تشكّل الكون قبل 13.7 بليون سنة. ويرى هؤلاء أن الجزيئات الذرية تصادمت حينها بمعدل 600 مليون مرة في الثانية. ولذا، يترقب العلماء أن تأتي التجربة بنتائج فائقة الأهمية، وسيستمر تحليل المعلومات والبيانات التي تتجمع في سياقها، أشهراً وربما سنوات.
ومن الطبيعي أن يحتاج العلماء إلى أجهزة بالغة الدِقّة لرصد ما يحدث داخل مُصادِم «هادرون» بما يتناسب مع الكم الهائل من المعلومات التي يتوقع ان تأتي بها هذه التجربة، التي لم يحاول العلماء مثلها قبلاً.
وتحدث اختصاصيون عن فترات زمنية تصل إلى أجزاء متناهية الصغر من الثانية، تسير فيها عشرات الآلاف من البروتونات التي يحتاج العلماء إلى متابعة مسارها بدقة. ويتولى المهمة الكاشف «أطلس» Atlas، وهو مُكوّن رئيسي في المشروع.
http://www.alhayat.com/science_tech/07-2008/Article-20080719-3b942dba-c0a8-10ed-0007-ae6d6d1bcf91/Alah_17.jpg_440_-1.jpg
يرصد الكاشف أطلس جميع الإشعاعات الصادرة عن أي تلامس بين البروتونات، وتكون النتائج أكثر اهمية عندما تتصادم تلك الجزيئات. وعند الصدم، تخرج إشعاعات قوية تدلّ على ما يحدث داخل المُعجّل. ويشبه «أطلس» العين الساهرة التي تراقب كل ما يحدث للبروتونات من لحظة السير بسرعة تُقارب الضوء إلى التصادم وما ينجم عنها.
وفي وحدة خاصة بداخله، تتولى ملايين رقائق السليزيوم الالكترونية تجميع البيانات ثم تنقلها إلى شبكة عملاقة من الحواسيب.
ويصل حجم البيانات التي يتوقع أن يجمعها «أطلس» إلى مئة ألف اسطوانة مُدمجة في الثانية. ولاحقاً، «يُصفيها» العلماء إلى 27 قرصا في الثانية، ما يجعلها أكثر قابلية للتحليل والدراسة.
ونظراً الى أهمية عمل «أطلس» وتعقيد مهماته وضع العلماء القائمون خواصه وتجاربه في كتاب يعتبر مرجعا فيزيائيا مهماً.
واختلفت آراء الفيزيائيين حول ما يمكن أن تسفر عنه التجربة الفريدة من نوعها. فهناك من يرى أنها ستُعيد صوغ ما يعرفه العلم إلى اليوم عن نظرية تشكّل الكون وفيزياء الجزيئات النووية وأسرار وجود المادة.
وكذلك تُجيب عن مئات الأسئلة التي لا يجد لها العلم جواباً مشفوعاً بالدليل العلمي من نوع «لماذا يجب أن تكون للمادة كتلة»؟ و»لماذا يزن البروتون 1836 مرة ضعف وزن الإلكترون»، و «ما هي المادة المضادة»؟ و «ما هو الثقب الأسود»؟ و «ما هي الطاقة السوداء»؟ و «ماذا يحدث للبروتونات بعد تصادمها بسرعة الضوء»؟ وغيرها.
وفي حديث إلى «الحياة»، رأى البروفسور روبير أيمار مدير «سيرن» «أن كل ما نعرفه راهناً عن تركيب المادة وفيزياء الجزيئات هو نظريات بعضها ثبت عملياً، والآخر نظرياً فقط ويفتقر إلى الدليل العلمي. وتتيح النتائج التي نتوقع أن نحصل عليها توضيح هذه الأمور».
فمثلاً، يعرف الفيزيائيون من مكونات الذرة والنواة 6 أنواع من الكوارك، و3 من النيوترونات ومثلهم من الليبتونات التي يندرج تحتها الالكترونات والميونات، هي مكونات المادة الأساسية التي يعرفها العلماء اليوم. وبحسب البروفسور ايمار، لا يعرف الإنسان سوى 4 في المئة من المادة المنتشرة في الكون.
ولعل أكثر النتائج تشويقاً للعلماء هي تلك التي يعتقدون بأنها ستقودهم إلى التعرف على أصل المادة. إذ تقول النظرية السائدة إلى اليوم ان الكون قبل نشأته كان في مرحلة توصف بأنها «مجال هيغز»، الذي أكسب جميع الجزئيات المتواجدة آنذاك طاقة ساهمت في صنع كتلة كل جزء.
ولنتخيل أن هناك حفلاً كبيراً يؤمه عدد كبير من الزوار (مجال هيغز)، وما أن تدخل شخصيات مرموقة إلى القاعة حتى يتلف حولها الناس فتكتسب من هذا الحضور ثقلها (الكتلة).
ويعرف العلماء الكثير من خواص مجال هيغز هذا لكنهم لا يعرفون إن كان موجوداً! ولم يتمكنوا من العثور عليه عملياً أو توليده اصطناعياً. وقد يعمل مُعجّل «هادرون» الكبير على توليد هذا المجال، ما يمكن تالياً من رصد ما يحدث للجزيئات في دواخلة.
وعلى رغم طموحات العلماء بالنسبة الى تجربة «هادرون»، هناك من يثيرون المخاوف من التجربة، بل ذهب بعضهم إلى القول إنها نهاية العالم لأن تصادم البروتونات بسرعة الضوء وما سينجم عنها من طاقة، إذا انفلت، ربما اختفاء الأرض وتحوّلها الى شيء يشبه «الثقب الأسود»، ما يجعلها تبتلع الكواكب السيّارة المجاورة لها لاحقاً!
ويستندون إلى أن قوة التصادم بين البروتونات تسفر عن طاقة تصل إلى 14 تيرا اليكتروفولت، أي 14 والى جانبها 12 صفراً.
وفي المقابل، يشير علماء «سيرن» إلى أن سرعة دوران البروتونات داخل أنابيب «هادرون», وتحت الضغط القوي لحقوله المغناطيسية، يجعلها أشبه بدوران بعوضة نشطة.
وكذلك تشير حساباتهم الى أن التصادم المتوقع يُشبه وقوع بضعة غرامات على الأرض من ارتفاع 100 سنتيمتر.
وفي هذا السياق، قال إريديتاتو: «لسنا أمام تفاعل انشطاري، بل تفاعل عكسي نحاول فيه رصد اللحظات التي تتكون فيها المادة أي أن الطاقة الناجمة عن هذا التصادم ليست مثل طاقة الإنشطار».
وكذلك قلّل أيمار من شأن تلك المخاوف قائلاً: «لم تغب عن حساباتنا كل المخاطر. درسناها ووضعنا جميع الإحتمالات. صحيح أن ثقباً أسود سينشأ من تصادم البروتونات، لكنه يبقى لثوان معدودة فقط قبل أن يتلاشى، كما يجب أن يكون الثقب الأسود الذي يمكنه ابتلاع الأرض كبيراً، وهو ما تلافينا حدوثه».
وفي هذا الصدّد، يشير علماء «سيرن» أيضاً إلى تجارب ميدانية استمرت أعواماً للتأكد من فعالية الجهاز والاستفادة من الأعطال التي يمكن أن تنجم من أي خطأ تقني يحدث أو ظهور نتائج غير متوقعة.
وعلى عكسهم، يتمسك المعارضون بآرائهم مستدلين الى صحة مخاوفهم بأعطال متعددة حدثت في التجارب الأولية لـ «سيرن» طيلة العام الماضي، وأدت إلى تأخير إقلاع المُعجّل هادرون إلى اليوم.
وعلّق إريديتاتو على ذلك قائلاً: «من الطبيعي أن تحدث مشكلات أثناء المراحل التجريبية، لمثل هذا الجهاز الكبير ولكنها لم تكن ذات خطورة عالية بل كانت لأسباب تقنية وليست علمية، عالج التقنيون المشكلات على الفور، وهو ما يعكس إدراك العاملين في سيرن أهمية التجربة والتأكد من جميع خطواتها».
وحتى لو لم يعثر العلماء على أي شيء جديد، فإن اختصاصيي «سيرن» يرون أن جميع النتائج ستكون دليلاً مهماً لتأكيد أو نفي النظريات التي لم يتم التأكد من صحتها عملياً، إذ أنها المرة الأولى التي يتمكن فيها العلماء من وضع كل مكونات المادة في مجال واحد.
ويحاول «المركز الأوروبي للبحوث النووية» أن تنطلق التجربة من دون أدنى مشكلة تعوق الحدث العلمي، الذي يتفق معارضوه وأنصاره على أنه سيُحدث تغييراً جذرياً في مسيرة العلوم الطبيعية.
وسواء جاءت النتائج لتؤكد ما هو معروف الآن نظرياً على الأقل، أو لتوضح غموضاً يلف بعض الظواهر التي لم يجد لها العلماء تفسيراً يستند إلى حقائق منطقية، أو لتكشف عن أبعاد غير معروفة في أسرار المادة والكون، فالعالم يقف أمام خيال علمي استطاع العلماء تطبيقه عملياً للمرة الأولى.
أجهزة التجربة المقلقة
أرقام للتأمل...