جمال
06-24-2008, 06:02 AM
«داخل مصر» يلج من باب عمارة يعقوبيان..
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/24-6-2008//406740_32-4_small.jpg
24/06/2008 يبدأ الصحافي جون برادلي رحلته المصرية بالدخول من بوابة الفن السينمائي الذي هو أجمل أشكال التأريخ للمأساة (أو الملهاة) الإنسانية وأكثرها ارتباطا بالقرن العشرين.
وفيلم «عمارة يعقوبيان» هو المدخل السينمائي الذي اختاره برادلي لتقديم أطروحته التي تقول إن ثورة يوليو وضعت مصر على الطريق الخطأ. وجمهورية مبارك هي التجلي الراهن لجمهورية يوليو. وما بني على باطل فهو باطل.
ومثل زكي باشا، الشخصية المحورية في فيلم «عمارة يعقوبيان» التي جسدها عادل إمام، فإن برادلي يرى أن انتقال مصر من الملكية إلى الجمهورية كان انتقالا من الجمال إلى القبح. ولأن البناية المعروفة باسم عمارة يعقوبيان، في رأي مؤلف الرواية التي بنى عليها الفيلم الدكتور علاء الأسواني وفي رأي جون برادلي، هي الرمز المجسد لمصر، فإن المقارنة تدور بين ما هي عليه الآن وما كانت عليه قبل 56 عامًا.
تمثل بناية يعقوبيان واحدة من 96 بناية في قلب العاصمة المصرية. ولو بالغنا في عدد سكان كل بناية منها، أيام الملكية، وقلنا إنه بلغ الألف ساكن فهذا يعني أن الحي الأفرنكي الذي تألفت منه هذه البنايات كان يضم 96 ألف إنسان، معظمهم من الأجانب، في بلد كان تعداده 22 مليونا. أي أن ساكني ذلك الجزء من العاصمة كانوا يمثلون أقل من جزء على مائتين وعشرين من أهل البلاد. وجنتهم الوارفة لم تكن تعني شيئا لمعظم المصريين.
لكن الرؤية التي يطرحها برادلي لا تخصه وليست من اختراعه فكثيرون في مصر يؤمنون بأنها كانت جنة الله في أرضه، أيام الملكية، وأن سقوط النظام الملكي وخروج الأجانب حولا الجنة إلى جحيم. فهذه هي رؤية بطل عمارة يعقوبيان. وهي التفسير الوحيد للنجاح الجماهيري الساحق لمسلسل الملك فاروق الذي عرض في رمضان الماضي، أو على الأقل، فهذه الرؤية هي التفسير الذي يعتمده برادلي لشعبية المسلسل وإن كان هناك من يقول إن الناس أعجبوا بالمسلسل لأنه من حق أي إنسان أن يطالع صور ماضيه بحرية وإذا حرم من هذه الحرية فإنه يشعر بلذة عظيمة عند استعادتها، من دون أن يعني ذلك رغبة حقيقية في أن يعيش في ماض يعرف أنه لن يعود.
ثورة فاشلة
لكن المؤلف يمسك بمعول ثقيل هو ذلك الفصل المكون من 48 صفحة بعنوان «ثورة فاشلة» ليدق به فوق رأس جمهورية يوليو التي يوحي إليك بأنها تتجسد لديه في مؤسسها جمال عبد الناصر رغم أن هدف هجومه الحاد هو، في الحقيقة، الرئيس الراهن للجمهورية.
ولهذا فهو يشير إلى يوم قيام الثورة بعبارة «ذلك اليوم المشؤوم، في الثالث والعشرين من يوليو 1952» وإذا كان صحيحا ما قاله إن خط جمهورية يوليو كان (على المستوى الدعائي فقط) خط عداء بالغ للأجانب فهو يربط ذلك بالعداء لليهود زاعما أن عبد الناصر طرد نصف يهود مصر.
والحقيقة أن عبد الناصر لم يطرد أحداً، صحيح أن هذا هو الشائع، لكن ما يتردد في جلسات المثقفين وأنصاف المثقفين شيء والحقيقة التاريخية شيء آخر. فالحقيقة التاريخية تعتمد على الوثائق وليست في العالم كله وثيقة تقول إن عبدالناصر طرد اليهود.
هو قال بعد اندحار عدوان 1956: إن وجودهم في مصر غير مرغوب فيه، لكنه لم يصدر قرارات ملزمة، ولم يتخذ أي إجراءات من شأنها طرد اليهود، الذين غادروا مصر لأنهم - كما قال إحسان عبدالقدوس - مارسوا حقا إنسانيا في اختيار الوطن الذي يريدون العيش فيه.
ويصل جون برادلي إلى حد الظلم عندما يعتبر أن جمهورية يوليو هي التي جعلت كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» تعنيان الشيء ذاته لدى المصريين وان ذلك جزء من النهج العنصري المعروف باسم «العداء للسامية» ولو قرأ برادلي الخطاب الذي وجهه البارون إدمون دي روتشيلد، احد كبار مؤسسي الحركة الصهيونية والأب الأعلى للدولة العبرية، بكل المقاييس، لاعتبره، هو الآخر، معاديا للسامية.
يتحدث البارون دي روتشيلد في هذا الخطاب عن اتصالاته مع مؤسس الاتحاد الإسرائيلي العالمي شارل نيتر ومشاوراتهما حول «الحركة التي يجري حفزها في روسيا لدفع الإسرائيليين إلى فلسطين».
كتب هذا الخطاب في ابريل 1883 أي قبل قيام الدولة الإسرائيلية بأربعة وستين عاما، لكنه يشير إلى اليهود باسم الإسرائيليين، لأن الصهيونية الفرنسية، وقد كان البارون وشارل نيتر من أهم قياداتها، اعتمدت هذا الاسم، وشاع استخدامه في فرنسا وفي العالم، وخاصة في مصر التي كانت ثقافتها فرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت غالبية اليهود فيها متفرنسين وكانوا يشيرون إلى أنفسهم باسم الطائفة الإسرائيلية، قبل أن يسمع احد منهم (أو حتى يقبل) بوجود دولة اسمها إسرائيل. وهذا ما يشرحه المستشرق هنري لورانس في كتابه المهم «اختراع الأرض المقدسة».
ويرى برادلي أن هجوم عبد الناصر على اليهود وطرده إياهم (كذا) من مصر كان يستهدف شد الأنظار بعيداً عن سياساته الفاشلة، ويعتبر أن موقفه من الإخوان المسلمين كان مفتعلا، أيضاً، وللغرض ذاته. وهذا قول عجيب لأن رفض الإخوان لعبد الناصر، المستمر ليومنا هذا، يبين عمق التناقض بينهما.
ولا يكتفي برادلي بمشاهدة فيلم «عمارة يعقوبيان» بل يحاور مؤلف الرواية الدكتور علاء الأسواني الذي يذهب للقائه في احد المقاهي القائمة وسط العاصمة واسمه «الندوة الثقافية».
ورغم أن الأسواني يوافق برادلي على كثير من مكونات رؤيته لماضيها وحاضرها إلا أن الأسواني يصر على رفض الاستعمار، وإن جاء بخير للبلاد، في حين يفتخر برادلي بما أنجزه البريطانيون في مصر، وهو كثير من الناحية المادية وإن سعوا، دوماً، إلى خنق الروح الوطنية.
أربعة أمور مهمة
لكن برادلي يطرح أربعة أمور بالغة الأهمية. فهو ينقل عن المستشار عوض المر أن نقطتي الضعف في تاريخ ثورة يوليو هما غياب الديموقراطية وهزيمة يونيو العسكرية. وهذا رأي يجمع عليه غالبية المصريين.
وقد قابل كاتب هذه السطور المستشار عوض المر، لأول مرة، في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، حيث كان المر معبرا عن الحق المصري والرؤية العربية لقضايا المياه بوجه البريطانيين والإسرائيليين، نهاية الثمانينيات.
وعند الانتقال إلى العهد الحالي من تاريخ جمهورية يوليو يطرح برادلي وجهات نظر أخرى، شائعة بين مثقفي هذا العصر، عندما يشير إلى أن أسوا ما يحدث في مصر الآن هو إطلاق العنان لبرامج الخصخصة، دون ضابط أو رابط. واقتلاع التفكير العلمي، من جذوره، بادعاء التأسلم.
ويعتبر برادلي أن الخصخصة الجامحة تنزل من أعلى، بقوة مدمرة، والتعصب الأصولي يصعد من أسفل، بقوة مدمرة. وهذا صحيح. لكن غير الصحيح هو ما يقوله من أن الطبقة المتوسطة واقعة بين حجري الرحى هذين، وأنها في طريقها إلى الاختفاء.
وهذا الكلام غير صحيح، فالطبقة المتوسطة في مصر تنمو نموا متواصلا، عدد من يرسلون أبناءهم إلى مدارس غير حكومية يتزايد بقوة، عدد من يملكون السيارات الخاصة يتزايد، عدد من يرفضون المواصلات العامة، ليركبوا التاكسي ويدفعوا عشرة جنيهات في رحلة تكلفهم جنيها واحداً في المواصلات العامة، يتزايد بقوة، عدد من يرتادون المولات والمطاعم والمشارب ودور السينما والمسارح ومن يتدفقون على المصايف والمشاتي، ومن يذهبون لقضاء عطلاتهم في الخارج سواء في تركيا الرخيصة أو سويسرا الباهظة، في مالطة القريبة أو في الصين القصية، عدد كل هؤلاء يتزايد بقوة ملحوظة.
فهل حقا فشلت الثورة؟ الحقيقة ــ في رأيي ــ أنها نجحت. وانتهت، ولا بد، للتخلص منها، من ثورة جديدة، بدأت قبل ثلاثة أعوام وهي تمضي في طريقها، بتغيير تتراكم مؤشراته كل يوم، في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفي طبائع الأدوار التي تؤديها الطبقات والمؤسسات المختلفة.
ورغم الحوار الصاخب الذي يشق الطريق لهذه التحولات فهي تحولات سلمية وبطيئة وعملية.
لكن الرؤية الدراماتيكية التي يجنح إليها المؤلف برسم صورة لتحول «سوف» يحدث، متجاهلة ما حدث بالفعل. وما يحدث كل لحظة. وهو ينقل عن عالم النفس المشهور الدكتور أحمد عكاشة: إن البلاد ينتظرها مصير من اثنين: إما أن يقع انقلاب عسكري، أو يسيطر الإخوان المسلمون على السلطة.
قاعدة جوهرية
ولا يعتقد كاتب هذه السطور أن الإخوان يريدون الحكم، والسبب بسيط وهو أن لا احد سيكون قادرا على حكم مصر إلا برضا الجيش والشرطة والبيروقراطية الحكومية وهم يدركون أن هذه قاعدة جوهرية ولا سبيل إلى تجاهلها أو تحييدها.
ورغم أن الإخوان المسلمين يرددون دائما: إنهم دعوة سلمية لا تمارس العنف فالمؤلف ينقل عن كتاب «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» لباري روبين 2002 أن الجماعة تستخدم التخويف للسيطرة على الحياة الثقافية والاجتماعية وذلك باللجوء إلى رفع القضايا ضد خصومهم وبالخطابة النارية التي تخوفهم وإن كانت تمزج ذلك بالترغيب المتمثل في الأنشطة الأهلية التي تسد احتياجات الجمهور.
فهل هذا يؤهلهم لأن يشغلوا الفراغ الذي يمكن أن ينشأ إذا انفجرت هبة شعبية أسقطت النظام؟ بالقطع لا، فعندما يذكر الجيش كمرجع وطني أعلى يمكن اللجوء إليه إذا استحكم الخلاف بين مختلف الفرقاء، فإن الإخوان لا يكونون أقل حماسا من غيرهم للقبول بهذه المرجعية، بل إن تعليق الداعية الحقوقي الشهير على الانقلاب العسكري في موريتانيا في مقال له بالمصري اليوم، أشار إلى أنه، هو أيضا، داخل في الإجماع الوطني على هذه الفكرة.
وهذا يعني أن أي اضطراب خطير سوف يكون مبررا لأن يتطلع الجميع باتجاه الجيش كما فعلوا في يناير 1952 عندما احترقت القاهرة، وفي يناير 1977 عندما هددت التظاهرات النظام الاجتماعي، وعندما تكرر الأمر مع تظاهرات الأمن المركزي في الثمانينيات، وفي كل مرة كان الناس يستقبلون الجيش بالترحيب.
المصريون متصوفون
أما عن الإخوان المسلمين فإن المؤلف يرى أن رؤيتهم للإسلام تتناقض مع جوهر الرؤية المصرية التي هي، في الأساس، صوفية متسامحة، وهي رؤية أبقت الباب مفتوحا، طوال 14 قرناً لتعايش ودي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في مصر.
فإلى أين تمضي البلاد؟ ليس سوى مواصلة الإصلاح بخطوات صغيرة متلاحقة تتجه جميعا إلى الأمام، دون نكوص عن الديموقراطية. لماذا؟ يرى برادلي أن النظام لا يريد أن يترك السلطة تسقط من يده، بفعل أخطاء يواصل ارتكابها، ليلتقطها الإخوان المسلمون. وأن واشنطن سترتكب خطأ كبيرا إذا ساعدت جماعة أصولية على الوصول إلى الحكم في بلد لا تحتمل ثقافته التشدد الأصولي.
ويستعيد المؤلف المراحل الإستراتيجية العامة التي حددها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا للوصول إلى السلطة قائلاً: إنها ثلاث مراحل: الإعداد، وهو في الأساس دعائي يستهدف تطويع أذهان العامة للتجاوب مع توجهات الإخوان المسلمين. وبعد ذلك تأتي للتجاوب المرحلة التنظيمية بخلق الكوادر المؤمنة بفكر الإخوان وتوسيع عضوية الجماعة، والمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل أو الوثوب على السلطة.
من الواضح أن هذا كلام عمومي، شأن كل ما يصدر عن الإخوان، لكن سلاسل متواصلة من الأنشطة انبنت عليه. والإخوان المسلمون الآن في المرحلة الثانية، مرحلة التنظيم وغرس المبادئ والأفكار في عقول وسلوكيات أكبر عدد ممكن من المواطنين من مختلف الطبقات، خاصة الفقراء، ومن مختلف الأعمار خاصة الشباب، ومن مختلف مناطق مصر، خاصة المناطق الريفية.
وسط هذا العرض المسهب للوضع السياسي في مصر وآفاقه المحتملة يمر المؤلف بقضية جمال مبارك التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمام فصائل المعارضة في مصر، مرورا يمكن أن يقال عنه إنه عابر.
هو لا يتوقع من جمال مبارك، إذا أصبح رئيساً، أي خير للبلاد، ويقول: إن تعليمه الغربي لا يعني شيئا مؤكدا لمصلحة بلاده، ودليله على ذلك أن الرئيس السوري بشار الأسد أثار آمال الكثيرين عندما خلف أباه على حكم سوريا وأن هذا كله لم ينته إلى شيء يذكر.
لكن كاتب هذه السطور يرى أن إبرام سلام مع إسرائيل ضمن صيغة تعيد تركيا إلى لعب دور مركزي في المنطقة يمكن، إذا حدث، أن يغير طبيعة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط تغييرا يظل التاريخ يذكره لسنوات طويلة، وأقصد بذلك أن بشار الأسد، الذي يتحرك في هذا الاتجاه والذي أثبت أنه قادر على الحفاظ على مركزه الموروث على الساحة اللبنانية (بغض النظر عن سلبيات هذا الأمر) ليس سياسيا يستهان به.
لكن أهم ما يقوله المصريون الذين لا يتوقعون لجمال مبارك أن يرث السلطة في البلاد هو أن مصر تختلف عن سوريا، كما أنها تختلف عن ليبيا التي يقال إن زعيمها معمر القذافي يستعد لاستخلاف أحد أبنائه في حكمها، وتختلف عن المغرب التي انتقلت السلطة فيها من الملك الراحل الحسن الثاني إلى نجله العاهل الحالي محمد السادس في إطار ملكي يعتمد التوريث كآلية مركزية ضمن منظومته، وهو أمر يجعلنا نتساءل عن جدية المقارنة التي يعقدها المؤلف بين حالة جمال مبارك وحالة محمد السادس.
أسامة الغزولي
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/24-6-2008//406740_32-4_small.jpg
24/06/2008 يبدأ الصحافي جون برادلي رحلته المصرية بالدخول من بوابة الفن السينمائي الذي هو أجمل أشكال التأريخ للمأساة (أو الملهاة) الإنسانية وأكثرها ارتباطا بالقرن العشرين.
وفيلم «عمارة يعقوبيان» هو المدخل السينمائي الذي اختاره برادلي لتقديم أطروحته التي تقول إن ثورة يوليو وضعت مصر على الطريق الخطأ. وجمهورية مبارك هي التجلي الراهن لجمهورية يوليو. وما بني على باطل فهو باطل.
ومثل زكي باشا، الشخصية المحورية في فيلم «عمارة يعقوبيان» التي جسدها عادل إمام، فإن برادلي يرى أن انتقال مصر من الملكية إلى الجمهورية كان انتقالا من الجمال إلى القبح. ولأن البناية المعروفة باسم عمارة يعقوبيان، في رأي مؤلف الرواية التي بنى عليها الفيلم الدكتور علاء الأسواني وفي رأي جون برادلي، هي الرمز المجسد لمصر، فإن المقارنة تدور بين ما هي عليه الآن وما كانت عليه قبل 56 عامًا.
تمثل بناية يعقوبيان واحدة من 96 بناية في قلب العاصمة المصرية. ولو بالغنا في عدد سكان كل بناية منها، أيام الملكية، وقلنا إنه بلغ الألف ساكن فهذا يعني أن الحي الأفرنكي الذي تألفت منه هذه البنايات كان يضم 96 ألف إنسان، معظمهم من الأجانب، في بلد كان تعداده 22 مليونا. أي أن ساكني ذلك الجزء من العاصمة كانوا يمثلون أقل من جزء على مائتين وعشرين من أهل البلاد. وجنتهم الوارفة لم تكن تعني شيئا لمعظم المصريين.
لكن الرؤية التي يطرحها برادلي لا تخصه وليست من اختراعه فكثيرون في مصر يؤمنون بأنها كانت جنة الله في أرضه، أيام الملكية، وأن سقوط النظام الملكي وخروج الأجانب حولا الجنة إلى جحيم. فهذه هي رؤية بطل عمارة يعقوبيان. وهي التفسير الوحيد للنجاح الجماهيري الساحق لمسلسل الملك فاروق الذي عرض في رمضان الماضي، أو على الأقل، فهذه الرؤية هي التفسير الذي يعتمده برادلي لشعبية المسلسل وإن كان هناك من يقول إن الناس أعجبوا بالمسلسل لأنه من حق أي إنسان أن يطالع صور ماضيه بحرية وإذا حرم من هذه الحرية فإنه يشعر بلذة عظيمة عند استعادتها، من دون أن يعني ذلك رغبة حقيقية في أن يعيش في ماض يعرف أنه لن يعود.
ثورة فاشلة
لكن المؤلف يمسك بمعول ثقيل هو ذلك الفصل المكون من 48 صفحة بعنوان «ثورة فاشلة» ليدق به فوق رأس جمهورية يوليو التي يوحي إليك بأنها تتجسد لديه في مؤسسها جمال عبد الناصر رغم أن هدف هجومه الحاد هو، في الحقيقة، الرئيس الراهن للجمهورية.
ولهذا فهو يشير إلى يوم قيام الثورة بعبارة «ذلك اليوم المشؤوم، في الثالث والعشرين من يوليو 1952» وإذا كان صحيحا ما قاله إن خط جمهورية يوليو كان (على المستوى الدعائي فقط) خط عداء بالغ للأجانب فهو يربط ذلك بالعداء لليهود زاعما أن عبد الناصر طرد نصف يهود مصر.
والحقيقة أن عبد الناصر لم يطرد أحداً، صحيح أن هذا هو الشائع، لكن ما يتردد في جلسات المثقفين وأنصاف المثقفين شيء والحقيقة التاريخية شيء آخر. فالحقيقة التاريخية تعتمد على الوثائق وليست في العالم كله وثيقة تقول إن عبدالناصر طرد اليهود.
هو قال بعد اندحار عدوان 1956: إن وجودهم في مصر غير مرغوب فيه، لكنه لم يصدر قرارات ملزمة، ولم يتخذ أي إجراءات من شأنها طرد اليهود، الذين غادروا مصر لأنهم - كما قال إحسان عبدالقدوس - مارسوا حقا إنسانيا في اختيار الوطن الذي يريدون العيش فيه.
ويصل جون برادلي إلى حد الظلم عندما يعتبر أن جمهورية يوليو هي التي جعلت كلمتي «يهودي» و«إسرائيلي» تعنيان الشيء ذاته لدى المصريين وان ذلك جزء من النهج العنصري المعروف باسم «العداء للسامية» ولو قرأ برادلي الخطاب الذي وجهه البارون إدمون دي روتشيلد، احد كبار مؤسسي الحركة الصهيونية والأب الأعلى للدولة العبرية، بكل المقاييس، لاعتبره، هو الآخر، معاديا للسامية.
يتحدث البارون دي روتشيلد في هذا الخطاب عن اتصالاته مع مؤسس الاتحاد الإسرائيلي العالمي شارل نيتر ومشاوراتهما حول «الحركة التي يجري حفزها في روسيا لدفع الإسرائيليين إلى فلسطين».
كتب هذا الخطاب في ابريل 1883 أي قبل قيام الدولة الإسرائيلية بأربعة وستين عاما، لكنه يشير إلى اليهود باسم الإسرائيليين، لأن الصهيونية الفرنسية، وقد كان البارون وشارل نيتر من أهم قياداتها، اعتمدت هذا الاسم، وشاع استخدامه في فرنسا وفي العالم، وخاصة في مصر التي كانت ثقافتها فرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت غالبية اليهود فيها متفرنسين وكانوا يشيرون إلى أنفسهم باسم الطائفة الإسرائيلية، قبل أن يسمع احد منهم (أو حتى يقبل) بوجود دولة اسمها إسرائيل. وهذا ما يشرحه المستشرق هنري لورانس في كتابه المهم «اختراع الأرض المقدسة».
ويرى برادلي أن هجوم عبد الناصر على اليهود وطرده إياهم (كذا) من مصر كان يستهدف شد الأنظار بعيداً عن سياساته الفاشلة، ويعتبر أن موقفه من الإخوان المسلمين كان مفتعلا، أيضاً، وللغرض ذاته. وهذا قول عجيب لأن رفض الإخوان لعبد الناصر، المستمر ليومنا هذا، يبين عمق التناقض بينهما.
ولا يكتفي برادلي بمشاهدة فيلم «عمارة يعقوبيان» بل يحاور مؤلف الرواية الدكتور علاء الأسواني الذي يذهب للقائه في احد المقاهي القائمة وسط العاصمة واسمه «الندوة الثقافية».
ورغم أن الأسواني يوافق برادلي على كثير من مكونات رؤيته لماضيها وحاضرها إلا أن الأسواني يصر على رفض الاستعمار، وإن جاء بخير للبلاد، في حين يفتخر برادلي بما أنجزه البريطانيون في مصر، وهو كثير من الناحية المادية وإن سعوا، دوماً، إلى خنق الروح الوطنية.
أربعة أمور مهمة
لكن برادلي يطرح أربعة أمور بالغة الأهمية. فهو ينقل عن المستشار عوض المر أن نقطتي الضعف في تاريخ ثورة يوليو هما غياب الديموقراطية وهزيمة يونيو العسكرية. وهذا رأي يجمع عليه غالبية المصريين.
وقد قابل كاتب هذه السطور المستشار عوض المر، لأول مرة، في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، حيث كان المر معبرا عن الحق المصري والرؤية العربية لقضايا المياه بوجه البريطانيين والإسرائيليين، نهاية الثمانينيات.
وعند الانتقال إلى العهد الحالي من تاريخ جمهورية يوليو يطرح برادلي وجهات نظر أخرى، شائعة بين مثقفي هذا العصر، عندما يشير إلى أن أسوا ما يحدث في مصر الآن هو إطلاق العنان لبرامج الخصخصة، دون ضابط أو رابط. واقتلاع التفكير العلمي، من جذوره، بادعاء التأسلم.
ويعتبر برادلي أن الخصخصة الجامحة تنزل من أعلى، بقوة مدمرة، والتعصب الأصولي يصعد من أسفل، بقوة مدمرة. وهذا صحيح. لكن غير الصحيح هو ما يقوله من أن الطبقة المتوسطة واقعة بين حجري الرحى هذين، وأنها في طريقها إلى الاختفاء.
وهذا الكلام غير صحيح، فالطبقة المتوسطة في مصر تنمو نموا متواصلا، عدد من يرسلون أبناءهم إلى مدارس غير حكومية يتزايد بقوة، عدد من يملكون السيارات الخاصة يتزايد، عدد من يرفضون المواصلات العامة، ليركبوا التاكسي ويدفعوا عشرة جنيهات في رحلة تكلفهم جنيها واحداً في المواصلات العامة، يتزايد بقوة، عدد من يرتادون المولات والمطاعم والمشارب ودور السينما والمسارح ومن يتدفقون على المصايف والمشاتي، ومن يذهبون لقضاء عطلاتهم في الخارج سواء في تركيا الرخيصة أو سويسرا الباهظة، في مالطة القريبة أو في الصين القصية، عدد كل هؤلاء يتزايد بقوة ملحوظة.
فهل حقا فشلت الثورة؟ الحقيقة ــ في رأيي ــ أنها نجحت. وانتهت، ولا بد، للتخلص منها، من ثورة جديدة، بدأت قبل ثلاثة أعوام وهي تمضي في طريقها، بتغيير تتراكم مؤشراته كل يوم، في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفي طبائع الأدوار التي تؤديها الطبقات والمؤسسات المختلفة.
ورغم الحوار الصاخب الذي يشق الطريق لهذه التحولات فهي تحولات سلمية وبطيئة وعملية.
لكن الرؤية الدراماتيكية التي يجنح إليها المؤلف برسم صورة لتحول «سوف» يحدث، متجاهلة ما حدث بالفعل. وما يحدث كل لحظة. وهو ينقل عن عالم النفس المشهور الدكتور أحمد عكاشة: إن البلاد ينتظرها مصير من اثنين: إما أن يقع انقلاب عسكري، أو يسيطر الإخوان المسلمون على السلطة.
قاعدة جوهرية
ولا يعتقد كاتب هذه السطور أن الإخوان يريدون الحكم، والسبب بسيط وهو أن لا احد سيكون قادرا على حكم مصر إلا برضا الجيش والشرطة والبيروقراطية الحكومية وهم يدركون أن هذه قاعدة جوهرية ولا سبيل إلى تجاهلها أو تحييدها.
ورغم أن الإخوان المسلمين يرددون دائما: إنهم دعوة سلمية لا تمارس العنف فالمؤلف ينقل عن كتاب «الأصولية الإسلامية في السياسة المصرية» لباري روبين 2002 أن الجماعة تستخدم التخويف للسيطرة على الحياة الثقافية والاجتماعية وذلك باللجوء إلى رفع القضايا ضد خصومهم وبالخطابة النارية التي تخوفهم وإن كانت تمزج ذلك بالترغيب المتمثل في الأنشطة الأهلية التي تسد احتياجات الجمهور.
فهل هذا يؤهلهم لأن يشغلوا الفراغ الذي يمكن أن ينشأ إذا انفجرت هبة شعبية أسقطت النظام؟ بالقطع لا، فعندما يذكر الجيش كمرجع وطني أعلى يمكن اللجوء إليه إذا استحكم الخلاف بين مختلف الفرقاء، فإن الإخوان لا يكونون أقل حماسا من غيرهم للقبول بهذه المرجعية، بل إن تعليق الداعية الحقوقي الشهير على الانقلاب العسكري في موريتانيا في مقال له بالمصري اليوم، أشار إلى أنه، هو أيضا، داخل في الإجماع الوطني على هذه الفكرة.
وهذا يعني أن أي اضطراب خطير سوف يكون مبررا لأن يتطلع الجميع باتجاه الجيش كما فعلوا في يناير 1952 عندما احترقت القاهرة، وفي يناير 1977 عندما هددت التظاهرات النظام الاجتماعي، وعندما تكرر الأمر مع تظاهرات الأمن المركزي في الثمانينيات، وفي كل مرة كان الناس يستقبلون الجيش بالترحيب.
المصريون متصوفون
أما عن الإخوان المسلمين فإن المؤلف يرى أن رؤيتهم للإسلام تتناقض مع جوهر الرؤية المصرية التي هي، في الأساس، صوفية متسامحة، وهي رؤية أبقت الباب مفتوحا، طوال 14 قرناً لتعايش ودي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في مصر.
فإلى أين تمضي البلاد؟ ليس سوى مواصلة الإصلاح بخطوات صغيرة متلاحقة تتجه جميعا إلى الأمام، دون نكوص عن الديموقراطية. لماذا؟ يرى برادلي أن النظام لا يريد أن يترك السلطة تسقط من يده، بفعل أخطاء يواصل ارتكابها، ليلتقطها الإخوان المسلمون. وأن واشنطن سترتكب خطأ كبيرا إذا ساعدت جماعة أصولية على الوصول إلى الحكم في بلد لا تحتمل ثقافته التشدد الأصولي.
ويستعيد المؤلف المراحل الإستراتيجية العامة التي حددها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا للوصول إلى السلطة قائلاً: إنها ثلاث مراحل: الإعداد، وهو في الأساس دعائي يستهدف تطويع أذهان العامة للتجاوب مع توجهات الإخوان المسلمين. وبعد ذلك تأتي للتجاوب المرحلة التنظيمية بخلق الكوادر المؤمنة بفكر الإخوان وتوسيع عضوية الجماعة، والمرحلة الأخيرة هي مرحلة العمل أو الوثوب على السلطة.
من الواضح أن هذا كلام عمومي، شأن كل ما يصدر عن الإخوان، لكن سلاسل متواصلة من الأنشطة انبنت عليه. والإخوان المسلمون الآن في المرحلة الثانية، مرحلة التنظيم وغرس المبادئ والأفكار في عقول وسلوكيات أكبر عدد ممكن من المواطنين من مختلف الطبقات، خاصة الفقراء، ومن مختلف الأعمار خاصة الشباب، ومن مختلف مناطق مصر، خاصة المناطق الريفية.
وسط هذا العرض المسهب للوضع السياسي في مصر وآفاقه المحتملة يمر المؤلف بقضية جمال مبارك التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمام فصائل المعارضة في مصر، مرورا يمكن أن يقال عنه إنه عابر.
هو لا يتوقع من جمال مبارك، إذا أصبح رئيساً، أي خير للبلاد، ويقول: إن تعليمه الغربي لا يعني شيئا مؤكدا لمصلحة بلاده، ودليله على ذلك أن الرئيس السوري بشار الأسد أثار آمال الكثيرين عندما خلف أباه على حكم سوريا وأن هذا كله لم ينته إلى شيء يذكر.
لكن كاتب هذه السطور يرى أن إبرام سلام مع إسرائيل ضمن صيغة تعيد تركيا إلى لعب دور مركزي في المنطقة يمكن، إذا حدث، أن يغير طبيعة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط تغييرا يظل التاريخ يذكره لسنوات طويلة، وأقصد بذلك أن بشار الأسد، الذي يتحرك في هذا الاتجاه والذي أثبت أنه قادر على الحفاظ على مركزه الموروث على الساحة اللبنانية (بغض النظر عن سلبيات هذا الأمر) ليس سياسيا يستهان به.
لكن أهم ما يقوله المصريون الذين لا يتوقعون لجمال مبارك أن يرث السلطة في البلاد هو أن مصر تختلف عن سوريا، كما أنها تختلف عن ليبيا التي يقال إن زعيمها معمر القذافي يستعد لاستخلاف أحد أبنائه في حكمها، وتختلف عن المغرب التي انتقلت السلطة فيها من الملك الراحل الحسن الثاني إلى نجله العاهل الحالي محمد السادس في إطار ملكي يعتمد التوريث كآلية مركزية ضمن منظومته، وهو أمر يجعلنا نتساءل عن جدية المقارنة التي يعقدها المؤلف بين حالة جمال مبارك وحالة محمد السادس.
أسامة الغزولي