ابوقاسم المنامي
07-30-2004, 11:02 PM
أضواء على الأزمة المفتعلة
[463]
في مطلع التسعينات أثار بعض المغرضين، أزمة حادة إستهدفوا بها سماحة السيد فضل الله، وكانت الأزمة تقوم على أساس أن السيد حفظه الله تحدى المشاعر الشيعية فيما يتعلق بفاطمة الزهراء عليها السلام.
وقد أثار الأزمة بعض المشبوهين الذين كشفت التجارب فيما بعد أنهم يعملون ضد الجمهورية الاسلامية في ايران، وضد قائدها السيد الخامنئي ولي أمر المسلمين، وقد لاحق بعضهم القضاء الاسلامي في ايران فاضطروا الى الهروب. كما أن بعضهم الآخر ترك ايران وأخذ يتحدث علناً في الصحافة بما يسيء الى الثورة وقائدها.
لقد إستغل هؤلاء مشاعر الناس البسطاء وشوهوا آراء السيد فضل الله، وحرّفوا أقواله في عملية تزوير مخالفة للشرع والأخلاق والأمانة العلمية.
والحملة المغرضة على آية الله العظمى السيد فضل الله، تشبه الى حد بعيد تلك الحملة الظالمة التي تعرض لها السيد محسن الأمين العاملي قدس سره، عندما أراد إصلاح الشعائر الحسينية، أعلن حرمة بعض مظاهرها، فقام عليه خصومه وحساده ووصفوه بالخارج عن التشيع، وغير ذلك من الأوصاف، وهو الذي دافع طوال حياته عن التشيع، وقدّم له الخدمات الجليلة التي لا تزال نتائجها ممتدة في عالم التشيع الى الآن.
لكن المغرضين شنّوا عليه حملة شعواء ظالمة، لم تستند الى عقل أو دين أو
[464]
حق، كانت باطلة في مرتكزاتها ومنطلقاتها وأهدافها وأغراضها، فلم تستمر طويلاً، ومضت الأيام حتى برّهن الزمان على أفضلية السيد محسن الأمين على خصومه، وأثبت أن أعداءه أثاروا زوبعة في فنجان.. ورسموا احلامهم على رمال متحركة، سرعان ما أزالتها الرياح.
كتب المرحوم الاستاذ جعفر الخليلي عن تلك الفترة بتفصيل جميل، وتحدث عن الأساليب التي إتخذها خصوم السيد الأمين لإسقاطه جماهيرياً ومن ذلك أنهم أطلقوا على المؤيدين له إسم (الأمويين) في مقابل (العلويين) الذي يقفون ضده. ونختار مقطعاً مما كتبه والذي يتحدث فيه عن نهاية المعركة التي كانت لصالح السيد الأمين قدس سره:
(وجاءت الأخبار تنبئ أن السيد محسن قادم الى العراق، فاختلف أنصاره في أمر هذا القدوم، فمنهم من رجحه، ومنهم من لم يرجحه، ذلك لأن الفتنة فتنة «الأمويين» و «العلويين» لم تكن قد خمدت بعد تماماً. وأن رد الفعل وإن كان قد بدا أخف من السابق ولكنه لم يكن بحيث يستهان به او تتجاهل عواقبه، وقد كتب البعض الى السيد محسن ينصحه بتأجيل قدومه الى وقت أنسب وذلك خشية أن يلقى ما لا يليق به من الاعراض والتنديد والتحرش، بصفته البطل الأول في تلك الدعوة التي مست السواد في الصميم، ولكن السيد محسن كان جريئا وكان غير هياب، فتحرك من دمشق..ولست أدري كيف إنقلب الوضع
[465]
مرة واحدة وكيف دبت في النفوس روح جديدة ! فاذا بالجماهير كلها تتحرك، وتستعد لاستقباله، وجاءت إشارة «السيد أبي الحسن» بوجوب التهيؤ لاستقبال السيد محسن ملهبة لشعور الناس، فاذا به يستقبل استقبالا لم تشهد النجف نظيرا له في كل المناسبات الماضية. واذا بالسرادق الكبير ـ وهو أكبر ما تملك النجف ـ يقام خارج المدينة... فلم يبق عالم او تاجر أو وجيه أو وضيع، دون أن يخرج الى استقباله على نحو من الجلال الذي لا يوصف... وإذا «بكلو الحبيب» وهو من الزعماء ومن وجوه الطبقة التي يسمونها «بالمشاهدة» والمعروفة باستخدامها السلاح في حل مشاكلها، إذا «بكلو الحبيب» الذي كان أكبر دعامة للسيد صالح الحلي وأكبر خصوم السيد محسن الأمين، إذا به يدنو من السيد محسن، ويأخذ يده وينهال عليها بالتقبيل، مرة بعد اخرى، وهو يقول ويردد هذا المضمون «لعن الله من غشني فصورك لي أموياً فها هو ذا وجهك النوراني يشع بالايمان فاغفر لي سوء ظني واعف عني، فانما الذنب ذنب أولئك المغرضين المارقين الذين شوهوا الحقائق وقالوا عنك ما قالو»... )(1).
لقد رفع أولئك المحاربون راية الاستسلام أمام السيد محسن الأمين، والذي دفعهم الى ذلك، هو أن معركتهم لم تكن قائمة على مبدأ صحيح، ولم يتجمعوا على حق، وكان معظمهم قد سار وراء الموجة معصوب العينين، فقد ملأ أقطاب الفتنة عقولهم بالأكاذيب. لكن الأكاذيب لا يمكن أن تظل هي الحاكمة فما هي إلا غمامة تقشعها شمس الحقيقة الساطعة.
دوافع الأزمة:
ما هو السبب أو الأسباب التي جعلت هذه الأزمة تستعر ضد آية الله السيد
_______________________
(1) جعفر الخليلي، هكذا عرفتهم الجزء الأول، ص215 ـ 216.
[466]
فضل الله، لا سيما وأنها كانت تسير بشكل مخطط ومنظم، ولم تصدر بشكل عشوائي.
في تقديرنا أن التأمل في تاريخ إنطلاق هذه الازمة يلقي الضوء على بعض دوافعها. فلقد بدأت لأول مرة عام 1991م، وكان محركها شخص كان يعمل ضابطاً في الشرطة الكويتية، حيث وزع شريطاً صوتياً لسماحة السيد فضل الله في جلسة صغيرة، وقد أجاب سماحته على سؤال وجه اليه حول صحة رواية كسر ضلع الزهراء عليها السلام وإسقاط جنينها، إثر هجوم عمر بن الخطاب على الدار لأخذ البيعة لأبي بكر. وقد اجاب السيد بأن الرواية عنده موضع دراسة وهو لم يقطع برأي حولها.
لقد إستغل هذا الشخص هذا التسجيل الصوتي، ووزعه على نطاق واسع في مدينة قم المقدسة على وجه التحديد، وكان معه من راح يردد أن السيد فضل الله يقول أن عمر بن الخطاب لم يكسر ضلع الزهراء ولم يسقط جنينها، فهو عدو للزهراء، وهو ليس شيعي، وغير ذلك من الكلام الذي يتنافى مع لغة العقل والمنطق والحوار العلمي.
كانت هذه الحركة وكما أشرنا تستند الى جماعة منظمة تهدف الى إثارة الأزمة ضد السيد على نطاق واسع، فبعد هذه البداية بأسابيع أصدر أحدهم كتاباً يكيل فيه التهم للسيد فضل الله، والكتاب هذا يذكّرنا بما كتبه ذلك الرجل في هجومه على السيد محسن الأمين، والذي ضمنه أقوال لا تستحق النقاش، لكن السيد الأمين قدس سره، رد عليه ردأً علمياً أظهر فيه بعد صاحبه عن المنطق العلمي، والبحث الموضوعي كل البعد، فقد كان عبارة عن تهم إنفعالية لا تصمد أمام لغة الدليل والحوار العلمي.
كان هذا الكتاب ضد السيد فضل الله، قد هيء قبل فترة من إعلان الأزمة، وعندما تم إعلانها، صدر الكتاب في مدينة قم المقدسة، وقد تضمن آراء غريبة،
[467]
إعتبرها مؤلفه على أنها مؤاخذات علمية ضد السيد فضل الله. فمنها على سبيل المثال أنه يأخذ على السيد فضل الله قوله:
(وكان الامام الصادق يحدّث بعض حديثه ويفتي ببعض فتاواه ويقول إنه من مصحف جدتي الزهراء).
فيعترض الكاتب إعتراضاً حاداً ويعتبر هذا الكلام تحريفاً، لأن إسم المصحف هو مصحف فاطمة!.
ومنها أيضاً إعتراض الكاتب على السيد فضل الله وصفه للزهراء عليها السلام بأنها إنسانة وأنثى!.
وعلى هذه الشاكلة كتب هذا الرجل كتابه، وبإمكان القارئ أن يتصور معنى الحملة والاشكالات المزعومة على سماحة السيد فضل الله.
وقد فرّ هذا المسكين من الجمهورية الاسلامية بعد إصدار كتابه بأسابيع، لأنه كان ملاحقاً من قبل القضاء الاسلامي. والجدير بالذكر أن التهمة التي لاحقه القضاء الاسلامي عليها، كان لها جذور وبدايات منذ كان في النجف الاشرف. ولا أريد الحديث هنا عن هذا الموضوع.
كما فرّ أيضاً الضابط الكويتي الذي كان يموّل الحملة مالياً وأقام خارج الجمهورية الاسلامية ليمارس نشاطه المعادي من هناك، بعد أن أغدق الأموال بسخاء على كل من يتعاون معه ضد السيد فضل الله.
أما دوافع هذه الأزمة المفتعلة فيمكن حصرها بما يلي:
أولاً: العداء للحركة الاسلامية ولخط الامام الشهيد الصدر.
ثانياً: الخوف من المرجعية الحركية الواعية.
ثالثاً: الموقف العدائي من الثورة الاسلامية في ايران.
[468]
هذه هي أهم وأبرز دوافع الأزمة التي أكلت من الجسم الشيعي، وشغلت أوساطه عن التحديات الكبيرة التي يواجهها، وعن مسوؤليات علماء ومراجع الدين ودورهم الحقيقي في معركة الاسلام الحقيقية ضد أعدائه.
وسنتحدث بإختصار عن كل عامل من هذه العوامل:
أولاً: العداء للحركة الاسلامية ولخط الامام الشهيد الصدر:
قبل أن تتجه الحراب الى آية الله السيد محمد حسين فضل الله، كان أصحابها يحاولون غرزها في قلب الحركة الاسلامية التي أسسها الامام الشهيد الصدر، وسار أبناؤها على نهجه الاسلامي الأصيل. فلقد تفنن هؤلاء في إختلاق مختلف الأجواء من اجل إثارة الغبار في وجه الحركة الاسلامية، في الوقت التي كانت تبذل الدماء بسخاء على جبهات القتال وفي داخل العراق وتحت التعذيب الوحشي للنظام الحاكم في العراق.
لم تكن المعادلة تحتاج الى تفسير وإيضاح، فالنظام البعثي كان يريد القضاء على الحركة الاسلامية بأي شكل، وفي هذا الجو الحساس، رفع هؤلاء شعار القضاء على الحركة الاسلامية. أي أنهم كانوا يريدون تحقيق نفس الهدف الذي يريده نظام صدام حسين.
إن العداء للحركة الاسلامية ينطلق في حقيقته من موقف ثابت معاد لعموم التحرك الاسلامي، ولرمزه الكبير الخالد الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، لذلك كانت حربهم تتجه ضد الحركة وضد رمزها المؤسس. وقد واجهوا في هذه الحرب عقبتين:
الأولى: تمثلت في صعوبة إسقاط الحركة الاسلامية وجرها الى معركة جانبية، فبينما كان هؤلاء يكيلون التهم الباطلة ضد الحركة الاسلامية، كان
[469]
أبناؤها المجاهدون يملأون كل مواقع الجهاد وساحاته، تضحية وصموداً. فلم يكن أمامهم سوى الاستمرار في خلق التهم في غرفهم المظلمة، حتى ملوا من هذه الحرفة التي لا توصل الى أي نتيجة، فكان أن قرروا التصدي لضرب قواها الداعمة من علماء ورموز إسلامية كبيرة.
الثانية: لم يكن بمقدور هؤلاء أن يتوجهوا بحربهم مباشرة الى شخص الامام الشهيد الصدر، لأن ذلك سيجعلهم مكشوفين أمام الأمة، كما أن الأمة الاسلامية لن تسمح لأي جهة أو شخص مهما كان مملوءاً بالمال أن ينال من شخص القائد الشهيد، لذلك قرروا أن يناولوا من الشخصيات التي تمثل إمتداداً للإمام الشهيد، فأشرعوا حرابهم ضد إثنين من أبرز الشخصيات التي تمثل خط الشيد الصدر، وهما العلامة الكبير السيد مرتضى العسكري، وآية الله السيد محمد حسين فضل الله.
فقاموا بكتابة المقالات وإصدار المنشورات التي تثير الشبهات على العلامة العسكري، والملفت بالأمر أن أحد هؤلاء كتب مقالاً في مجلته ـ التي أغلقتها الجمهورية الاسلامية فيما بعد ـ يأخذ على السيد العسكري عدم فهمه للفكر الشيعي!. ولو كان هذا المسكين قد أثار عليه تهمة أخرى لكان أهون عليه، فالسيد العسكري رمز شامخ في عالم التشيع والفكر الاسلامي عامة، وهو الذي قدم الخدمات العظمى للفكر الشيعي والاسلامي من خلال مؤلفاته الرائدة ذات
[470]
الطابع العلمي المتين.
أما السيد فضل الله فقد أثاروا عليه الإشكالات التي ذكرناها سابقاً، والتي كانت إنطلقت من تقديرهم بإنه يمثل خط الوعي الحركي الاسلامي الأصيل.
ثانياً: الخوف من المرجعية الحركية الواعية.
ذكرنا في فصل سابق من هذا الكتاب صور تبين ما تعرض له الامام الشهيد الصدر من مضايقات وتحديات من داخل الحوزة العلمية، وكانت هذه التحديات نابعة من التقليديين الذين تصوروا أن مرجعية الامام الشهيد الصدر تضعف المرجعيات التقليدية، فعملوا على إضعافها بشتى السبل. لكن الحقيقة غير ما تصوروا، فلم تكن مرجعية الامام الشهيد لتتعارض مع المرجعيات التقليدية، بل أنها كانت تسعى الى دعمها وإبقائها مصونة في الساحة من التحدي المعادي للاسلام. لأن الوعي الذي إمتلكته مرجعيته (قدس سره)، كان يفهم أن الوجود الاسلامي كل لا يتجزأ، وأن إضعاف أي طرف إسلامي، هو بالنتيجة إضعاف للوجود الاسلامي. لكن هذه الحقيقة لم يفهمها التقليديون، وخاصة الحواشي المرتبطة بالمرجعيات التقليدية، فقد كانت تنظر الى عالم المرجعية نظرة ضيقة، لا تخلو من الحسابات الذاتية المغلقة، وهذا ما جعلها تهتم بالصراع الداخلي دون أن تهتم أبداً بالصراع الخارجي الكبير والخطير الذي يتعرض له الوجود الاسلامي من قبل السلطة والدوائر المعادية للاسلام.
وقد ظلت هذه النظرة هي الحاكمة لمعظم المرجعيات التقليدية، وهي ثغرة خطيرة في الجسم الشيعي. وقد إستغل المغرضون والمشبوهون هذه الثغرة فولجوا منها لإدارة الحملة ضد أي مرجعية حركية واعية، لا سيما إذا كانت تمثل الامتداد الطبيعي لمرجعية الامام الشهيد الصدر. وهذا ما جعلهم يستهدفون
[471]
[463]
في مطلع التسعينات أثار بعض المغرضين، أزمة حادة إستهدفوا بها سماحة السيد فضل الله، وكانت الأزمة تقوم على أساس أن السيد حفظه الله تحدى المشاعر الشيعية فيما يتعلق بفاطمة الزهراء عليها السلام.
وقد أثار الأزمة بعض المشبوهين الذين كشفت التجارب فيما بعد أنهم يعملون ضد الجمهورية الاسلامية في ايران، وضد قائدها السيد الخامنئي ولي أمر المسلمين، وقد لاحق بعضهم القضاء الاسلامي في ايران فاضطروا الى الهروب. كما أن بعضهم الآخر ترك ايران وأخذ يتحدث علناً في الصحافة بما يسيء الى الثورة وقائدها.
لقد إستغل هؤلاء مشاعر الناس البسطاء وشوهوا آراء السيد فضل الله، وحرّفوا أقواله في عملية تزوير مخالفة للشرع والأخلاق والأمانة العلمية.
والحملة المغرضة على آية الله العظمى السيد فضل الله، تشبه الى حد بعيد تلك الحملة الظالمة التي تعرض لها السيد محسن الأمين العاملي قدس سره، عندما أراد إصلاح الشعائر الحسينية، أعلن حرمة بعض مظاهرها، فقام عليه خصومه وحساده ووصفوه بالخارج عن التشيع، وغير ذلك من الأوصاف، وهو الذي دافع طوال حياته عن التشيع، وقدّم له الخدمات الجليلة التي لا تزال نتائجها ممتدة في عالم التشيع الى الآن.
لكن المغرضين شنّوا عليه حملة شعواء ظالمة، لم تستند الى عقل أو دين أو
[464]
حق، كانت باطلة في مرتكزاتها ومنطلقاتها وأهدافها وأغراضها، فلم تستمر طويلاً، ومضت الأيام حتى برّهن الزمان على أفضلية السيد محسن الأمين على خصومه، وأثبت أن أعداءه أثاروا زوبعة في فنجان.. ورسموا احلامهم على رمال متحركة، سرعان ما أزالتها الرياح.
كتب المرحوم الاستاذ جعفر الخليلي عن تلك الفترة بتفصيل جميل، وتحدث عن الأساليب التي إتخذها خصوم السيد الأمين لإسقاطه جماهيرياً ومن ذلك أنهم أطلقوا على المؤيدين له إسم (الأمويين) في مقابل (العلويين) الذي يقفون ضده. ونختار مقطعاً مما كتبه والذي يتحدث فيه عن نهاية المعركة التي كانت لصالح السيد الأمين قدس سره:
(وجاءت الأخبار تنبئ أن السيد محسن قادم الى العراق، فاختلف أنصاره في أمر هذا القدوم، فمنهم من رجحه، ومنهم من لم يرجحه، ذلك لأن الفتنة فتنة «الأمويين» و «العلويين» لم تكن قد خمدت بعد تماماً. وأن رد الفعل وإن كان قد بدا أخف من السابق ولكنه لم يكن بحيث يستهان به او تتجاهل عواقبه، وقد كتب البعض الى السيد محسن ينصحه بتأجيل قدومه الى وقت أنسب وذلك خشية أن يلقى ما لا يليق به من الاعراض والتنديد والتحرش، بصفته البطل الأول في تلك الدعوة التي مست السواد في الصميم، ولكن السيد محسن كان جريئا وكان غير هياب، فتحرك من دمشق..ولست أدري كيف إنقلب الوضع
[465]
مرة واحدة وكيف دبت في النفوس روح جديدة ! فاذا بالجماهير كلها تتحرك، وتستعد لاستقباله، وجاءت إشارة «السيد أبي الحسن» بوجوب التهيؤ لاستقبال السيد محسن ملهبة لشعور الناس، فاذا به يستقبل استقبالا لم تشهد النجف نظيرا له في كل المناسبات الماضية. واذا بالسرادق الكبير ـ وهو أكبر ما تملك النجف ـ يقام خارج المدينة... فلم يبق عالم او تاجر أو وجيه أو وضيع، دون أن يخرج الى استقباله على نحو من الجلال الذي لا يوصف... وإذا «بكلو الحبيب» وهو من الزعماء ومن وجوه الطبقة التي يسمونها «بالمشاهدة» والمعروفة باستخدامها السلاح في حل مشاكلها، إذا «بكلو الحبيب» الذي كان أكبر دعامة للسيد صالح الحلي وأكبر خصوم السيد محسن الأمين، إذا به يدنو من السيد محسن، ويأخذ يده وينهال عليها بالتقبيل، مرة بعد اخرى، وهو يقول ويردد هذا المضمون «لعن الله من غشني فصورك لي أموياً فها هو ذا وجهك النوراني يشع بالايمان فاغفر لي سوء ظني واعف عني، فانما الذنب ذنب أولئك المغرضين المارقين الذين شوهوا الحقائق وقالوا عنك ما قالو»... )(1).
لقد رفع أولئك المحاربون راية الاستسلام أمام السيد محسن الأمين، والذي دفعهم الى ذلك، هو أن معركتهم لم تكن قائمة على مبدأ صحيح، ولم يتجمعوا على حق، وكان معظمهم قد سار وراء الموجة معصوب العينين، فقد ملأ أقطاب الفتنة عقولهم بالأكاذيب. لكن الأكاذيب لا يمكن أن تظل هي الحاكمة فما هي إلا غمامة تقشعها شمس الحقيقة الساطعة.
دوافع الأزمة:
ما هو السبب أو الأسباب التي جعلت هذه الأزمة تستعر ضد آية الله السيد
_______________________
(1) جعفر الخليلي، هكذا عرفتهم الجزء الأول، ص215 ـ 216.
[466]
فضل الله، لا سيما وأنها كانت تسير بشكل مخطط ومنظم، ولم تصدر بشكل عشوائي.
في تقديرنا أن التأمل في تاريخ إنطلاق هذه الازمة يلقي الضوء على بعض دوافعها. فلقد بدأت لأول مرة عام 1991م، وكان محركها شخص كان يعمل ضابطاً في الشرطة الكويتية، حيث وزع شريطاً صوتياً لسماحة السيد فضل الله في جلسة صغيرة، وقد أجاب سماحته على سؤال وجه اليه حول صحة رواية كسر ضلع الزهراء عليها السلام وإسقاط جنينها، إثر هجوم عمر بن الخطاب على الدار لأخذ البيعة لأبي بكر. وقد اجاب السيد بأن الرواية عنده موضع دراسة وهو لم يقطع برأي حولها.
لقد إستغل هذا الشخص هذا التسجيل الصوتي، ووزعه على نطاق واسع في مدينة قم المقدسة على وجه التحديد، وكان معه من راح يردد أن السيد فضل الله يقول أن عمر بن الخطاب لم يكسر ضلع الزهراء ولم يسقط جنينها، فهو عدو للزهراء، وهو ليس شيعي، وغير ذلك من الكلام الذي يتنافى مع لغة العقل والمنطق والحوار العلمي.
كانت هذه الحركة وكما أشرنا تستند الى جماعة منظمة تهدف الى إثارة الأزمة ضد السيد على نطاق واسع، فبعد هذه البداية بأسابيع أصدر أحدهم كتاباً يكيل فيه التهم للسيد فضل الله، والكتاب هذا يذكّرنا بما كتبه ذلك الرجل في هجومه على السيد محسن الأمين، والذي ضمنه أقوال لا تستحق النقاش، لكن السيد الأمين قدس سره، رد عليه ردأً علمياً أظهر فيه بعد صاحبه عن المنطق العلمي، والبحث الموضوعي كل البعد، فقد كان عبارة عن تهم إنفعالية لا تصمد أمام لغة الدليل والحوار العلمي.
كان هذا الكتاب ضد السيد فضل الله، قد هيء قبل فترة من إعلان الأزمة، وعندما تم إعلانها، صدر الكتاب في مدينة قم المقدسة، وقد تضمن آراء غريبة،
[467]
إعتبرها مؤلفه على أنها مؤاخذات علمية ضد السيد فضل الله. فمنها على سبيل المثال أنه يأخذ على السيد فضل الله قوله:
(وكان الامام الصادق يحدّث بعض حديثه ويفتي ببعض فتاواه ويقول إنه من مصحف جدتي الزهراء).
فيعترض الكاتب إعتراضاً حاداً ويعتبر هذا الكلام تحريفاً، لأن إسم المصحف هو مصحف فاطمة!.
ومنها أيضاً إعتراض الكاتب على السيد فضل الله وصفه للزهراء عليها السلام بأنها إنسانة وأنثى!.
وعلى هذه الشاكلة كتب هذا الرجل كتابه، وبإمكان القارئ أن يتصور معنى الحملة والاشكالات المزعومة على سماحة السيد فضل الله.
وقد فرّ هذا المسكين من الجمهورية الاسلامية بعد إصدار كتابه بأسابيع، لأنه كان ملاحقاً من قبل القضاء الاسلامي. والجدير بالذكر أن التهمة التي لاحقه القضاء الاسلامي عليها، كان لها جذور وبدايات منذ كان في النجف الاشرف. ولا أريد الحديث هنا عن هذا الموضوع.
كما فرّ أيضاً الضابط الكويتي الذي كان يموّل الحملة مالياً وأقام خارج الجمهورية الاسلامية ليمارس نشاطه المعادي من هناك، بعد أن أغدق الأموال بسخاء على كل من يتعاون معه ضد السيد فضل الله.
أما دوافع هذه الأزمة المفتعلة فيمكن حصرها بما يلي:
أولاً: العداء للحركة الاسلامية ولخط الامام الشهيد الصدر.
ثانياً: الخوف من المرجعية الحركية الواعية.
ثالثاً: الموقف العدائي من الثورة الاسلامية في ايران.
[468]
هذه هي أهم وأبرز دوافع الأزمة التي أكلت من الجسم الشيعي، وشغلت أوساطه عن التحديات الكبيرة التي يواجهها، وعن مسوؤليات علماء ومراجع الدين ودورهم الحقيقي في معركة الاسلام الحقيقية ضد أعدائه.
وسنتحدث بإختصار عن كل عامل من هذه العوامل:
أولاً: العداء للحركة الاسلامية ولخط الامام الشهيد الصدر:
قبل أن تتجه الحراب الى آية الله السيد محمد حسين فضل الله، كان أصحابها يحاولون غرزها في قلب الحركة الاسلامية التي أسسها الامام الشهيد الصدر، وسار أبناؤها على نهجه الاسلامي الأصيل. فلقد تفنن هؤلاء في إختلاق مختلف الأجواء من اجل إثارة الغبار في وجه الحركة الاسلامية، في الوقت التي كانت تبذل الدماء بسخاء على جبهات القتال وفي داخل العراق وتحت التعذيب الوحشي للنظام الحاكم في العراق.
لم تكن المعادلة تحتاج الى تفسير وإيضاح، فالنظام البعثي كان يريد القضاء على الحركة الاسلامية بأي شكل، وفي هذا الجو الحساس، رفع هؤلاء شعار القضاء على الحركة الاسلامية. أي أنهم كانوا يريدون تحقيق نفس الهدف الذي يريده نظام صدام حسين.
إن العداء للحركة الاسلامية ينطلق في حقيقته من موقف ثابت معاد لعموم التحرك الاسلامي، ولرمزه الكبير الخالد الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، لذلك كانت حربهم تتجه ضد الحركة وضد رمزها المؤسس. وقد واجهوا في هذه الحرب عقبتين:
الأولى: تمثلت في صعوبة إسقاط الحركة الاسلامية وجرها الى معركة جانبية، فبينما كان هؤلاء يكيلون التهم الباطلة ضد الحركة الاسلامية، كان
[469]
أبناؤها المجاهدون يملأون كل مواقع الجهاد وساحاته، تضحية وصموداً. فلم يكن أمامهم سوى الاستمرار في خلق التهم في غرفهم المظلمة، حتى ملوا من هذه الحرفة التي لا توصل الى أي نتيجة، فكان أن قرروا التصدي لضرب قواها الداعمة من علماء ورموز إسلامية كبيرة.
الثانية: لم يكن بمقدور هؤلاء أن يتوجهوا بحربهم مباشرة الى شخص الامام الشهيد الصدر، لأن ذلك سيجعلهم مكشوفين أمام الأمة، كما أن الأمة الاسلامية لن تسمح لأي جهة أو شخص مهما كان مملوءاً بالمال أن ينال من شخص القائد الشهيد، لذلك قرروا أن يناولوا من الشخصيات التي تمثل إمتداداً للإمام الشهيد، فأشرعوا حرابهم ضد إثنين من أبرز الشخصيات التي تمثل خط الشيد الصدر، وهما العلامة الكبير السيد مرتضى العسكري، وآية الله السيد محمد حسين فضل الله.
فقاموا بكتابة المقالات وإصدار المنشورات التي تثير الشبهات على العلامة العسكري، والملفت بالأمر أن أحد هؤلاء كتب مقالاً في مجلته ـ التي أغلقتها الجمهورية الاسلامية فيما بعد ـ يأخذ على السيد العسكري عدم فهمه للفكر الشيعي!. ولو كان هذا المسكين قد أثار عليه تهمة أخرى لكان أهون عليه، فالسيد العسكري رمز شامخ في عالم التشيع والفكر الاسلامي عامة، وهو الذي قدم الخدمات العظمى للفكر الشيعي والاسلامي من خلال مؤلفاته الرائدة ذات
[470]
الطابع العلمي المتين.
أما السيد فضل الله فقد أثاروا عليه الإشكالات التي ذكرناها سابقاً، والتي كانت إنطلقت من تقديرهم بإنه يمثل خط الوعي الحركي الاسلامي الأصيل.
ثانياً: الخوف من المرجعية الحركية الواعية.
ذكرنا في فصل سابق من هذا الكتاب صور تبين ما تعرض له الامام الشهيد الصدر من مضايقات وتحديات من داخل الحوزة العلمية، وكانت هذه التحديات نابعة من التقليديين الذين تصوروا أن مرجعية الامام الشهيد الصدر تضعف المرجعيات التقليدية، فعملوا على إضعافها بشتى السبل. لكن الحقيقة غير ما تصوروا، فلم تكن مرجعية الامام الشهيد لتتعارض مع المرجعيات التقليدية، بل أنها كانت تسعى الى دعمها وإبقائها مصونة في الساحة من التحدي المعادي للاسلام. لأن الوعي الذي إمتلكته مرجعيته (قدس سره)، كان يفهم أن الوجود الاسلامي كل لا يتجزأ، وأن إضعاف أي طرف إسلامي، هو بالنتيجة إضعاف للوجود الاسلامي. لكن هذه الحقيقة لم يفهمها التقليديون، وخاصة الحواشي المرتبطة بالمرجعيات التقليدية، فقد كانت تنظر الى عالم المرجعية نظرة ضيقة، لا تخلو من الحسابات الذاتية المغلقة، وهذا ما جعلها تهتم بالصراع الداخلي دون أن تهتم أبداً بالصراع الخارجي الكبير والخطير الذي يتعرض له الوجود الاسلامي من قبل السلطة والدوائر المعادية للاسلام.
وقد ظلت هذه النظرة هي الحاكمة لمعظم المرجعيات التقليدية، وهي ثغرة خطيرة في الجسم الشيعي. وقد إستغل المغرضون والمشبوهون هذه الثغرة فولجوا منها لإدارة الحملة ضد أي مرجعية حركية واعية، لا سيما إذا كانت تمثل الامتداد الطبيعي لمرجعية الامام الشهيد الصدر. وهذا ما جعلهم يستهدفون
[471]