النهضة اليمانية
06-09-2008, 11:03 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
مؤسسة المرجعية والآخر والقطيع
إن تأملاً في نمط الخطاب الذي تتبناه مؤسسة المرجعية فيما يتعلق بالآخر أو المغاير الفكري يضعنا أمام التضليل والدهاء الكبير الذي تمارسه سلطة المرجعية في تعاملها مع أتباعها، بوصفهم المستهلك الأول وربما الوحيد لخطابها . فالمؤسسة المرجعية يطيب لها دائماً أن تلبس ثوب المشفق الناصح الذي يوزع إرشاداته بالمجان ، أي إنها تستثمر الدور الراسخ في الأذهان لرجل الدين ، ولكن لا لتمارس هذا الدور على حقيقته ، وإنما لتمرر من خلاله أكثر الأفكار بعداً عن النصح والأمانة والورع .
ويتضح ذلك من ملاحظة إنها لا تخاطب مراكز الوعي في الإنسان، بل تركز خطابها على المراكز الضعيفة وغير الواعية ، فهو خطاب يتعمد إثارة المخاوف والمجادلات التي تخاطب الجانب النفسي في الإنسان . فعلى سبيل التمثيل صدر عن مؤسسة المرجعية وثيقة بصورة سؤال وجواب موجهة من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (ع) التابع للسيستاني الى السيستاني نفسه ورد فيها : (( سؤال المركز / ظهرت في الآونة الأخيرة ادعاءات السفارة للإمام المهدي (ع)، بل يدعي البعض إنه الإمام المنتظر، في حين لم يلق هؤلاء رادعاً قوياً وبياناً واضحاً من مصادر الفتيا و العلم، وقد استغل هؤلاء انعدام المعايير الصحيحة لدى عامة الناس، نتيجة الجهل والتجهيل المتعمد من قبل الظالمين، والفقر، وانفلات الوضع الأمني الذي ابتليت به أمة المسلمين عموماً وفي العراق خصوصاً ... الخ . جواب السيستاني / ... كما إن المرجع في أمور الدين في زمان غيبته (ع) هم العلماء المتقون ممن أُختبر أمرهم في العلم والعمل، وعلم بعدهم عن الهوى والضلال ، كما جرت عليه هذه الطائفة منذ عصر الغيبة الصغرى الى عصرنا هذا . ولا شك في أن السبيل الى طاعة الإمام (ع) والقرب منه ونيل رضاه هو الإلتزام بأحكام الشريعة المقدسة والتحلي بالفضائل والإبتعاد عن الرذائل والجري وفق السيرة المعهودة من علماء الدين وأساطين المذهب وسائر أهل البصيرة التي لا يزالون عليها منذ زمن الأئمة (ع) فمن سلك طريقاً شاذاً وسبيلاً مبتدعاً فقد خاض في الشبهة وسقط في الفتنة وضل عن القصد )) . ومثله يقول اليعقوبي بكلمة له عنوانها ( المرجعية حصن يحمي عقائد الأمة ويصحح سلوكها من الفتن الضالة ) يقول :
( تكاد الدعوات الضالة رغم تباين مناهجها وتقاطعها في عملها تتحد على قاسم مشترك تجتمع عليه هو ضرب المرجعية وتسقيطها وتشويه صورتها وإلغاء دورها في المجتمع ، يستوي في ذلك أدعياء المهدوية والسفارة والبابية والسلوكية وسائر العناوين المرتبطة بقضية الإمام المهدي (ع) وظهوره الميمون والسر في ذلك أن هؤلاء يراهنون في نجاح دعواتهم على سذاجة الناس وجهلهم وتخلفهم ، ومع وجود مرجعية جامعة للشروط والتي من مهامها توعية الأمة وهدايتها الى الحق فإن تلك الدعوات الضالة لا تجد طريقها الى إغواء الناس وإضلالهم لأن من أوصاف العلماء بحسب ما ورد في الروايات الشريفة أنهم حصون الإسلام فكما أن الحصون توضع على حدود الكيان لتحفظ ثغوره وتصد هجمات الأعداء كذلك دور العلماء والمرجعية الرشيدة فإن من وظائفهم حماية عقائد الناس وسلوكهم من الفساد والإنحراف فهم مرابطون على هذه الثغور والفجوات العقائدية والفكرية ليردوا الأعداء من الجن والإنس الذين يتسللون الى عقول وقلوب ونفوس الناس ) .
واضح من هاتين الكلمتين تركيز المؤسسة على ذاتها ، فالسيستاني واليعقوبي يصفان المرجعية بأنها حصن الإسلام ، ويصفان دور العلماء بالتوعية و الهداية وحماية عقائد الناس وسلوكهم من الإنحراف ، ويعززان هذا المضمون عبر الإشارة الى روايات أهل البيت (ع) التي تحدد هذا الدور للعالم أو الفقيه ، وبالنتيجة يبدو ظاهر كلامهما أنيقاً لا يكاد يجد المرء ما يعترض به عليهما ، ولكن وراء الأكمة ما وراءها ، فليس كل ما يلمع ذهباً .
والحق إن ما يتحدثان عنه هو المفروض والواجب الذي ينبغي للفقهاء القيام به ، وهذا المفروض والواجب ليس هو ما تستهدفه كلمات المنتقدين ، بل إنه – وهنا المفارقة – يمثل الميزان الذي ينطلقون منه في توجيه النقد لمؤسسة المرجعية ، وبكلمة أوضح أقول إن المنتقدين ينطلقون من مقارنة واقع العمل المرجعي مع ما يفترض بالمرجعية القيام به ، فإذا كان واجب المرجعية حماية عقائد الناس فإن منتقديها يرونها تخالف هذا الواجب جهاراً نهاراً ، بل إنها وللأسف الشديد تروج بين الناس عقائد باطلة ، بل عقائد تقف على النقيض من عقائد الإسلام الصحيحة ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى .
إذن المؤسسة في الحقيقة تمارس خطاباً تضليلياً فهي تتحدث عما ينبغي فعله لتعتّم على واقعها الفعلي . وهكذا بدلاً من تحديد المعايير الشرعية التي تؤهل الناس لتمييز الدعوات ومعرفة الصالح منها من غير الصالح، نجدها تبادر الى تكذيب كل الدعوات الممكنة ، والتحذير من الضلال والفتن، و الضلال هو كل ما هو موجود في الساحة ، غير المؤسسة نفسها .
ولو تأملنا كلمة السيستاني نجده يعزز ستراتيجية التخويف والإثارة العاطفية ، فيشير الى الإدعاءات الضالة التي عرفها التأريخ في مسعى تضليلي واضح يكرس التأريخ لا بوصفه تأريخاً ، أو سجلاً لتجارب الإنسانية كما قد يتبادر الى الذهن ، وإنما بوصفه صندوق الساحر القديم الذي يخبئ فيه ألعابه وحيله . فالسيستاني يتعامل مع التأريخ بمنهج انتقائي لتعزيز زوبعة المخاوف التي تثيرها كلماته ، يدلك على ذلك أن التأريخ الذي شهد وجود كذابين ، ودعوات ضالة ، شهد أيضاً وجود دعوات محقة لرسل وأنبياء وأوصياء واجههم أقوامهم بالتكذيب، فلماذا يُصار الى التركيز على جانب واحد وإغفال ذكر الجانب الآخر؟ الحق إن هذه الإنتقائية تكشف عن حقيقة المنهج الذي تسلكه المؤسسة في تعاملها مع التأريخ والحاضر معاً ، باعتبار التوظيف الحاضر للتأريخ ، وهو منهج سلطوي تزييفي تكون الدلالة فيه حاضرة بشكل مسبق ويتم بالنتيجة استدعاء التأريخ لا كدلالة أو روح ، وإنما بوصفه ثوباً أو جسداً ميتاً أو مفرغاً من الدلالة ، ويجري في خطوة ثانية تشذيب زوائده وترهلاته ليناسب المدلول الجديد .
والخطوة الأخيرة في هذا المنهج السلطوي تتمثل بإستثمار هذه الكائن المسخ الجديد ، ليكون هو الواقع أو الحاضر الفعلي . وبمعنى آخر ينطوي المنهج السلطوي على مفصل مهم آخر تجسده آلية الإستبدال أو المصادرة التي يجري من خلالها تغييب الواقع أو الحاضر الفعلي لحساب الكائن المسخ .
هكذا إذن تقرأ المؤسسة الواقع وتحدد له دلالته ، فالواقع الذي ينتظر وعي المتلقي ليمنحه دلالته تعمل المرجعية الى تشويه هويته بعملية التهجين أو التركيب التي تضعه أمام وعي المتلقي بصورة حاضر ماضوي ( إن صح التعبير ) أي كائن لا هو الحاضر من جهة وليس هو الماضي نفسه من جهة أخرى ، وإنما هو الماضي أو التأريخ المبتور عن سياقاته والمفرغ من دلالته الحقيقية الذي يراد له أن يكون المرآة العاكسة لما هو حاضر وفعلي . فهو إذن كائن وظيفته تشويه الحاضر أو حجبه أو على الأقل تأجيل حضوره تماماً كغيمة المخاوف التي تحجب شمس الحقيقة . وإذا عاودنا التأمل في خطاب مؤسسة المرجعية نجده يعتمد آلية تضليلية أخرى تتمثل بفتح باب الأمر الواقع ، لتدفع القارئ لها فالنصان المقتبسان يحدثان المتلقي عن العلماء ويصفاهم له على أنهم المرجع في أمور الدين ! والخطاب في هذا الصدد يعتمد آلية نفسية مضمونها : إن الإنسان الذي يشعر بأنه محاصر قد سُدت كل الأبواب في وجهه سيرى حتى الثقب الصغير منفذاً للحرية والآمان، وبكلمة أخرى إنك إذا ما أردت استدراج شخص لمكان ما فما عليك سوى أن تُطفئ كل الأنوار من حوله وتفتح له نافذة ضوء صغيرة فستراه كالذي يمشي في نومه يتجه لا شعورياً نحو تلك النافذة. وهكذا بعد أن أدخل السيستاني واليعقوبي الرعب في قلب القارئ استدرجاه الى ثقب العلماء الضيق موهماه بأنه الرحب الواسع للحرية التي يتطلع لها، وكهف الأمان الحصين. ويُضيف السيستاني تلويناً آخر على فكرته نفسها فينفي كل إمكانية لتطبيق علامات الظهور على مصاديقها وكأنها عبثاً وُجدت، وعبثاً أشار بها أهل البيت (ع)، ولا ينسى السيستاني أن يُلوح للقارئ بوجود منهج صحيح للتطبيق، ولكنه لا يفصح عن ماهيته، ليترك للقارئ المنوم بمخدر كلماته السابقة أن يحزر – بذكاء نادر – إن هذا المنهج معروف للسيستاني وأضرابه من أساطين العلم (كذا) فتتم الخدعة القاسية . الخدعة التي أساسها تحييد النص الشرعي بوصفه أحد أهم عناصر وعي المتلقي التي تمنعه من الوقوع في دائرة الوهم التي صنعها الكائن المسخ البديل عن الواقع . والحق إن كلمات كثيرة كان يمكن أن تُقال بشأن كلام السيستاني واليعقوبي ولكن مقتضى الإختصار استوجب الوقوف عند هذا الحد، ويستطيع القارئ أن يُضيف المزيد من الأفكار، فقط عليه أن يلاحظ أن تعمد المؤسسة إغفال الإجابة العلمية المرتكزة على إيراد الأدلة الشرعية ، والمناقشة الموضوعية للدعوات المطروحة، هذا الإغفال المتعمد يشير بلا شك الى أن المؤسسة تسعى جاهدة لإخفاء الحقيقة عن عنه . ولعل القارئ يستطيع أن يرى أن نمطية الخطاب التي تقوم على أساس استنفار مخزونات الخوف والتشكيك، والإبتعاد عن اللغة الموضوعية تدل حتماً على أن العلاقة التي تربط المؤسسة الدينية بعامة الناس هي علاقة استخفاف، أو استحمار.
وبقدر تعلق الأمر بمرجعية النجف الأشرف، فقد تمحورت سياسة الإستخفاف على قطبين أساسين, فمن جهة كانت هذه المرجعية تتدثر بغطاء التقية المكثفة لتُخفي عن الناس تفريطها بأهم واجباتها الشرعية المتعلقة سياسياً بالتصدي للحاكم الجائر وحكومته الطاغوتية، واجتماعياً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن جهة أخرى كانت تبث بين الناس عبر جهازها الإعلامي (وكلائها على نحو أخص) فكرة أن التكليف الشرعي أمر لا يتسنى للإنسان العادي تحديده ، وبالتالي على هذا الإنسان أن يضع كفه على خده منتظراً تساقط الجواهر من أفواه لم تعتد الجود حتى بأرخص الكلمات. ولماذا ينتظر؟ لأن عمل المكلف دون تقليد باطل حتى لو أدمى كبد الحقيقة! وهكذا وجد هذا الإنسان نفسه محاصراً بين فطرته التي توقن بأن صورة الإسلام الحقيقية شئ آخر غير ما يمارسه فقهاء آخر الزمان وبين الواقع الثقافي المزيف (الواقع الذي لفقه جهاز المرجعية الإعلامي) الذي يكبل فطرته، ويشككه بحقيقة ما يصدر عنها ( أي فطرته نفسها ) .
ولقد كانت الثورة والتمرد كامنة دائماً في أعماق الجموع المستخفة ، ولكن لم يتح لها التعبير عن نفسها بفعل تعويق الواقع الثقافي المزيف، فكانت أشبه ما تكون بالجمر المتواري تحت ركام الرماد... وهكذا ما أن وجد الجمر فرصة الإشتعال بفعل النفخات المباركة لبعض العلماء العاملين حتى امتدت ألسنته لقطاعات واسعة من الناس.
ولكن المؤسف أن الفورة العاطفية غير المدعومة بوعي حقيقي سرعان ما تتبدد في مسارب خادعة مزيفة. وهكذا ما أن امتدت يد الطاغوت المؤيدة من فقهاء آخر الزمان لتفتك بالعلماء العاملين حتى استطاع الفرسان المزيفون أن يركبوا الريح المؤاتية، لاسيما بعد الإحتلال، ليعلنوا أنهم ورثة أولئك العلماء العاملين كذباً و زوراً... هكذا وُجد اليعقوبي و الصرخي وغيرهما.
لقد استغل هؤلاء ما تركه السابقون من قواعد شعبية، فأوهموهم أنهم سيواصلون الطريق نفسها، ولكنهم – و بدهاء شديد – أداروا السفينة (180) درجة، فافرغوا الثورة من مضمونها، ولم يستبقوا منها سوى السخط على المرجعيات الأخرى فعلى الرغم من عدم اختلافهم بشئ عن المرجعيات الأخرى الصامتة، أو غير العاملة - إن لم يكونوا أسوء منها - إلا أنهم أبقوا الخلاف معها على مستوى الشعار و التنظير الكلامي ليحتفظوا بمسافة البعد التي تتيح لهم استبقاء الأتباع. وقد أعانهم على ذلك نمط من الناس يملكون قابلية عجيبة على الإنخداع بالشعارات، ولا يلتفتون أبداً للبون الشاسع بين الشعار والتطبيق.
لقد مثّل الفرسان المزيفون إذن حركة مضادة أو ثورة مضادة حرّفت آمال الجموع المتمردة، بل صنعت من هذه الجموع قوى متعصبة بصورة فجائعية، لاسيما بعد أن تعددت القيادات، وتقاسمت فيما بينها غنيمة الجموع المقلدة، وبعد أن تحول الصراع من صراع مع العدو الطاغوتي الى صراع داخلي محوره الحظوة بكرسي المرجع الأعلى! فأصبحت السمة المميزة لكل جماعة هي الإنغلاق وصم الأذن عن كل نقد يمكن أن يُوجه لمرجعها، والأنكى من ذلك صرنا نسمع إشادات ومديحاً يكال بالمجان للمرجع دون أن يكون لهذا المديح أي رصيد في الخارج.
إن الوضع من السوء بدرجة أكاد أن أقول إنه ميئوس منه، إلا أن تتداركه رحمة ربي التي وسعت كل شئ. فالعصبية اليوم أصبحت أكثر استحكاماً لاسيما بعد أنشأ كل مرجع منهم حزباً سياسياً ليكون رأس الحربة الحركية في الترويج لقناعاته، ومع العمل السياسي دخلت المصالح الدنيوية وصارت هي الهاجس الحقيقي في تحريك النزاعات، وإن بقي الجانب الإيديولوجي محتفظاً بحضوره، ولكنه حضور مزيف أشبه ما يكون بورقة التوت التي تستر العورة. ولعل الإنسان العادي يرى بأم عينه ما أفرزه النزاع على مكاسب الدنيا من خلاف واقتتال بلغ حد أن يستعين الأخ بالأجنبي المحتل على أخيه، والمؤلم حقاً أن مرجعيات آخر الزمان لم تعد تأبه بما يختمر في وعي الناس من تصورات صارت ترى الإسلام والتشيع، وكل ما ترمز له العمامة على أنه عنوان الدجل والخديعة والتكالب على حطام الدنيا. هذا ما يراه الإنسان العادي، أما الإنسان المقلد فقد أعمت عينيه الأقراص الليزرية التي تتغنى بحكمة المرجع والقائد ، حتى لقد أصبحت أكثر الزلات سوءاً تتجلى لعين المقلد بوصفها أروع ما تفتقت عنه العبقرية، وصار الهراء الكثير الذي تنطق به شفتا المرجع إنشودة تأريخية خالدة! وما أصدق المثل الشعبي (ذهب صدام واحد وجاء ألف صدام).
والحمد لله وحده وحده وحده
اللهم صل على محمد وال محمد الائمة والمهديين وسلم تسليما
مؤسسة المرجعية والآخر والقطيع
إن تأملاً في نمط الخطاب الذي تتبناه مؤسسة المرجعية فيما يتعلق بالآخر أو المغاير الفكري يضعنا أمام التضليل والدهاء الكبير الذي تمارسه سلطة المرجعية في تعاملها مع أتباعها، بوصفهم المستهلك الأول وربما الوحيد لخطابها . فالمؤسسة المرجعية يطيب لها دائماً أن تلبس ثوب المشفق الناصح الذي يوزع إرشاداته بالمجان ، أي إنها تستثمر الدور الراسخ في الأذهان لرجل الدين ، ولكن لا لتمارس هذا الدور على حقيقته ، وإنما لتمرر من خلاله أكثر الأفكار بعداً عن النصح والأمانة والورع .
ويتضح ذلك من ملاحظة إنها لا تخاطب مراكز الوعي في الإنسان، بل تركز خطابها على المراكز الضعيفة وغير الواعية ، فهو خطاب يتعمد إثارة المخاوف والمجادلات التي تخاطب الجانب النفسي في الإنسان . فعلى سبيل التمثيل صدر عن مؤسسة المرجعية وثيقة بصورة سؤال وجواب موجهة من مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (ع) التابع للسيستاني الى السيستاني نفسه ورد فيها : (( سؤال المركز / ظهرت في الآونة الأخيرة ادعاءات السفارة للإمام المهدي (ع)، بل يدعي البعض إنه الإمام المنتظر، في حين لم يلق هؤلاء رادعاً قوياً وبياناً واضحاً من مصادر الفتيا و العلم، وقد استغل هؤلاء انعدام المعايير الصحيحة لدى عامة الناس، نتيجة الجهل والتجهيل المتعمد من قبل الظالمين، والفقر، وانفلات الوضع الأمني الذي ابتليت به أمة المسلمين عموماً وفي العراق خصوصاً ... الخ . جواب السيستاني / ... كما إن المرجع في أمور الدين في زمان غيبته (ع) هم العلماء المتقون ممن أُختبر أمرهم في العلم والعمل، وعلم بعدهم عن الهوى والضلال ، كما جرت عليه هذه الطائفة منذ عصر الغيبة الصغرى الى عصرنا هذا . ولا شك في أن السبيل الى طاعة الإمام (ع) والقرب منه ونيل رضاه هو الإلتزام بأحكام الشريعة المقدسة والتحلي بالفضائل والإبتعاد عن الرذائل والجري وفق السيرة المعهودة من علماء الدين وأساطين المذهب وسائر أهل البصيرة التي لا يزالون عليها منذ زمن الأئمة (ع) فمن سلك طريقاً شاذاً وسبيلاً مبتدعاً فقد خاض في الشبهة وسقط في الفتنة وضل عن القصد )) . ومثله يقول اليعقوبي بكلمة له عنوانها ( المرجعية حصن يحمي عقائد الأمة ويصحح سلوكها من الفتن الضالة ) يقول :
( تكاد الدعوات الضالة رغم تباين مناهجها وتقاطعها في عملها تتحد على قاسم مشترك تجتمع عليه هو ضرب المرجعية وتسقيطها وتشويه صورتها وإلغاء دورها في المجتمع ، يستوي في ذلك أدعياء المهدوية والسفارة والبابية والسلوكية وسائر العناوين المرتبطة بقضية الإمام المهدي (ع) وظهوره الميمون والسر في ذلك أن هؤلاء يراهنون في نجاح دعواتهم على سذاجة الناس وجهلهم وتخلفهم ، ومع وجود مرجعية جامعة للشروط والتي من مهامها توعية الأمة وهدايتها الى الحق فإن تلك الدعوات الضالة لا تجد طريقها الى إغواء الناس وإضلالهم لأن من أوصاف العلماء بحسب ما ورد في الروايات الشريفة أنهم حصون الإسلام فكما أن الحصون توضع على حدود الكيان لتحفظ ثغوره وتصد هجمات الأعداء كذلك دور العلماء والمرجعية الرشيدة فإن من وظائفهم حماية عقائد الناس وسلوكهم من الفساد والإنحراف فهم مرابطون على هذه الثغور والفجوات العقائدية والفكرية ليردوا الأعداء من الجن والإنس الذين يتسللون الى عقول وقلوب ونفوس الناس ) .
واضح من هاتين الكلمتين تركيز المؤسسة على ذاتها ، فالسيستاني واليعقوبي يصفان المرجعية بأنها حصن الإسلام ، ويصفان دور العلماء بالتوعية و الهداية وحماية عقائد الناس وسلوكهم من الإنحراف ، ويعززان هذا المضمون عبر الإشارة الى روايات أهل البيت (ع) التي تحدد هذا الدور للعالم أو الفقيه ، وبالنتيجة يبدو ظاهر كلامهما أنيقاً لا يكاد يجد المرء ما يعترض به عليهما ، ولكن وراء الأكمة ما وراءها ، فليس كل ما يلمع ذهباً .
والحق إن ما يتحدثان عنه هو المفروض والواجب الذي ينبغي للفقهاء القيام به ، وهذا المفروض والواجب ليس هو ما تستهدفه كلمات المنتقدين ، بل إنه – وهنا المفارقة – يمثل الميزان الذي ينطلقون منه في توجيه النقد لمؤسسة المرجعية ، وبكلمة أوضح أقول إن المنتقدين ينطلقون من مقارنة واقع العمل المرجعي مع ما يفترض بالمرجعية القيام به ، فإذا كان واجب المرجعية حماية عقائد الناس فإن منتقديها يرونها تخالف هذا الواجب جهاراً نهاراً ، بل إنها وللأسف الشديد تروج بين الناس عقائد باطلة ، بل عقائد تقف على النقيض من عقائد الإسلام الصحيحة ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى .
إذن المؤسسة في الحقيقة تمارس خطاباً تضليلياً فهي تتحدث عما ينبغي فعله لتعتّم على واقعها الفعلي . وهكذا بدلاً من تحديد المعايير الشرعية التي تؤهل الناس لتمييز الدعوات ومعرفة الصالح منها من غير الصالح، نجدها تبادر الى تكذيب كل الدعوات الممكنة ، والتحذير من الضلال والفتن، و الضلال هو كل ما هو موجود في الساحة ، غير المؤسسة نفسها .
ولو تأملنا كلمة السيستاني نجده يعزز ستراتيجية التخويف والإثارة العاطفية ، فيشير الى الإدعاءات الضالة التي عرفها التأريخ في مسعى تضليلي واضح يكرس التأريخ لا بوصفه تأريخاً ، أو سجلاً لتجارب الإنسانية كما قد يتبادر الى الذهن ، وإنما بوصفه صندوق الساحر القديم الذي يخبئ فيه ألعابه وحيله . فالسيستاني يتعامل مع التأريخ بمنهج انتقائي لتعزيز زوبعة المخاوف التي تثيرها كلماته ، يدلك على ذلك أن التأريخ الذي شهد وجود كذابين ، ودعوات ضالة ، شهد أيضاً وجود دعوات محقة لرسل وأنبياء وأوصياء واجههم أقوامهم بالتكذيب، فلماذا يُصار الى التركيز على جانب واحد وإغفال ذكر الجانب الآخر؟ الحق إن هذه الإنتقائية تكشف عن حقيقة المنهج الذي تسلكه المؤسسة في تعاملها مع التأريخ والحاضر معاً ، باعتبار التوظيف الحاضر للتأريخ ، وهو منهج سلطوي تزييفي تكون الدلالة فيه حاضرة بشكل مسبق ويتم بالنتيجة استدعاء التأريخ لا كدلالة أو روح ، وإنما بوصفه ثوباً أو جسداً ميتاً أو مفرغاً من الدلالة ، ويجري في خطوة ثانية تشذيب زوائده وترهلاته ليناسب المدلول الجديد .
والخطوة الأخيرة في هذا المنهج السلطوي تتمثل بإستثمار هذه الكائن المسخ الجديد ، ليكون هو الواقع أو الحاضر الفعلي . وبمعنى آخر ينطوي المنهج السلطوي على مفصل مهم آخر تجسده آلية الإستبدال أو المصادرة التي يجري من خلالها تغييب الواقع أو الحاضر الفعلي لحساب الكائن المسخ .
هكذا إذن تقرأ المؤسسة الواقع وتحدد له دلالته ، فالواقع الذي ينتظر وعي المتلقي ليمنحه دلالته تعمل المرجعية الى تشويه هويته بعملية التهجين أو التركيب التي تضعه أمام وعي المتلقي بصورة حاضر ماضوي ( إن صح التعبير ) أي كائن لا هو الحاضر من جهة وليس هو الماضي نفسه من جهة أخرى ، وإنما هو الماضي أو التأريخ المبتور عن سياقاته والمفرغ من دلالته الحقيقية الذي يراد له أن يكون المرآة العاكسة لما هو حاضر وفعلي . فهو إذن كائن وظيفته تشويه الحاضر أو حجبه أو على الأقل تأجيل حضوره تماماً كغيمة المخاوف التي تحجب شمس الحقيقة . وإذا عاودنا التأمل في خطاب مؤسسة المرجعية نجده يعتمد آلية تضليلية أخرى تتمثل بفتح باب الأمر الواقع ، لتدفع القارئ لها فالنصان المقتبسان يحدثان المتلقي عن العلماء ويصفاهم له على أنهم المرجع في أمور الدين ! والخطاب في هذا الصدد يعتمد آلية نفسية مضمونها : إن الإنسان الذي يشعر بأنه محاصر قد سُدت كل الأبواب في وجهه سيرى حتى الثقب الصغير منفذاً للحرية والآمان، وبكلمة أخرى إنك إذا ما أردت استدراج شخص لمكان ما فما عليك سوى أن تُطفئ كل الأنوار من حوله وتفتح له نافذة ضوء صغيرة فستراه كالذي يمشي في نومه يتجه لا شعورياً نحو تلك النافذة. وهكذا بعد أن أدخل السيستاني واليعقوبي الرعب في قلب القارئ استدرجاه الى ثقب العلماء الضيق موهماه بأنه الرحب الواسع للحرية التي يتطلع لها، وكهف الأمان الحصين. ويُضيف السيستاني تلويناً آخر على فكرته نفسها فينفي كل إمكانية لتطبيق علامات الظهور على مصاديقها وكأنها عبثاً وُجدت، وعبثاً أشار بها أهل البيت (ع)، ولا ينسى السيستاني أن يُلوح للقارئ بوجود منهج صحيح للتطبيق، ولكنه لا يفصح عن ماهيته، ليترك للقارئ المنوم بمخدر كلماته السابقة أن يحزر – بذكاء نادر – إن هذا المنهج معروف للسيستاني وأضرابه من أساطين العلم (كذا) فتتم الخدعة القاسية . الخدعة التي أساسها تحييد النص الشرعي بوصفه أحد أهم عناصر وعي المتلقي التي تمنعه من الوقوع في دائرة الوهم التي صنعها الكائن المسخ البديل عن الواقع . والحق إن كلمات كثيرة كان يمكن أن تُقال بشأن كلام السيستاني واليعقوبي ولكن مقتضى الإختصار استوجب الوقوف عند هذا الحد، ويستطيع القارئ أن يُضيف المزيد من الأفكار، فقط عليه أن يلاحظ أن تعمد المؤسسة إغفال الإجابة العلمية المرتكزة على إيراد الأدلة الشرعية ، والمناقشة الموضوعية للدعوات المطروحة، هذا الإغفال المتعمد يشير بلا شك الى أن المؤسسة تسعى جاهدة لإخفاء الحقيقة عن عنه . ولعل القارئ يستطيع أن يرى أن نمطية الخطاب التي تقوم على أساس استنفار مخزونات الخوف والتشكيك، والإبتعاد عن اللغة الموضوعية تدل حتماً على أن العلاقة التي تربط المؤسسة الدينية بعامة الناس هي علاقة استخفاف، أو استحمار.
وبقدر تعلق الأمر بمرجعية النجف الأشرف، فقد تمحورت سياسة الإستخفاف على قطبين أساسين, فمن جهة كانت هذه المرجعية تتدثر بغطاء التقية المكثفة لتُخفي عن الناس تفريطها بأهم واجباتها الشرعية المتعلقة سياسياً بالتصدي للحاكم الجائر وحكومته الطاغوتية، واجتماعياً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن جهة أخرى كانت تبث بين الناس عبر جهازها الإعلامي (وكلائها على نحو أخص) فكرة أن التكليف الشرعي أمر لا يتسنى للإنسان العادي تحديده ، وبالتالي على هذا الإنسان أن يضع كفه على خده منتظراً تساقط الجواهر من أفواه لم تعتد الجود حتى بأرخص الكلمات. ولماذا ينتظر؟ لأن عمل المكلف دون تقليد باطل حتى لو أدمى كبد الحقيقة! وهكذا وجد هذا الإنسان نفسه محاصراً بين فطرته التي توقن بأن صورة الإسلام الحقيقية شئ آخر غير ما يمارسه فقهاء آخر الزمان وبين الواقع الثقافي المزيف (الواقع الذي لفقه جهاز المرجعية الإعلامي) الذي يكبل فطرته، ويشككه بحقيقة ما يصدر عنها ( أي فطرته نفسها ) .
ولقد كانت الثورة والتمرد كامنة دائماً في أعماق الجموع المستخفة ، ولكن لم يتح لها التعبير عن نفسها بفعل تعويق الواقع الثقافي المزيف، فكانت أشبه ما تكون بالجمر المتواري تحت ركام الرماد... وهكذا ما أن وجد الجمر فرصة الإشتعال بفعل النفخات المباركة لبعض العلماء العاملين حتى امتدت ألسنته لقطاعات واسعة من الناس.
ولكن المؤسف أن الفورة العاطفية غير المدعومة بوعي حقيقي سرعان ما تتبدد في مسارب خادعة مزيفة. وهكذا ما أن امتدت يد الطاغوت المؤيدة من فقهاء آخر الزمان لتفتك بالعلماء العاملين حتى استطاع الفرسان المزيفون أن يركبوا الريح المؤاتية، لاسيما بعد الإحتلال، ليعلنوا أنهم ورثة أولئك العلماء العاملين كذباً و زوراً... هكذا وُجد اليعقوبي و الصرخي وغيرهما.
لقد استغل هؤلاء ما تركه السابقون من قواعد شعبية، فأوهموهم أنهم سيواصلون الطريق نفسها، ولكنهم – و بدهاء شديد – أداروا السفينة (180) درجة، فافرغوا الثورة من مضمونها، ولم يستبقوا منها سوى السخط على المرجعيات الأخرى فعلى الرغم من عدم اختلافهم بشئ عن المرجعيات الأخرى الصامتة، أو غير العاملة - إن لم يكونوا أسوء منها - إلا أنهم أبقوا الخلاف معها على مستوى الشعار و التنظير الكلامي ليحتفظوا بمسافة البعد التي تتيح لهم استبقاء الأتباع. وقد أعانهم على ذلك نمط من الناس يملكون قابلية عجيبة على الإنخداع بالشعارات، ولا يلتفتون أبداً للبون الشاسع بين الشعار والتطبيق.
لقد مثّل الفرسان المزيفون إذن حركة مضادة أو ثورة مضادة حرّفت آمال الجموع المتمردة، بل صنعت من هذه الجموع قوى متعصبة بصورة فجائعية، لاسيما بعد أن تعددت القيادات، وتقاسمت فيما بينها غنيمة الجموع المقلدة، وبعد أن تحول الصراع من صراع مع العدو الطاغوتي الى صراع داخلي محوره الحظوة بكرسي المرجع الأعلى! فأصبحت السمة المميزة لكل جماعة هي الإنغلاق وصم الأذن عن كل نقد يمكن أن يُوجه لمرجعها، والأنكى من ذلك صرنا نسمع إشادات ومديحاً يكال بالمجان للمرجع دون أن يكون لهذا المديح أي رصيد في الخارج.
إن الوضع من السوء بدرجة أكاد أن أقول إنه ميئوس منه، إلا أن تتداركه رحمة ربي التي وسعت كل شئ. فالعصبية اليوم أصبحت أكثر استحكاماً لاسيما بعد أنشأ كل مرجع منهم حزباً سياسياً ليكون رأس الحربة الحركية في الترويج لقناعاته، ومع العمل السياسي دخلت المصالح الدنيوية وصارت هي الهاجس الحقيقي في تحريك النزاعات، وإن بقي الجانب الإيديولوجي محتفظاً بحضوره، ولكنه حضور مزيف أشبه ما يكون بورقة التوت التي تستر العورة. ولعل الإنسان العادي يرى بأم عينه ما أفرزه النزاع على مكاسب الدنيا من خلاف واقتتال بلغ حد أن يستعين الأخ بالأجنبي المحتل على أخيه، والمؤلم حقاً أن مرجعيات آخر الزمان لم تعد تأبه بما يختمر في وعي الناس من تصورات صارت ترى الإسلام والتشيع، وكل ما ترمز له العمامة على أنه عنوان الدجل والخديعة والتكالب على حطام الدنيا. هذا ما يراه الإنسان العادي، أما الإنسان المقلد فقد أعمت عينيه الأقراص الليزرية التي تتغنى بحكمة المرجع والقائد ، حتى لقد أصبحت أكثر الزلات سوءاً تتجلى لعين المقلد بوصفها أروع ما تفتقت عنه العبقرية، وصار الهراء الكثير الذي تنطق به شفتا المرجع إنشودة تأريخية خالدة! وما أصدق المثل الشعبي (ذهب صدام واحد وجاء ألف صدام).
والحمد لله وحده وحده وحده