فاتن
07-05-2008, 11:40 AM
قصة «القائد المؤسس» للبعث... بعد رحيل صدام وخراب البصرة
الحياة اللندنية
رزان ميشال عفلق: والدي تعرض لمؤامرات وتهجّمات ولم يترك وصية
زيارة صدّام حسين الوحيدة لبيروت كانت للقائه
باريس - غسان شربل
غاب ميشال عفلق قبل ان يرى "فتى البعث" يقوم بمجازفة قاتلة على أرض الكويت. وغاب قبل ان يرى الآلة العسكرية الأميركية تنهال على بغداد. من حسن حظه انه لم يشاهد دبابة اميركية تقتلع تمثال السيد الرئيس. ومن حسن حظه انه لم يشاهد صدام حسين يُعدم وسط صيحات اثارت الاستنكار وايقظت الحساسيات.
حين وصل نعش "القائد المؤسس" الى بغداد في الأسبوع الأخير من حزيران (يونيو) 1989 كان الرئيس في استقباله مرتديا بزته العسكرية التي لازمته ابان الحرب الطويلة مع ايران. تقدم صدام حسين الصفوف وشارك في حمل نعش الرجل الذي اعتبره باكراً مشروع قائد. كان صدام حريصا على ابداء احترامه وولائه لـ "الاستاذ". ولعله كان يعتبر تلك العلاقة تأكيدا لشرعيته الحزبية. لهذا كان يرفض في احتفالات ذكرى تأسيس الحزب ان يدخل القاعة إلا بعد ان يتقدمه عفلق.
خلال حوارات الشق العراقي من سلسلة "يتذكر" سمعت الكثير عن الرجلين. وثمة من قال ان عفلق ظلم البعث حين راهن على صدام وان الأخير بممارساته ظلم البعث وعفلق معا. واتضح من خلال اقوال كثيرين ان عفلق الذي كان موضع احترام وتبجيل في بغداد اختار منذ البداية الابتعاد عن يوميات الشأن العراقي مكتفيا بهموم القيادة القومية للحزب. سؤالان ترددا كثيراً امامي: ما سر العلاقة بين عفلق وصدام؟ والثاني هل صحيح ان مؤسس البعث العلماني مات مسلماً كما اعلنت القيادة القومية بعد غيابه وما الذي اوصله الى هذا الخيار؟ بقي السؤالان بين اوراقي ودفعني تدافع الاحداث الى مواضيع اخرى.
كان عفلق يستعد لكتابة تاريخ الحزب مع ابنته رزان التي كانت موضع سره. لكن العمر لم يمهله فخسرت المنطقة رواية لاعب كبير أثّرت افكاره في مصير بلدين بارزين فيها هما العراق وسورية. عشية ثلاثينات القرن الماضي كان هذا الطالب الهادئ الحالم يقلب في جامعة السوربون والحي اللاتيني صفحات التاريخ وكتب الفلسفة والأدب وعينه على مستقبل امته التي كانت مسلوبة القرار ومغلولة الارادة. وسيحلم في تلك الفترة بحركة تؤدي الى قيام "اشتراكية انسانية ذات خصوصية عربية". وبعد السوربون سيعود الى دمشق للانخراط في العمل السياسي وسيفتتح في السابع من نيسان(ابريل) 1947 المؤتمر التأسيسي الاول لحزب البعث العربي. ومنذ تلك الأيام سيكون حاضرا في موسم البراكين الذي انجب انتفاضات وانقلابات وتحالفات ومكائد وانشقاقات.
قادتني الحشرية الصحافية الى البحث عن عفلق بعد رحيل صدام واجتثاث البعث وخراب البصرة. ذهبت الى ابنته رزان وبعدها الى رفاق عرفوه في الحزب وعايشوه امينا عاما ومطاردا هاربا وذهبت الى احد اقرب اصدقائه، فكان هذا الملف الذي يبدأ بحوار مع رزان ميشال عفلق، وهنا نص الحلقة الأولى:
> من كان إلى جانب ميشال عفلق لدى وفاته؟
- توفي في 23 حزيران (يونيو) 1989 في المستشفى العسكري الفرنسي (فال دو غراس) في باريس. دخل إلى المستشفى لإجراء فحوصات عامة بعدما لاحظنا تزايد الشحوب في وجهه وبعض الهزال في جسمه. كان والدي يمشي وبسرعة لأكثر من ساعتين يومياً. في الأشهر الأخيرة من حياته بدأ يشعر بالتعب. عندما دخل إلى المستشفى كنا كلنا إلى جانبه.
> كم كان عمره لدى وفاته؟
- 76 عاماً.
> هل ترك وصية؟
- لا. عند وفاته كانت إلى جانبه والدتي ونحن أولاده الأربعة. وكان الرئيس صدام حسين قد أوفد في الفترة الأخيرة وبعدما دخل والدي الغيبوبة، أخاه غير الشقيق برزان التكريتي ورئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين، كما أرسل طبيباً عراقياً يتابع وضعه مع الأطباء الفرنسيين.
> متى زار والدك بغداد للمرة الأخيرة؟
- كان مع والدتي في بغداد سنة 1989 لأشهر عدة كالعادة، ثم شارك في ذكرى 7 نيسان (ابريل)، ذكرى تأسيس حزب «البعث» وعاد بعدها إلى باريس، أمضى تقريباً شهراً ثم دخل المستشفى.
> إلى أي حد كانت العلاقة حميمة بين والدك وصدام؟
- كانت العلاقة بين والدي والرئيس صدام تقوم على شعور متبادل من المودة والتقدير والاحترام. ليلة اجراء العملية لوالدي، تلقى اتصالاً هاتفياً منه في غرفته في المستشفى وكان آخر اتصال بينهما.> متى رأى والدك صدام حسين للمرة الأولى؟
- التقى به للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 1963 في المؤتمر القطري في بغداد. قال فيه إنه «كان يهيئ نفسه لدور قيادي قومي».
> هل أحب ميشال عفلق صدام حسين؟
- نعم أحبه، فقد كان الرئيس صدام مناضلاً بعثياًَ متحمساً ومؤمناً بقضيته وبالمبادئ القومية وصاحب شخصية متميزة. لم يلفت انتباه والدي فحسب، بل لفت انتباه كثيرين. وكانت تتسم علاقتهما بالتقدير والاحترام المتبادلين.
> كانت علاقة والدك مختلفة مع الرئيس أحمد حسن البكر؟
- كانت علاقة والدي جيدة ومتينة مع الرئيس البكر ايضاً، وكل منهما يقدّر الآخر.
> هل شهدت لقاءات بين والدك وصدام؟
- في 1975 وصلنا إلى العراق للإقامة هناك. كان صدام حسين نائب الرئيس حينها، وجاء مرات عدة مع الرئيس البكر لزيارة والدي، وكان يأتي لوداع الوالد حين يعرف أنه مسافر، واستمر الأمر بعدما اصبح رئيساً، حيث كان يأتي لزيارة الوالد في المنزل في مناسبات معينة، وكنا نحن، أفراد العائلة، نراه في هذه المناسبات.
> ألم تمر هذه العلاقات بتقلبات؟
- كانت العلاقة ثابتة ومستقرة، وكنا نشعر بأنها تقوم على مودة متبادلة. مثلاً حين عدنا لتشييع والدي كان الرئيس صدام حسين على رأس المستقبلين في المطار في بغداد، وأصرّ على المشاركة في حمل النعش على كتفيه فور إخراجه من الطائرة، ثم على حمله إلى القيادة القومية. وأثناء مراسم الدفن حمله إلى مثواه الأخير.
> هل ندم عفلق لأنه دعم صدام أو أعطى نظامه شرعية؟
- لا، لم يندم. توفي والدي سنة 1989، وكانت المعطيات حينها تدعو إلى التفاؤل، وكان العراق قد بدأ خطوات عملية لتحقيق مجلس التعاون العربي ما بين العراق ومصر والأردن واليمن، وكانت هذه خطوة وحدوية مباركة.
> تردد أنه كانت لديه في السنوات الأخيرة ملاحظات على أسلوب صدام؟
- كانت العلاقة بينهما علاقة متينة بين مناضلين حزبيين، حريصين بالدرجة الأولى على مصلحة الأمة العربية وقضاياها المصيرية. كما ان ليس هناك حكم صحيح بالمطلق. كل تجارب الحكم ترافقها أخطاء. كانا يعقدان جلسات ثنائية، وإن كانت هناك ملاحظات، فأعتقد أنها كانت ترد في سياق النقد الايجابي البناء.
> هل قرأت ما قاله صلاح عمر العلي لـ «سلسلة يتذكر» عن حوار في الغابة الفرنسية بينه وبين والدك، ونقل عنه انزعاجه من حب صدام للمديح ومعارضته للحرب العراقية - الإيرانية؟
- لدي عدد من التحفظات والملاحظات على ما صرّح به صلاح عمر العلي سواء لجريدتكم أو في الحلقات التلفزيونية، ولكن لن أدخل في هذا الموضوع حالياً. أما في ما يخص حرب إيران، أشير أولاً أن ميشال عفلق لم يكن في العراق عند اندلاع الحرب، إنما كان في باريس. وأشير أيضاً إلى أنه تلقى أول خبر عن الحرب من وسائل الإعلام.
هذا الموضوع، الذي كلف مئات الآلاف من القتلى لدى الطرفين وطال لما يقرب من عقد كامل في ثمانينات القرن العشرين، وترتبت عليه ديون بالبلايين، يجب النظر إليه بموضوعية، لا أن نضع اللوم كله على الرئيس صدام حسين. فالمسؤولون الإيرانيون في بداية الثمانينات أخافوا جميع دول الجوار بطرحهم شعار «تصدير الثورة»، وقد أثبت التاريخ خطأ هذا الشعار.
> ما كان رأي ميشال عفلق بصدام وتجربة حكمه؟
- تسلم حزب «البعث» السلطة في قطر يمتلك إمكانات هائلة وله ثقل وأهمية استراتيجية كبيرة. رأى والدي أن المصلحة القومية العليا تفرض تأييد تجربة الحزب في العراق ودعمها وتقويتها. حيث أن الأحداث أوضحت أن التجربة البعثية كانت معرضة دائماً لمؤامرات داخلية مدعومة من الخارج، فضلاً عن التآمر الخارجي الموجود أصلاً. وشكّل العراق بقيادة الرئيس صدام حسين قاعدة لموقف داعم للقضية الفلسطينية ورافض للحلول الاستسلامية، وفعلاً لم تكن هناك دولة عربية مستعدة للذهاب في دعم الكفاح الفلسطيني كما فعل العراق، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
> من هم الذين كانوا أصدقاء ميشال عفلق في حزب «البعث»؟
- لا أريد الخوض في الاسماء كي لا أظلم أحداً. كان البعثيون خصوصاً في المرحلة الأولى بمثابة عائلة لوالدي. الكل يعرف أنه كان يتأثر كثيراً إذا استشهد رفيق أو عذب أو تعرض لمصيبة. علاقات العمل الحزبي والنضالي لديه كانت تترافق مع مشاعر محبة صميمية وتضامن ووحدة المصير.
> ألم تكن لديه خصومات؟
- كان ميشال عفلق يلتزم دوماً بالمصالح العليا للأمة العربية وللحزب خلال مسيرته النضالية الطويلة، ويعطيها الأولوية ويجعل منها المقياس للمواقف والاشخاص، حتى لو تعارض ذلك مع الاعتبارات والمصالح الشخصية الضيقة للبعض، ما سبب له خصومات وعداوات كثيرة، وبالدرجة الأولى من بعض البعثيين الذين انشقوا في ما بعد. وحقد الكثير من هؤلاء عليه وهاجموه لسنوات عدة، وحتى يومنا هذا وبكل الطرق المتاحة لهم، وفي وسائل الإعلام ولكنه لم يهتم يوماً بالإجابة عليهم أو الدفاع عن نفسه أو عن مواقفه.
> حيال من كانت لديه مشاعر مرارة؟
- تعرض في مراحل حياته النضالية لمؤامرات داخلية وتهجمات، وكانت أسماء الخصوم تتغير حسب المراحل، حصل التكتل العسكري وما سمي بـ «اللجنة العسكرية» في سورية، والمرتدين على الحزب وقيادته التاريخية، والمنتحلين لاسم الحزب. وقبل ذلك كان هنالك المسؤولون الذين تسببوا بنكسة الانفصال. وهنالك كل الذين تخيلوا أنهم من خلال «حزب البعث العربي» أو من خلال أمينه العام يستطيعون الوصول إلى المراكز أو تحقيق أطماعهم الشخصية أو منافعهم المادية الذاتية. هؤلاء خاب أملهم وحقدوا عليه إلى يومنا هذا.
لم يترك ثروة
> هل ترك ميشال عفلق ثروة؟
- أبداً. لم يكن لدى العائلة عند وفاته سوى ما يكفينا لشهور عدة. وكسائر الناس اضطر كل واحد منا أن يعمل ضمن مجال اختصاصه ليتدبر أموره. وما هو معروف أن ميشال عفلق بعد استقالته من التدريس في سورية سنة 1943 كان يعيش من الراتب البسيط الذي كان يخصصه له الحزب، ومن مدخوله من الكتابة والنشر. وبعد تسلم الحزب الحكم في العراق تنازل والدي عن ايرادات كتاباته ونشره لمصلحة الحزب.
بعد تسلم حزب «البعث» الحكم في العراق سنة 1968، عاد إلى لبنان واستقر مع عائلته في بيروت 7 سنوات حتى بدء الحرب الأهلية سنة 1975، بعكس ما نشرته صحف عدة عن سوء نية قائلة إنه عاد إلى العراق سنة 1968، شاطبين سبع سنوات من حياته السياسية قضاها في بيروت، حيث سكنت العائلة في شقة صغيرة يعرفها الكثيرون من الحزبيين والعرب الذين كانوا يزورون ميشال عفلق في منزله. وفي هذه الفترة من اقامته في بيروت كان خاله الدكتور شكري زيدان يساعد في تسديد المبالغ التي كانت تحتاجها العائلة لمصاريفها اليومية.
عند وفاة ميشال عفلق لم يكن يملك أي مسكن أو شقة لا في العراق ولا في أي بقعة في العالم، وكذلك الحال بالنسبة إلى عائلته قبل وفاته وبعدها.
عند انتقالنا إلى بغداد سنة 1975، رفض والدي السكن في أي مجمعات حكومية ومنازل فخمة أو قصور تعود للحكومة وأصرّ على منزل عادي معقول. أما المنزل الذي سكنته العائلة لمدة 28 سنة في بغداد والذي وضعه الحزب بتصرفها، فلم يكن ملكها وهو كناية عن منزل عادي يشتمل على غرفة الأهل وغرفة لكل ولد مع غرفة الاستقبال وغرفة مكتب لوالدي، بالإضافة إلى المطبخ وغرفة الطعام، يسكن ويملك مثله وحتى أفضل منه معظم المتعلمين في العراق أكانوا محامين أو أطباء أو مهندسين... الخ. أما في باريس فقد تم استئجار شقة أسوة بسائر الديبلوماسيين.
بعد وفاة والدي قام الرئيس صدام حسين بتمليك منزل بغداد لوالدتي، وقطعتي أرض في بغداد واحدة لي وأخرى لاخواني الثلاثة. ولم يقم أي منّا ببناء أي مسكن على قطع الأرض هذه، لأنه لم تكن لأي منا الإمكانات المالية للبناء، ولم تكن العائلة تملك أي أرض أخرى خارج العراق.
عند احتلال الأميركيين العراق، احتل العملاء الذين وفدوا معهم منزل العائلة. وكانت مراسلة تلفزيون «العربية» بثت تقريراً في 7 نيسان 2003 بعد أسبوع على سقوط بغداد من منزل ميشال عفلق، وأظهرت كيف تم العبث بالمنزل ومحتوياته، وبالمناسبة المؤلمة هذه، رأى المشاهدون أن المنزل منزل عادي جداً.
في هذا السياق أتذكر عندما كنا نسأل الوالد عما سيحدث لنا فيما لو اصابه مكروه، كان يجيبنا مبتسماً وكله ايمان وثقة بأن كل الشرفاء والوطنيين والبعثيين هم عائلة كبيرة لنا، وسيحيطوننا بكل الاهتمام من بعده. واليوم، وبعد ما جرى، أقول: بدون تعليق.
> ألم يعرض عليه صدام حسين اموالاً؟
- والدي كان يرفض أي شيء مادي. لم يكن لدينا سوى مصروفنا اليومي. وفي تعميم اصدره الرئيس صدام حسين بعد وفاة والدي سنة 1989، قال: «إن الاستاذ ميشال لم يشأ أن يمتلك ما هو مادي من غير المنقول، أو مما هو ممكن من المنقول من الأموال تطبيقاً لمبادئه ولسياسة القدوة التي نحتاجها».
> من كان والدك يحب من الشعراء العرب؟
- كان يحب المتنبي وأبا العلاء المعري. كان ديوان المتنبي موجوداً في البيت ويرجع إليه.
> هل رباكم تربية حزبية؟
- لم يطلب من احد منّا الانتساب إلى الحزب، بل ترك القرار لنا... كما أن الأجواء والبيئة التي ترعرعنا فيها لم تكن عادية، بل كان والدي بشخصيته القوية والهادئة وثقافته الواسعة وتربيته العربية الوطنية المتميزة يجعل من أجواء منزلنا أجواء وطنية، تهب عليها لفحة قومية استنشقناها مع الهواء الذي كنّا نتنفسه. حيث كان الرفاق الحزبيون القادمون من كل الأقطار العربية يجتمعون بوالدي ويقصدون منزلنا الذي كان دوماً مفتوحاً لهم. فعندما كنا في لبنان كان باب بيتنا لا يغلق تقريباً، فالرفاق الحزبيون يدخلون ويخرجون في كل وقت ليلاً ونهاراً. عندما كنا صغاراً كنا نشعر بأن هناك تجمع اشخاص في غرفة الاستقبال يتكلمون في السياسة، وكنا نسمع المواضيع السياسية والنقاشات الحماسية من حولنا ونعرفها من عناوينها ونسأل عن الذي يحدث ونستفسر... فحياتنا منذ بدايتها كانت تضم دائماً الجانب السياسي والوطني. تربينا على ذلك وأصبحت لدينا اتجاهات وطنية نتيجة التربية التي أعطانا اياها.
كل الأحداث التي مرت على الساحة العربية كان لها اثرها المباشر على أجواء المنزل... فأثناء النكسات التي مرت على الأمة، في ايلول الأسود وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، خيمت أجواء من الوجوم والغضب والحزن على البيت. وأذكر أيضاً أجواء الحزن العميق الذي استولى على الوالد ومن ثم علينا (وكنا صغاراً) اثر تلقيه خبر وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكنا حينها في عاليه (لبنان)، كذلك اذكر أجواء الحماسة الكبيرة التي سادت في منزلنا أيام حرب تشرين. كما اذكر عندما بدأت تصل الأخبار والصور الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى ولأطفال الحجارة، كم كان الوالد متحمساً ومغموراً بالفرحة والايمان، وكم تكلم معنا بالموضوع بتأثر شديد، وكيف أنه كان يذكرنا بهؤلاء الأبطال الصغار في كل فعالية نقوم بها. وكان لا يقبل لنا في تلك الفترة بأي فعاليات ترفيهية، مذكراً ايانا ما يمر به أطفال الحجارة الأبطال.
> هل من الصعب أن يكون المرء ابن أو ابنة ميشال عفلق؟
- من جهة، هو فخر وشرف كبير أن نكون أولاد ميشال عفلق، هذا الإنسان المتميز، وهذا المفكر والمناضل الذي أسس حزباً قومياً عريقاً كحزب «البعث العربي الاشتراكي». كان يحيط به في البيت، سواء مع عائلته أو مع رفاقه البعثيين، جو من الصفاء والارتقاء والسمو الأخلاقي. فلا كلام عن الماديات أو التناحرات أو الحسابات أو المؤامرات، بل كان يتحدث في المبادئ العليا والأخلاقية والمواضيع الوطنية. كان متفائلاً بطرحه لأنه يعتبر أن داخل كل انسان مقومات تمكنه من تحقيق هذه المبادئ شرط أن يتغلب على الرواسب في نفسه، وهذا ما سماه بـ «الانقلاب الذاتي». ومن موقعي القريب منه كإبنته، اعتبر أنه حققه في ذاته. لذلك كان جو المنزل العائلي صافياً.
من جهة أخرى، انها مسؤولية كبيرة أن تحمل هذا الاسم، لأنه يفترض فينا الارتقاء إلى مستوى رفيع من السلوك الذاتي والعام، ويتطلب كمّاً من التضحيات والقيود التي تستوجب قدراً لا بأس به من الإرادة ومراعاة ظروف الوالد لاستحقاق شرف حمل اسمه.
> إلى أي مدى كانت معيشة والدتك صعبة؟
- كانت عيشة أصعب منا كلنا. والدي تزوج والدتي في آب (اغسطس) 1959 بعد تخرجها طبيبة. ومنذ ذلك اليوم بدأت والدتي معه رحلة المصاعب والتضحيات وعدم الاستقرار، اضطرت والدتي إلى الابتعاد عن والديها وعن جميع أفراد عائلتها. منذ 1966 لم تعد إلى سورية، ولم ترَ أغلب أفراد عائلتها.
> متى كنت آخر مرة في العراق؟
- آخر مرة سافرت فيها إلى العراق في حزيران سنة 2001، لأقدم بحثاً ضمن الندوة الفكرية التي كانت تقام سنوياً في ذكرى رحيل والدي رحمه الله. وقدمت بحثاً بعنوان «في سبيل فلسطين - فلسطين في فكر ميشال عفلق»،
> هل رأيت الرئيس صدام؟
- لا لم اره في زيارتي القصيرة تلك لبغداد، ولكنه ارسل رسالة خطية وصلت بعد مغادرتي، فسُلمت إلى والدتي، تنص على اطلاعه على البحث وأثنى عليه. وكان هذا تشجيعاً لي للمضي في الكتابة.
> متى رأيته للمرة الأخيرة؟
- عام 1996 عندما استقبلني مع زوجي في جلسة لأكثر من ساعة ونصف ساعة.
> ماذا دار في تلك الجلسة؟
- من ضمن الأحاديث التي طرحت قال لي إنه «خلال حرب إيران كانوا كل يوم يهاجمونني في الإذاعات الإيرانية ويقولون صدام العفلقي، كانوا يعتقدون انهم يقولون شيئاً سيئاً عني، ولكنني اعتز بذلك وهذا شرف لي». واعتقد أنه كان صادقاً فعلاً عندما قال هذا الشيء، وأقول إنه فعلاً كانت هناك محبة حقيقية تربط بين والدي والرئيس صدام.
كما أنه عرض الأوضاع السياسية والحصار على العراق وفلسطين وتلازم الأمور على خلفية الصراع العربي - الإسرائيلي، وعدم قبول الغرب بنقلة نوعية علمية لمجتمعنا العربي، وهنا قال: «أتذكر ما كان يقوله لي الاستاذ ميشال عن المخططات المعادية الهادفة إلى احباط النهضة القومية العربية ووأد أي مشروع عربي جدي يسعى إلى الوحدة العربية». وقال أيضاً: «لو اننا كنا نقبل بصلح مع إسرائيل ونقبل بإيقاف أي دعم للفلسطينيين ونقبل بالتوقيع على اتفاقات اقتصادية فيها تنازلات كبيرة، لكانت كل المشاكل والمصاعب التي نعاني منها قد انحلت، ولكنني لن أتخلى عن حقوقنا التاريخية وعن حقوق الأمة».
العلاقة مع صدام
> مع تولي صدام الرئاسة في 1979، أعلن عن كشف مؤامرة تبعتها إعدامات. ألم يتألم والدك لإعدام حزبيين أم كان يتبنى رواية صدام؟
- تلقى ميشال عفلق خبر هذه الأحداث المأسوية بعد حصولها، وهو في باريس. ومهما كانت الصيغة التي أخذ بها، فإنه بالطبع تألم كثيراً لما حدث. وعلى العموم الكل يعرف أن والدي لم يكن أبداً يقبل التصفيات والقتل، وأن هذا بعيد تماماً عن مبادئه وقناعاته.
> كيف كانت علاقة والدك بأحمد حسن البكر بالمقارنة مع علاقته بصدام؟
- كانت علاقته بالرئيس البكر ودية جداً وترتكز على الاحترام المتبادل، لكن علاقته مع الرئيس صدام حسين كانت علاقة متميزة، وكانت تربط بينهما رابطة احترام ومودة.
> ومع طارق عزيز؟
- كانت علاقة والدي بالاستاذ طارق عزيز علاقة جيدة وكان يقدّر فيه شخصه وكفاءاته العالية.
> يقال إن صدام استفاد كثيراً من الشرعية الحزبية التي وفرها له والدك، لكن من دون أن يمنحه فرصة التأثير على مسار الأمور؟
- ميشال عفلق لم يتدخل في الأمور التنظيمية أو الإدارية المتعلقة بسياسة العراق. لم يكن يتدخل في شؤون الحكم المباشرة في العراق. والأمر نفسه قبل ذلك ايضاً في سورية. فوالدي كان مهتماً بدعم تجربة «البعث» في العراق، لأنها كانت مهددة بالمؤامرات الداخلية والخارجية، ولأن نجاحها يصب في مصلحة الأمة العربية والعراق والحزب.
> هل زار صدام حسين والدك في البيت في بيروت؟
- نعم زاره في بيروت في السبعينات، وكان حينها نائباً للرئيس أحمد حسن البكر وجاء في زيارة سرية إلى بيروت خصيصاً للقاء والدي. وكانت تلك الزيارة الوحيدة التي قام بها الرئيس صدام إلى لبنان.
الحياة اللندنية
رزان ميشال عفلق: والدي تعرض لمؤامرات وتهجّمات ولم يترك وصية
زيارة صدّام حسين الوحيدة لبيروت كانت للقائه
باريس - غسان شربل
غاب ميشال عفلق قبل ان يرى "فتى البعث" يقوم بمجازفة قاتلة على أرض الكويت. وغاب قبل ان يرى الآلة العسكرية الأميركية تنهال على بغداد. من حسن حظه انه لم يشاهد دبابة اميركية تقتلع تمثال السيد الرئيس. ومن حسن حظه انه لم يشاهد صدام حسين يُعدم وسط صيحات اثارت الاستنكار وايقظت الحساسيات.
حين وصل نعش "القائد المؤسس" الى بغداد في الأسبوع الأخير من حزيران (يونيو) 1989 كان الرئيس في استقباله مرتديا بزته العسكرية التي لازمته ابان الحرب الطويلة مع ايران. تقدم صدام حسين الصفوف وشارك في حمل نعش الرجل الذي اعتبره باكراً مشروع قائد. كان صدام حريصا على ابداء احترامه وولائه لـ "الاستاذ". ولعله كان يعتبر تلك العلاقة تأكيدا لشرعيته الحزبية. لهذا كان يرفض في احتفالات ذكرى تأسيس الحزب ان يدخل القاعة إلا بعد ان يتقدمه عفلق.
خلال حوارات الشق العراقي من سلسلة "يتذكر" سمعت الكثير عن الرجلين. وثمة من قال ان عفلق ظلم البعث حين راهن على صدام وان الأخير بممارساته ظلم البعث وعفلق معا. واتضح من خلال اقوال كثيرين ان عفلق الذي كان موضع احترام وتبجيل في بغداد اختار منذ البداية الابتعاد عن يوميات الشأن العراقي مكتفيا بهموم القيادة القومية للحزب. سؤالان ترددا كثيراً امامي: ما سر العلاقة بين عفلق وصدام؟ والثاني هل صحيح ان مؤسس البعث العلماني مات مسلماً كما اعلنت القيادة القومية بعد غيابه وما الذي اوصله الى هذا الخيار؟ بقي السؤالان بين اوراقي ودفعني تدافع الاحداث الى مواضيع اخرى.
كان عفلق يستعد لكتابة تاريخ الحزب مع ابنته رزان التي كانت موضع سره. لكن العمر لم يمهله فخسرت المنطقة رواية لاعب كبير أثّرت افكاره في مصير بلدين بارزين فيها هما العراق وسورية. عشية ثلاثينات القرن الماضي كان هذا الطالب الهادئ الحالم يقلب في جامعة السوربون والحي اللاتيني صفحات التاريخ وكتب الفلسفة والأدب وعينه على مستقبل امته التي كانت مسلوبة القرار ومغلولة الارادة. وسيحلم في تلك الفترة بحركة تؤدي الى قيام "اشتراكية انسانية ذات خصوصية عربية". وبعد السوربون سيعود الى دمشق للانخراط في العمل السياسي وسيفتتح في السابع من نيسان(ابريل) 1947 المؤتمر التأسيسي الاول لحزب البعث العربي. ومنذ تلك الأيام سيكون حاضرا في موسم البراكين الذي انجب انتفاضات وانقلابات وتحالفات ومكائد وانشقاقات.
قادتني الحشرية الصحافية الى البحث عن عفلق بعد رحيل صدام واجتثاث البعث وخراب البصرة. ذهبت الى ابنته رزان وبعدها الى رفاق عرفوه في الحزب وعايشوه امينا عاما ومطاردا هاربا وذهبت الى احد اقرب اصدقائه، فكان هذا الملف الذي يبدأ بحوار مع رزان ميشال عفلق، وهنا نص الحلقة الأولى:
> من كان إلى جانب ميشال عفلق لدى وفاته؟
- توفي في 23 حزيران (يونيو) 1989 في المستشفى العسكري الفرنسي (فال دو غراس) في باريس. دخل إلى المستشفى لإجراء فحوصات عامة بعدما لاحظنا تزايد الشحوب في وجهه وبعض الهزال في جسمه. كان والدي يمشي وبسرعة لأكثر من ساعتين يومياً. في الأشهر الأخيرة من حياته بدأ يشعر بالتعب. عندما دخل إلى المستشفى كنا كلنا إلى جانبه.
> كم كان عمره لدى وفاته؟
- 76 عاماً.
> هل ترك وصية؟
- لا. عند وفاته كانت إلى جانبه والدتي ونحن أولاده الأربعة. وكان الرئيس صدام حسين قد أوفد في الفترة الأخيرة وبعدما دخل والدي الغيبوبة، أخاه غير الشقيق برزان التكريتي ورئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين، كما أرسل طبيباً عراقياً يتابع وضعه مع الأطباء الفرنسيين.
> متى زار والدك بغداد للمرة الأخيرة؟
- كان مع والدتي في بغداد سنة 1989 لأشهر عدة كالعادة، ثم شارك في ذكرى 7 نيسان (ابريل)، ذكرى تأسيس حزب «البعث» وعاد بعدها إلى باريس، أمضى تقريباً شهراً ثم دخل المستشفى.
> إلى أي حد كانت العلاقة حميمة بين والدك وصدام؟
- كانت العلاقة بين والدي والرئيس صدام تقوم على شعور متبادل من المودة والتقدير والاحترام. ليلة اجراء العملية لوالدي، تلقى اتصالاً هاتفياً منه في غرفته في المستشفى وكان آخر اتصال بينهما.> متى رأى والدك صدام حسين للمرة الأولى؟
- التقى به للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 1963 في المؤتمر القطري في بغداد. قال فيه إنه «كان يهيئ نفسه لدور قيادي قومي».
> هل أحب ميشال عفلق صدام حسين؟
- نعم أحبه، فقد كان الرئيس صدام مناضلاً بعثياًَ متحمساً ومؤمناً بقضيته وبالمبادئ القومية وصاحب شخصية متميزة. لم يلفت انتباه والدي فحسب، بل لفت انتباه كثيرين. وكانت تتسم علاقتهما بالتقدير والاحترام المتبادلين.
> كانت علاقة والدك مختلفة مع الرئيس أحمد حسن البكر؟
- كانت علاقة والدي جيدة ومتينة مع الرئيس البكر ايضاً، وكل منهما يقدّر الآخر.
> هل شهدت لقاءات بين والدك وصدام؟
- في 1975 وصلنا إلى العراق للإقامة هناك. كان صدام حسين نائب الرئيس حينها، وجاء مرات عدة مع الرئيس البكر لزيارة والدي، وكان يأتي لوداع الوالد حين يعرف أنه مسافر، واستمر الأمر بعدما اصبح رئيساً، حيث كان يأتي لزيارة الوالد في المنزل في مناسبات معينة، وكنا نحن، أفراد العائلة، نراه في هذه المناسبات.
> ألم تمر هذه العلاقات بتقلبات؟
- كانت العلاقة ثابتة ومستقرة، وكنا نشعر بأنها تقوم على مودة متبادلة. مثلاً حين عدنا لتشييع والدي كان الرئيس صدام حسين على رأس المستقبلين في المطار في بغداد، وأصرّ على المشاركة في حمل النعش على كتفيه فور إخراجه من الطائرة، ثم على حمله إلى القيادة القومية. وأثناء مراسم الدفن حمله إلى مثواه الأخير.
> هل ندم عفلق لأنه دعم صدام أو أعطى نظامه شرعية؟
- لا، لم يندم. توفي والدي سنة 1989، وكانت المعطيات حينها تدعو إلى التفاؤل، وكان العراق قد بدأ خطوات عملية لتحقيق مجلس التعاون العربي ما بين العراق ومصر والأردن واليمن، وكانت هذه خطوة وحدوية مباركة.
> تردد أنه كانت لديه في السنوات الأخيرة ملاحظات على أسلوب صدام؟
- كانت العلاقة بينهما علاقة متينة بين مناضلين حزبيين، حريصين بالدرجة الأولى على مصلحة الأمة العربية وقضاياها المصيرية. كما ان ليس هناك حكم صحيح بالمطلق. كل تجارب الحكم ترافقها أخطاء. كانا يعقدان جلسات ثنائية، وإن كانت هناك ملاحظات، فأعتقد أنها كانت ترد في سياق النقد الايجابي البناء.
> هل قرأت ما قاله صلاح عمر العلي لـ «سلسلة يتذكر» عن حوار في الغابة الفرنسية بينه وبين والدك، ونقل عنه انزعاجه من حب صدام للمديح ومعارضته للحرب العراقية - الإيرانية؟
- لدي عدد من التحفظات والملاحظات على ما صرّح به صلاح عمر العلي سواء لجريدتكم أو في الحلقات التلفزيونية، ولكن لن أدخل في هذا الموضوع حالياً. أما في ما يخص حرب إيران، أشير أولاً أن ميشال عفلق لم يكن في العراق عند اندلاع الحرب، إنما كان في باريس. وأشير أيضاً إلى أنه تلقى أول خبر عن الحرب من وسائل الإعلام.
هذا الموضوع، الذي كلف مئات الآلاف من القتلى لدى الطرفين وطال لما يقرب من عقد كامل في ثمانينات القرن العشرين، وترتبت عليه ديون بالبلايين، يجب النظر إليه بموضوعية، لا أن نضع اللوم كله على الرئيس صدام حسين. فالمسؤولون الإيرانيون في بداية الثمانينات أخافوا جميع دول الجوار بطرحهم شعار «تصدير الثورة»، وقد أثبت التاريخ خطأ هذا الشعار.
> ما كان رأي ميشال عفلق بصدام وتجربة حكمه؟
- تسلم حزب «البعث» السلطة في قطر يمتلك إمكانات هائلة وله ثقل وأهمية استراتيجية كبيرة. رأى والدي أن المصلحة القومية العليا تفرض تأييد تجربة الحزب في العراق ودعمها وتقويتها. حيث أن الأحداث أوضحت أن التجربة البعثية كانت معرضة دائماً لمؤامرات داخلية مدعومة من الخارج، فضلاً عن التآمر الخارجي الموجود أصلاً. وشكّل العراق بقيادة الرئيس صدام حسين قاعدة لموقف داعم للقضية الفلسطينية ورافض للحلول الاستسلامية، وفعلاً لم تكن هناك دولة عربية مستعدة للذهاب في دعم الكفاح الفلسطيني كما فعل العراق، خصوصاً في السنوات الأخيرة.
> من هم الذين كانوا أصدقاء ميشال عفلق في حزب «البعث»؟
- لا أريد الخوض في الاسماء كي لا أظلم أحداً. كان البعثيون خصوصاً في المرحلة الأولى بمثابة عائلة لوالدي. الكل يعرف أنه كان يتأثر كثيراً إذا استشهد رفيق أو عذب أو تعرض لمصيبة. علاقات العمل الحزبي والنضالي لديه كانت تترافق مع مشاعر محبة صميمية وتضامن ووحدة المصير.
> ألم تكن لديه خصومات؟
- كان ميشال عفلق يلتزم دوماً بالمصالح العليا للأمة العربية وللحزب خلال مسيرته النضالية الطويلة، ويعطيها الأولوية ويجعل منها المقياس للمواقف والاشخاص، حتى لو تعارض ذلك مع الاعتبارات والمصالح الشخصية الضيقة للبعض، ما سبب له خصومات وعداوات كثيرة، وبالدرجة الأولى من بعض البعثيين الذين انشقوا في ما بعد. وحقد الكثير من هؤلاء عليه وهاجموه لسنوات عدة، وحتى يومنا هذا وبكل الطرق المتاحة لهم، وفي وسائل الإعلام ولكنه لم يهتم يوماً بالإجابة عليهم أو الدفاع عن نفسه أو عن مواقفه.
> حيال من كانت لديه مشاعر مرارة؟
- تعرض في مراحل حياته النضالية لمؤامرات داخلية وتهجمات، وكانت أسماء الخصوم تتغير حسب المراحل، حصل التكتل العسكري وما سمي بـ «اللجنة العسكرية» في سورية، والمرتدين على الحزب وقيادته التاريخية، والمنتحلين لاسم الحزب. وقبل ذلك كان هنالك المسؤولون الذين تسببوا بنكسة الانفصال. وهنالك كل الذين تخيلوا أنهم من خلال «حزب البعث العربي» أو من خلال أمينه العام يستطيعون الوصول إلى المراكز أو تحقيق أطماعهم الشخصية أو منافعهم المادية الذاتية. هؤلاء خاب أملهم وحقدوا عليه إلى يومنا هذا.
لم يترك ثروة
> هل ترك ميشال عفلق ثروة؟
- أبداً. لم يكن لدى العائلة عند وفاته سوى ما يكفينا لشهور عدة. وكسائر الناس اضطر كل واحد منا أن يعمل ضمن مجال اختصاصه ليتدبر أموره. وما هو معروف أن ميشال عفلق بعد استقالته من التدريس في سورية سنة 1943 كان يعيش من الراتب البسيط الذي كان يخصصه له الحزب، ومن مدخوله من الكتابة والنشر. وبعد تسلم الحزب الحكم في العراق تنازل والدي عن ايرادات كتاباته ونشره لمصلحة الحزب.
بعد تسلم حزب «البعث» الحكم في العراق سنة 1968، عاد إلى لبنان واستقر مع عائلته في بيروت 7 سنوات حتى بدء الحرب الأهلية سنة 1975، بعكس ما نشرته صحف عدة عن سوء نية قائلة إنه عاد إلى العراق سنة 1968، شاطبين سبع سنوات من حياته السياسية قضاها في بيروت، حيث سكنت العائلة في شقة صغيرة يعرفها الكثيرون من الحزبيين والعرب الذين كانوا يزورون ميشال عفلق في منزله. وفي هذه الفترة من اقامته في بيروت كان خاله الدكتور شكري زيدان يساعد في تسديد المبالغ التي كانت تحتاجها العائلة لمصاريفها اليومية.
عند وفاة ميشال عفلق لم يكن يملك أي مسكن أو شقة لا في العراق ولا في أي بقعة في العالم، وكذلك الحال بالنسبة إلى عائلته قبل وفاته وبعدها.
عند انتقالنا إلى بغداد سنة 1975، رفض والدي السكن في أي مجمعات حكومية ومنازل فخمة أو قصور تعود للحكومة وأصرّ على منزل عادي معقول. أما المنزل الذي سكنته العائلة لمدة 28 سنة في بغداد والذي وضعه الحزب بتصرفها، فلم يكن ملكها وهو كناية عن منزل عادي يشتمل على غرفة الأهل وغرفة لكل ولد مع غرفة الاستقبال وغرفة مكتب لوالدي، بالإضافة إلى المطبخ وغرفة الطعام، يسكن ويملك مثله وحتى أفضل منه معظم المتعلمين في العراق أكانوا محامين أو أطباء أو مهندسين... الخ. أما في باريس فقد تم استئجار شقة أسوة بسائر الديبلوماسيين.
بعد وفاة والدي قام الرئيس صدام حسين بتمليك منزل بغداد لوالدتي، وقطعتي أرض في بغداد واحدة لي وأخرى لاخواني الثلاثة. ولم يقم أي منّا ببناء أي مسكن على قطع الأرض هذه، لأنه لم تكن لأي منا الإمكانات المالية للبناء، ولم تكن العائلة تملك أي أرض أخرى خارج العراق.
عند احتلال الأميركيين العراق، احتل العملاء الذين وفدوا معهم منزل العائلة. وكانت مراسلة تلفزيون «العربية» بثت تقريراً في 7 نيسان 2003 بعد أسبوع على سقوط بغداد من منزل ميشال عفلق، وأظهرت كيف تم العبث بالمنزل ومحتوياته، وبالمناسبة المؤلمة هذه، رأى المشاهدون أن المنزل منزل عادي جداً.
في هذا السياق أتذكر عندما كنا نسأل الوالد عما سيحدث لنا فيما لو اصابه مكروه، كان يجيبنا مبتسماً وكله ايمان وثقة بأن كل الشرفاء والوطنيين والبعثيين هم عائلة كبيرة لنا، وسيحيطوننا بكل الاهتمام من بعده. واليوم، وبعد ما جرى، أقول: بدون تعليق.
> ألم يعرض عليه صدام حسين اموالاً؟
- والدي كان يرفض أي شيء مادي. لم يكن لدينا سوى مصروفنا اليومي. وفي تعميم اصدره الرئيس صدام حسين بعد وفاة والدي سنة 1989، قال: «إن الاستاذ ميشال لم يشأ أن يمتلك ما هو مادي من غير المنقول، أو مما هو ممكن من المنقول من الأموال تطبيقاً لمبادئه ولسياسة القدوة التي نحتاجها».
> من كان والدك يحب من الشعراء العرب؟
- كان يحب المتنبي وأبا العلاء المعري. كان ديوان المتنبي موجوداً في البيت ويرجع إليه.
> هل رباكم تربية حزبية؟
- لم يطلب من احد منّا الانتساب إلى الحزب، بل ترك القرار لنا... كما أن الأجواء والبيئة التي ترعرعنا فيها لم تكن عادية، بل كان والدي بشخصيته القوية والهادئة وثقافته الواسعة وتربيته العربية الوطنية المتميزة يجعل من أجواء منزلنا أجواء وطنية، تهب عليها لفحة قومية استنشقناها مع الهواء الذي كنّا نتنفسه. حيث كان الرفاق الحزبيون القادمون من كل الأقطار العربية يجتمعون بوالدي ويقصدون منزلنا الذي كان دوماً مفتوحاً لهم. فعندما كنا في لبنان كان باب بيتنا لا يغلق تقريباً، فالرفاق الحزبيون يدخلون ويخرجون في كل وقت ليلاً ونهاراً. عندما كنا صغاراً كنا نشعر بأن هناك تجمع اشخاص في غرفة الاستقبال يتكلمون في السياسة، وكنا نسمع المواضيع السياسية والنقاشات الحماسية من حولنا ونعرفها من عناوينها ونسأل عن الذي يحدث ونستفسر... فحياتنا منذ بدايتها كانت تضم دائماً الجانب السياسي والوطني. تربينا على ذلك وأصبحت لدينا اتجاهات وطنية نتيجة التربية التي أعطانا اياها.
كل الأحداث التي مرت على الساحة العربية كان لها اثرها المباشر على أجواء المنزل... فأثناء النكسات التي مرت على الأمة، في ايلول الأسود وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، خيمت أجواء من الوجوم والغضب والحزن على البيت. وأذكر أيضاً أجواء الحزن العميق الذي استولى على الوالد ومن ثم علينا (وكنا صغاراً) اثر تلقيه خبر وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكنا حينها في عاليه (لبنان)، كذلك اذكر أجواء الحماسة الكبيرة التي سادت في منزلنا أيام حرب تشرين. كما اذكر عندما بدأت تصل الأخبار والصور الأولى للانتفاضة الفلسطينية الأولى ولأطفال الحجارة، كم كان الوالد متحمساً ومغموراً بالفرحة والايمان، وكم تكلم معنا بالموضوع بتأثر شديد، وكيف أنه كان يذكرنا بهؤلاء الأبطال الصغار في كل فعالية نقوم بها. وكان لا يقبل لنا في تلك الفترة بأي فعاليات ترفيهية، مذكراً ايانا ما يمر به أطفال الحجارة الأبطال.
> هل من الصعب أن يكون المرء ابن أو ابنة ميشال عفلق؟
- من جهة، هو فخر وشرف كبير أن نكون أولاد ميشال عفلق، هذا الإنسان المتميز، وهذا المفكر والمناضل الذي أسس حزباً قومياً عريقاً كحزب «البعث العربي الاشتراكي». كان يحيط به في البيت، سواء مع عائلته أو مع رفاقه البعثيين، جو من الصفاء والارتقاء والسمو الأخلاقي. فلا كلام عن الماديات أو التناحرات أو الحسابات أو المؤامرات، بل كان يتحدث في المبادئ العليا والأخلاقية والمواضيع الوطنية. كان متفائلاً بطرحه لأنه يعتبر أن داخل كل انسان مقومات تمكنه من تحقيق هذه المبادئ شرط أن يتغلب على الرواسب في نفسه، وهذا ما سماه بـ «الانقلاب الذاتي». ومن موقعي القريب منه كإبنته، اعتبر أنه حققه في ذاته. لذلك كان جو المنزل العائلي صافياً.
من جهة أخرى، انها مسؤولية كبيرة أن تحمل هذا الاسم، لأنه يفترض فينا الارتقاء إلى مستوى رفيع من السلوك الذاتي والعام، ويتطلب كمّاً من التضحيات والقيود التي تستوجب قدراً لا بأس به من الإرادة ومراعاة ظروف الوالد لاستحقاق شرف حمل اسمه.
> إلى أي مدى كانت معيشة والدتك صعبة؟
- كانت عيشة أصعب منا كلنا. والدي تزوج والدتي في آب (اغسطس) 1959 بعد تخرجها طبيبة. ومنذ ذلك اليوم بدأت والدتي معه رحلة المصاعب والتضحيات وعدم الاستقرار، اضطرت والدتي إلى الابتعاد عن والديها وعن جميع أفراد عائلتها. منذ 1966 لم تعد إلى سورية، ولم ترَ أغلب أفراد عائلتها.
> متى كنت آخر مرة في العراق؟
- آخر مرة سافرت فيها إلى العراق في حزيران سنة 2001، لأقدم بحثاً ضمن الندوة الفكرية التي كانت تقام سنوياً في ذكرى رحيل والدي رحمه الله. وقدمت بحثاً بعنوان «في سبيل فلسطين - فلسطين في فكر ميشال عفلق»،
> هل رأيت الرئيس صدام؟
- لا لم اره في زيارتي القصيرة تلك لبغداد، ولكنه ارسل رسالة خطية وصلت بعد مغادرتي، فسُلمت إلى والدتي، تنص على اطلاعه على البحث وأثنى عليه. وكان هذا تشجيعاً لي للمضي في الكتابة.
> متى رأيته للمرة الأخيرة؟
- عام 1996 عندما استقبلني مع زوجي في جلسة لأكثر من ساعة ونصف ساعة.
> ماذا دار في تلك الجلسة؟
- من ضمن الأحاديث التي طرحت قال لي إنه «خلال حرب إيران كانوا كل يوم يهاجمونني في الإذاعات الإيرانية ويقولون صدام العفلقي، كانوا يعتقدون انهم يقولون شيئاً سيئاً عني، ولكنني اعتز بذلك وهذا شرف لي». واعتقد أنه كان صادقاً فعلاً عندما قال هذا الشيء، وأقول إنه فعلاً كانت هناك محبة حقيقية تربط بين والدي والرئيس صدام.
كما أنه عرض الأوضاع السياسية والحصار على العراق وفلسطين وتلازم الأمور على خلفية الصراع العربي - الإسرائيلي، وعدم قبول الغرب بنقلة نوعية علمية لمجتمعنا العربي، وهنا قال: «أتذكر ما كان يقوله لي الاستاذ ميشال عن المخططات المعادية الهادفة إلى احباط النهضة القومية العربية ووأد أي مشروع عربي جدي يسعى إلى الوحدة العربية». وقال أيضاً: «لو اننا كنا نقبل بصلح مع إسرائيل ونقبل بإيقاف أي دعم للفلسطينيين ونقبل بالتوقيع على اتفاقات اقتصادية فيها تنازلات كبيرة، لكانت كل المشاكل والمصاعب التي نعاني منها قد انحلت، ولكنني لن أتخلى عن حقوقنا التاريخية وعن حقوق الأمة».
العلاقة مع صدام
> مع تولي صدام الرئاسة في 1979، أعلن عن كشف مؤامرة تبعتها إعدامات. ألم يتألم والدك لإعدام حزبيين أم كان يتبنى رواية صدام؟
- تلقى ميشال عفلق خبر هذه الأحداث المأسوية بعد حصولها، وهو في باريس. ومهما كانت الصيغة التي أخذ بها، فإنه بالطبع تألم كثيراً لما حدث. وعلى العموم الكل يعرف أن والدي لم يكن أبداً يقبل التصفيات والقتل، وأن هذا بعيد تماماً عن مبادئه وقناعاته.
> كيف كانت علاقة والدك بأحمد حسن البكر بالمقارنة مع علاقته بصدام؟
- كانت علاقته بالرئيس البكر ودية جداً وترتكز على الاحترام المتبادل، لكن علاقته مع الرئيس صدام حسين كانت علاقة متميزة، وكانت تربط بينهما رابطة احترام ومودة.
> ومع طارق عزيز؟
- كانت علاقة والدي بالاستاذ طارق عزيز علاقة جيدة وكان يقدّر فيه شخصه وكفاءاته العالية.
> يقال إن صدام استفاد كثيراً من الشرعية الحزبية التي وفرها له والدك، لكن من دون أن يمنحه فرصة التأثير على مسار الأمور؟
- ميشال عفلق لم يتدخل في الأمور التنظيمية أو الإدارية المتعلقة بسياسة العراق. لم يكن يتدخل في شؤون الحكم المباشرة في العراق. والأمر نفسه قبل ذلك ايضاً في سورية. فوالدي كان مهتماً بدعم تجربة «البعث» في العراق، لأنها كانت مهددة بالمؤامرات الداخلية والخارجية، ولأن نجاحها يصب في مصلحة الأمة العربية والعراق والحزب.
> هل زار صدام حسين والدك في البيت في بيروت؟
- نعم زاره في بيروت في السبعينات، وكان حينها نائباً للرئيس أحمد حسن البكر وجاء في زيارة سرية إلى بيروت خصيصاً للقاء والدي. وكانت تلك الزيارة الوحيدة التي قام بها الرئيس صدام إلى لبنان.