لمياء
06-21-2008, 06:09 AM
غالية .. قذرة .. مزدحمة وكونكريتية متبلدة المشاعر
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570005_small.jpg
• الازحام في الشوارع والتلوث البيئي
اعدادوتصوير: حنان الهاجري - نيويورك
الحياة في نيويورك مختلفة عن أي مكان اخر في العالم، وهذا أمر مسلّم به، ولا أعتقد أن هناك من يعترض عليه. ولكن هناك كثيراً من الأشياء التي تخلق هذا الاختلاف، وليست جميعها ايجابية أو مبهجة. هنا العديد من الأمور التي تزعج أهل المدينة بخصوص العيش هنا، منها ما أصبح مألوفا لدرجة التعود! ولكن في اخر اليوم عندما نختم يومنا النيويوركي الحافل بالأحداث والأشخاص هناك ما يشبه الرضا الجماعي، وربما الامتنان لكوننا نعيش في واحدة من أعظم مدن العالم. ولكن ولأن الحياة ليست وردية دائما، ولا يجب أن تكون كذلك حتى نستطيع تقدير ما نملك، وأيضا لأن لكل منّا كنيويوركيين دائمين أو مؤقتين لائحة تشبه القصيدة الشعرية الهجائية، نظمناها للتنفيس عن احباطنا، غضبنا، خيبة أملنا أو انزعاجنا المؤقت ونتبادل تفاصيلها بين بعضنا البعض بين حين وآخر، قررت أن اشارك العالم بتفاصيل لائحتي الخاصة عن أكثر ما أكره في مدينتي .نيويورك. هذه اللائحة يجب ألا تفسر تحت أي ظرف على انها لائحة كره للمدينة، انها لائحة تختص بتفاصيل أكرهها بخصوصها فقط.
إن لم تكن ذئباً
أكاد أجزم بأن الثقافة التشكيكية التنافسية المبنية على مقولة ان لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب كانت قد ولدت من رحم هذه المدين،ة ونتجت عن التعاطي الاجتماعي بين سكانها . معظم البشر هنا يعيشون حالة «أنا ومن بعدي الطوفان» وهي حالة تستعصي على العلاج بالاساليب التقليدية من لطف وحسن خلق. من المهم أن نعرف ان لكل من المادة والقوة بشقيها المتمثلين في النفوذ والسلطة والسعي المحموم للحصول على أكبر قدر متاح منهم دور كبير في خلق هذا السباق الذي يتعدي حدود التنافس المحمود ويفتقد لأبسط قواعد الخصومة الشريفة. ان زميلك في الدراسة أو العمل أو حتى الرجل العادي في الشارع جميعهم يعتقدون بأن اللقمة المتاحة لك مباحة لهم ان هم بذلوا جهدا أو حتى انتهجوا مسلكا اخر يحرمك منها، ويمنحهم اياها. الناس هنا لا يرونك إلا اذا كنت مهما بالنسبة لمصلحتهم أو رفاهيتهم، فأنت ترتدي طاقية الاخفاء ولن يختاروا رؤيتك إلا اذا كنت ذا فائدة بالنسبة لهم. أعلم بأن التعميم خاطئ في معظم الأحيان، ولكن شراسة الحياة هنا تتحكم في الطريقة التي يتم التعامل معك بها. ولا أنسى الاستغلال المفرط من قبل التجار وأصحاب المحلات التجارية هنا، خاصة في ما يتعلق بالسياح الذين يقعون فريسة للجشع التجاري المغلف بالرأسمالية والتنافس المطلوب، لتحقيق هامش أعلى للربح. كل التعاملات المالية يجب أن تتم بحذر، وعلى الانسان هنا أن يقدم الشك على حسن النية في التعامل مع الاخرين، وعليك ان تتذكر شيئا مهما هنا وهو ان لا أحد يهتم!
من بشر أو مبادئ ليسوا الا الثمن كلنا نتراكض للوصول الى هدف معين، وما يسقط أو يتخلف No one cares! الذي يدفعه الكثيرون للوصول.
سلة مهملات كبيرة
شوارع مدينة نيويورك مليئة بكل شيء، منها ما يتميز بطابع فني، ومنها ما يجعلك تشعر بالغثيان. ففي كل مساء تتجمع على الأرصفة المقابلة للمطاعم التي تنتشر في كل زاوية وشارع العشرات من أكياس القمامة البيضاء أو السوداء التي تمتلأ ببقايا الطعام وتزدان هذه اللوحة بألوان أخرى عندما تتبرع الكلاب التي تملأ المدينة بقضاء حاجتها على هذه الأكياس او بالقرب منها. الكلاب هذه أيضا تسبب مشاكل كبيرة للمشاة، فأصحابها يعزفون في كثير من الأحيان عن رفع مخلفاتها عن الأرض معرضين أنفسهم لدفع غرامة مالية تبلغ مائة دولار، ولكن تدرس المدينة رفع هذه الغرامة الى ضعف هذا المبلغ من أجل المحافظة على النظافة العامة. نقص النظافة في الأماكن العامة لا يقتصر على الشوارع فهناك محطات المترو التي تعج بالفئران التي تستطيع مشاهدتها على بعد أمتار منك، وانت تنتظر القطار حامدا الله انها لا تستطيع القفز كالقطط! الفئران أيضا كانت قد تسببت وما زالت تتسبب في اغلاق عدة المطاعم في المدينة بسبب انتشارها بالعشرات في مطابخه مثل سرينديبتي 3 وجون بيتزا وبنك بيري للمثلجات وغيرها.
الفئران هنا بحجم السناجب وهي بطبيعة الحال جبانة وتسرع باتجاه مخابئها فور اكتشافها، ولكن أعدادها في المدينة تصل الى أرقام مخيفة، فهناك من يقّدر أن هناك فأراً لكل شخص في نيويورك!
أي أن هناك الملايين منها. شخصيا ولله الحمد لم يحصل لي شرف التعرف بشكل قريب على أحدها. سوى تلك التي تحييني صباحا من مخابئها من أسفل الخطوط الحديدية الخاصة بقطار المترو أو السبواي. هناك أيضا مشكلة القمل الذي أعلنت احدى الدراسات التي نشرت هنا أخيرا انه ينتشر على مقاعد قطار السبواي، وذلك نظرا لأن هناك العديد من مشردي المدينة ممن يتخذون من هذه المقاعد سريرا لهم في المساء، خاصة ان السبواي يعمل دون توقف ليلا أو نهارا.
كذلك عندما يسقط المطر، تختلط رائحة القمامة في الشوارع مع رائحة مخلفات الكلاب السائلة لتنتج لنا عطرا فريدا من نوعه يصيبك بالصداع خلال أقل من دقيقة نيويوركية، بالاضافة الى كل ما سبق هناك عادة نيويوركية أصيلة ومقززة، وهي البصق في الطريق العام! لذا يجب علينا أن ننتبه إلى مثل هذه الأمور أيضا لدرجة انني أشعر أحيانا أن على المدينة أن تضيف كبائن تعقيم طبية عند تقاطعات الشوارع المهمة حتى نتخلص من الشعور.
زحمة يا دنيا
في صباح كل يوم عمل يتوجه ملايين البشر الى منهاتن قادمين ضواحي المدينة الأخرى أو من نيوجيرسي أو كونيتكيت أو المدن الشمالية من ولاية نيويورك. كل هؤلاء يتنافسون على مساحة محدودة تضيق بهم جميعا، وتخلق اختناقا بشريا ومروريا يكاد في كثير من الأحيان أن ينفجر بهم جميعا لو كان هذا خيارا متاحا. لذا عندما يصطدم بك أحدهم في الشارع لا تتوقع أن تسمع اعتذارا أو حتى أن تراه يقف للحظة للتأكد مما حدث. وعندما تقرر أن تستخدم وسائل المواصلات العامة يجب عليك أن تتهيأ لاختراق مساحتك الخاصة، فلا أحد يستطيع أن يضمن لك كرسيا في باص أو قطار أنفاق، أو حتى مساحة ضئيلة تقف عليها لا يتطفل عليك فيها جارك الذي يقف أو يجلس بجانبك. وفي المقاهي و المطاعم توّقع أن يستمع الاخرون إلى تفاصيل حديثك، لأن كل مساحة متوافرة تم شغلها بالمزيد من الطاولات والكراسي التي يتنافس على الجلوس عليها العديد من الزبائن.
وعليك أن تتحلى يالصبر عندما تريد شراء شيء من المتاجر، والاّ تعتقد أن باستطاعتك تجاوز الطابور الطويل في الصيدلية أو مكتب البريد أو حتى غرفة الطوارىء في المستشفى، ففي نيويورك عليك أن تحمد الله أن هناك اختراعا اسمه طابور أتى لينظم كل هذه الملايين واحتياجاتها التي تكاد تجنح للفوضى. من أبسط الأمثلة التي تعبر عن الحالة التي وصل اليها الانفجار السكاني والمادي أيضا في نيويورك يتمثل في تصميم مواقف السيارات. فهناك مواقف سيارات أرضية حولت الى مواقف بطبقات لا عن طريق البناء المسلح، بل عن طريق التكنولوجيا التي تسمح بصف السيارات فوق بعضها البعض كما لو كانت حبات من السردين داخل علبة معدنية! مما يذكرني بطبقات الفنان الكبير سعد الفرج التي تحدثت عنها في مسرحية حامي الديار. ويطال الازدحام هنا السماء أيضا، فالمباني الشاهقة تمنع فضاء الله من أن ينشر بساطه بامتداد أنظارنا. وكنا سنكون محرومين بالكامل من السماء والهواء النقي والمساحة الخضراء لولا وجود نعمة تسمى سنترال بارك التي نذود بها في عطل نهاية الاسبوع حسب تساهيل الطقس.
الغلاء
نيويورك ليست المدينة الأغلى في العالم، ولكن هذا لا يعني أبدا أن تكاليف المعيشة هنا قد تحررت من أزمة الغلاء التي تتفاقم هنا يوميا بشكل مخيف. فلكي تعيش هنا بكرامة ولا أقول برفاهية عليك أن تدفع ثمنا باهظا لكل شيء. تعتبر منهاتن من أغلى ضواحي المدينة ونظرا لكوني من سكانها فأنا أكثر اطلاعا على المعايير المادية المطلوية هنا بالمقارنة مع أي ضاحية أخري، لذا سألخص أكثر التكاليف أزعاجا للسكان هنا خاصة ما يتعلق منها بأسعار العقار والاجارات السكنية، وما يرافقها من التزامات مادية. أسعار العقارات في منهاتن خيالية دون شك بالمقارنة مع أسعارها في مدن عالمية أخرى، ولكن معظم السكان هنا من المؤجرين لا الملاّك وهو أمر يتسبب في تفاقم المشكلة نظرا لتجاوز معدلات الطلب عن العرض، لأن المدينة محط رحال الملايين الذين يحلمون بالعيش هنا نظرا لفرص العمل التي توفر مميزات مادية خيالية بالمقارنة مع بقية الولايات. لذا ان أردت أن تسكن في منهاتن فعليك أن تدفع الثمن المناسب لهذه الرفاهية المناسبة، وهذا الثمن عادة ما يبدأ من 1600 الى 2000 دولار لتأجير ستوديو صغير الحجم.
أما ان كنت من أصحاب الأسر فتوقع أن تدفع ما بين ألفين وأربعة آلاف دولار لتأجير شقة صغيرة مكونة من صالة وغرفة أو اثنتين، هذا بالاضافة الى فواتير أخرى تتراكم، خاصة ان أردت تأجير موقف لسيارتك. إيجارات المواقف هذه تبدأ من 300 دولار شهريا، بالاضافة الى الضريبة وتصل في كثير من الأحيان الى ألف دولار شهريا، وذلك حسب موقع كراج السيارات وتفاصيل الأمن المتوافر فيه مثل كاميرات المراقبة وغيرها. هناك أيضا تكاليف التسوق والأكل في الخارج وارتفاع أسعار خدمات التاكسي وتذاكر السينما والمسرح وغيرها من وسائل الترفية فخلال السنوات القليلة الماضية زادت الشركات التي تملك دور السينما أسعار التذاكر عدة مرات خلال فترات زمنية متقاربة تكاد لا تتجاوز الأشهر الثلاثة في معظم الأحيان حتى أصبحت ميزانية الذهاب للسينما تثقل كاهل الأسر.
موسيقى تصويرية
الضوضاء هنا تعتبر من الأمور المسلّم بها، والتي اعتدت عليها لدرجة انها أصبحت موسيقى تصويرية للحياة هنا. فكثيرا ما يسألني الأهل والأصدقاء أثناء تبادلي الحديث معهم عبر الهاتف عن الأصوات التي تصلهم عبر الأثير لأجدني أتساءل لبضع ثوان عما يعنون. فصوت سيارة الاسعاف بات مألوفا لدرجة انني لم أعد أميزه عن بقية الأصوات في الشارع. ولكن هناك المزيد، فأصوات مزامير السيارات ومحركات الشاحنات والباصات ونباح الكلاب والصفير الناتج عن احتكاك عربات قطار السبواي بحديد السكك المخصصة للقطار، وحتى أصوات أحاديث ملايين البشر وخطواتهم والموسيقى الصاخبة عادة في المطاعم والمقاهي وغيرها تتجمع لتخلق غيمة من التلوث السمعي الذي يكاد يخرم طبلات الاذن البشرية أو يتسبب في ايذائها على الأقل. ولكي أقرّب الصورة أكثر لمخيلة القاريء الكريم سأكتفي بقول أنه من غير المستغرب أن تصحو في الصباح الباكر على صوت طائرة هليكوبتر يشعرك بان هذه الطائرة ستقتحم عليك نافذة غرفة نومك كما حدث معي عدة مرات! ولكن وبكل صراحة فانني في كل مرة كنت أعود للنوم لعلمي انها طائرة اما تابعة لجهة أمنية هنا أو لمحطة تلفزيونية تنقل على الهواء مباشرة خبر سقوط عامل من أعلى مبنى قيد الانشاء أو تبلغ المشاهدين عن اخر تطورات أحوال الطقس خارج نافذتي في الطابق العشرين!
وحدة بالملايين
معظم السكان هنا أتوا للدراسة أو العمل لذا أعتبرهم بأنهم سكان رُحل - بضم الراء - وحتى اولئك الذين تبنوا المدينة لعقد من الزمن أو أكثر تجدهم بعد ذلك ينشدون الرحيل الى جهة أخرى وهذه سنة الحياة هنا. ولكن هذا الأمر يجعل من فرص تكوين صداقات طويلة الأمد صعبة التوافر، فنحن اما قادمون واما راحلون عن هذه المدينة ومن يستقر هنا لسنوات تجده يهرب منها في أشهر الصيف على الأقل. في المدينة يسكن ملايين البشر، ولكن أغلبهم وحيدون تشلهم المدينة أو تحيدهم في معظم الاوقات، وهو أمر غريب ويستحق الدراسة.
هناك فردية طاغية وربما خوف من الاخرين أيضا. فعندما تمشي في شوارع نيويورك تلاحظ ان لا أحد ينظر مباشرة للآخرين، هم مجرد قطع أخرى مكلمة للمشهد العام، لا أحد يبتسم أو يبادر للتعرف على من حوله في الأماكن العامة الا في ما ندر، وخير دليل هو قطار المترو، فكلنا مشغولون ومتأزمون وضائعون في أفكارنا الخاصة. هنا لا يقرأ كثيرون في المترو على العكس مما قد يظنه البعض أو يراهن عليه.
هناك نسبة معقولة من قراء المترو ولكنهم لا يشكلون أغلبية،فالأغلبية تتكون من جموع البشر الذين ينظرون الى لا شيء وأفكارهم تسبح في الهموم اليومية شاخصين الى الاعلانات الملصقة داخل القطار والتي تعد بشعر طويل وغزير أو بكسب قضية ضد أصحاب المباني السكنية التي تسببت نسب الرصاص فيها بمشاكل صحية للأطفال، بينما تطل أسنان المذيع البيضاء من خلف ابتسامته المصطنعة في بوستر يعلو الرؤوس في قطار مترو متخم بالبشر والأفكار الهائمة من أجل أن يتفادى أصحابها النظر في عيون من يقف على بعد سنتيمتر واحد منهم. وهنا أيضا يبدل الناس مواقع سكنهم كما يبدلون أحذيتهم! وهذا أمر طبيعي في ظل التسارع المخيف في أسعار الاجارت والعقارات، لذا خلقت لدينا ظاهرة الهجرة للضواحي الأخرى الأرخص. أما الجيران فحدث ولا حرج، فلا أحد يعرف جيرانه بالاسم أو حتى بالشكل الا فيما ندر، وان استقر في مسكنه لسنوات لذا لا تعّول كثيرا على التعرف عليهم عن قرب فأقصى ما يمكن أن تتبادله معهم هو التحية في المصعد، هذا ان كنت محظوظا برؤيتهم بشكل دوري!
نمط استهلاكي
لا يوجد كثير من التفاصيل النيويوركية التي أستطيع مقارنتها بتفاصيلنا الكويتية، ولكن أحد الأمور اللافتة للنظر هو انتشار ثقافة الاستهلاك والاتجاه الى متاجر معينة بسبب ان هناك من يصفها بكونها الأحدث أو "ال" المتجر الذي يوفر اخر ما وصلت اليه خطوط الموضة. ولا يتعلق الامر بموضة الأزياء فقط، فهنا لدينا موضة المشتريات المنزلية والطعام. فقبل عامين أو اكثر بقليل افتتح متجر تريدير جو أو التاجر جو في الفيلج وبدأت الطوابير تتشكل أمام بابه من أجل الدخول منذ لحظة الافتتاح. واليوم هناك طابور طويل أمام الكاشير في هذا المتجر يصل لعدة أمتار فقط من أجل أن تدفع قيمة مشترياتك التي تتوفر هنا بأسعار أرخص وغالبا بجودة أعلى من أي مكان آخر. ولكن ما يزعجني حقا هو السمعة التي تطلق على هذه الأماكن، التي إن لم تشتر منها ستخرج عن ملة النيويوركيين! تماما كما يحدث في الكويت بخصوص مطاعم البيرغر ومخابز الحلويات الغربية. وهناك أيضا "الهول فوودز" وهو اختصار للهولسوم فوود اي الأكل الصحي الذي يقع أحد أكبر أفرعه في يونيون سكوير على بعد خطوات من تريدر جوز، وهذا المتجر يحسب لمصلحته ثورة الأكياس الورقية التي حلت محل الأكياس البلاستيكية. ولكن لا تحاول أن تذهب هناك خلال فترة الغداء أو في نهاية اليوم، فنصف المدينة تتسوق هناك في تلك الأوقات. أما ما يتعلق بموضة الأزياء ففي فمي ماء ولا أعتقد أن الأمر بحاجة للاسهاب. هناك أيضا "هبة" المقاهي والمخابز والنوادي الصحية وغيرها، لكن ما أجده مزعجا حقا هو التوقعات التي يحملها الكثير هنا بخصوص الربط بين مكانتك الاجتماعية والاقتصادية وبين الدكان الذي تشتري منه البيض! أي اننا نهرب من العقلية الاستهلاكية الشرهة وغير المنظمة في الكويت لنجدها مشرعة الابواب والنوافذ في نيويورك. وبالطبع فان التوقعات هذه لم تغرني او تدفعني لكي أغّير نمطي الاستهلاكي قيد أنملة، ولكنني آسف على ضياع طاقات بشرية في معمعة تخمة الاستهلاك ونزعته المتعاظمة .
التلوث
اعلان جميل ومعبر في قطار المترو أو السبواي كما نسميه يوضح رسمات لبصمات قدم انسان بأحجام مختلفة وبألوان تتدرج من الأسود الى الأخضر مرورا بالرمادي وذلك كلما صغر حجم طبعة القدم تلك. هذا اعلان يشجع على تقليل البصمة الكربونية للانسان، ومن المعروف ان نيويورك تعاني من التلوث مما دفع الحكومة هنا لتبني العديد من المشاريع الصديقة للبيئة مثل خطة تحويل الباصات وسيارات الاجرة الصفراء الشهيرة الى أخرى هايبريد خلال الاعوام القليلة القادمة، ومنع التدخين داخل الأماكن العامة ومنها المطاعم والحانات. أو محاولة فرض ضريبة لدخول مناطق معينة في منهاتن في وقت الذروة كما هو حاصل الان في لندن وذلك لتقليل الازدحام والثلوث في ذات الوقت. هناك خطر كبير يسببه التلوث الناتج من عوادم السيارات في المدينة على الأطفال حديثي الولادة وذلك حسب دراسة نشرت مؤخرا، كما لا نستطيع ان نغفل خطر تلوث المياه خاصة بعد أن عرضت احدى محطات التلفزة المحلية هنا قبل ما يقارب العامين تقريرا مصورا عن ادارة المياه المركزية التي ما فتئت تعلن عن نظافة المياه وسلامتها، ولكن تم تصوير شاحنات وهي تقوم بتوصيل شحنات كبيرة من المياه المعدنية لاستهلاكها من قبل العاملين في تلك الادارة.
ولا أنسى الخطر المحدق بنا بسبب الاندين بوينت وهو معمل الطاقة النووية في بوكانان في الشمال الولاية، خاصة ان هناك ما يقارب من العشرين مليون شخص ممن يسكنون على مسافة خمسين ميلا من هذا المعمل. وقد بدأت الاصوات المعارضة لوجوده بالقرب من المناطق السكنية بالارتفاع منذ اواخر سبعينات القرن الماضي ولكن باءت كل هذه المطالبات بالفشل.
علب كبريت
سواء قررت أن تستأجر سكنك أم تشتريه النتيجة ستكون واحدة وهي أنك ستتمتع بمساحة محدودة جدا لا تكاد تسمح لك بفرش جناحيك حتى وان دفعت مئات الاف من الدولارات. تصميم الشقق السكنية في الغالب اقتصادي لمعالجة أزمة المساحة في المدينة، وتداعيات هذا الامر جدية.
فان كنت من عشاق التسوق، لن تكون لديك مساحة محترمة من الخزانات، أو كنت من عشاق اقتناء الكتب فبعد سنوات قليلة ستجد نفسك في معضلة وقد تراكمت الكتب في كل زاوية في مسكنك. أما ان كان لديك أطفال فستواجه مشكلة أكبر لأنهم سيحرمون من اللعب والانطلاق في علب كبريت نطلق عليها جزافا اسم منزل.
ثلج وبرد وريح
طقس نيويورك، وما أدراك ما طقس نيويورك!
الشتاء مثلج يحرمنا الخروج، وان اضطررنا لفعل ذلك بدأت معركة خوض بحر من الثلج الذي يرتفع لعدة أقدام من الأرض. وان سقط المطر اختلط برائحة المخلفات الحيوانية السائلة في الشوارع ونتجت رائحة من الممكن أن تصيب القاصي والداني بصداع نصفي لا علاج له ، ان اشتد الحر صيفا طلبت السلطات في المدينة من كبار السن أن لا يخرجوا في ذلك اليوم حتى لا يفقدوا حياتهم بسبب الحرارة أو ضربة شمس. ولا أنسى أن الربيع أخذ يتأخر بالقدوم شيئا فشيئا خلال الأعوام القليلة الماضية، وأخذت مدته تقصر في الوقت ذاته، مسلما امانته لصيف عادة ما يكون حارا نختنق فيه عندما تكل مكائن التكييف في السبواي عن العمل، أو نتعرض لقطع كامل للتيار الكهربائي في أحياء كاملة من المدينة...أعتقد اننا بحاجة لحملة "ترشيد"!
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570004_small.jpg
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570017_small.jpg
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570005_small.jpg
• الازحام في الشوارع والتلوث البيئي
اعدادوتصوير: حنان الهاجري - نيويورك
الحياة في نيويورك مختلفة عن أي مكان اخر في العالم، وهذا أمر مسلّم به، ولا أعتقد أن هناك من يعترض عليه. ولكن هناك كثيراً من الأشياء التي تخلق هذا الاختلاف، وليست جميعها ايجابية أو مبهجة. هنا العديد من الأمور التي تزعج أهل المدينة بخصوص العيش هنا، منها ما أصبح مألوفا لدرجة التعود! ولكن في اخر اليوم عندما نختم يومنا النيويوركي الحافل بالأحداث والأشخاص هناك ما يشبه الرضا الجماعي، وربما الامتنان لكوننا نعيش في واحدة من أعظم مدن العالم. ولكن ولأن الحياة ليست وردية دائما، ولا يجب أن تكون كذلك حتى نستطيع تقدير ما نملك، وأيضا لأن لكل منّا كنيويوركيين دائمين أو مؤقتين لائحة تشبه القصيدة الشعرية الهجائية، نظمناها للتنفيس عن احباطنا، غضبنا، خيبة أملنا أو انزعاجنا المؤقت ونتبادل تفاصيلها بين بعضنا البعض بين حين وآخر، قررت أن اشارك العالم بتفاصيل لائحتي الخاصة عن أكثر ما أكره في مدينتي .نيويورك. هذه اللائحة يجب ألا تفسر تحت أي ظرف على انها لائحة كره للمدينة، انها لائحة تختص بتفاصيل أكرهها بخصوصها فقط.
إن لم تكن ذئباً
أكاد أجزم بأن الثقافة التشكيكية التنافسية المبنية على مقولة ان لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب كانت قد ولدت من رحم هذه المدين،ة ونتجت عن التعاطي الاجتماعي بين سكانها . معظم البشر هنا يعيشون حالة «أنا ومن بعدي الطوفان» وهي حالة تستعصي على العلاج بالاساليب التقليدية من لطف وحسن خلق. من المهم أن نعرف ان لكل من المادة والقوة بشقيها المتمثلين في النفوذ والسلطة والسعي المحموم للحصول على أكبر قدر متاح منهم دور كبير في خلق هذا السباق الذي يتعدي حدود التنافس المحمود ويفتقد لأبسط قواعد الخصومة الشريفة. ان زميلك في الدراسة أو العمل أو حتى الرجل العادي في الشارع جميعهم يعتقدون بأن اللقمة المتاحة لك مباحة لهم ان هم بذلوا جهدا أو حتى انتهجوا مسلكا اخر يحرمك منها، ويمنحهم اياها. الناس هنا لا يرونك إلا اذا كنت مهما بالنسبة لمصلحتهم أو رفاهيتهم، فأنت ترتدي طاقية الاخفاء ولن يختاروا رؤيتك إلا اذا كنت ذا فائدة بالنسبة لهم. أعلم بأن التعميم خاطئ في معظم الأحيان، ولكن شراسة الحياة هنا تتحكم في الطريقة التي يتم التعامل معك بها. ولا أنسى الاستغلال المفرط من قبل التجار وأصحاب المحلات التجارية هنا، خاصة في ما يتعلق بالسياح الذين يقعون فريسة للجشع التجاري المغلف بالرأسمالية والتنافس المطلوب، لتحقيق هامش أعلى للربح. كل التعاملات المالية يجب أن تتم بحذر، وعلى الانسان هنا أن يقدم الشك على حسن النية في التعامل مع الاخرين، وعليك ان تتذكر شيئا مهما هنا وهو ان لا أحد يهتم!
من بشر أو مبادئ ليسوا الا الثمن كلنا نتراكض للوصول الى هدف معين، وما يسقط أو يتخلف No one cares! الذي يدفعه الكثيرون للوصول.
سلة مهملات كبيرة
شوارع مدينة نيويورك مليئة بكل شيء، منها ما يتميز بطابع فني، ومنها ما يجعلك تشعر بالغثيان. ففي كل مساء تتجمع على الأرصفة المقابلة للمطاعم التي تنتشر في كل زاوية وشارع العشرات من أكياس القمامة البيضاء أو السوداء التي تمتلأ ببقايا الطعام وتزدان هذه اللوحة بألوان أخرى عندما تتبرع الكلاب التي تملأ المدينة بقضاء حاجتها على هذه الأكياس او بالقرب منها. الكلاب هذه أيضا تسبب مشاكل كبيرة للمشاة، فأصحابها يعزفون في كثير من الأحيان عن رفع مخلفاتها عن الأرض معرضين أنفسهم لدفع غرامة مالية تبلغ مائة دولار، ولكن تدرس المدينة رفع هذه الغرامة الى ضعف هذا المبلغ من أجل المحافظة على النظافة العامة. نقص النظافة في الأماكن العامة لا يقتصر على الشوارع فهناك محطات المترو التي تعج بالفئران التي تستطيع مشاهدتها على بعد أمتار منك، وانت تنتظر القطار حامدا الله انها لا تستطيع القفز كالقطط! الفئران أيضا كانت قد تسببت وما زالت تتسبب في اغلاق عدة المطاعم في المدينة بسبب انتشارها بالعشرات في مطابخه مثل سرينديبتي 3 وجون بيتزا وبنك بيري للمثلجات وغيرها.
الفئران هنا بحجم السناجب وهي بطبيعة الحال جبانة وتسرع باتجاه مخابئها فور اكتشافها، ولكن أعدادها في المدينة تصل الى أرقام مخيفة، فهناك من يقّدر أن هناك فأراً لكل شخص في نيويورك!
أي أن هناك الملايين منها. شخصيا ولله الحمد لم يحصل لي شرف التعرف بشكل قريب على أحدها. سوى تلك التي تحييني صباحا من مخابئها من أسفل الخطوط الحديدية الخاصة بقطار المترو أو السبواي. هناك أيضا مشكلة القمل الذي أعلنت احدى الدراسات التي نشرت هنا أخيرا انه ينتشر على مقاعد قطار السبواي، وذلك نظرا لأن هناك العديد من مشردي المدينة ممن يتخذون من هذه المقاعد سريرا لهم في المساء، خاصة ان السبواي يعمل دون توقف ليلا أو نهارا.
كذلك عندما يسقط المطر، تختلط رائحة القمامة في الشوارع مع رائحة مخلفات الكلاب السائلة لتنتج لنا عطرا فريدا من نوعه يصيبك بالصداع خلال أقل من دقيقة نيويوركية، بالاضافة الى كل ما سبق هناك عادة نيويوركية أصيلة ومقززة، وهي البصق في الطريق العام! لذا يجب علينا أن ننتبه إلى مثل هذه الأمور أيضا لدرجة انني أشعر أحيانا أن على المدينة أن تضيف كبائن تعقيم طبية عند تقاطعات الشوارع المهمة حتى نتخلص من الشعور.
زحمة يا دنيا
في صباح كل يوم عمل يتوجه ملايين البشر الى منهاتن قادمين ضواحي المدينة الأخرى أو من نيوجيرسي أو كونيتكيت أو المدن الشمالية من ولاية نيويورك. كل هؤلاء يتنافسون على مساحة محدودة تضيق بهم جميعا، وتخلق اختناقا بشريا ومروريا يكاد في كثير من الأحيان أن ينفجر بهم جميعا لو كان هذا خيارا متاحا. لذا عندما يصطدم بك أحدهم في الشارع لا تتوقع أن تسمع اعتذارا أو حتى أن تراه يقف للحظة للتأكد مما حدث. وعندما تقرر أن تستخدم وسائل المواصلات العامة يجب عليك أن تتهيأ لاختراق مساحتك الخاصة، فلا أحد يستطيع أن يضمن لك كرسيا في باص أو قطار أنفاق، أو حتى مساحة ضئيلة تقف عليها لا يتطفل عليك فيها جارك الذي يقف أو يجلس بجانبك. وفي المقاهي و المطاعم توّقع أن يستمع الاخرون إلى تفاصيل حديثك، لأن كل مساحة متوافرة تم شغلها بالمزيد من الطاولات والكراسي التي يتنافس على الجلوس عليها العديد من الزبائن.
وعليك أن تتحلى يالصبر عندما تريد شراء شيء من المتاجر، والاّ تعتقد أن باستطاعتك تجاوز الطابور الطويل في الصيدلية أو مكتب البريد أو حتى غرفة الطوارىء في المستشفى، ففي نيويورك عليك أن تحمد الله أن هناك اختراعا اسمه طابور أتى لينظم كل هذه الملايين واحتياجاتها التي تكاد تجنح للفوضى. من أبسط الأمثلة التي تعبر عن الحالة التي وصل اليها الانفجار السكاني والمادي أيضا في نيويورك يتمثل في تصميم مواقف السيارات. فهناك مواقف سيارات أرضية حولت الى مواقف بطبقات لا عن طريق البناء المسلح، بل عن طريق التكنولوجيا التي تسمح بصف السيارات فوق بعضها البعض كما لو كانت حبات من السردين داخل علبة معدنية! مما يذكرني بطبقات الفنان الكبير سعد الفرج التي تحدثت عنها في مسرحية حامي الديار. ويطال الازدحام هنا السماء أيضا، فالمباني الشاهقة تمنع فضاء الله من أن ينشر بساطه بامتداد أنظارنا. وكنا سنكون محرومين بالكامل من السماء والهواء النقي والمساحة الخضراء لولا وجود نعمة تسمى سنترال بارك التي نذود بها في عطل نهاية الاسبوع حسب تساهيل الطقس.
الغلاء
نيويورك ليست المدينة الأغلى في العالم، ولكن هذا لا يعني أبدا أن تكاليف المعيشة هنا قد تحررت من أزمة الغلاء التي تتفاقم هنا يوميا بشكل مخيف. فلكي تعيش هنا بكرامة ولا أقول برفاهية عليك أن تدفع ثمنا باهظا لكل شيء. تعتبر منهاتن من أغلى ضواحي المدينة ونظرا لكوني من سكانها فأنا أكثر اطلاعا على المعايير المادية المطلوية هنا بالمقارنة مع أي ضاحية أخري، لذا سألخص أكثر التكاليف أزعاجا للسكان هنا خاصة ما يتعلق منها بأسعار العقار والاجارات السكنية، وما يرافقها من التزامات مادية. أسعار العقارات في منهاتن خيالية دون شك بالمقارنة مع أسعارها في مدن عالمية أخرى، ولكن معظم السكان هنا من المؤجرين لا الملاّك وهو أمر يتسبب في تفاقم المشكلة نظرا لتجاوز معدلات الطلب عن العرض، لأن المدينة محط رحال الملايين الذين يحلمون بالعيش هنا نظرا لفرص العمل التي توفر مميزات مادية خيالية بالمقارنة مع بقية الولايات. لذا ان أردت أن تسكن في منهاتن فعليك أن تدفع الثمن المناسب لهذه الرفاهية المناسبة، وهذا الثمن عادة ما يبدأ من 1600 الى 2000 دولار لتأجير ستوديو صغير الحجم.
أما ان كنت من أصحاب الأسر فتوقع أن تدفع ما بين ألفين وأربعة آلاف دولار لتأجير شقة صغيرة مكونة من صالة وغرفة أو اثنتين، هذا بالاضافة الى فواتير أخرى تتراكم، خاصة ان أردت تأجير موقف لسيارتك. إيجارات المواقف هذه تبدأ من 300 دولار شهريا، بالاضافة الى الضريبة وتصل في كثير من الأحيان الى ألف دولار شهريا، وذلك حسب موقع كراج السيارات وتفاصيل الأمن المتوافر فيه مثل كاميرات المراقبة وغيرها. هناك أيضا تكاليف التسوق والأكل في الخارج وارتفاع أسعار خدمات التاكسي وتذاكر السينما والمسرح وغيرها من وسائل الترفية فخلال السنوات القليلة الماضية زادت الشركات التي تملك دور السينما أسعار التذاكر عدة مرات خلال فترات زمنية متقاربة تكاد لا تتجاوز الأشهر الثلاثة في معظم الأحيان حتى أصبحت ميزانية الذهاب للسينما تثقل كاهل الأسر.
موسيقى تصويرية
الضوضاء هنا تعتبر من الأمور المسلّم بها، والتي اعتدت عليها لدرجة انها أصبحت موسيقى تصويرية للحياة هنا. فكثيرا ما يسألني الأهل والأصدقاء أثناء تبادلي الحديث معهم عبر الهاتف عن الأصوات التي تصلهم عبر الأثير لأجدني أتساءل لبضع ثوان عما يعنون. فصوت سيارة الاسعاف بات مألوفا لدرجة انني لم أعد أميزه عن بقية الأصوات في الشارع. ولكن هناك المزيد، فأصوات مزامير السيارات ومحركات الشاحنات والباصات ونباح الكلاب والصفير الناتج عن احتكاك عربات قطار السبواي بحديد السكك المخصصة للقطار، وحتى أصوات أحاديث ملايين البشر وخطواتهم والموسيقى الصاخبة عادة في المطاعم والمقاهي وغيرها تتجمع لتخلق غيمة من التلوث السمعي الذي يكاد يخرم طبلات الاذن البشرية أو يتسبب في ايذائها على الأقل. ولكي أقرّب الصورة أكثر لمخيلة القاريء الكريم سأكتفي بقول أنه من غير المستغرب أن تصحو في الصباح الباكر على صوت طائرة هليكوبتر يشعرك بان هذه الطائرة ستقتحم عليك نافذة غرفة نومك كما حدث معي عدة مرات! ولكن وبكل صراحة فانني في كل مرة كنت أعود للنوم لعلمي انها طائرة اما تابعة لجهة أمنية هنا أو لمحطة تلفزيونية تنقل على الهواء مباشرة خبر سقوط عامل من أعلى مبنى قيد الانشاء أو تبلغ المشاهدين عن اخر تطورات أحوال الطقس خارج نافذتي في الطابق العشرين!
وحدة بالملايين
معظم السكان هنا أتوا للدراسة أو العمل لذا أعتبرهم بأنهم سكان رُحل - بضم الراء - وحتى اولئك الذين تبنوا المدينة لعقد من الزمن أو أكثر تجدهم بعد ذلك ينشدون الرحيل الى جهة أخرى وهذه سنة الحياة هنا. ولكن هذا الأمر يجعل من فرص تكوين صداقات طويلة الأمد صعبة التوافر، فنحن اما قادمون واما راحلون عن هذه المدينة ومن يستقر هنا لسنوات تجده يهرب منها في أشهر الصيف على الأقل. في المدينة يسكن ملايين البشر، ولكن أغلبهم وحيدون تشلهم المدينة أو تحيدهم في معظم الاوقات، وهو أمر غريب ويستحق الدراسة.
هناك فردية طاغية وربما خوف من الاخرين أيضا. فعندما تمشي في شوارع نيويورك تلاحظ ان لا أحد ينظر مباشرة للآخرين، هم مجرد قطع أخرى مكلمة للمشهد العام، لا أحد يبتسم أو يبادر للتعرف على من حوله في الأماكن العامة الا في ما ندر، وخير دليل هو قطار المترو، فكلنا مشغولون ومتأزمون وضائعون في أفكارنا الخاصة. هنا لا يقرأ كثيرون في المترو على العكس مما قد يظنه البعض أو يراهن عليه.
هناك نسبة معقولة من قراء المترو ولكنهم لا يشكلون أغلبية،فالأغلبية تتكون من جموع البشر الذين ينظرون الى لا شيء وأفكارهم تسبح في الهموم اليومية شاخصين الى الاعلانات الملصقة داخل القطار والتي تعد بشعر طويل وغزير أو بكسب قضية ضد أصحاب المباني السكنية التي تسببت نسب الرصاص فيها بمشاكل صحية للأطفال، بينما تطل أسنان المذيع البيضاء من خلف ابتسامته المصطنعة في بوستر يعلو الرؤوس في قطار مترو متخم بالبشر والأفكار الهائمة من أجل أن يتفادى أصحابها النظر في عيون من يقف على بعد سنتيمتر واحد منهم. وهنا أيضا يبدل الناس مواقع سكنهم كما يبدلون أحذيتهم! وهذا أمر طبيعي في ظل التسارع المخيف في أسعار الاجارت والعقارات، لذا خلقت لدينا ظاهرة الهجرة للضواحي الأخرى الأرخص. أما الجيران فحدث ولا حرج، فلا أحد يعرف جيرانه بالاسم أو حتى بالشكل الا فيما ندر، وان استقر في مسكنه لسنوات لذا لا تعّول كثيرا على التعرف عليهم عن قرب فأقصى ما يمكن أن تتبادله معهم هو التحية في المصعد، هذا ان كنت محظوظا برؤيتهم بشكل دوري!
نمط استهلاكي
لا يوجد كثير من التفاصيل النيويوركية التي أستطيع مقارنتها بتفاصيلنا الكويتية، ولكن أحد الأمور اللافتة للنظر هو انتشار ثقافة الاستهلاك والاتجاه الى متاجر معينة بسبب ان هناك من يصفها بكونها الأحدث أو "ال" المتجر الذي يوفر اخر ما وصلت اليه خطوط الموضة. ولا يتعلق الامر بموضة الأزياء فقط، فهنا لدينا موضة المشتريات المنزلية والطعام. فقبل عامين أو اكثر بقليل افتتح متجر تريدير جو أو التاجر جو في الفيلج وبدأت الطوابير تتشكل أمام بابه من أجل الدخول منذ لحظة الافتتاح. واليوم هناك طابور طويل أمام الكاشير في هذا المتجر يصل لعدة أمتار فقط من أجل أن تدفع قيمة مشترياتك التي تتوفر هنا بأسعار أرخص وغالبا بجودة أعلى من أي مكان آخر. ولكن ما يزعجني حقا هو السمعة التي تطلق على هذه الأماكن، التي إن لم تشتر منها ستخرج عن ملة النيويوركيين! تماما كما يحدث في الكويت بخصوص مطاعم البيرغر ومخابز الحلويات الغربية. وهناك أيضا "الهول فوودز" وهو اختصار للهولسوم فوود اي الأكل الصحي الذي يقع أحد أكبر أفرعه في يونيون سكوير على بعد خطوات من تريدر جوز، وهذا المتجر يحسب لمصلحته ثورة الأكياس الورقية التي حلت محل الأكياس البلاستيكية. ولكن لا تحاول أن تذهب هناك خلال فترة الغداء أو في نهاية اليوم، فنصف المدينة تتسوق هناك في تلك الأوقات. أما ما يتعلق بموضة الأزياء ففي فمي ماء ولا أعتقد أن الأمر بحاجة للاسهاب. هناك أيضا "هبة" المقاهي والمخابز والنوادي الصحية وغيرها، لكن ما أجده مزعجا حقا هو التوقعات التي يحملها الكثير هنا بخصوص الربط بين مكانتك الاجتماعية والاقتصادية وبين الدكان الذي تشتري منه البيض! أي اننا نهرب من العقلية الاستهلاكية الشرهة وغير المنظمة في الكويت لنجدها مشرعة الابواب والنوافذ في نيويورك. وبالطبع فان التوقعات هذه لم تغرني او تدفعني لكي أغّير نمطي الاستهلاكي قيد أنملة، ولكنني آسف على ضياع طاقات بشرية في معمعة تخمة الاستهلاك ونزعته المتعاظمة .
التلوث
اعلان جميل ومعبر في قطار المترو أو السبواي كما نسميه يوضح رسمات لبصمات قدم انسان بأحجام مختلفة وبألوان تتدرج من الأسود الى الأخضر مرورا بالرمادي وذلك كلما صغر حجم طبعة القدم تلك. هذا اعلان يشجع على تقليل البصمة الكربونية للانسان، ومن المعروف ان نيويورك تعاني من التلوث مما دفع الحكومة هنا لتبني العديد من المشاريع الصديقة للبيئة مثل خطة تحويل الباصات وسيارات الاجرة الصفراء الشهيرة الى أخرى هايبريد خلال الاعوام القليلة القادمة، ومنع التدخين داخل الأماكن العامة ومنها المطاعم والحانات. أو محاولة فرض ضريبة لدخول مناطق معينة في منهاتن في وقت الذروة كما هو حاصل الان في لندن وذلك لتقليل الازدحام والثلوث في ذات الوقت. هناك خطر كبير يسببه التلوث الناتج من عوادم السيارات في المدينة على الأطفال حديثي الولادة وذلك حسب دراسة نشرت مؤخرا، كما لا نستطيع ان نغفل خطر تلوث المياه خاصة بعد أن عرضت احدى محطات التلفزة المحلية هنا قبل ما يقارب العامين تقريرا مصورا عن ادارة المياه المركزية التي ما فتئت تعلن عن نظافة المياه وسلامتها، ولكن تم تصوير شاحنات وهي تقوم بتوصيل شحنات كبيرة من المياه المعدنية لاستهلاكها من قبل العاملين في تلك الادارة.
ولا أنسى الخطر المحدق بنا بسبب الاندين بوينت وهو معمل الطاقة النووية في بوكانان في الشمال الولاية، خاصة ان هناك ما يقارب من العشرين مليون شخص ممن يسكنون على مسافة خمسين ميلا من هذا المعمل. وقد بدأت الاصوات المعارضة لوجوده بالقرب من المناطق السكنية بالارتفاع منذ اواخر سبعينات القرن الماضي ولكن باءت كل هذه المطالبات بالفشل.
علب كبريت
سواء قررت أن تستأجر سكنك أم تشتريه النتيجة ستكون واحدة وهي أنك ستتمتع بمساحة محدودة جدا لا تكاد تسمح لك بفرش جناحيك حتى وان دفعت مئات الاف من الدولارات. تصميم الشقق السكنية في الغالب اقتصادي لمعالجة أزمة المساحة في المدينة، وتداعيات هذا الامر جدية.
فان كنت من عشاق التسوق، لن تكون لديك مساحة محترمة من الخزانات، أو كنت من عشاق اقتناء الكتب فبعد سنوات قليلة ستجد نفسك في معضلة وقد تراكمت الكتب في كل زاوية في مسكنك. أما ان كان لديك أطفال فستواجه مشكلة أكبر لأنهم سيحرمون من اللعب والانطلاق في علب كبريت نطلق عليها جزافا اسم منزل.
ثلج وبرد وريح
طقس نيويورك، وما أدراك ما طقس نيويورك!
الشتاء مثلج يحرمنا الخروج، وان اضطررنا لفعل ذلك بدأت معركة خوض بحر من الثلج الذي يرتفع لعدة أقدام من الأرض. وان سقط المطر اختلط برائحة المخلفات الحيوانية السائلة في الشوارع ونتجت رائحة من الممكن أن تصيب القاصي والداني بصداع نصفي لا علاج له ، ان اشتد الحر صيفا طلبت السلطات في المدينة من كبار السن أن لا يخرجوا في ذلك اليوم حتى لا يفقدوا حياتهم بسبب الحرارة أو ضربة شمس. ولا أنسى أن الربيع أخذ يتأخر بالقدوم شيئا فشيئا خلال الأعوام القليلة الماضية، وأخذت مدته تقصر في الوقت ذاته، مسلما امانته لصيف عادة ما يكون حارا نختنق فيه عندما تكل مكائن التكييف في السبواي عن العمل، أو نتعرض لقطع كامل للتيار الكهربائي في أحياء كاملة من المدينة...أعتقد اننا بحاجة لحملة "ترشيد"!
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570004_small.jpg
http://www.alqabas.com.kw/Final/NewspaperWebsite/NewspaperBackOffice/ArticlesPictures/21-6-2008//405772_570017_small.jpg