سيد مرحوم
08-04-2004, 11:00 AM
الاخلاق والإنتحار
كنت قد قرأت مرّة في إحدى روائع شكسبير على لسان أحد شخصياته العجيبة ما معناه، ان الأخلاص جعلنا جمعياً جبناء، لا أتذكر للاسف الشديد المناسبة والعمل، ولكنِّي متأكد من المعنى والفكرة، وما زلت أداوم على قراءة مقطوعة الفيلسوف الطيب ( نيتشه ) الموسومة بـ ( أصل الاخلاق وأصولها )، ولم اتفاعل مع تصنيفه لمكارم الاخلاق التقليدية من حب وتعاون واحسان وصدق وامانة على ذمَّة أخلاق العبيد ! فيما يرى كنط ان الاحساس النابع من التقدير الذاتي للقيمة الاخلاقية هي جوهر الانسان الحي، وكان مندهشاً من احساسنا الباطني بالجمال الذاتي لهذه القيم. فيما اقرا لبعض علماء الاسلام الحنيف بان الاخلاق هي تواضع بشري مرّ عليه تاريخ طويل، جاء نتيجة لتجربة الإنسان المعقّدة عبر حياته الطويلة الشاقة، وليس سرِّاانَّ بعضهم يوعز الاخلاق الى الوحي، فالوحي الإلهي هو الذي سنَّ لنا قيم الأخلاق، وليست هي تواضع بشري، او توافق بين عقلاء الناس، فيما يرى آخرون ان للقيم الأخلاقية واقعاً موضوعيِّا، متأثرين بوجهة النظر التي تقول ان للقبح والحسن واقعية خارجية، ودخلت الاخلاق حومة الفكر الماركسي فكانت هناك الا خلاق البرجوازية والا خلاق البروليتارية... وتتعدَّد المدارس، وتتسع الاراء....
من الصعب ان يعطي الانسان رأيه في هذه المعركة، فهي تحتاج الى مراجعات دقيقة على الصعيد الفلسفي وربما الكلامي أيضا، ولكن مهما قيل في هذه القضية الشائكة، تبقى هناك حقيقة شاخصة، حقيقة نلمسها دائما، من تجاربنا وتجارب غيرنا، ذلك أنّ الاخلاق تساوق الإنتحار !
الاخلاق إفلاس واقعي في الحياة، أعني الالتزام بالقيم الأخلاقية لا تجلب لصاحبها غير الفقر والضعف والإفلاس والعزلة والهوان، الالتزام بالصدق يجب البلاء، والإيفاء بالدين الإنساني للآخر ليس من وراءه غير الإستهانة فيك من قبل الآخر، يستهينك ويستضعفك في سرِّه وباطنه، بل ربما ألتزامك بحق الإ نسانيِّة عليك يقابله سخرية منك، وقد يسخر منك أقرب الناس إليك، وبالتالي فإن ضريبة الأخلاق هى ان تلبس للفقر جلبابا... لا سيارة... ولا بيت... ولا مال.. ولا جاه... ولا سفرات... ولا مطاعم فاخرة... ولا ثياب زاهية... هذه هي ضريبة الإلتزام بالاخلاق في هذا الزمن، ولست ادري كم ذلك صحيح في الأزمان الغابرة، وإذا كانت هناك شواهد مضادّة أو شواهد لا تنسجم مع هذه النتيجة فهي شاذّة، والشذوذ يؤكِّد القاعدة ولا يقلبها.
قد يدفعك الالتزام الصادق بالاخلاق فتحكي عن نفسك مواطن الضعف كي تخلص ذمَّتك من بعض الا لتزامات المبدأية والخلقية، وهو خلق رفيق بطبيعة الحال، ولكن رفاقك في الحياة وا لمبدأ يستغلون هذا الاعتراف للتشنيع عليك، فيما هم يحملون شرف الأنتماء الى أديولجيات روحية في الدرجة الاولى، ويبغون من وراء ذلك الوصول الى مغنم سياسي او وجاهي !
يصطدم التزامك بالاخلاق بهذا التهالك البشري الرهيب على المادّة الفانية، ومن الغريب ان ترى حمَلَة الإديولجيات الدينية من أشد الناس مفارقة للأخلاق أثناء تصادم المصالح !، حقيقة لم أجد مثل ( المتدينين ! ) تهالكا على الدنيا رغم علائم الالتزام الخلقي البادية على ظاهرهم، بل هؤلا ء من أشد الناس تعلُّقا بالمال، يحبون المال بشكل غير طبيعي، ومن هنا قد يكون تدينهم هو مجرّد تغطية لا شعورية على هذه النزعة الجشعة، لقد تبدَّت حقيقتهم بسرعة مدهشة، فما ان توفّرت فرص الوجاهة الإجتماعية والكسب السياسي حتى ثارت بينهم نزاعات مخزية ! بل سرعان ما تبخَّرت القيم التي ينادون بها، وتحوّلت الى قيم صراع وتسقيط وإقصاء... سبحان الله !
يصطدم إلتزامك بالاخلاق بهذه الفلسفة المتسيِّدة على ضميرالناس هذه الايام، أقصدُ فلسفة الكسب... الكسب... الكسب... الكسب... كن إخلاقيا يعني كن فقيراً، وهل يحترم الناس اليوم مَنْ أكثر إلتزاما بالاخلاق أم الأكثر مالاً ؟ أليس ذلك دليل على أن الالتزام بالاخلاق يعني الإنتحار ؟
الأخلاق عطاء، والذي يعطي يُعتبر في مقاييس هذا الزمان أهبل، يستهينون بعقله وضميره، يتندَّرون عليه في ندواتهم الخاصّة، وربما يتعطَّف عليه بعضهم بكلمة ( مسكين ) مخدوع !
إشترع الفكر ( المتديني ) مصطلحات جديدة أدخلها في قاموس الاخلاق فيما هي آفة خلقية خطرة، فقد طرح لنا هذا الفكر مصطلح ( المداراة... التغافل... التملُّق... التورية... )، واعتبرها بطريقة أو أخرى من الأخلاق، وقد إنطبعت حياة ( المتديِّن ) للاسف الشديد بروح هذه ( المصطلحات )، وسيطرتْ على بوصلة تواصله وتعامله مع الناس، فتراه اكثر من غيره إبتلاء بكلمات مثل ( مولانا )، وأكثر إبتلاء من غيره بحركات الجسد التواضعية، مثل وضع اليد على الصدر، وطأطاة الرأس، ولكن هذا ( المتديِّن ) يستحلبك قوة وزمناً وفكراً إذا اشتغلت في محلِّه ( صانعاً ) ! فما أكبر المفارقة !
يطرح الفكر ( المتديني ) هذه المفاهيم بأعتبارها منقذة لحالات يدعي إنّها أكثر خطرا، فيما هي تنخب على المدى البعيد في لحمة النسيج الإ جتماعي، والذي أراه هي نتيجة لسوء الطوية، أو بالاحرى لسوء التربية، ولكن أرادوا تغليف ذلك بمثل هذه التبريرات.
الأخلاق صدق مع الذات... صدق مع الله... صدق مع الآخر... صدق مع الطبيعة... صدق مع الفكر... وهذا الصدق مجلبة للفقر والذلة ( المادية )، ليس من وراءه غير الوجع والالم والمعاناة، ربما ليس من وراءه غير الحيرة في آواخر رأس الشهر !
كان الكاتب العبقري ( صموئيل بيكت ) رحمه الله تعالى يسكن تحت شقة تقطنها عائلة كثيرة الإطفال، وكان هؤلاء الأطفال كثيري الجَلبَة، ممّا يخلق نوعاً من الإرباك للكاتب الطيِّب، وكان بإمكانه ان يشتكي ويامر بأخلاء الشقة، ولكن باع ما يمتلك من أثاث وكتب واشترى سجّأة ثخينة وأهداها لهم كي تمتص أصوات دبكات الإطفال !
قرأت هذه الحادثة عن هذا الكاتب الشريف فهزَّتني من الأعماق، لانِّي صادفت مشكلة خلافية بين مجموعة من ( المتدينين ) في مشروع ذي طابع مادّي، ولمَّا عسُر الحل تبادلوا اقذع التهم والسباب !
ولكن هل يعني هذا هجر الاخلاق والخلاص من تبعتها الثقيلة ؟ اعني الإنتحار ؟ في تصوري إنَّ لكل شي في هذه الحياة ضريبة، وهذه ضريبة الأخلاق... ولكن في رضا النفس ورضا الله تعالى غنى لم يشعر بها الاّ الأقلون، وتلك نعمة كبيرة نرجو من الله تعالى ان يرزقنا إياها.
غالب حسن الشابندر، السويد.
http://www.elaph.com./ElaphWeb/ElaphWriter/2004/8/2972.htm
كنت قد قرأت مرّة في إحدى روائع شكسبير على لسان أحد شخصياته العجيبة ما معناه، ان الأخلاص جعلنا جمعياً جبناء، لا أتذكر للاسف الشديد المناسبة والعمل، ولكنِّي متأكد من المعنى والفكرة، وما زلت أداوم على قراءة مقطوعة الفيلسوف الطيب ( نيتشه ) الموسومة بـ ( أصل الاخلاق وأصولها )، ولم اتفاعل مع تصنيفه لمكارم الاخلاق التقليدية من حب وتعاون واحسان وصدق وامانة على ذمَّة أخلاق العبيد ! فيما يرى كنط ان الاحساس النابع من التقدير الذاتي للقيمة الاخلاقية هي جوهر الانسان الحي، وكان مندهشاً من احساسنا الباطني بالجمال الذاتي لهذه القيم. فيما اقرا لبعض علماء الاسلام الحنيف بان الاخلاق هي تواضع بشري مرّ عليه تاريخ طويل، جاء نتيجة لتجربة الإنسان المعقّدة عبر حياته الطويلة الشاقة، وليس سرِّاانَّ بعضهم يوعز الاخلاق الى الوحي، فالوحي الإلهي هو الذي سنَّ لنا قيم الأخلاق، وليست هي تواضع بشري، او توافق بين عقلاء الناس، فيما يرى آخرون ان للقيم الأخلاقية واقعاً موضوعيِّا، متأثرين بوجهة النظر التي تقول ان للقبح والحسن واقعية خارجية، ودخلت الاخلاق حومة الفكر الماركسي فكانت هناك الا خلاق البرجوازية والا خلاق البروليتارية... وتتعدَّد المدارس، وتتسع الاراء....
من الصعب ان يعطي الانسان رأيه في هذه المعركة، فهي تحتاج الى مراجعات دقيقة على الصعيد الفلسفي وربما الكلامي أيضا، ولكن مهما قيل في هذه القضية الشائكة، تبقى هناك حقيقة شاخصة، حقيقة نلمسها دائما، من تجاربنا وتجارب غيرنا، ذلك أنّ الاخلاق تساوق الإنتحار !
الاخلاق إفلاس واقعي في الحياة، أعني الالتزام بالقيم الأخلاقية لا تجلب لصاحبها غير الفقر والضعف والإفلاس والعزلة والهوان، الالتزام بالصدق يجب البلاء، والإيفاء بالدين الإنساني للآخر ليس من وراءه غير الإستهانة فيك من قبل الآخر، يستهينك ويستضعفك في سرِّه وباطنه، بل ربما ألتزامك بحق الإ نسانيِّة عليك يقابله سخرية منك، وقد يسخر منك أقرب الناس إليك، وبالتالي فإن ضريبة الأخلاق هى ان تلبس للفقر جلبابا... لا سيارة... ولا بيت... ولا مال.. ولا جاه... ولا سفرات... ولا مطاعم فاخرة... ولا ثياب زاهية... هذه هي ضريبة الإلتزام بالاخلاق في هذا الزمن، ولست ادري كم ذلك صحيح في الأزمان الغابرة، وإذا كانت هناك شواهد مضادّة أو شواهد لا تنسجم مع هذه النتيجة فهي شاذّة، والشذوذ يؤكِّد القاعدة ولا يقلبها.
قد يدفعك الالتزام الصادق بالاخلاق فتحكي عن نفسك مواطن الضعف كي تخلص ذمَّتك من بعض الا لتزامات المبدأية والخلقية، وهو خلق رفيق بطبيعة الحال، ولكن رفاقك في الحياة وا لمبدأ يستغلون هذا الاعتراف للتشنيع عليك، فيما هم يحملون شرف الأنتماء الى أديولجيات روحية في الدرجة الاولى، ويبغون من وراء ذلك الوصول الى مغنم سياسي او وجاهي !
يصطدم التزامك بالاخلاق بهذا التهالك البشري الرهيب على المادّة الفانية، ومن الغريب ان ترى حمَلَة الإديولجيات الدينية من أشد الناس مفارقة للأخلاق أثناء تصادم المصالح !، حقيقة لم أجد مثل ( المتدينين ! ) تهالكا على الدنيا رغم علائم الالتزام الخلقي البادية على ظاهرهم، بل هؤلا ء من أشد الناس تعلُّقا بالمال، يحبون المال بشكل غير طبيعي، ومن هنا قد يكون تدينهم هو مجرّد تغطية لا شعورية على هذه النزعة الجشعة، لقد تبدَّت حقيقتهم بسرعة مدهشة، فما ان توفّرت فرص الوجاهة الإجتماعية والكسب السياسي حتى ثارت بينهم نزاعات مخزية ! بل سرعان ما تبخَّرت القيم التي ينادون بها، وتحوّلت الى قيم صراع وتسقيط وإقصاء... سبحان الله !
يصطدم إلتزامك بالاخلاق بهذه الفلسفة المتسيِّدة على ضميرالناس هذه الايام، أقصدُ فلسفة الكسب... الكسب... الكسب... الكسب... كن إخلاقيا يعني كن فقيراً، وهل يحترم الناس اليوم مَنْ أكثر إلتزاما بالاخلاق أم الأكثر مالاً ؟ أليس ذلك دليل على أن الالتزام بالاخلاق يعني الإنتحار ؟
الأخلاق عطاء، والذي يعطي يُعتبر في مقاييس هذا الزمان أهبل، يستهينون بعقله وضميره، يتندَّرون عليه في ندواتهم الخاصّة، وربما يتعطَّف عليه بعضهم بكلمة ( مسكين ) مخدوع !
إشترع الفكر ( المتديني ) مصطلحات جديدة أدخلها في قاموس الاخلاق فيما هي آفة خلقية خطرة، فقد طرح لنا هذا الفكر مصطلح ( المداراة... التغافل... التملُّق... التورية... )، واعتبرها بطريقة أو أخرى من الأخلاق، وقد إنطبعت حياة ( المتديِّن ) للاسف الشديد بروح هذه ( المصطلحات )، وسيطرتْ على بوصلة تواصله وتعامله مع الناس، فتراه اكثر من غيره إبتلاء بكلمات مثل ( مولانا )، وأكثر إبتلاء من غيره بحركات الجسد التواضعية، مثل وضع اليد على الصدر، وطأطاة الرأس، ولكن هذا ( المتديِّن ) يستحلبك قوة وزمناً وفكراً إذا اشتغلت في محلِّه ( صانعاً ) ! فما أكبر المفارقة !
يطرح الفكر ( المتديني ) هذه المفاهيم بأعتبارها منقذة لحالات يدعي إنّها أكثر خطرا، فيما هي تنخب على المدى البعيد في لحمة النسيج الإ جتماعي، والذي أراه هي نتيجة لسوء الطوية، أو بالاحرى لسوء التربية، ولكن أرادوا تغليف ذلك بمثل هذه التبريرات.
الأخلاق صدق مع الذات... صدق مع الله... صدق مع الآخر... صدق مع الطبيعة... صدق مع الفكر... وهذا الصدق مجلبة للفقر والذلة ( المادية )، ليس من وراءه غير الوجع والالم والمعاناة، ربما ليس من وراءه غير الحيرة في آواخر رأس الشهر !
كان الكاتب العبقري ( صموئيل بيكت ) رحمه الله تعالى يسكن تحت شقة تقطنها عائلة كثيرة الإطفال، وكان هؤلاء الأطفال كثيري الجَلبَة، ممّا يخلق نوعاً من الإرباك للكاتب الطيِّب، وكان بإمكانه ان يشتكي ويامر بأخلاء الشقة، ولكن باع ما يمتلك من أثاث وكتب واشترى سجّأة ثخينة وأهداها لهم كي تمتص أصوات دبكات الإطفال !
قرأت هذه الحادثة عن هذا الكاتب الشريف فهزَّتني من الأعماق، لانِّي صادفت مشكلة خلافية بين مجموعة من ( المتدينين ) في مشروع ذي طابع مادّي، ولمَّا عسُر الحل تبادلوا اقذع التهم والسباب !
ولكن هل يعني هذا هجر الاخلاق والخلاص من تبعتها الثقيلة ؟ اعني الإنتحار ؟ في تصوري إنَّ لكل شي في هذه الحياة ضريبة، وهذه ضريبة الأخلاق... ولكن في رضا النفس ورضا الله تعالى غنى لم يشعر بها الاّ الأقلون، وتلك نعمة كبيرة نرجو من الله تعالى ان يرزقنا إياها.
غالب حسن الشابندر، السويد.
http://www.elaph.com./ElaphWeb/ElaphWriter/2004/8/2972.htm