الفرزدق
07-01-2008, 07:22 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
- 1 -
الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديان الدين، رب العالمين، الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها. اللهم صل على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق ، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.
يحاول هذا الكتاب إيجاد نوع من التفاعل بين الروايات والواقع المعيش، لا بقصد الخروج بدلالات معاصرة للروايات حسب، وإنما للتدليل كذلك على أن الروايات تخاطبنا نحن، وتتطلع لدفعنا لإيجاد هذه المقاربة بينها وبين واقعنا. فليست الروايات – روايات العلامات على وجه الخصوص – نصوصاً منبتة عن واقع الناس، أو كيانات لغوية تعوم في اللازمان و اللامكان، كما توحي أكثر كتابات فقهاء آخر الزمان، فعلى الرغم من المسافة التأريخية البعيدة التي تفصلنا عنها يشعر من يطالع هذه الروايات إنها تعيش بيننا وتتنفس هواءنا، بل إنها، وهذا هو الأهم، تمنحنا رؤية ثاقبة لمعرفة حقيقة ما يجري بيننا.
والحق إن الإعتماد على روايات أهل البيت (ع) كمرجعية فكرية يتيح لنا فرصة كشف التشويهات الكثيرة التي تعرضت لها صورة الدين على أيدي فقهاء آخر الزمان، والجهاز الإعلامي المرتبط بهم. ويوفر لنا كذلك إمكانية أن نقرأ الواقع قراءة واعية تكشف عن أسراره التي يسعى إعلام المؤسسة الدينية للتعمية عليها، وتضليل الجماهير عنها. فالملاحظ أن ما يجري على أرض الواقع من خروج واضح على أهم ثوابت الدين (حاكمية الله والتنصيب الإلهي للحاكم) تبدو لدى الغالبية العظمى من المقلدين بوصفها واحدة من روائع عبقرية فقهاء آخر الزمان!!
إن تغييب أحاديث أهل البيت (ع) عن الناس يمثل واحدة من أخطر حلقات سياسة الإستخفاف التي مارستها المؤسسة الدينية لإبعاد الناس عن مرجعية أهل البيت (ع) وإحلال مرجعية الفقهاء بدلاً عنها ، حتى لقد بلغ الحال بأحد أقطاب هذه المؤسسة، وهو آية الله العظمى الشيخ المهندس محمد اليعقوبي (أدام الله ظله الوارف جداً) الى نعت أحاديث أهل البيت (ع) بأنه كلام عجائز!!
حكى لي الأخ أبو فاطمة الحكاية الآتية: ((دخلت يوماً مكتبة إسلامية معروفة في البصرة، وهناك سألت البائع عن كتاب البرهان، فأجابني: لم يعد أحد يسأل عن هذا الكتاب، لأنه لا شئ في هذا الكتاب غير أحاديث أهل البيت))!! هذه الحكاية تشير الى كلام مسكوت عنه في جواب البائع يدل عليه الجواب المنطوق، فالناس كما يوحي كلام البائع يسألون عن كتب أخرى من قبيل تفسير الميزان وسواه. تدل الحكاية بقوة على حلول الفقهاء محل أهل البيت (ع) في أذهان الناس، على المستوى العملي على الأقل، وإن كانوا على المستوى النظري مازالوا يلهجون بذكر أهل البيت (ع)، ويسمونهم أئمة . ويمكنك استدلال هذه النتيجة من ظواهر أخرى عديدة، فعلى سبيل المثال تتردد في كلام الناس تعبيرات مثل (قال المرجع، يرى المرجع كذا، أنا أقلد المرجع فلان.... وغيرها من تعبيرات مشابهة) أقول تتردد بنسبة تفوق كثيراً جداً تعبيرات أخرى من قبيل (قال أهل البيت (ع)....الخ).
- 2 -
في الجزء الثاني من موسوعته المهدوية (تأريخ الغيبة الكبرى ص145- 146)، ينقل السيد الصدر الرسالة الموجهة من الإمام المهدي (ع) الى الشيخ المفيد ، أنقل منها الفقرة الآتية: (... أنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء ... الخ). هذه الفقرة من الرسالة الشريفة تنص بوضوح على أن مراعاة الإمام المهدي (ع)، وذكره الدائم لشيعته هما السبب في عدم نزول اللأواء، وعدم تمكن الأعداء من إلحاق الأذى بهم (واصطلمكم الأعداء). ولو نظرنا الآن الى واقع الشيعة لرأينا بوضوح أنهم في حال لا يُحسدون عليها، بل هم في أسوء حال، فمن جهة تفتك بهم العُصب الأموية، وتقتل منهم المئات يومياً، وتشرد الآلاف، ومن جهة أخرى يستذلهم المحتل الكافر، ويمعن بهم قتلاً وتنكيلاً وهتكاً للأعراض والكرامات، وكل ذلك وهم في أشد ما يكون التفرق والشقاق والإختلاف، و(كل حزب بما لديهم فرحون)، وما أصدق ما وصفهم به أمير المؤمنين (ع) بقوله: (لا تنفك هذه الشيعة حتى تكون بمنزلة المعز، لا يدري الخابس على أيها يضع يده، فليس لهم شرف يشرفونه ولا سناد يستندون إليه في أمورهم) (غيبة النعماني : 197). أقول إن حدوث كل هذه المآسي بالشيعة، وغيرها مما يعز على القلم إحصاؤه، ألا يدل قطعاً على أن الإمام المهدي (ع) قد رفع يده عنهم، ولم يعد يرعاهم أو يذكرهم؟ وما معنى رفع اليد عنهم ، أليس معنى ذلك أنه لم يعد يراهم شيعة له (ع)؟
ومرة أخرى أسأل: تُرى أي ذنب اقترفه الشيعة فترتب عليه خروجهم من ولاية أهل البيت (ع)، واستحقوا بالنتيجة هذه العقوبة الإلهية؟
نعم هي عقوبة إلهية لا يماري في ذلك إلا معاند متعنت يُكابر آيات الله. (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه).
(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء /147).
وبعد... هذا الكتاب الذي بين أيديكم محاولة مني للإجابة على السؤال المطروح، ويمكن لكل واحد منكم أن يبحث عن الإجابة بنفسه، فقط اعرفوا أين تبحثون. أنتم عادة ما تضعون مشاكلكم كلها في حضن المرجع، ومنه فقط تأخذون أجوبة أسئلتكم، ولكن هذه المرة، على الأقل، لن يُمكنكم فعل ذلك. فالمرجع هذه المرة – على الأقل أيضاً – ليس دواء العلة، وإنما هو جزء منها، بل هو الجزء الأكبر. هل تستغربون!! إذن انتظروا حتى تسمعوا حديث أهل البيت (ع) في فقهاء آخر الزمان، وكيف إنهم شر فقهاء تحت ظل السماء، وسيأتيكم هذا الحديث في طيات الكتاب. إذن أين تبحثون؟ وأين تجدون جوابكم؟ والهي ما لكم غير آل محمد، فبهم وحدهم جلاء عماكم، وبهم وحدهم شفاء دائكم، وكيف لا وهم عدل القرآن، ولن ينطق القرآن لسواهم.
(ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي).
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).
والحمد لله وحده وحده وحده
شيعتنا الأندر فالأندر
في مقدمة هذا البحث تقدمت بدعوى مضمونها خروج الغالبية العظمى ممن يدعون التشيع من ولاية أهل البيت (ع)، واستدللت هناك بمقابلة الواقع الذي يعيشه الشيعة بالحديث الوارد عن الإمام المهدي (ع) في الرسالة التي بعثها الى الشيخ المفيد، وسأحاول هنا تعزيز استدلالي بأحاديث أخرى وردت عن أهل البيت (ع).
عن الإمام الباقر (ع)، إنه قال: (إن حديثكم هذا لتشمئز منه قلوب الرجال، فانبذوه إليهم نبذاً، فمن أقرّ به فزيدوه، ومن أنكر فذروه، إنه لابد من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة و وليجة حتى يسقط فيها من يشق الشعرة بشعرتين، حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا) (غيبة النعماني 210). هذا الحديث ينص على وجود فتنة أو اختبار قبل قيام القائم (ع) تكون نتيجتها سقوط أكثر الناس، حتى من يشق الشعرة بشعرتين (وهذا التعبير كناية عن الدقة والمعرفة بمجاري الأمور)، ولا يبقى بالنتيجة إلا أهل البيت وشيعتهم. السؤال الآن: كم هم شيعة أهل البيت (ع)، أ هم حقاً عشرات الملايين، بل مئات الملايين الذين يدعون أنهم شيعة لأهل البيت (ع)؟ لنقرأ الحديث الآتي، عن أبي عبدالله (ع) إنه قال: (والله لتُكسرنّ تكسر الزجاج، وإن الزجاج ليعاد فيعود كما كان، والله لتُكسرنّ تكسر الفخار، وإن الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، ووالله لتُغربلنّ، ووالله لتُميزنّ، والله لتُمحصنّ حتى لا يبقى منكم إلا الأقل، وصعّر كفه) (غيبة النعماني 215). ولنقرأ كذلك هذا الحديث الوارد عن الإمام الرضا (ع): (والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تُمحّصوا وتُميّزوا، وحتى لا يبقى منكم إلا الأندر فالأندر) (غيبة النعماني 216). أقول واضح إن الأقل، والأندر فالأندر ليسوا ملايين، وليسوا آلافاً، وإذا شئتم الدقة فانظروا في هذا الحديث الوارد عن الصادق (ع)، حين سأله بعض أصحابه قائلاً: (جعلت فداك، إني والله أحبك، وأحب من يحبك، يا سيدي ما أكثر شيعتكم. فقال له: اذكرهم. فقال: كثير, فقال: تُحصيهم؟ فقال: هم أكثر من ذلك. فقال أبو عبدالله (ع): أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون... فقلت: فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيعون؟ فقال (ع): فيهم التمييز، وفيهم التمحيص، وفيهم التبديل، يأتي عليهم سنون تفنيهم، وسيف يقتلهم، واختلاف يبددهم... الخ) (غيبة النعماني 210- 211). يُفهم من هذا الحديث إنه إذا اكتمل من الشيعة ثلاثمائة وبضعة عشر يتحقق خروج القائم (ع)، وأما الأعداد الغفيرة التي تدّعي التشيع فإن الغربال سيُسقطهم حتماً. وفي حديث آخر يرويه أبو بصير عن الإمام الصادق (ع): (قال أبو عبدالله (ع): لا يخرج القائم حتى يكون تكملة الحلقة. قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: عشرة آلاف...) (غيبة النعماني320). إذن جيش القائم هم هؤلاء الـ(313+10000). قد تقول إن هؤلاء هم صفوة الشيعة وليسوا كل الشيعة، أقول إن الراوي في حديث (لو كملت العدة الموصوفة ... الخ) يسأل الإمام (ع) قائلاً: (فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيعون) ومعنى ذلك إنه فهم من العدد الذي ذكره الإمام (ع) إن هؤلاء هم كل الشيعة ومن هنا سأله عن الموقف من الأعداد الكبيرة التي تدعي التشيع، ولو عدت الى سياق الحديث يتأكد لك هذا الفهم. فالراوي يبدأ كلامه بإخبار الإمام (ع) بأن شيعته كثيرون، وأن عددهم أكثر من أن يُحصى، وهنا يأتي قول الإمام (ع): (تُحصيهم) والإستفهام هنا استنكاري، أي إنه (ع) يستنكر أن يكون شيعته كثيرون، ويؤكد هذا قوله (ع): (أما لو كملت العدة... الخ) ومعنى كلام الإمام إنه لو وجد في الشيعة هذا العدد، أي ال(313) لتحقق الفرج لهم، ثم إن الإمام (ع) يخبره أن الأعداد الكبيرة سيجري عليها التمييز والتمحيص والتبديل، وغيرها، وبنتيجة هذه الأمور سينكشف زيف ادعاؤهم، وسيخرجون من دائرة التشيع، فالإمام (ع) في كلمته هذه يبين المصير السيئ للمتشيعة، ولو كان مطلبه الإشارة الى صفوة الشيعة، وإنهم أفضل من الآخرين فقط لا إنهم هم الشيعة والآخرون مدعون لاكتفى بمدح هذه الصفوة دون بيان الموقف النهائي (أؤكد على كلمة النهائي) من الآخرين، لأن بيان الموقف النهائي يوجد مقابلة نوعية بين الفريقين، لا مجرد فرق في الدرجة. ولو كان الأمر مجرد فرق في درجة الإيمان، وأن الآخرين هم بالنتيجة شيعة ولكنهم أضعف إيمانا، لكان – وهذا هو المظنون – توجّه بالنصح لهم، ودعوتهم الى مزيد العمل والتكامل، والله أعلم وأحكم.
ولكي أزيدك ثقة بهذه النتيجة أقترح عليك قراءة هذه الأحاديث الشريفة, عن أبي عبدالله (ع)، إنه قال: (مع القائم (ع) من العرب شئ يسير. فقيل له: إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير. قال: لابد للناس من أن يُميّزوا ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير) (غيبة النعماني212). وعن أبي جعفر (ع): (لتُمحصنّ يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا، ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا، ويصبح وقد خرج منها) (غيبة النعماني214). الحديث الأول يُشبّه التمحيص بالغربال، ونتيجة التمحيص هي بقاء الإنسان على حد الإيمان أو خروجه منه، فالخارجون من الغربال خارجون من حد الإيمان كما هو واضح. ثم أ ليس هذا هو ما ينص عليه الحديث الثاني، اسمع إذن تعليق الشيخ النعماني على الحديث، يقول الشيخ: (أليس هذا دليل الخروج من نظام الإمامة، وترك ما كان يعتقد منها) (الغيبة215). وهذا ينبغي أن يكون واضحاً، فأمرهم (ع) هو الولاية، والخروج من أمرهم خروج منها.
وما ظنك بقوم يتفل بعضهم في وجوه بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويُكفّر الأخ أخاه.. و.. و.. الى آخر ما ستسمعه الآن، أ ترى هؤلاء أمة مرحومة، يجمعها مبدأ التشيع لآل محمد (ع)؟ عن عميرة بنت نفيل، قالت: سمعت الحسين بن علي (ع) يقول: (لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، ويشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضاً. فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير. فقال الحسين (ع): الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله) (غيبة النعماني213). وعن أبي عبدالله (ع): (لا يكون ذلك الأمر حتى يتفل يعضكم في وجوه بعض، وحتى يلعن بعضكم بعضاً، وحتى يُسمي بعضكم بعضأ كذابين) (غيبة النعماني214). وعن مالك بن ضمرة، قال: قال أمير المؤمنين (ع): (يا مالك بن ضمرة، كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا – وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض -؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عند ذلك من خير. قال: الخير كله عند ذلك يا مالك، عند ذلك يقوم قائمنا فيقدم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله (ص) فيقتلهم، ثم يجمعهم الله على أمر واحد) (غيبة النعماني214). وعن أمير المؤمنين (ع) : (كونوا كالنحل في الطير... الى قوله (ع): فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتى يُسمي بعضكم بعضاً كذابين، وحتى لا يبقى منكم – أو قال من شيعتي – إلا كالكحل في العين، والملح في الطعام...) (غيبة النعماني217-218). أقول لعل هذا الحديث الأخير الوارد عن أمير المؤمنين يكفينا مؤونة توضيح المراد من الأحاديث المتقدمة، إذ يتضح منه بجلاء أن الخلاف بين الشيعة الذي يصل حد اللعن والتكفير جزء من عملية الغربلة التي تسفر كما عرفت قبل قليل عن خروج أكثر الشيعة عن ولاية أهل البيت (ع)، فقوله (ع): (وحتى لا يبقى منكم أومن شيعتي... الخ ) مرتبط بما تقدم – أي الحديث عن الخلاف – بل هو النتيجة التي ترشح عن الخلاف. فمعنى الحديث إنكم يا شيعة لا تزالون في خلافكم حتى لا يبقى منكم إلا كالكحل في العين، والملح في الطعام. أي إن أكثركم يخرج من ولاية أهل البيت (ع)، ويبقى القليل.
وأود هنا التعقيب بكلمات عسى أن تكون مفيدة، فأقول: هذا الخلاف بين الشيعة من عسى يثيره أو يتسبب به؟ هل أنا وأنت من البشر العاديين الذين لا نملك سلطاناً على غير أنفسنا؟ بالتأكيد لا، فأنا وأنت لا نملك تأثيراً في الغالبية العظمى من الشيعة، ومن يفعل هذا لابد له من سلطان عليهم ، فمن يكون غير فقهاء آخر الزمان ممن يتبعهم الناس باسم التقليد الأعمى؟ قد تقول: ربما كان هذا بسبب بعض المغرضين؟ فأقول لك إن الواقع الشيعي يشهد بما لا يقبل لبساً أن الناس تبع لمراجعهم، فلا يمكن لمغرض أن يحقق مآربه على هذا المستوى الواسع الذي تنص عليه الأحاديث، ثم إن قولك هذا يلقي باللوم على فقهاء آخر الزمان من حيث لا تريد، فلو أن ما تقوله صحيح فأين المراجع الذين يرفعون شعار: نحن حصن الأمة، وأين دورهم في إرشاد الأمة، أم إنها كلمات تقال لخداع الأتباع لا غير؟! الحق إن هذه الأحاديث الشريفة من الخطورة بحيث توجب على كل شيعي أن يعيد التساؤل مراراً وتكراراً، وينظر الى أية هاوية سحيقة يقوده فقهاء آخر الزمان، (أم على قلوب أقفالها)؟
أختم هذا المبحث بروايتين تعززان الفكرة التي يتمحور حولها، فعن أبي جعفر (ع): (إن قائمنا إذا قام دعا الناس الى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله (ص)، وإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) (غيبة النعماني336). وعن أبي عبدالله (ع): (الإسلام بدأ غريباً و سيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. فقلت: إشرح لي ذلك هذا أصلحك الله. فقال: مما يستأنف الداعي منا دعاء جديداً كما دعا رسول الله (ص)) (غبية النعماني336- 337). أقول إن عودة الإسلام غريب كما بدأ تشير بوضوح الى خروج أكثر أهله، أو قل منتحليه عن حوزته حتى لا يبقى إلا الأقل، أو الأندر فالأندر كما عبرت الروايات الشريفة. وليت شعري أين هم حصون الأمة؟ أم لعلهم السبب في خروج الناس من دين الله أفواجاً؟ فإذا كان الإنسان يمسي على شريعة من أمر أهل البيت (ع) ويصبح وقد خرج منها، أو يصبح على شريعة من أمرهم (ع) ويمسي وقد خرج منها، فلابد أن يكون هذا التحول المفاجئ الذي يشبه خروج الكحل من العين، لا يدري صاحبه به، ناتجاً عن فتنة جماعية أوقعهُ بها الكبراء والسادات الذين أسلم لهم قياده. إذن السؤال الآن: ما الذي أخرج الأمة عن دينها، حتى عاد غريباً كما بدأ؟ لننظر في مباحث هذا الكتاب الآتية.
فتنة الدجال
وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت (ع) تحذر من فتنة الدجال، سأنقل بعضاً منها فيما يلي من سطور، ولكني أود الإشارة في مطلع هذا المبحث الى أن اصطلاح الدجال يمكن أن ينصرف الى كل من يُظهر الحق ويُضمر الباطل، ومن هنا قيل في علماء السوء أنهم دجالون. وبقدر ما يتعلق الأمر باستعمال الروايات لاصطلاح (الدجال) و(الدجالون), فإن الملاحظ عليها إنها تصف به كل من يُظهر التدين ليخدع الناس، بينما هو في باطنه منحرف يطلب دنيا، أو جاهاً، أو زعامة. ولكي يكون القارئ على بينة من أمره، أقول إن مقصودي من الدجال في هذا المبحث بالدرجة الأولى هو الدجال الأكبر أو أمريكا، كما فسره بعض الباحثين، ومن جملتهم السيد محمد الصدر في موسوعته، وكما وضحه وصي ورسول الإمام المهدي (ع) السيد أحمد الحسن (ع). وعلى أية حال يستطيع من يتأمل في منطق الروايات أن يتبين من الأوصاف التي يوصف بها انطباقها على دولة تمتلك جيشاً وقوة عسكرية كبيرة، وسيأتي عما قريب ذكر الروايات المشار إليها، ولما كان اصطلاح الدجال ينطبق كذلك على بعض فقهاء الضلالة، فسيكون هذا المبحث جامعاً للإثنين (الدجال الأكبر: أمريكا، والأصغر: فقهاء الضلالة أو كبيرهم على وجه الدقة).
عن رسول الله (ص) في حديث طويل أقتبس منه موضع الشاهد، قال: (... يتقدم المهدي من ذريتي فيصلي الى قبلة جده رسول الله (ص)، ويسيرون جميعاً – أي المهدي وأصحابه – الى أن يأتوا بيت المقدس، ثم ذكر الحرب بينه وبين الدجال، وذكر إنهم يقتلون عسكر الدجال من أوله الى آخره...) (معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)/ الشيخ الكوراني- ح659). فالدجال في هذا الحديث يملك عسكراً يقتلهم الإمام المهدي (ع) وأصحابه. وفي الحديث رقم (427) من نفس المصدر، جاء ما يأتي: (ليهبطن الدجال خوز و كرمان في ثمانين ألفاً... ). وهؤلاء الثمانون ألفاً بعض جيش الدجال على ما هو راجح، أي إنهم غير أولئك النازلين في بيت المقدس. وعن أمير المؤمنين (ع)، في حديث يذكر فيه بعض العلامات التي تسبق خروج القائم، يقول: (... وغلبة الروم على الشام، وغلبة أهل أرمينية، وصرخ الصارخ بالعراق: هُتك الحجاب وافتُضت العذراء وظهر علم اللعين الدجال، ثم ذكر خروج القائم) (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (ع) . ص29). والعلم كما هو واضح علامة رمزية تتخذها الدول للإشارة الى كياناتها، وصراخ الصارخ في العراق بظهور علم الدجال إشارة الى الإحتلال الأمريكي للعراق. ويشير إليه صراحة الحديث الذي يصف دخول الدجال الى العراق من جهة جبل سنام في البصرة، فعن رسول الله (ص): (أول ما يردُه الدجال سنام ؛ جبل مشرف على البصرة هو أول ما يردُهُ الدجال) (الفتن: ابن حماد/ 150، معجم أحاديث الإمام المهدي /ج2 ص63)، ومعروف أن القوات الأمريكية دخلت العراق قادمة من الكويت من جهة الجبل المذكور. وعلى أية حال نحن نعيش عصر الظهور، و نشهد بأم أعيننا إحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية (الدجال الأكبر)، كما إن معرفتنا بالسياسة الأمريكية توفر لنا فرصة نادرة لفهم المراد من التعبيرات الرمزية التي يوصف بها الدجال, من قبيل (المسيح الدجال)، (الأعور الدجال)، (وكونه يأتي معه بجبل من خبز، وجبل من نار)، فالرئيس الأمريكي بوش من المسيحيين المتدينين – بحسب ما يفهم هو من التدين – وقد صرح في خطاباته بأن الحرب التي يخوضها ضد الإسلام حرب صليبية، بل صرح علناً أن ما دفعه لحرب العراق رؤيا رأى فيها الرب (السيد المسيح) يأمره بإحتلال العراق، (سبحان الله حتى بوش يؤمن بالرؤيا ، فما بال فقهاء الشيعة ؟)، وأكثر من هذا كان يدعي في بعض ما صدر عنه إنه مأمور من قبل الرب بتأديب شعب الخطيئة في بابل! والعبارة الأخيرة مقتبسة من الإنجيل، وهي واحدة من علامات ظهور المصلح المنتظر. وأما أن الدجال أعور فلأنه لا يرى إلا بعين المصلحة المادية، وإن ادعى ما ادعى، ومعلوم أن السياسة الأمريكية لا تحسب حساباً لأي شئ عدا مصالحها المادية. وأما جبل الخبز فهو تعبير رمزي عن القوة الإقتصادية، وحالة الرفاه المادي التي تستخف بها أتباعها، وجبل النار قوتها الحربية التي تخيف بها الحكومات التي نسيت أن لا قوة إلا بالله.
إن فتنة الدجال – أو أحد أهم مصاديق هذه الفتنة، ولعل الصراع الطائفي مصداق مهم آخر من مصاديق فتنة الدجال (أمريكا) – هي الديمقراطية، أو حاكمية الناس (أو قل اختيار الناس للحاكم). فأمريكا ترى الديمقراطية الحلقة الأخيرة في سلسلة التطور السياسي البشري، ونهاية التأريخ فيما يتعلق بطبيعة أنظمة الحكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47). والحق إن الديمقراطية لا تختلف كثيراً عن الديكتاتورية، بل إنهما من حيث الجوهر حقيقة واحدة، إذ النظامان كلاهما قائمان على فكرة استبعاد السماء من معادلة اختيار الحاكم، والنظامان كلاهما يقفان على الضد، أو حتى النقيض من مبدأ التنصيب الإلهي للحاكم. وعلى أية حال لست الآن في صدد تتبع مساوئ الديمقراطية، ولعل الكثير الذي كُتب عنها فيه الكفاية، كما إنّ المفترض بهذا الكتاب إنه يُخاطب فئة تؤمن بمبدأ التنصيب الإلهي للحاكم، وإن كانت هذه الفئة للأسف الشديد قد استخفتها الأهواء، وأوردها فقهاء آخر الزمان آجناً من بعد عذب، والى الله المشتكى.
وقبل الخوض في دور فقهاء آخر الزمان، أود إيراد بعض الروايات التي يمكن الإستدلال منها على فتنة الديمقراطية، أو حاكمية الناس، التي يطرحها الدجال، وأود الإشارة المسبقة الى أن هذه الروايات بما إنها – كما سنرى – تشير الى أن فتنة الدجال تتمثل بمعارضة مبدأ التنصيب الإلهي، فإنها تدل بلاشك على أن الدجال الأكبر هو أمريكا، باعتبارها حاملة لواء الديمقراطية في العالم.
عن حذيفة بن أسيد، قال: (سمعت أبا ذر يقول، وهو متعلق بحلقة باب الكعبة: ... إني سمعت رسول الله (ص) يقول: من قاتلني في الأولى، وفي الثانية، فهو في الثالثة من شيعة الدجال) (المعجم الموضوعي24). وفي نفس المصدر ونفس الصفحة ينقل الشيخ الكوراني نفس الرواية عن أمالي الطوسي، وفيها (وقاتل أهل بيتي في الثانية) وعن أمير المؤمنين (ع)، قال: قال رسول الله (ص): (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) (المصدر والصفحة نفسها). وعن الإمام الصادق (ع): (قال رسول الله (ص) : ... من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهودياً. قيل: وكيف يا رسول الله؟ قال: إن أدرك الدجال آمن به) (المعجم الموضوعي25). أقول إن من يبغض أهل البيت (ع)، ومن يقاتلهم هو بالتأكيد مبغض و متمرد على مبدأ التنصيب الإلهي، ومتبع للشيطان ولهوى نفسه، وهو بالتالي ممن يقول بحاكمية الناس قطعاً، ولعل هذه الحقيقة هي التي تشير لها الروايات حين تؤكد على إيمان مبغض أهل البيت (ع) بالدجال.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ع
المقدمة
- 1 -
الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخر الرياح، فالق الإصباح، ديان الدين، رب العالمين، الحمد لله الذي من خشيته ترعد السماء وسكانها، وترجف الأرض وعمارها، وتموج البحار ومن يسبح في غمراتها. اللهم صل على محمد وآل محمد، الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها ويغرق من تركها، المتقدم لهم مارق ، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.
يحاول هذا الكتاب إيجاد نوع من التفاعل بين الروايات والواقع المعيش، لا بقصد الخروج بدلالات معاصرة للروايات حسب، وإنما للتدليل كذلك على أن الروايات تخاطبنا نحن، وتتطلع لدفعنا لإيجاد هذه المقاربة بينها وبين واقعنا. فليست الروايات – روايات العلامات على وجه الخصوص – نصوصاً منبتة عن واقع الناس، أو كيانات لغوية تعوم في اللازمان و اللامكان، كما توحي أكثر كتابات فقهاء آخر الزمان، فعلى الرغم من المسافة التأريخية البعيدة التي تفصلنا عنها يشعر من يطالع هذه الروايات إنها تعيش بيننا وتتنفس هواءنا، بل إنها، وهذا هو الأهم، تمنحنا رؤية ثاقبة لمعرفة حقيقة ما يجري بيننا.
والحق إن الإعتماد على روايات أهل البيت (ع) كمرجعية فكرية يتيح لنا فرصة كشف التشويهات الكثيرة التي تعرضت لها صورة الدين على أيدي فقهاء آخر الزمان، والجهاز الإعلامي المرتبط بهم. ويوفر لنا كذلك إمكانية أن نقرأ الواقع قراءة واعية تكشف عن أسراره التي يسعى إعلام المؤسسة الدينية للتعمية عليها، وتضليل الجماهير عنها. فالملاحظ أن ما يجري على أرض الواقع من خروج واضح على أهم ثوابت الدين (حاكمية الله والتنصيب الإلهي للحاكم) تبدو لدى الغالبية العظمى من المقلدين بوصفها واحدة من روائع عبقرية فقهاء آخر الزمان!!
إن تغييب أحاديث أهل البيت (ع) عن الناس يمثل واحدة من أخطر حلقات سياسة الإستخفاف التي مارستها المؤسسة الدينية لإبعاد الناس عن مرجعية أهل البيت (ع) وإحلال مرجعية الفقهاء بدلاً عنها ، حتى لقد بلغ الحال بأحد أقطاب هذه المؤسسة، وهو آية الله العظمى الشيخ المهندس محمد اليعقوبي (أدام الله ظله الوارف جداً) الى نعت أحاديث أهل البيت (ع) بأنه كلام عجائز!!
حكى لي الأخ أبو فاطمة الحكاية الآتية: ((دخلت يوماً مكتبة إسلامية معروفة في البصرة، وهناك سألت البائع عن كتاب البرهان، فأجابني: لم يعد أحد يسأل عن هذا الكتاب، لأنه لا شئ في هذا الكتاب غير أحاديث أهل البيت))!! هذه الحكاية تشير الى كلام مسكوت عنه في جواب البائع يدل عليه الجواب المنطوق، فالناس كما يوحي كلام البائع يسألون عن كتب أخرى من قبيل تفسير الميزان وسواه. تدل الحكاية بقوة على حلول الفقهاء محل أهل البيت (ع) في أذهان الناس، على المستوى العملي على الأقل، وإن كانوا على المستوى النظري مازالوا يلهجون بذكر أهل البيت (ع)، ويسمونهم أئمة . ويمكنك استدلال هذه النتيجة من ظواهر أخرى عديدة، فعلى سبيل المثال تتردد في كلام الناس تعبيرات مثل (قال المرجع، يرى المرجع كذا، أنا أقلد المرجع فلان.... وغيرها من تعبيرات مشابهة) أقول تتردد بنسبة تفوق كثيراً جداً تعبيرات أخرى من قبيل (قال أهل البيت (ع)....الخ).
- 2 -
في الجزء الثاني من موسوعته المهدوية (تأريخ الغيبة الكبرى ص145- 146)، ينقل السيد الصدر الرسالة الموجهة من الإمام المهدي (ع) الى الشيخ المفيد ، أنقل منها الفقرة الآتية: (... أنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء ... الخ). هذه الفقرة من الرسالة الشريفة تنص بوضوح على أن مراعاة الإمام المهدي (ع)، وذكره الدائم لشيعته هما السبب في عدم نزول اللأواء، وعدم تمكن الأعداء من إلحاق الأذى بهم (واصطلمكم الأعداء). ولو نظرنا الآن الى واقع الشيعة لرأينا بوضوح أنهم في حال لا يُحسدون عليها، بل هم في أسوء حال، فمن جهة تفتك بهم العُصب الأموية، وتقتل منهم المئات يومياً، وتشرد الآلاف، ومن جهة أخرى يستذلهم المحتل الكافر، ويمعن بهم قتلاً وتنكيلاً وهتكاً للأعراض والكرامات، وكل ذلك وهم في أشد ما يكون التفرق والشقاق والإختلاف، و(كل حزب بما لديهم فرحون)، وما أصدق ما وصفهم به أمير المؤمنين (ع) بقوله: (لا تنفك هذه الشيعة حتى تكون بمنزلة المعز، لا يدري الخابس على أيها يضع يده، فليس لهم شرف يشرفونه ولا سناد يستندون إليه في أمورهم) (غيبة النعماني : 197). أقول إن حدوث كل هذه المآسي بالشيعة، وغيرها مما يعز على القلم إحصاؤه، ألا يدل قطعاً على أن الإمام المهدي (ع) قد رفع يده عنهم، ولم يعد يرعاهم أو يذكرهم؟ وما معنى رفع اليد عنهم ، أليس معنى ذلك أنه لم يعد يراهم شيعة له (ع)؟
ومرة أخرى أسأل: تُرى أي ذنب اقترفه الشيعة فترتب عليه خروجهم من ولاية أهل البيت (ع)، واستحقوا بالنتيجة هذه العقوبة الإلهية؟
نعم هي عقوبة إلهية لا يماري في ذلك إلا معاند متعنت يُكابر آيات الله. (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه).
(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) (النساء /147).
وبعد... هذا الكتاب الذي بين أيديكم محاولة مني للإجابة على السؤال المطروح، ويمكن لكل واحد منكم أن يبحث عن الإجابة بنفسه، فقط اعرفوا أين تبحثون. أنتم عادة ما تضعون مشاكلكم كلها في حضن المرجع، ومنه فقط تأخذون أجوبة أسئلتكم، ولكن هذه المرة، على الأقل، لن يُمكنكم فعل ذلك. فالمرجع هذه المرة – على الأقل أيضاً – ليس دواء العلة، وإنما هو جزء منها، بل هو الجزء الأكبر. هل تستغربون!! إذن انتظروا حتى تسمعوا حديث أهل البيت (ع) في فقهاء آخر الزمان، وكيف إنهم شر فقهاء تحت ظل السماء، وسيأتيكم هذا الحديث في طيات الكتاب. إذن أين تبحثون؟ وأين تجدون جوابكم؟ والهي ما لكم غير آل محمد، فبهم وحدهم جلاء عماكم، وبهم وحدهم شفاء دائكم، وكيف لا وهم عدل القرآن، ولن ينطق القرآن لسواهم.
(ربي اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي).
(ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين).
والحمد لله وحده وحده وحده
شيعتنا الأندر فالأندر
في مقدمة هذا البحث تقدمت بدعوى مضمونها خروج الغالبية العظمى ممن يدعون التشيع من ولاية أهل البيت (ع)، واستدللت هناك بمقابلة الواقع الذي يعيشه الشيعة بالحديث الوارد عن الإمام المهدي (ع) في الرسالة التي بعثها الى الشيخ المفيد، وسأحاول هنا تعزيز استدلالي بأحاديث أخرى وردت عن أهل البيت (ع).
عن الإمام الباقر (ع)، إنه قال: (إن حديثكم هذا لتشمئز منه قلوب الرجال، فانبذوه إليهم نبذاً، فمن أقرّ به فزيدوه، ومن أنكر فذروه، إنه لابد من أن تكون فتنة يسقط فيها كل بطانة و وليجة حتى يسقط فيها من يشق الشعرة بشعرتين، حتى لا يبقى إلا نحن وشيعتنا) (غيبة النعماني 210). هذا الحديث ينص على وجود فتنة أو اختبار قبل قيام القائم (ع) تكون نتيجتها سقوط أكثر الناس، حتى من يشق الشعرة بشعرتين (وهذا التعبير كناية عن الدقة والمعرفة بمجاري الأمور)، ولا يبقى بالنتيجة إلا أهل البيت وشيعتهم. السؤال الآن: كم هم شيعة أهل البيت (ع)، أ هم حقاً عشرات الملايين، بل مئات الملايين الذين يدعون أنهم شيعة لأهل البيت (ع)؟ لنقرأ الحديث الآتي، عن أبي عبدالله (ع) إنه قال: (والله لتُكسرنّ تكسر الزجاج، وإن الزجاج ليعاد فيعود كما كان، والله لتُكسرنّ تكسر الفخار، وإن الفخار ليتكسر فلا يعود كما كان، ووالله لتُغربلنّ، ووالله لتُميزنّ، والله لتُمحصنّ حتى لا يبقى منكم إلا الأقل، وصعّر كفه) (غيبة النعماني 215). ولنقرأ كذلك هذا الحديث الوارد عن الإمام الرضا (ع): (والله لا يكون ما تمدون إليه أعينكم حتى تُمحّصوا وتُميّزوا، وحتى لا يبقى منكم إلا الأندر فالأندر) (غيبة النعماني 216). أقول واضح إن الأقل، والأندر فالأندر ليسوا ملايين، وليسوا آلافاً، وإذا شئتم الدقة فانظروا في هذا الحديث الوارد عن الصادق (ع)، حين سأله بعض أصحابه قائلاً: (جعلت فداك، إني والله أحبك، وأحب من يحبك، يا سيدي ما أكثر شيعتكم. فقال له: اذكرهم. فقال: كثير, فقال: تُحصيهم؟ فقال: هم أكثر من ذلك. فقال أبو عبدالله (ع): أما لو كملت العدة الموصوفة ثلاثمائة وبضعة عشر كان الذي تريدون... فقلت: فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيعون؟ فقال (ع): فيهم التمييز، وفيهم التمحيص، وفيهم التبديل، يأتي عليهم سنون تفنيهم، وسيف يقتلهم، واختلاف يبددهم... الخ) (غيبة النعماني 210- 211). يُفهم من هذا الحديث إنه إذا اكتمل من الشيعة ثلاثمائة وبضعة عشر يتحقق خروج القائم (ع)، وأما الأعداد الغفيرة التي تدّعي التشيع فإن الغربال سيُسقطهم حتماً. وفي حديث آخر يرويه أبو بصير عن الإمام الصادق (ع): (قال أبو عبدالله (ع): لا يخرج القائم حتى يكون تكملة الحلقة. قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: عشرة آلاف...) (غيبة النعماني320). إذن جيش القائم هم هؤلاء الـ(313+10000). قد تقول إن هؤلاء هم صفوة الشيعة وليسوا كل الشيعة، أقول إن الراوي في حديث (لو كملت العدة الموصوفة ... الخ) يسأل الإمام (ع) قائلاً: (فكيف أصنع بهذه الشيعة المختلفة الذين يقولون إنهم يتشيعون) ومعنى ذلك إنه فهم من العدد الذي ذكره الإمام (ع) إن هؤلاء هم كل الشيعة ومن هنا سأله عن الموقف من الأعداد الكبيرة التي تدعي التشيع، ولو عدت الى سياق الحديث يتأكد لك هذا الفهم. فالراوي يبدأ كلامه بإخبار الإمام (ع) بأن شيعته كثيرون، وأن عددهم أكثر من أن يُحصى، وهنا يأتي قول الإمام (ع): (تُحصيهم) والإستفهام هنا استنكاري، أي إنه (ع) يستنكر أن يكون شيعته كثيرون، ويؤكد هذا قوله (ع): (أما لو كملت العدة... الخ) ومعنى كلام الإمام إنه لو وجد في الشيعة هذا العدد، أي ال(313) لتحقق الفرج لهم، ثم إن الإمام (ع) يخبره أن الأعداد الكبيرة سيجري عليها التمييز والتمحيص والتبديل، وغيرها، وبنتيجة هذه الأمور سينكشف زيف ادعاؤهم، وسيخرجون من دائرة التشيع، فالإمام (ع) في كلمته هذه يبين المصير السيئ للمتشيعة، ولو كان مطلبه الإشارة الى صفوة الشيعة، وإنهم أفضل من الآخرين فقط لا إنهم هم الشيعة والآخرون مدعون لاكتفى بمدح هذه الصفوة دون بيان الموقف النهائي (أؤكد على كلمة النهائي) من الآخرين، لأن بيان الموقف النهائي يوجد مقابلة نوعية بين الفريقين، لا مجرد فرق في الدرجة. ولو كان الأمر مجرد فرق في درجة الإيمان، وأن الآخرين هم بالنتيجة شيعة ولكنهم أضعف إيمانا، لكان – وهذا هو المظنون – توجّه بالنصح لهم، ودعوتهم الى مزيد العمل والتكامل، والله أعلم وأحكم.
ولكي أزيدك ثقة بهذه النتيجة أقترح عليك قراءة هذه الأحاديث الشريفة, عن أبي عبدالله (ع)، إنه قال: (مع القائم (ع) من العرب شئ يسير. فقيل له: إن من يصف هذا الأمر منهم لكثير. قال: لابد للناس من أن يُميّزوا ويغربلوا، وسيخرج من الغربال خلق كثير) (غيبة النعماني212). وعن أبي جعفر (ع): (لتُمحصنّ يا شيعة آل محمد تمحيص الكحل في العين، وإن صاحب العين يدري متى يقع الكحل في عينه ولا يعلم متى يخرج منها، وكذلك يصبح الرجل على شريعة من أمرنا، ويمسي وقد خرج منها، ويمسي على شريعة من أمرنا، ويصبح وقد خرج منها) (غيبة النعماني214). الحديث الأول يُشبّه التمحيص بالغربال، ونتيجة التمحيص هي بقاء الإنسان على حد الإيمان أو خروجه منه، فالخارجون من الغربال خارجون من حد الإيمان كما هو واضح. ثم أ ليس هذا هو ما ينص عليه الحديث الثاني، اسمع إذن تعليق الشيخ النعماني على الحديث، يقول الشيخ: (أليس هذا دليل الخروج من نظام الإمامة، وترك ما كان يعتقد منها) (الغيبة215). وهذا ينبغي أن يكون واضحاً، فأمرهم (ع) هو الولاية، والخروج من أمرهم خروج منها.
وما ظنك بقوم يتفل بعضهم في وجوه بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، ويُكفّر الأخ أخاه.. و.. و.. الى آخر ما ستسمعه الآن، أ ترى هؤلاء أمة مرحومة، يجمعها مبدأ التشيع لآل محمد (ع)؟ عن عميرة بنت نفيل، قالت: سمعت الحسين بن علي (ع) يقول: (لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، ويشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضاً. فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير. فقال الحسين (ع): الخير كله في ذلك الزمان، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله) (غيبة النعماني213). وعن أبي عبدالله (ع): (لا يكون ذلك الأمر حتى يتفل يعضكم في وجوه بعض، وحتى يلعن بعضكم بعضاً، وحتى يُسمي بعضكم بعضأ كذابين) (غيبة النعماني214). وعن مالك بن ضمرة، قال: قال أمير المؤمنين (ع): (يا مالك بن ضمرة، كيف أنت إذا اختلفت الشيعة هكذا – وشبك أصابعه وأدخل بعضها في بعض -؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما عند ذلك من خير. قال: الخير كله عند ذلك يا مالك، عند ذلك يقوم قائمنا فيقدم سبعين رجلاً يكذبون على الله وعلى رسوله (ص) فيقتلهم، ثم يجمعهم الله على أمر واحد) (غيبة النعماني214). وعن أمير المؤمنين (ع) : (كونوا كالنحل في الطير... الى قوله (ع): فوالذي نفسي بيده ما ترون ما تحبون حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتى يُسمي بعضكم بعضاً كذابين، وحتى لا يبقى منكم – أو قال من شيعتي – إلا كالكحل في العين، والملح في الطعام...) (غيبة النعماني217-218). أقول لعل هذا الحديث الأخير الوارد عن أمير المؤمنين يكفينا مؤونة توضيح المراد من الأحاديث المتقدمة، إذ يتضح منه بجلاء أن الخلاف بين الشيعة الذي يصل حد اللعن والتكفير جزء من عملية الغربلة التي تسفر كما عرفت قبل قليل عن خروج أكثر الشيعة عن ولاية أهل البيت (ع)، فقوله (ع): (وحتى لا يبقى منكم أومن شيعتي... الخ ) مرتبط بما تقدم – أي الحديث عن الخلاف – بل هو النتيجة التي ترشح عن الخلاف. فمعنى الحديث إنكم يا شيعة لا تزالون في خلافكم حتى لا يبقى منكم إلا كالكحل في العين، والملح في الطعام. أي إن أكثركم يخرج من ولاية أهل البيت (ع)، ويبقى القليل.
وأود هنا التعقيب بكلمات عسى أن تكون مفيدة، فأقول: هذا الخلاف بين الشيعة من عسى يثيره أو يتسبب به؟ هل أنا وأنت من البشر العاديين الذين لا نملك سلطاناً على غير أنفسنا؟ بالتأكيد لا، فأنا وأنت لا نملك تأثيراً في الغالبية العظمى من الشيعة، ومن يفعل هذا لابد له من سلطان عليهم ، فمن يكون غير فقهاء آخر الزمان ممن يتبعهم الناس باسم التقليد الأعمى؟ قد تقول: ربما كان هذا بسبب بعض المغرضين؟ فأقول لك إن الواقع الشيعي يشهد بما لا يقبل لبساً أن الناس تبع لمراجعهم، فلا يمكن لمغرض أن يحقق مآربه على هذا المستوى الواسع الذي تنص عليه الأحاديث، ثم إن قولك هذا يلقي باللوم على فقهاء آخر الزمان من حيث لا تريد، فلو أن ما تقوله صحيح فأين المراجع الذين يرفعون شعار: نحن حصن الأمة، وأين دورهم في إرشاد الأمة، أم إنها كلمات تقال لخداع الأتباع لا غير؟! الحق إن هذه الأحاديث الشريفة من الخطورة بحيث توجب على كل شيعي أن يعيد التساؤل مراراً وتكراراً، وينظر الى أية هاوية سحيقة يقوده فقهاء آخر الزمان، (أم على قلوب أقفالها)؟
أختم هذا المبحث بروايتين تعززان الفكرة التي يتمحور حولها، فعن أبي جعفر (ع): (إن قائمنا إذا قام دعا الناس الى أمر جديد كما دعا إليه رسول الله (ص)، وإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) (غيبة النعماني336). وعن أبي عبدالله (ع): (الإسلام بدأ غريباً و سيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. فقلت: إشرح لي ذلك هذا أصلحك الله. فقال: مما يستأنف الداعي منا دعاء جديداً كما دعا رسول الله (ص)) (غبية النعماني336- 337). أقول إن عودة الإسلام غريب كما بدأ تشير بوضوح الى خروج أكثر أهله، أو قل منتحليه عن حوزته حتى لا يبقى إلا الأقل، أو الأندر فالأندر كما عبرت الروايات الشريفة. وليت شعري أين هم حصون الأمة؟ أم لعلهم السبب في خروج الناس من دين الله أفواجاً؟ فإذا كان الإنسان يمسي على شريعة من أمر أهل البيت (ع) ويصبح وقد خرج منها، أو يصبح على شريعة من أمرهم (ع) ويمسي وقد خرج منها، فلابد أن يكون هذا التحول المفاجئ الذي يشبه خروج الكحل من العين، لا يدري صاحبه به، ناتجاً عن فتنة جماعية أوقعهُ بها الكبراء والسادات الذين أسلم لهم قياده. إذن السؤال الآن: ما الذي أخرج الأمة عن دينها، حتى عاد غريباً كما بدأ؟ لننظر في مباحث هذا الكتاب الآتية.
فتنة الدجال
وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت (ع) تحذر من فتنة الدجال، سأنقل بعضاً منها فيما يلي من سطور، ولكني أود الإشارة في مطلع هذا المبحث الى أن اصطلاح الدجال يمكن أن ينصرف الى كل من يُظهر الحق ويُضمر الباطل، ومن هنا قيل في علماء السوء أنهم دجالون. وبقدر ما يتعلق الأمر باستعمال الروايات لاصطلاح (الدجال) و(الدجالون), فإن الملاحظ عليها إنها تصف به كل من يُظهر التدين ليخدع الناس، بينما هو في باطنه منحرف يطلب دنيا، أو جاهاً، أو زعامة. ولكي يكون القارئ على بينة من أمره، أقول إن مقصودي من الدجال في هذا المبحث بالدرجة الأولى هو الدجال الأكبر أو أمريكا، كما فسره بعض الباحثين، ومن جملتهم السيد محمد الصدر في موسوعته، وكما وضحه وصي ورسول الإمام المهدي (ع) السيد أحمد الحسن (ع). وعلى أية حال يستطيع من يتأمل في منطق الروايات أن يتبين من الأوصاف التي يوصف بها انطباقها على دولة تمتلك جيشاً وقوة عسكرية كبيرة، وسيأتي عما قريب ذكر الروايات المشار إليها، ولما كان اصطلاح الدجال ينطبق كذلك على بعض فقهاء الضلالة، فسيكون هذا المبحث جامعاً للإثنين (الدجال الأكبر: أمريكا، والأصغر: فقهاء الضلالة أو كبيرهم على وجه الدقة).
عن رسول الله (ص) في حديث طويل أقتبس منه موضع الشاهد، قال: (... يتقدم المهدي من ذريتي فيصلي الى قبلة جده رسول الله (ص)، ويسيرون جميعاً – أي المهدي وأصحابه – الى أن يأتوا بيت المقدس، ثم ذكر الحرب بينه وبين الدجال، وذكر إنهم يقتلون عسكر الدجال من أوله الى آخره...) (معجم أحاديث الإمام المهدي (ع)/ الشيخ الكوراني- ح659). فالدجال في هذا الحديث يملك عسكراً يقتلهم الإمام المهدي (ع) وأصحابه. وفي الحديث رقم (427) من نفس المصدر، جاء ما يأتي: (ليهبطن الدجال خوز و كرمان في ثمانين ألفاً... ). وهؤلاء الثمانون ألفاً بعض جيش الدجال على ما هو راجح، أي إنهم غير أولئك النازلين في بيت المقدس. وعن أمير المؤمنين (ع)، في حديث يذكر فيه بعض العلامات التي تسبق خروج القائم، يقول: (... وغلبة الروم على الشام، وغلبة أهل أرمينية، وصرخ الصارخ بالعراق: هُتك الحجاب وافتُضت العذراء وظهر علم اللعين الدجال، ثم ذكر خروج القائم) (المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (ع) . ص29). والعلم كما هو واضح علامة رمزية تتخذها الدول للإشارة الى كياناتها، وصراخ الصارخ في العراق بظهور علم الدجال إشارة الى الإحتلال الأمريكي للعراق. ويشير إليه صراحة الحديث الذي يصف دخول الدجال الى العراق من جهة جبل سنام في البصرة، فعن رسول الله (ص): (أول ما يردُه الدجال سنام ؛ جبل مشرف على البصرة هو أول ما يردُهُ الدجال) (الفتن: ابن حماد/ 150، معجم أحاديث الإمام المهدي /ج2 ص63)، ومعروف أن القوات الأمريكية دخلت العراق قادمة من الكويت من جهة الجبل المذكور. وعلى أية حال نحن نعيش عصر الظهور، و نشهد بأم أعيننا إحتلال العراق من قبل القوات الأمريكية (الدجال الأكبر)، كما إن معرفتنا بالسياسة الأمريكية توفر لنا فرصة نادرة لفهم المراد من التعبيرات الرمزية التي يوصف بها الدجال, من قبيل (المسيح الدجال)، (الأعور الدجال)، (وكونه يأتي معه بجبل من خبز، وجبل من نار)، فالرئيس الأمريكي بوش من المسيحيين المتدينين – بحسب ما يفهم هو من التدين – وقد صرح في خطاباته بأن الحرب التي يخوضها ضد الإسلام حرب صليبية، بل صرح علناً أن ما دفعه لحرب العراق رؤيا رأى فيها الرب (السيد المسيح) يأمره بإحتلال العراق، (سبحان الله حتى بوش يؤمن بالرؤيا ، فما بال فقهاء الشيعة ؟)، وأكثر من هذا كان يدعي في بعض ما صدر عنه إنه مأمور من قبل الرب بتأديب شعب الخطيئة في بابل! والعبارة الأخيرة مقتبسة من الإنجيل، وهي واحدة من علامات ظهور المصلح المنتظر. وأما أن الدجال أعور فلأنه لا يرى إلا بعين المصلحة المادية، وإن ادعى ما ادعى، ومعلوم أن السياسة الأمريكية لا تحسب حساباً لأي شئ عدا مصالحها المادية. وأما جبل الخبز فهو تعبير رمزي عن القوة الإقتصادية، وحالة الرفاه المادي التي تستخف بها أتباعها، وجبل النار قوتها الحربية التي تخيف بها الحكومات التي نسيت أن لا قوة إلا بالله.
إن فتنة الدجال – أو أحد أهم مصاديق هذه الفتنة، ولعل الصراع الطائفي مصداق مهم آخر من مصاديق فتنة الدجال (أمريكا) – هي الديمقراطية، أو حاكمية الناس (أو قل اختيار الناس للحاكم). فأمريكا ترى الديمقراطية الحلقة الأخيرة في سلسلة التطور السياسي البشري، ونهاية التأريخ فيما يتعلق بطبيعة أنظمة الحكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة: 47). والحق إن الديمقراطية لا تختلف كثيراً عن الديكتاتورية، بل إنهما من حيث الجوهر حقيقة واحدة، إذ النظامان كلاهما قائمان على فكرة استبعاد السماء من معادلة اختيار الحاكم، والنظامان كلاهما يقفان على الضد، أو حتى النقيض من مبدأ التنصيب الإلهي للحاكم. وعلى أية حال لست الآن في صدد تتبع مساوئ الديمقراطية، ولعل الكثير الذي كُتب عنها فيه الكفاية، كما إنّ المفترض بهذا الكتاب إنه يُخاطب فئة تؤمن بمبدأ التنصيب الإلهي للحاكم، وإن كانت هذه الفئة للأسف الشديد قد استخفتها الأهواء، وأوردها فقهاء آخر الزمان آجناً من بعد عذب، والى الله المشتكى.
وقبل الخوض في دور فقهاء آخر الزمان، أود إيراد بعض الروايات التي يمكن الإستدلال منها على فتنة الديمقراطية، أو حاكمية الناس، التي يطرحها الدجال، وأود الإشارة المسبقة الى أن هذه الروايات بما إنها – كما سنرى – تشير الى أن فتنة الدجال تتمثل بمعارضة مبدأ التنصيب الإلهي، فإنها تدل بلاشك على أن الدجال الأكبر هو أمريكا، باعتبارها حاملة لواء الديمقراطية في العالم.
عن حذيفة بن أسيد، قال: (سمعت أبا ذر يقول، وهو متعلق بحلقة باب الكعبة: ... إني سمعت رسول الله (ص) يقول: من قاتلني في الأولى، وفي الثانية، فهو في الثالثة من شيعة الدجال) (المعجم الموضوعي24). وفي نفس المصدر ونفس الصفحة ينقل الشيخ الكوراني نفس الرواية عن أمالي الطوسي، وفيها (وقاتل أهل بيتي في الثانية) وعن أمير المؤمنين (ع)، قال: قال رسول الله (ص): (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، ومن قاتلنا في آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) (المصدر والصفحة نفسها). وعن الإمام الصادق (ع): (قال رسول الله (ص) : ... من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهودياً. قيل: وكيف يا رسول الله؟ قال: إن أدرك الدجال آمن به) (المعجم الموضوعي25). أقول إن من يبغض أهل البيت (ع)، ومن يقاتلهم هو بالتأكيد مبغض و متمرد على مبدأ التنصيب الإلهي، ومتبع للشيطان ولهوى نفسه، وهو بالتالي ممن يقول بحاكمية الناس قطعاً، ولعل هذه الحقيقة هي التي تشير لها الروايات حين تؤكد على إيمان مبغض أهل البيت (ع) بالدجال.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ع