أمير الدهاء
05-27-2008, 11:10 AM
هل كان مجنوناً بالفعل؟
أم كان عبقرياً سبق زمنه؟
أم منحرفاً فاسداً ملحداً؟
أم كان شاباً غراً تلعب به الأهواء والتناقضات؟
أم أنه لم يكن أكثر من دكتاتور غريب الأطوار من تلك النوعية التي طالما ابتليت بها أمة الإسلام على امتداد تاريخها الطويل!!
تعالوا نتوقف مع (الحاكم بأمر الله) أكثر حكام الدولة الفاطمية إثارة الجدل، وتحفيزاً للتساؤل، ونبحث في سيرته وأفكاره وتصرفاته!!
نشأته وتوليه الحكم:
(الحاكم بأمر الله) هو سادس حكام الدولة الفاطمية، واسمه (أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بنصر الله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي)، والمشكوك في انتساب أسرته إلى آل البيت، وهي قضية خلافية لسنا هنا في معرض التفصيل فيها.
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375هـ في القاهرة خلال حكم أبيه العزيز من أم يونانية الأصل نصرانية الديانة، وحين توفى والده في رمضان سنة 386هـ (996م) فجأة وهو في الحمام خلفه (الحاكم) ولده الوحيد الصبي ذو الأحد عشر عاماً، وتلقب بالإمام المنصور الحاكم بأمر الله، ولما كان قاصراً وقتئذ قام بالوصاية عليه وزيره (برجوان) تنفيذاً لوصية العزيز، وكان برجوان هذا مملوكاً خصياً سلاقونياً تولى الوصاية في ظل صراع على السلطة بينه وبين قائد الجيش ابن عمار مما أدخل البلاد في اضطرابات واضحة.
فقد كان ابن عمار قائد الجيش زعيماً للكتاميين الذين يعتبرون عماد قوة الدولة الفاطمية، وانتهى الأمر بتولي ابن عمار إدارة الدولة, والذي لم يلبث أن قتل بعد هزيمة قواته المكونة من القبائل المغربية.
وما إن بلغ الحاكم سن الخامسة عشر حتى تولى مقاليد الحكم فعلياً في ظل سيطرة لأخواله النصارى على الدولة، وفي ذلك يقول ابن القلانسى: (حينما بلغ سن الرشد سارع الحاكم إلى طمأنة كل الموظفين النصارى على مراكزهم، واهتدى بنصائح أخته ست الملك التي كانت تعطف على النصارى عطفاً شديداً).
وكان أول ضحايا الحاكم هو وصيه (برجوان) الذي رباه، وسبب غدره به أنه كان يسميه في صغره (الوزغة) أي السحلية، فأرسل الحاكم في بداية حكمه يطلب معلمه قائلا: (الوزغة الصغيرة قد صار تنيناً عظيماً، وهو يدعوك)، فجاء برجوان، وهو يرتعد، وعندما حضر إليه أمر الحاكم بقطع رأسه, وكان ذلك سنة 390هـ، وبرر الحاكم ذلك بقوله: (أن برجوان كان يسعى للاستئثار بالسلطة، فلم أستطع كخليفة أن أقوم بالحكم الفعلي، وأنني أفتقر إلى الحكمة بسبب شبابي، وصغر سني، وعدم درايتي بأسلوب الحكم).
ودخل عليه ذات أحد قادته, فرأى الحاكم جالساً، وبين يديه صبى جميل الصورة مذبوح، وفى يد الحاكم سكين مخضبة بالدماء ذبحه بها, وفى يده الأخرى كبده ومصارينه، وهو يقطعها، فخرج ذلك القائد، وهو خائف إلى منزله، وحكى ما رآه لأهله، وكتب وصيته، وبعد ساعة جاءه سياف الحاكم، فقطع رأسه، وكان من عادة الحاكم أنه إذا أراد قتل إنسان أن ينعم عليه بالمال، ويكرمه أولاً ثم يرسل من يقطع رقبته، ويأتيه بها!!
تناقضات الحاكم:
ومع توليه السلطة واجه الحاكم صراعين خارجيين، فبالإضافة إلى الخلاف الموروث مع العباسيين دخل في نزاع آخر مع القرامطة، ولكن ما ميز عهد الحاكم أكثر من غيره هو غرابة أطواره، والذي تمثل بإصداره للعديد من القوانين الغريبة مثل تحريمه أكل الملوخية، وأمره الناس بالعمل ليلاً، والنوم نهاراً.
ويذكر المقريزي في أحداث سنة 391هـ:
(أمر الناس بالوقيد، فتزايدوا بالشوارع والأزقة، وزينت الأسواق بأنواع الزينة، وأوقدوا الشموع الكبيرة طول الليل، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو، وخرج سائر الناس بالليل للتفرج، وغلب النساء الرجال على الخروج في الليل، وتزايد الزحام في الشوارع والطرقات، وتجاهروا بكثير من المسكرات، فلما خرج الناس عن الحد أمر الحاكم ألا تخرج امرأة من العشاء، فإن ظهرت نكل بها، ومنع الناس من الجلوس في الحوانيت).
ومن تناقضاته أيضاً أنه مرة كان يأمر بسب الصحابة الكرام، ويأمر بكتابة ذلك في المساجد ثم يعود فيأمر بمحو تلك الشتائم، فيذكر المقريزي أنه سنة 395هـ: (سجل في الجوامع يأمر اليهود والنصارى بشد الزنار، ولبس الغيار، وشعارهم بالسواد شعار الغاصبين العباسيين، وفيه فحش كثير، وقدح في حق الشيخين رضي الله عنهما) ثم منع الحاكم بعد ذلك الناس من سب السلف، وضرب في ذلك رجل، وشهر، ونودي عليه: (هذا جزاء من سب أبا بكر وعمر)، وتبرأ الحاكم من ذلك، وقرئ سجل بالقصر فيه الترحم على السلف من الصحابة، والنهي عن الخوض في مثل ذلك.
قال ابن قزأوغلي في تاريخه: (كانت خلافة الحاكم متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبةٍ للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح، وقتل الصلحاء، وكان الغالب عليه السخاء، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط، وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلاً ونهاراً ثم عن له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة، وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة 935هـ ثم محاه في سنة 397هـ، وأمر بقتل الكلاب، وحرم بيع الفقاع (البيرة المسكرة) وعمله ثم نهى عنه، ورفع المكوس عن البلاد، وعما يباع فيها، ونهى عن النجوم، وكان ينظر فيها، ونفى المنجمين، وكان يرصدها.
ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها، وقطع الكروم، ومنع بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرماً، وأراق خمسة آلاف جرة من عسل في البحر خوفاً من أن تعمل نبيذاً، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهاراً، وجعل لأهل الذمة علامات يعرفون بها، وألبس اليهود العمائم السود، وأمر ألا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألا يستخدموا غلاماً مسلماً، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حماماً، وجعل لهم حمامات على حدة، ولم يبق في ولايته ديراً ولا كنيسة إلا هدمها، ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه، والصلاة عليه في الخطب والمكاتبات، وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين ثم رجع عن ذلك، وأسلم خلق من أهل الذمة خوفاً منه ثم ارتدوا، وأعاد الكنائس إلى حالها).
وبنى الحاكم الكثير من المساجد، ومن بينها مسجده الشهير بجوار باب الفتوح جهة حي الجمالية في شارع المعز، والذي يعد مكاناً مقدساً لطائفة الإسماعيلية البهرة، ويتواجدون به كثيراً خصوصاً خلال شهر رمضان.
وقال الذهبي في تاريخه: (كان الحاكم جواداً سمحاً خبيثاً ماكراً رديء الاعتقاد سفاكاً للدماء قتل عدداً كبيراً من كبراء دولته صبراً، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أموراً وأحكاماً يحمل الرعية عليها، فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمال بالسب في الأقطار في سنة 395هـ، وأمر بقتل الكلاب في مملكته، وبطل الفقاع والملوخية، ونهى عن السمك، وظفر بمن باع ذلك فقتلهم).
ونهى الحاكم في سنة 402هـ عن بيع الرطب، وجمع منه شيئاً عظيماً، فأحرق، ومنع من بيع العنب وأباد كثيراً من الكروم، وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعاً وزنته خمسة أرطال بالمصري، وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامي الخشب في زنة الصلبان أيضاً، وأن يلبسوا العمائم السود، ولا يكتروا من مسلم بهيمة، وأن يدخلوا الحمام بالصلبان ثم أفرد لهم حمامات، وأمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة.
ولما أرسل إليه ابن باديس صاحب المغرب ينكر عليه أفعاله أراد استمالته، فأظهر التفقه، وحمل في كمه الدفاتر، وطلب إليه فقيهين، وأمرهما بتدريس مذهب مالك في الجامع ثم بدا له، فقتلهما صبراً، وأذن للنصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشرك.
وفي سنة 404هـ منع النساء من الخروج في الطريق، ومنع من عمل الخفاف لهن، فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى مات ثم إنه بعد مدة أمر ببناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ ببناء جامعه الكبير بالقاهرة، فأتمه هو.
وقال ابن تغري بردي في حسن المحاضرة:
(كان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً، كثير التلون في أقواله وأفعاله، هدم كنائس مصر ثم أعادها، وخرب قمامة ثم أعادها، ولم يعهد في ملة الإسلام بناء كنيسة في بلد الإسلام قبله.
ومن قبائح الحاكم أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهاراً، وفتحها ليلاً، فامتثلوا ذلك دهراً طويلاً حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه، وقال: ألم ننهكم عن هذا!. فقال: يا سيدي.. أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار؟.. فهذا من جملة السهر.
فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول.
وكان يعمل الحسبة بنفسه يدور في الأسواق على حمار له، وكان لا يركب إلا حماراً، فمن وجده قد غش في معيشته أمر عبداً أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى.
وكان منع النساء من الخروج من منازلهن، ومنعهن من دخول الحمامات، وقتل خلقاً من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، ومنع من طبخ الملوخية.
وله رعونات كثيرة لا تنضبط، فأبغضه الخلق، وكتبوا له الأوراق بالشتم له ولأسلافه في صورة قصص حتى عملوا صورة امرأة من ورق بخفها وإزارها، وفي يدها قصة فيها من الشتم شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها، فلما رأى ما فيها غضب، وأمر بقتلها، فلما تحققها من ورق، ازداد غضباً إلى غضبه، وأمر العبيد من السود أن يحرقوا مصر، وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، ففعلوا، وقاتلهم أهل مصر قتالاً عظيماً ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، واجتمع الناس في الجوامع، ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى الله واستغاثوا به، وما انجلى الحال حتى اخترق من مصر نحو ثلثها، ونهب نحو نصفها، وسبي حريم كثير، وفعل بهن الفواحش، واشترى الرجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد).
واشتهر الحاكم باستسهاله سفك الدماء، وقدر بعض المؤرخين عدد قتلاه بحوالي ثمانية عشر ألف قتيل ، فكان يفتك دائماً ما بوزرائه، ويقتلهم شر قتلة، فيعين أحدهم في منصبه ثم يقتله، ويعين آخر، فلا تمضي فترة بسيطة إلا والمعين الجديد يتخبط في دمه، وقد قتل من العلماء والكتاب ووجهاء الناس ما لا يحصى عدده.
ادعاء الإلوهية:
وتمادى الحاكم في طريق الضلال، ففي سنة 408هـ قدم مصر داع عجمي اسمه محمد بن إسماعيل الدرزي، واتصل بالحاكم، فأنعم عليه، ودعا الناس إلى القول بإلوهية الحاكم، فأنكر الناس عليه ذلك، ووثب به أحد الأتراك، ومحمد في موكب الحاكم، فقتله، وثارت الفتنة، فنهبت داره، وأغلقت أبواب القاهرة، واستمرت الفتنة ثلاثة أيام قتل فيها جماعة من أتباع الدرزي، وقبض على التركي قاتل الدرزي، وحبس ثم قتل.
ثم ظهر داع آخر اسمه (حمزة بن أحمد)، وتلقب بالهادي، وأقام بمسجد خارج القاهرة، ودعا إلى نفس دعوى الدرزي، وبث دعاته في مصر والشام، وترخص في أعمال الشريعة، وأباح الأمهات والبنات ونحوهن، وأسقط جميع التكاليف في الصلاة والصوم، ونحو ذلك، فاستجاب له خلق كثير، فظهر من حينئذ المذهب الدرزي ببلاد صيدا وبيروت وساحل الشام.
وفي ذلك يقول في ذلك السيوطي: (أن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر إذا قام خروا سجداً حتى إنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرها، وكان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً كثير التلون في أقواله وأفعاله).
قال ابن الجوزي: (زاد ظلم الحاكم، وعن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد، يا أحد، يا محيي يا مميت)!
وقال ابن تغري بردي في حسن المحاضرة: (ولي الحاكم، فكان شر الخليقة لم يل مصر بعد فرعون شر منه رام أن يدعي الإلهية كما ادعاها فرعون، فأمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق الرعاع، وغيرهم).
نهاية الحاكم:
شغف الحاكم في السنوات الأخيرة من حكمه بالتجول ليلاً عند جبل المقطم بالقاهرة، فكان ينظر في النجوم، ويخلو بنفسه، وكانت نهاية الحاكم متسقة مع المسار الغريب لحياته، فقد اختفى ليلة الاثنين 27 شوال 411هـ إذ أنه خرج كعادته للطواف في الجبل، وليس معه إلا رجل وصبي، ولكنه لم يرجع إلى قصره، واختفى إلى الأبد، وعمره ست وثلاثون سنة وسبعة أشهر حكم منها خمساً وعشرين سنة، وحكم بعده ابنه علي الملقب بالظاهر.
واختلف المؤرخون في توضيح أمر نهايته، والأشهر أن أخته ست الملك دبرت اغتياله لسببين أولهما أنها خافت على نفسها من بطشه بعد أن اتهمها بسوء سلوكها مع الرجال، فآثرت أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها، ودفنته في مجلس دارها، والسبب الثاني هو إنكارها لما أقدم عليه الحاكم، وخوفها أن يزول الحكم عنهم بسبب دعواه للإلوهية، وإن كان بعض المؤرخين ينكر أن تكون أخته قد قتلته حيث يقول الدكتور محمد كامل حسين: أن الحاكم قتل نتيجة لمؤامرة يهودية لاضطهاد الحاكم لهم بينما يرى الدكتور محمد أحمد الخطيب أن الحاكم قتل بسبب مؤامرة باطنية بسبب ما أفشاه من مذهبهم السري، وذهب المؤرخ المقريزي، وهو من سلالة الحكام الفاطميين إلى أن قتل الحاكم كان مؤامرة معدة بإحكام من قبل سلطات الدولة الرسمية، وبمباركة دعاة المذهب الإسماعيلي.
ويذكر المقريزي سبب فقده أن أخته ست الكل سلطانة كانت امرأة حازمة، وكانت أسن منه، فدار بينها وبينه يوما كلام، فرماها بالفجور، وقال لها: أنت حامل!
فراسلت سيف الدين حسين بن علي بن دواس من رؤساء جيش كتامة، وكان قد تخوف من الحاكم، وتواعدا على قتل الحاكم، وتحالفا عليه، فأحضرت ست الكل عبدين، وحلفتهما على كتمان الأمر، ودفعت إليهما ألف دينار ليقتلا الحاكم.
فلما صعد إلى الجبل في الليل، ولم يكن معه سوى ركابي وصبي يحمل دواته عارضه وسط الجبل سبع فوارس من بني قرة، فخدموه وسألوه الأمان، وأن يسعفهم بما يصلح شأنهم، فأمنهم، وأمر الركابي أن يحملهم إلى الخازن يدفع إليهم عشرة آلاف درهم، ودخل الوادي الذي كان يدخله، وقد وقف العبدان له، فضرباه حتى مات، وطرحاه، وشقا جوفه، ولفاه في كساء، وقتلا الصبي وغرقا حماره، وحملا الحاكم في كساء إلى أخته، فدفنته.
ومهما قيل، فقد كان اختفاء الحاكم بهذه الطريقة الغريبة فرصة لإذكاء دعوى مؤسسي المعتقد الدرزي بأن الحاكم اختفى، وسيعود مرة أخرى، ويملك الأرض، وينشر العدل باعتباره المهدي المنتظر.
وقد ترددت في جنبات التاريخ عدة دعاوى بعودة الحاكم، فقد ظهر سنة 418هـ رجل اسمه (سكين) ادعى أنه الحاكم بأمر الله قد رجع من غيبته خصوصاً أنه كان يشبه ملامح الحاكم، وقد وصل إلى مصر، ودعا الناس إلى هذه الفكرة بل ووصل إلى قصر الحكم، ووقف على بابه ينادي أصحابه بأنه الحاكم، فارتاع حرس القصر برهة ثم عادوا إلى رشدهم، وهجموا على سكين وأصحابه، وقتلوهم، وأخذ سكين وتم صلبه.
ثم ظهر رجل آخر في صعيد مصر كان قبطياً اسمه (شروط)، وادعى أنه الحاكم بأمر الله، وسمى نفسه أبا العرب، وأعيى الدولة في القبض عليه ثم ظهر شخص آخر يعرف بابن الكردي، وادعى نفس الدعوة السابقة!!
عن عالم اليوم
أم كان عبقرياً سبق زمنه؟
أم منحرفاً فاسداً ملحداً؟
أم كان شاباً غراً تلعب به الأهواء والتناقضات؟
أم أنه لم يكن أكثر من دكتاتور غريب الأطوار من تلك النوعية التي طالما ابتليت بها أمة الإسلام على امتداد تاريخها الطويل!!
تعالوا نتوقف مع (الحاكم بأمر الله) أكثر حكام الدولة الفاطمية إثارة الجدل، وتحفيزاً للتساؤل، ونبحث في سيرته وأفكاره وتصرفاته!!
نشأته وتوليه الحكم:
(الحاكم بأمر الله) هو سادس حكام الدولة الفاطمية، واسمه (أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بنصر الله أبي الطاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي)، والمشكوك في انتساب أسرته إلى آل البيت، وهي قضية خلافية لسنا هنا في معرض التفصيل فيها.
ولد الحاكم بأمر الله سنة 375هـ في القاهرة خلال حكم أبيه العزيز من أم يونانية الأصل نصرانية الديانة، وحين توفى والده في رمضان سنة 386هـ (996م) فجأة وهو في الحمام خلفه (الحاكم) ولده الوحيد الصبي ذو الأحد عشر عاماً، وتلقب بالإمام المنصور الحاكم بأمر الله، ولما كان قاصراً وقتئذ قام بالوصاية عليه وزيره (برجوان) تنفيذاً لوصية العزيز، وكان برجوان هذا مملوكاً خصياً سلاقونياً تولى الوصاية في ظل صراع على السلطة بينه وبين قائد الجيش ابن عمار مما أدخل البلاد في اضطرابات واضحة.
فقد كان ابن عمار قائد الجيش زعيماً للكتاميين الذين يعتبرون عماد قوة الدولة الفاطمية، وانتهى الأمر بتولي ابن عمار إدارة الدولة, والذي لم يلبث أن قتل بعد هزيمة قواته المكونة من القبائل المغربية.
وما إن بلغ الحاكم سن الخامسة عشر حتى تولى مقاليد الحكم فعلياً في ظل سيطرة لأخواله النصارى على الدولة، وفي ذلك يقول ابن القلانسى: (حينما بلغ سن الرشد سارع الحاكم إلى طمأنة كل الموظفين النصارى على مراكزهم، واهتدى بنصائح أخته ست الملك التي كانت تعطف على النصارى عطفاً شديداً).
وكان أول ضحايا الحاكم هو وصيه (برجوان) الذي رباه، وسبب غدره به أنه كان يسميه في صغره (الوزغة) أي السحلية، فأرسل الحاكم في بداية حكمه يطلب معلمه قائلا: (الوزغة الصغيرة قد صار تنيناً عظيماً، وهو يدعوك)، فجاء برجوان، وهو يرتعد، وعندما حضر إليه أمر الحاكم بقطع رأسه, وكان ذلك سنة 390هـ، وبرر الحاكم ذلك بقوله: (أن برجوان كان يسعى للاستئثار بالسلطة، فلم أستطع كخليفة أن أقوم بالحكم الفعلي، وأنني أفتقر إلى الحكمة بسبب شبابي، وصغر سني، وعدم درايتي بأسلوب الحكم).
ودخل عليه ذات أحد قادته, فرأى الحاكم جالساً، وبين يديه صبى جميل الصورة مذبوح، وفى يد الحاكم سكين مخضبة بالدماء ذبحه بها, وفى يده الأخرى كبده ومصارينه، وهو يقطعها، فخرج ذلك القائد، وهو خائف إلى منزله، وحكى ما رآه لأهله، وكتب وصيته، وبعد ساعة جاءه سياف الحاكم، فقطع رأسه، وكان من عادة الحاكم أنه إذا أراد قتل إنسان أن ينعم عليه بالمال، ويكرمه أولاً ثم يرسل من يقطع رقبته، ويأتيه بها!!
تناقضات الحاكم:
ومع توليه السلطة واجه الحاكم صراعين خارجيين، فبالإضافة إلى الخلاف الموروث مع العباسيين دخل في نزاع آخر مع القرامطة، ولكن ما ميز عهد الحاكم أكثر من غيره هو غرابة أطواره، والذي تمثل بإصداره للعديد من القوانين الغريبة مثل تحريمه أكل الملوخية، وأمره الناس بالعمل ليلاً، والنوم نهاراً.
ويذكر المقريزي في أحداث سنة 391هـ:
(أمر الناس بالوقيد، فتزايدوا بالشوارع والأزقة، وزينت الأسواق بأنواع الزينة، وأوقدوا الشموع الكبيرة طول الليل، وأنفقوا الأموال الكثيرة في المآكل والمشارب والغناء واللهو، وخرج سائر الناس بالليل للتفرج، وغلب النساء الرجال على الخروج في الليل، وتزايد الزحام في الشوارع والطرقات، وتجاهروا بكثير من المسكرات، فلما خرج الناس عن الحد أمر الحاكم ألا تخرج امرأة من العشاء، فإن ظهرت نكل بها، ومنع الناس من الجلوس في الحوانيت).
ومن تناقضاته أيضاً أنه مرة كان يأمر بسب الصحابة الكرام، ويأمر بكتابة ذلك في المساجد ثم يعود فيأمر بمحو تلك الشتائم، فيذكر المقريزي أنه سنة 395هـ: (سجل في الجوامع يأمر اليهود والنصارى بشد الزنار، ولبس الغيار، وشعارهم بالسواد شعار الغاصبين العباسيين، وفيه فحش كثير، وقدح في حق الشيخين رضي الله عنهما) ثم منع الحاكم بعد ذلك الناس من سب السلف، وضرب في ذلك رجل، وشهر، ونودي عليه: (هذا جزاء من سب أبا بكر وعمر)، وتبرأ الحاكم من ذلك، وقرئ سجل بالقصر فيه الترحم على السلف من الصحابة، والنهي عن الخوض في مثل ذلك.
قال ابن قزأوغلي في تاريخه: (كانت خلافة الحاكم متضادة بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبةٍ للعلم وانتقام من العلماء، وميل إلى الصلاح، وقتل الصلحاء، وكان الغالب عليه السخاء، وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط، وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام، وأقام سنين يجلس في الشمع ليلاً ونهاراً ثم عن له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة، وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى، وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة 935هـ ثم محاه في سنة 397هـ، وأمر بقتل الكلاب، وحرم بيع الفقاع (البيرة المسكرة) وعمله ثم نهى عنه، ورفع المكوس عن البلاد، وعما يباع فيها، ونهى عن النجوم، وكان ينظر فيها، ونفى المنجمين، وكان يرصدها.
ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها، وقطع الكروم، ومنع بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرماً، وأراق خمسة آلاف جرة من عسل في البحر خوفاً من أن تعمل نبيذاً، ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلاً ونهاراً، وجعل لأهل الذمة علامات يعرفون بها، وألبس اليهود العمائم السود، وأمر ألا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألا يستخدموا غلاماً مسلماً، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حماماً، وجعل لهم حمامات على حدة، ولم يبق في ولايته ديراً ولا كنيسة إلا هدمها، ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه، والصلاة عليه في الخطب والمكاتبات، وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين ثم رجع عن ذلك، وأسلم خلق من أهل الذمة خوفاً منه ثم ارتدوا، وأعاد الكنائس إلى حالها).
وبنى الحاكم الكثير من المساجد، ومن بينها مسجده الشهير بجوار باب الفتوح جهة حي الجمالية في شارع المعز، والذي يعد مكاناً مقدساً لطائفة الإسماعيلية البهرة، ويتواجدون به كثيراً خصوصاً خلال شهر رمضان.
وقال الذهبي في تاريخه: (كان الحاكم جواداً سمحاً خبيثاً ماكراً رديء الاعتقاد سفاكاً للدماء قتل عدداً كبيراً من كبراء دولته صبراً، وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أموراً وأحكاماً يحمل الرعية عليها، فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر العمال بالسب في الأقطار في سنة 395هـ، وأمر بقتل الكلاب في مملكته، وبطل الفقاع والملوخية، ونهى عن السمك، وظفر بمن باع ذلك فقتلهم).
ونهى الحاكم في سنة 402هـ عن بيع الرطب، وجمع منه شيئاً عظيماً، فأحرق، ومنع من بيع العنب وأباد كثيراً من الكروم، وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعاً وزنته خمسة أرطال بالمصري، وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامي الخشب في زنة الصلبان أيضاً، وأن يلبسوا العمائم السود، ولا يكتروا من مسلم بهيمة، وأن يدخلوا الحمام بالصلبان ثم أفرد لهم حمامات، وأمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة.
ولما أرسل إليه ابن باديس صاحب المغرب ينكر عليه أفعاله أراد استمالته، فأظهر التفقه، وحمل في كمه الدفاتر، وطلب إليه فقيهين، وأمرهما بتدريس مذهب مالك في الجامع ثم بدا له، فقتلهما صبراً، وأذن للنصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشرك.
وفي سنة 404هـ منع النساء من الخروج في الطريق، ومنع من عمل الخفاف لهن، فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى مات ثم إنه بعد مدة أمر ببناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ ببناء جامعه الكبير بالقاهرة، فأتمه هو.
وقال ابن تغري بردي في حسن المحاضرة:
(كان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً، كثير التلون في أقواله وأفعاله، هدم كنائس مصر ثم أعادها، وخرب قمامة ثم أعادها، ولم يعهد في ملة الإسلام بناء كنيسة في بلد الإسلام قبله.
ومن قبائح الحاكم أنه ابتنى المدارس، وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وخربها، وألزم الناس بإغلاق الأسواق نهاراً، وفتحها ليلاً، فامتثلوا ذلك دهراً طويلاً حتى اجتاز مرة بشيخ يعمل النجارة في أثناء النهار، فوقف عليه، وقال: ألم ننهكم عن هذا!. فقال: يا سيدي.. أما كان الناس يسهرون لما كانوا يتعيشون بالنهار؟.. فهذا من جملة السهر.
فتبسم وتركه، وأعاد الناس إلى أمرهم الأول.
وكان يعمل الحسبة بنفسه يدور في الأسواق على حمار له، وكان لا يركب إلا حماراً، فمن وجده قد غش في معيشته أمر عبداً أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى.
وكان منع النساء من الخروج من منازلهن، ومنعهن من دخول الحمامات، وقتل خلقاً من النساء على مخالفته في ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، ومنع من طبخ الملوخية.
وله رعونات كثيرة لا تنضبط، فأبغضه الخلق، وكتبوا له الأوراق بالشتم له ولأسلافه في صورة قصص حتى عملوا صورة امرأة من ورق بخفها وإزارها، وفي يدها قصة فيها من الشتم شيء كثير، فلما رآها ظنها امرأة، فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها، فلما رأى ما فيها غضب، وأمر بقتلها، فلما تحققها من ورق، ازداد غضباً إلى غضبه، وأمر العبيد من السود أن يحرقوا مصر، وينهبوا ما فيها من الأموال والحريم، ففعلوا، وقاتلهم أهل مصر قتالاً عظيماً ثلاثة أيام، والنار تعمل في الدور والحريم، واجتمع الناس في الجوامع، ورفعوا المصاحف، وجأروا إلى الله واستغاثوا به، وما انجلى الحال حتى اخترق من مصر نحو ثلثها، ونهب نحو نصفها، وسبي حريم كثير، وفعل بهن الفواحش، واشترى الرجال من سبي لهم من النساء والحريم من أيدي العبيد).
واشتهر الحاكم باستسهاله سفك الدماء، وقدر بعض المؤرخين عدد قتلاه بحوالي ثمانية عشر ألف قتيل ، فكان يفتك دائماً ما بوزرائه، ويقتلهم شر قتلة، فيعين أحدهم في منصبه ثم يقتله، ويعين آخر، فلا تمضي فترة بسيطة إلا والمعين الجديد يتخبط في دمه، وقد قتل من العلماء والكتاب ووجهاء الناس ما لا يحصى عدده.
ادعاء الإلوهية:
وتمادى الحاكم في طريق الضلال، ففي سنة 408هـ قدم مصر داع عجمي اسمه محمد بن إسماعيل الدرزي، واتصل بالحاكم، فأنعم عليه، ودعا الناس إلى القول بإلوهية الحاكم، فأنكر الناس عليه ذلك، ووثب به أحد الأتراك، ومحمد في موكب الحاكم، فقتله، وثارت الفتنة، فنهبت داره، وأغلقت أبواب القاهرة، واستمرت الفتنة ثلاثة أيام قتل فيها جماعة من أتباع الدرزي، وقبض على التركي قاتل الدرزي، وحبس ثم قتل.
ثم ظهر داع آخر اسمه (حمزة بن أحمد)، وتلقب بالهادي، وأقام بمسجد خارج القاهرة، ودعا إلى نفس دعوى الدرزي، وبث دعاته في مصر والشام، وترخص في أعمال الشريعة، وأباح الأمهات والبنات ونحوهن، وأسقط جميع التكاليف في الصلاة والصوم، ونحو ذلك، فاستجاب له خلق كثير، فظهر من حينئذ المذهب الدرزي ببلاد صيدا وبيروت وساحل الشام.
وفي ذلك يقول في ذلك السيوطي: (أن الحاكم أمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر إذا قام خروا سجداً حتى إنه يسجد بسجودهم في الأسواق وغيرها، وكان جباراً عنيداً، وشيطاناً مريداً كثير التلون في أقواله وأفعاله).
قال ابن الجوزي: (زاد ظلم الحاكم، وعن له أن يدعي الربوبية، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد، يا أحد، يا محيي يا مميت)!
وقال ابن تغري بردي في حسن المحاضرة: (ولي الحاكم، فكان شر الخليقة لم يل مصر بعد فرعون شر منه رام أن يدعي الإلهية كما ادعاها فرعون، فأمر الرعية إذا ذكره الخطيب على المنبر أن يقوموا على أقدامهم صفوفاً إعظاماً لذكره، واحتراماً لاسمه، فكان يفعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين، وكان أهل مصر على الخصوص إذا قاموا خروا سجداً حتى أنه يسجد بسجودهم في الأسواق الرعاع، وغيرهم).
نهاية الحاكم:
شغف الحاكم في السنوات الأخيرة من حكمه بالتجول ليلاً عند جبل المقطم بالقاهرة، فكان ينظر في النجوم، ويخلو بنفسه، وكانت نهاية الحاكم متسقة مع المسار الغريب لحياته، فقد اختفى ليلة الاثنين 27 شوال 411هـ إذ أنه خرج كعادته للطواف في الجبل، وليس معه إلا رجل وصبي، ولكنه لم يرجع إلى قصره، واختفى إلى الأبد، وعمره ست وثلاثون سنة وسبعة أشهر حكم منها خمساً وعشرين سنة، وحكم بعده ابنه علي الملقب بالظاهر.
واختلف المؤرخون في توضيح أمر نهايته، والأشهر أن أخته ست الملك دبرت اغتياله لسببين أولهما أنها خافت على نفسها من بطشه بعد أن اتهمها بسوء سلوكها مع الرجال، فآثرت أن تقضي عليه قبل أن يقضي عليها، ودفنته في مجلس دارها، والسبب الثاني هو إنكارها لما أقدم عليه الحاكم، وخوفها أن يزول الحكم عنهم بسبب دعواه للإلوهية، وإن كان بعض المؤرخين ينكر أن تكون أخته قد قتلته حيث يقول الدكتور محمد كامل حسين: أن الحاكم قتل نتيجة لمؤامرة يهودية لاضطهاد الحاكم لهم بينما يرى الدكتور محمد أحمد الخطيب أن الحاكم قتل بسبب مؤامرة باطنية بسبب ما أفشاه من مذهبهم السري، وذهب المؤرخ المقريزي، وهو من سلالة الحكام الفاطميين إلى أن قتل الحاكم كان مؤامرة معدة بإحكام من قبل سلطات الدولة الرسمية، وبمباركة دعاة المذهب الإسماعيلي.
ويذكر المقريزي سبب فقده أن أخته ست الكل سلطانة كانت امرأة حازمة، وكانت أسن منه، فدار بينها وبينه يوما كلام، فرماها بالفجور، وقال لها: أنت حامل!
فراسلت سيف الدين حسين بن علي بن دواس من رؤساء جيش كتامة، وكان قد تخوف من الحاكم، وتواعدا على قتل الحاكم، وتحالفا عليه، فأحضرت ست الكل عبدين، وحلفتهما على كتمان الأمر، ودفعت إليهما ألف دينار ليقتلا الحاكم.
فلما صعد إلى الجبل في الليل، ولم يكن معه سوى ركابي وصبي يحمل دواته عارضه وسط الجبل سبع فوارس من بني قرة، فخدموه وسألوه الأمان، وأن يسعفهم بما يصلح شأنهم، فأمنهم، وأمر الركابي أن يحملهم إلى الخازن يدفع إليهم عشرة آلاف درهم، ودخل الوادي الذي كان يدخله، وقد وقف العبدان له، فضرباه حتى مات، وطرحاه، وشقا جوفه، ولفاه في كساء، وقتلا الصبي وغرقا حماره، وحملا الحاكم في كساء إلى أخته، فدفنته.
ومهما قيل، فقد كان اختفاء الحاكم بهذه الطريقة الغريبة فرصة لإذكاء دعوى مؤسسي المعتقد الدرزي بأن الحاكم اختفى، وسيعود مرة أخرى، ويملك الأرض، وينشر العدل باعتباره المهدي المنتظر.
وقد ترددت في جنبات التاريخ عدة دعاوى بعودة الحاكم، فقد ظهر سنة 418هـ رجل اسمه (سكين) ادعى أنه الحاكم بأمر الله قد رجع من غيبته خصوصاً أنه كان يشبه ملامح الحاكم، وقد وصل إلى مصر، ودعا الناس إلى هذه الفكرة بل ووصل إلى قصر الحكم، ووقف على بابه ينادي أصحابه بأنه الحاكم، فارتاع حرس القصر برهة ثم عادوا إلى رشدهم، وهجموا على سكين وأصحابه، وقتلوهم، وأخذ سكين وتم صلبه.
ثم ظهر رجل آخر في صعيد مصر كان قبطياً اسمه (شروط)، وادعى أنه الحاكم بأمر الله، وسمى نفسه أبا العرب، وأعيى الدولة في القبض عليه ثم ظهر شخص آخر يعرف بابن الكردي، وادعى نفس الدعوة السابقة!!
عن عالم اليوم