على
07-28-2004, 04:19 PM
خالد القشطيني
«كتاب البخلاء» للجاحظ من أروع كتب الفكاهة العالمية عن البخل والبخلاء، لكن الجاحظ عاش في القرن التاسع، ومن يومه تطور فن البخل تطوراً كبيراً في البلاد العربية. الحقيقة أنه الشيء الوحيد الذي تطور فيها. ظهرت في السنين الأخيرة نماذج رائعة من البخلاء تتطلب اصدار كتاب جديد باسم «كتاب البخلاء الحديث»، يصلح لأن يكون ملحقاً للدستور العراقي الجديد ويضم إلى وثائق الجامعة العربية.
أتذكر من هؤلاء ستار افندي، موظف في دائرة النفوس. اكتشف هذا الرجل ان عقد صداقة مع الكبابجية يوفر للمرء مبالغ جيدة، فتصادق مع حسن الكبابجي في الكاظمية. ما أن ينتهي من عمله حتى يبادر لقضاء العصر والمساء جالساً بجانب منقلة صديقه الكبابجي الكبيرة. اكتشف انها في الشتاء توفر عليه فلوس النفط والفحم بالاعتماد على تدفئة نفسه بنار المنقلة، وفي الصيف يتهوى بهواء مروحتها. وكان كلما انشغل حسن الكبابجي بزبائنه، ادار ستار افندي المروحة الكهربائية قليلاً بحيث توجه هواءها نحوه وليس نحو النار. يعود الكبابجي لملاحظة الكباب فيجدها قد انحرفت عن اتجاهها المطلوب فيعيدها إلى سابق وضعها. ويستمر هذا النزاع بينه وبين ضيفه مأمور النفوس. عبثاً حاول حسن ان يكتشف سر محبة المروحة لستار افندي، ولماذا يجدها دائماً تغافله فتتجه إلى وجه صاحبه.
ما أن يحل منتصف الليل وينقطع زوار الإمام الكاظم عن أكل الكباب حتى يطفئ الكبابجي النار ويوقف المروحة فيعود ستار افندي إلى بيته وخده الأيسر متورم احمر بنار المنقلة وخده الأيمن بارد مثلج بهواء المروحة، فيقضي ليلته مثالاً للازدواجية العراقية.
لكن التدفئة والتهوية المجانية لم تكن المكسب الوحيد للرجل، فإنه خلال ذلك كان يستمع لمحمد القبانجي وزكية جورج وأم كلثوم مجاناً في الغرامفون اليدوي (أبو الزمبرك) في زاوية المطعم، واعتاد على رد الجميل بالجميل، فما انتهت الاسطوانة حتى أسرع ستار الى قلبها واستبدال الإبرة بواحدة جديدة ثم يضع الابرة المستهلكة في علبة بجيبه. وفي نهاية العام تكون لديه كمية كافية من الابر يبيعها لأحمد الحداد بعشرين فلساً ليصنع منها شاكوشاً أو مفتاح باب ونحو ذلك. كان رحمه الله مثالاً جيداً للاستثمار والاقتصاد الوطني.
وعندما أسست الإذاعة العراقية عام 1936، وزود المطعم بجهاز راديو أصبحت نشرات الأخبار مناسبة لطيفة لمطارحة أفكاره السياسية مع حسن الكبابجي في إقامة العدل في العراق وإصلاح الاوضاع العربية والتحرر من الاستعمار. وفي أثناء ذلك يكون ستار افندي قد اخرج خبزته من جيبه ووضعها بجانب النار لتسخينها ولتتشرب برائحة الكباب والبصل، ثم يتلقف حفنة من الكرفس والسماق يجعلها زاداً للرغيف يأكله هنيئاً مريئاً على رائحة الكباب المشوي على النار بجانبه. وينهي الوليمة بقدح من الماء المثلج وكله بالمجان. يتجشأ بقوة ويردد «الحمد لله على نعمته، لئن تشكروا لنزيدنكم».
www.kishtainiat.com
«كتاب البخلاء» للجاحظ من أروع كتب الفكاهة العالمية عن البخل والبخلاء، لكن الجاحظ عاش في القرن التاسع، ومن يومه تطور فن البخل تطوراً كبيراً في البلاد العربية. الحقيقة أنه الشيء الوحيد الذي تطور فيها. ظهرت في السنين الأخيرة نماذج رائعة من البخلاء تتطلب اصدار كتاب جديد باسم «كتاب البخلاء الحديث»، يصلح لأن يكون ملحقاً للدستور العراقي الجديد ويضم إلى وثائق الجامعة العربية.
أتذكر من هؤلاء ستار افندي، موظف في دائرة النفوس. اكتشف هذا الرجل ان عقد صداقة مع الكبابجية يوفر للمرء مبالغ جيدة، فتصادق مع حسن الكبابجي في الكاظمية. ما أن ينتهي من عمله حتى يبادر لقضاء العصر والمساء جالساً بجانب منقلة صديقه الكبابجي الكبيرة. اكتشف انها في الشتاء توفر عليه فلوس النفط والفحم بالاعتماد على تدفئة نفسه بنار المنقلة، وفي الصيف يتهوى بهواء مروحتها. وكان كلما انشغل حسن الكبابجي بزبائنه، ادار ستار افندي المروحة الكهربائية قليلاً بحيث توجه هواءها نحوه وليس نحو النار. يعود الكبابجي لملاحظة الكباب فيجدها قد انحرفت عن اتجاهها المطلوب فيعيدها إلى سابق وضعها. ويستمر هذا النزاع بينه وبين ضيفه مأمور النفوس. عبثاً حاول حسن ان يكتشف سر محبة المروحة لستار افندي، ولماذا يجدها دائماً تغافله فتتجه إلى وجه صاحبه.
ما أن يحل منتصف الليل وينقطع زوار الإمام الكاظم عن أكل الكباب حتى يطفئ الكبابجي النار ويوقف المروحة فيعود ستار افندي إلى بيته وخده الأيسر متورم احمر بنار المنقلة وخده الأيمن بارد مثلج بهواء المروحة، فيقضي ليلته مثالاً للازدواجية العراقية.
لكن التدفئة والتهوية المجانية لم تكن المكسب الوحيد للرجل، فإنه خلال ذلك كان يستمع لمحمد القبانجي وزكية جورج وأم كلثوم مجاناً في الغرامفون اليدوي (أبو الزمبرك) في زاوية المطعم، واعتاد على رد الجميل بالجميل، فما انتهت الاسطوانة حتى أسرع ستار الى قلبها واستبدال الإبرة بواحدة جديدة ثم يضع الابرة المستهلكة في علبة بجيبه. وفي نهاية العام تكون لديه كمية كافية من الابر يبيعها لأحمد الحداد بعشرين فلساً ليصنع منها شاكوشاً أو مفتاح باب ونحو ذلك. كان رحمه الله مثالاً جيداً للاستثمار والاقتصاد الوطني.
وعندما أسست الإذاعة العراقية عام 1936، وزود المطعم بجهاز راديو أصبحت نشرات الأخبار مناسبة لطيفة لمطارحة أفكاره السياسية مع حسن الكبابجي في إقامة العدل في العراق وإصلاح الاوضاع العربية والتحرر من الاستعمار. وفي أثناء ذلك يكون ستار افندي قد اخرج خبزته من جيبه ووضعها بجانب النار لتسخينها ولتتشرب برائحة الكباب والبصل، ثم يتلقف حفنة من الكرفس والسماق يجعلها زاداً للرغيف يأكله هنيئاً مريئاً على رائحة الكباب المشوي على النار بجانبه. وينهي الوليمة بقدح من الماء المثلج وكله بالمجان. يتجشأ بقوة ويردد «الحمد لله على نعمته، لئن تشكروا لنزيدنكم».
www.kishtainiat.com