سمير
04-28-2008, 04:01 PM
البصرة تخلع ثياب الموت المجاني
البصرة - نزار حاتم
مخاوف على المكاسب التي حققتها «صولة الفرسان» يبديها البعض من وجهاء أهل البصرة ما لم تلتفت الحكومة العراقية الى ضرورة تسييج هذه المكاسب بإجراءات متزامنة للحيلولة دون ضياعها والعودة بالمحافظة الى مربع النار.
هذه المخاوف مبررة، لأن الانجاز الذي قد تحقق في هذه «الصولة» ليس أمرا سهلا ــ كما يراه البصريون ــ بل كان حلما يراود الجميع، باستثناء القابعين خلف السلاح «غير المشروع» لتنفيذ إرادة الغرباء دما ولحما ووطنا. وباستثناء المأجورين للغير، الذين عميت قلوبهم فعاثوا في هذه المحافظة، الوادعة، قتلا وتشريدا وجرائم بشعة ونهبا للثروات.
المرتزقة وحدهم قد استطاعوا، من خلال ممارساتهم المتوحشة، أن يرسموا فاصلة كبيرة بين البصرة وارثها الحضاري الإنساني الموصول بالثقافة والعلم والمعرفة منذ غابر الأزمان.
حين تسمع هنا، في هذه المحافظة، عن حجم الممارسات البغيضة لا يستوطن عقلك غير الشك بالتاريخ الذي حدثنا طويلا عن وجه البصرة المضيء بنور المعرفة.
بلا أدنى مواربة، يمكن القول إن أهل البصرة يشعرون كما لو أن حبالا كانت ملتفة حول أعناقهم وقد تقطعت بسيف العدالة والإرادة الوطنية، وعلى الجميع الاحتفاظ بهذا السيف مع الحذر من الغفلة طالما أن الوحوش الكاسرة لما تزل مشدودة الى الرغبة الارتزاقية للأجنبي لإدامة رقصة الموت بشراء الضمائر الميتة.
قبيل «صولة الفرسان» كان وجهاء البصرة وبعض رؤساء العشائر فيها يتداولون فيما بينهم السبل الكفيلة بلجم التنين الذي كان يجثم على صدر المحافظة. وما إن بدأت المواجهات بين القوات الحكومية وعناصر ميليشيا جيش المهدي، ومن انضوى تحت هذا المسمى، سارع رؤساء العشائر البصرية الى عقد اجتماع عاجل بدعوة من الرئيس العام لعشيرة بني تميم المحامي منصور عبد الرزاق الكنعان التميمي في مضيفه (محل استقبال الضيوف) الكائن في قضاء شط العرب «التنومة» الذي لا يفصله عن مركز المحافظة سوى الجسر الحديدي الموصل بين ضفتي الشط، والذي قصدناه أمس، الى مضيفه للتعرف منه على الدور العشائري الداعم للحكومة في هذه المواجهة.
الهروب من العدو.. إليه!
حدثني رئيس عشيرة بني تميم، الذي يصر على وطنيته واستقلاليته وعدم ارتباطه بجهة سياسية، قائلا: «المشكلة ليست وليدة اللحظة. وأسبابها تعود الى أن عملية بناء الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى كانت قد بنيت بعد الإطاحة بالنظام السابق على أسس خاطئة، توغل من خلالها أصحاب الميليشيات بقوة في هذه الأجهزة. وبالتالي صارت هي الخصم والحكم. كما أصبحت من الناحية العملية كل أفعالها، سواء على صعيد الجريمة أو تنفيذ أجندة الدول المجاورة وغير المجاورة، تكتسب ما يشبه الصفة الحكومية الرسمية».
وتابع الشيخ التميمي: «وفي مثل هذه الحال لا يجد المواطن من يشكو عنده إذا ما اختطف ابنه أو ابنته أو تم الاعتداء عليه. أي أن السلطة والجريمة والارتباط بدول خارجية وحيازة الأسلحة وتهريب النفط، وغيره بيد أصحاب هذه الميليشيات. وبالتالي يشعر المواطن في مثل هذا الوضع أنه أمام عدو يهرب منه إليه.
سألته عما فعله رؤساء العشائر أثناء المواجهة، وأجاب: «دعوت الى هذا المكان (في إشارة الى ديوانيته) جميع رؤساء عشائر البصرة. وتداولنا فيما بيننا أن جميع عناصر الميليشيات والعناصر التابعة للقوات الحكومية هم أبناء عشائرنا. لذا يتعين على رئيس كل عشيرة أن يكون مسؤولا عن مقتل أي عنصر حكومي، إذا ما كان القاتل من عشيرته، أو يعلن رسميا فصله من العشيرة والبراءة منه. وقد أعطت هذه التوافقات نتائج ايجابية على صعيد تسليم الكثير من أفراد الميليشيات أسلحتهم للحكومة. وهنا، في قضاء شط العرب، استطعنا، من خلال هذا الاتفاق أيضا، إحكام السيطرة على المنطقة وضبط كميات كبيرة من الأسلحة القادمة من إيران والتي كان يمكن لها ــ لو عبرت الى الضفة الأخرى بيد الميليشيات ــ لدامت المعارك أكثر بكثير من الفترة التي استغرقتها».
«وطبعا نحن كنا قد أطلعنا رئيس الوزراء نوري المالكي على اتفاقاتنا خلال استقباله لنا، لتكون الأمور جميعها قانونية».
صدام يسقط مجددا
الشيخ التميمي وصف عملية «صولة الفرسان» بأنها «عملية إنقاذ أشعرت الناس كما لو أن نظام صدام حسين قد سقط مجددا». ثم استدرك، قائلا: «لكن يجب المحافظة على ما تحقق من نتائج مهمة من خلال الاستمرار بملاحقة المطلوبين. لأن كثيرا منهم قد هرب، ويمكن لهم أن يعودوا إذا ما توقفت عمليات الملاحقة وأتيحت لهم الظروف مرة ثانية. وبموازاة ذلك يجب أن تبدأ حركة اعمار حقيقية في المحافظة. لقد رصدت ملايين الدولارات لغرض الإعمار، ولكن كما ترى، ها هي البصرة لا شيء فيها يدلك على اعمار شبر واحد منها بسبب عمليات النهب والفساد المالي. فالشوارع والأزقة مستودعات للنفايات»!
لا ندري متى وكيف تدب عجلة الإعمار لإنقاذ الأحياء الفقيرة التي أسهم الفقر فيها وبالمباشر بتفقيس الشباب العنيف الذي وجد في ممارساته العدوانية نوعا من التعبير عن الذات المستلبة، فلم يجد حرجا في أن يكون جسده حطبا لنيران يريدها الغير «مستعرة» مادام ذلك يرد عنه غائلة الفقر والضياع والتردي في غياهب الجريمة.
في الحيّانية
من قضاء شط العرب طلبت من سائق التاكسي التوجه بنا الى الحيّانية، التي اتخذ منها جيش المهدي مقلعا أساسيا لميليشياته خلال المواجهات الأخيرة، بعد أن سورها بحزام من الألغام والمفخخات.
بدا السائق مترددا في التوجه الى هذا الحي، الذي يضم عشرات الآلاف من العائلات الفقيرة، وحاول عدم الاستجابة بذريعة أن الألغام مازالت نائمة تحت النفايات وفي الأزقة الضيقة. وقال: «عناصر جيش المهدي سيطلقون النار علينا من منازلهم إذا ما شعروا بأننا في مهمة صحفية قد يحسبونها حكومية».
قلت له ألا يخاف، وإننا لن نترجل من السيارة، وسألتقط صورا لهذا الحي أثناء السير دون أن يشعر أحد، وسنضاعف لك الأجرة.
اقتنع على مضض، وربما على استحياء، وسار بنا نحو هذا الحي المشحون بالبؤس، والذي كان محشوا بآلاف القذائف التي أطلق منها الكثير ذات اليمين وذات اليسار خلال المعارك الأخيرة التي حسمتها الفرقة الرابعة التابعة للجيش العراقي لمصلحتها بعد مواجهات شرسة.
ليس ثمة لمسة حانية شفيقة بسكان الحيّانية على صعيد الخدمات: الشوارع هي هي، تربض في وسطها النفايات وأكوام السكراب، فيما المسطحات المائية الآسنة تقتحم أبواب الكثير من المنازل.
الروائح منتنة تزكم الأنوف وتبعث على الاشمئزاز والقرف. كم تمنيت لو أترجل لأتحدث مع المواطنين لأتعرف على مشاعرهم، لولا تحذيرات سائقنا المتوجس والمشدود الأعصاب، وفي حالته تلك معه الكثير من الحق. فطالما أن جميع سكان الحي متحفزون ومستفزون وقلقون أكثر من سائقنا نفسه لأنهم عاشوا المواجهات عن كثب، وحبسوا أنفاسهم ليالي وأياما في منازلهم التي لازموها وسط حالات من الهلع والرعب مخافة سقوط القذائف العشوائية على سقوف وأبواب مساكنهم الهرمة.
حتى المواشي، مثل الماعز والأغنام، لم تجد غير النفايات المكدسة ملجأ للجم الجوع.
كانت إشارة رئيس عشيرة بني تميم الى عدم الاهتمام بالأحياء الفقيرة لصيقة بالذهن خلال هذه الجولة.
لقد كنا زرنا هذا الحي عقب سقوط النظام السابق بأيام معدودات، وبالمقارنة مع هذه الزيارة فان نصيب الحي من الإهمال يبدو مضاعفا ومتراكما مع الأيام.
دعهم يسرقون!
لا تجد اثنين يختلفان في الإشارة الى أن أموالا طائلة قد تم رصدها لاعمار الحيّانية، بيد أن هذه الأموال قد ذهبت ادراج المصالح الشخصية الى جيوب المتنفذين في المحافظة ليبقى بؤس البائسين مكشرا عن أنيابه القاسية.
«يا أخي دعهم يسرقون. نحن نقبل بذلك. ولكن على الأقل بإمكانهم أن يعطوا شيئا من حق الناس».
بهذه العبارة يتحدث معظم أهالي البصرة عن حالة الإهمال العاصفة بمدينتهم.
من وراء نافذة السيارة، وبعد التفاتات مركزة ومخاتلة، وجهت عدسة «القبس» الى بعض الأماكن الشاهدة على سوء الحال الجاثم على صدر هذا الحي وأهله. لكن دون أن أجد ما يبعث على المسرّة في النفس غير ثلة من الشباب العاملين في البلدية يكنسون جانبي الشارع الرئيسي الممتد من شارع60 الى شارع «التأميم» على مسافة نحو ثمانية كيلومترات.
الخوف من المخبأ و«الصكّاكة»
وسط هذه الأجواء المرهقة والمضنية، حاولنا جس النبض للشارع البصري حيال مجمل الأوضاع الجارية في محافظتهم.
جميع الذين سألناهم عن الأمر كانوا يعبرون عن بهجتهم بما حصل، لكن هذه البهجة لدى بعضهم مشوبة بالتوجس والقلق على ما تم انجازه على صعيد ضرب المتطرفين والميليشيويين المسلحين.
هذا التوجس يتضاعف عند النخب الواعية من الكتاب والمثقفين والأدباء والفنانين الذين يلاحقون الأخبار الخاصة بمحافظتهم أولا بأول.
حدثني بعضهم قائلا: «إن الضربة لهؤلاء كانت بلسما لجراح الناس المسالمين بيد أن العناصر الإجرامية قد هرب الكثير منهم الى مناطق الأهوار التابعة لمحافظة البصرة. وهؤلاء يمكن أن يعودوا إذا ما تراخت الأجهزة الأمنية في إدامة زخم الملاحقة للمجرمين».
وأضافوا أن ليلة الجمعة الماضية قد شهدت - لأول مرة منذ عدة شهور - جوقات موسيقية رافقت مواكب الأعراس، بيد أن أحد هذه المواكب قد تعرض الى هجوم برمانات (قنابل يدوية) تسببت في قتل وجرح العديد من المحتفلين».
وتابعوا: «ثمة أشياء مخبأة بالتأكيد تبعث على القلق مازالت بيد العناصر المسلحة رغم الملاحقات المكثفة ضدهم».
فثمة اجتماعات سرية جارية للذين يطلق عليهم اسم «الصكاكة» المختصين بعمليات القتل ربما ستتمخض عن حملة اغتيالات تستهدف من هب ودب من اجل إشاعة الفوضى الأمنية بعد هذا التحسن الرائع .
البصرة - نزار حاتم
مخاوف على المكاسب التي حققتها «صولة الفرسان» يبديها البعض من وجهاء أهل البصرة ما لم تلتفت الحكومة العراقية الى ضرورة تسييج هذه المكاسب بإجراءات متزامنة للحيلولة دون ضياعها والعودة بالمحافظة الى مربع النار.
هذه المخاوف مبررة، لأن الانجاز الذي قد تحقق في هذه «الصولة» ليس أمرا سهلا ــ كما يراه البصريون ــ بل كان حلما يراود الجميع، باستثناء القابعين خلف السلاح «غير المشروع» لتنفيذ إرادة الغرباء دما ولحما ووطنا. وباستثناء المأجورين للغير، الذين عميت قلوبهم فعاثوا في هذه المحافظة، الوادعة، قتلا وتشريدا وجرائم بشعة ونهبا للثروات.
المرتزقة وحدهم قد استطاعوا، من خلال ممارساتهم المتوحشة، أن يرسموا فاصلة كبيرة بين البصرة وارثها الحضاري الإنساني الموصول بالثقافة والعلم والمعرفة منذ غابر الأزمان.
حين تسمع هنا، في هذه المحافظة، عن حجم الممارسات البغيضة لا يستوطن عقلك غير الشك بالتاريخ الذي حدثنا طويلا عن وجه البصرة المضيء بنور المعرفة.
بلا أدنى مواربة، يمكن القول إن أهل البصرة يشعرون كما لو أن حبالا كانت ملتفة حول أعناقهم وقد تقطعت بسيف العدالة والإرادة الوطنية، وعلى الجميع الاحتفاظ بهذا السيف مع الحذر من الغفلة طالما أن الوحوش الكاسرة لما تزل مشدودة الى الرغبة الارتزاقية للأجنبي لإدامة رقصة الموت بشراء الضمائر الميتة.
قبيل «صولة الفرسان» كان وجهاء البصرة وبعض رؤساء العشائر فيها يتداولون فيما بينهم السبل الكفيلة بلجم التنين الذي كان يجثم على صدر المحافظة. وما إن بدأت المواجهات بين القوات الحكومية وعناصر ميليشيا جيش المهدي، ومن انضوى تحت هذا المسمى، سارع رؤساء العشائر البصرية الى عقد اجتماع عاجل بدعوة من الرئيس العام لعشيرة بني تميم المحامي منصور عبد الرزاق الكنعان التميمي في مضيفه (محل استقبال الضيوف) الكائن في قضاء شط العرب «التنومة» الذي لا يفصله عن مركز المحافظة سوى الجسر الحديدي الموصل بين ضفتي الشط، والذي قصدناه أمس، الى مضيفه للتعرف منه على الدور العشائري الداعم للحكومة في هذه المواجهة.
الهروب من العدو.. إليه!
حدثني رئيس عشيرة بني تميم، الذي يصر على وطنيته واستقلاليته وعدم ارتباطه بجهة سياسية، قائلا: «المشكلة ليست وليدة اللحظة. وأسبابها تعود الى أن عملية بناء الشرطة والأجهزة الأمنية الأخرى كانت قد بنيت بعد الإطاحة بالنظام السابق على أسس خاطئة، توغل من خلالها أصحاب الميليشيات بقوة في هذه الأجهزة. وبالتالي صارت هي الخصم والحكم. كما أصبحت من الناحية العملية كل أفعالها، سواء على صعيد الجريمة أو تنفيذ أجندة الدول المجاورة وغير المجاورة، تكتسب ما يشبه الصفة الحكومية الرسمية».
وتابع الشيخ التميمي: «وفي مثل هذه الحال لا يجد المواطن من يشكو عنده إذا ما اختطف ابنه أو ابنته أو تم الاعتداء عليه. أي أن السلطة والجريمة والارتباط بدول خارجية وحيازة الأسلحة وتهريب النفط، وغيره بيد أصحاب هذه الميليشيات. وبالتالي يشعر المواطن في مثل هذا الوضع أنه أمام عدو يهرب منه إليه.
سألته عما فعله رؤساء العشائر أثناء المواجهة، وأجاب: «دعوت الى هذا المكان (في إشارة الى ديوانيته) جميع رؤساء عشائر البصرة. وتداولنا فيما بيننا أن جميع عناصر الميليشيات والعناصر التابعة للقوات الحكومية هم أبناء عشائرنا. لذا يتعين على رئيس كل عشيرة أن يكون مسؤولا عن مقتل أي عنصر حكومي، إذا ما كان القاتل من عشيرته، أو يعلن رسميا فصله من العشيرة والبراءة منه. وقد أعطت هذه التوافقات نتائج ايجابية على صعيد تسليم الكثير من أفراد الميليشيات أسلحتهم للحكومة. وهنا، في قضاء شط العرب، استطعنا، من خلال هذا الاتفاق أيضا، إحكام السيطرة على المنطقة وضبط كميات كبيرة من الأسلحة القادمة من إيران والتي كان يمكن لها ــ لو عبرت الى الضفة الأخرى بيد الميليشيات ــ لدامت المعارك أكثر بكثير من الفترة التي استغرقتها».
«وطبعا نحن كنا قد أطلعنا رئيس الوزراء نوري المالكي على اتفاقاتنا خلال استقباله لنا، لتكون الأمور جميعها قانونية».
صدام يسقط مجددا
الشيخ التميمي وصف عملية «صولة الفرسان» بأنها «عملية إنقاذ أشعرت الناس كما لو أن نظام صدام حسين قد سقط مجددا». ثم استدرك، قائلا: «لكن يجب المحافظة على ما تحقق من نتائج مهمة من خلال الاستمرار بملاحقة المطلوبين. لأن كثيرا منهم قد هرب، ويمكن لهم أن يعودوا إذا ما توقفت عمليات الملاحقة وأتيحت لهم الظروف مرة ثانية. وبموازاة ذلك يجب أن تبدأ حركة اعمار حقيقية في المحافظة. لقد رصدت ملايين الدولارات لغرض الإعمار، ولكن كما ترى، ها هي البصرة لا شيء فيها يدلك على اعمار شبر واحد منها بسبب عمليات النهب والفساد المالي. فالشوارع والأزقة مستودعات للنفايات»!
لا ندري متى وكيف تدب عجلة الإعمار لإنقاذ الأحياء الفقيرة التي أسهم الفقر فيها وبالمباشر بتفقيس الشباب العنيف الذي وجد في ممارساته العدوانية نوعا من التعبير عن الذات المستلبة، فلم يجد حرجا في أن يكون جسده حطبا لنيران يريدها الغير «مستعرة» مادام ذلك يرد عنه غائلة الفقر والضياع والتردي في غياهب الجريمة.
في الحيّانية
من قضاء شط العرب طلبت من سائق التاكسي التوجه بنا الى الحيّانية، التي اتخذ منها جيش المهدي مقلعا أساسيا لميليشياته خلال المواجهات الأخيرة، بعد أن سورها بحزام من الألغام والمفخخات.
بدا السائق مترددا في التوجه الى هذا الحي، الذي يضم عشرات الآلاف من العائلات الفقيرة، وحاول عدم الاستجابة بذريعة أن الألغام مازالت نائمة تحت النفايات وفي الأزقة الضيقة. وقال: «عناصر جيش المهدي سيطلقون النار علينا من منازلهم إذا ما شعروا بأننا في مهمة صحفية قد يحسبونها حكومية».
قلت له ألا يخاف، وإننا لن نترجل من السيارة، وسألتقط صورا لهذا الحي أثناء السير دون أن يشعر أحد، وسنضاعف لك الأجرة.
اقتنع على مضض، وربما على استحياء، وسار بنا نحو هذا الحي المشحون بالبؤس، والذي كان محشوا بآلاف القذائف التي أطلق منها الكثير ذات اليمين وذات اليسار خلال المعارك الأخيرة التي حسمتها الفرقة الرابعة التابعة للجيش العراقي لمصلحتها بعد مواجهات شرسة.
ليس ثمة لمسة حانية شفيقة بسكان الحيّانية على صعيد الخدمات: الشوارع هي هي، تربض في وسطها النفايات وأكوام السكراب، فيما المسطحات المائية الآسنة تقتحم أبواب الكثير من المنازل.
الروائح منتنة تزكم الأنوف وتبعث على الاشمئزاز والقرف. كم تمنيت لو أترجل لأتحدث مع المواطنين لأتعرف على مشاعرهم، لولا تحذيرات سائقنا المتوجس والمشدود الأعصاب، وفي حالته تلك معه الكثير من الحق. فطالما أن جميع سكان الحي متحفزون ومستفزون وقلقون أكثر من سائقنا نفسه لأنهم عاشوا المواجهات عن كثب، وحبسوا أنفاسهم ليالي وأياما في منازلهم التي لازموها وسط حالات من الهلع والرعب مخافة سقوط القذائف العشوائية على سقوف وأبواب مساكنهم الهرمة.
حتى المواشي، مثل الماعز والأغنام، لم تجد غير النفايات المكدسة ملجأ للجم الجوع.
كانت إشارة رئيس عشيرة بني تميم الى عدم الاهتمام بالأحياء الفقيرة لصيقة بالذهن خلال هذه الجولة.
لقد كنا زرنا هذا الحي عقب سقوط النظام السابق بأيام معدودات، وبالمقارنة مع هذه الزيارة فان نصيب الحي من الإهمال يبدو مضاعفا ومتراكما مع الأيام.
دعهم يسرقون!
لا تجد اثنين يختلفان في الإشارة الى أن أموالا طائلة قد تم رصدها لاعمار الحيّانية، بيد أن هذه الأموال قد ذهبت ادراج المصالح الشخصية الى جيوب المتنفذين في المحافظة ليبقى بؤس البائسين مكشرا عن أنيابه القاسية.
«يا أخي دعهم يسرقون. نحن نقبل بذلك. ولكن على الأقل بإمكانهم أن يعطوا شيئا من حق الناس».
بهذه العبارة يتحدث معظم أهالي البصرة عن حالة الإهمال العاصفة بمدينتهم.
من وراء نافذة السيارة، وبعد التفاتات مركزة ومخاتلة، وجهت عدسة «القبس» الى بعض الأماكن الشاهدة على سوء الحال الجاثم على صدر هذا الحي وأهله. لكن دون أن أجد ما يبعث على المسرّة في النفس غير ثلة من الشباب العاملين في البلدية يكنسون جانبي الشارع الرئيسي الممتد من شارع60 الى شارع «التأميم» على مسافة نحو ثمانية كيلومترات.
الخوف من المخبأ و«الصكّاكة»
وسط هذه الأجواء المرهقة والمضنية، حاولنا جس النبض للشارع البصري حيال مجمل الأوضاع الجارية في محافظتهم.
جميع الذين سألناهم عن الأمر كانوا يعبرون عن بهجتهم بما حصل، لكن هذه البهجة لدى بعضهم مشوبة بالتوجس والقلق على ما تم انجازه على صعيد ضرب المتطرفين والميليشيويين المسلحين.
هذا التوجس يتضاعف عند النخب الواعية من الكتاب والمثقفين والأدباء والفنانين الذين يلاحقون الأخبار الخاصة بمحافظتهم أولا بأول.
حدثني بعضهم قائلا: «إن الضربة لهؤلاء كانت بلسما لجراح الناس المسالمين بيد أن العناصر الإجرامية قد هرب الكثير منهم الى مناطق الأهوار التابعة لمحافظة البصرة. وهؤلاء يمكن أن يعودوا إذا ما تراخت الأجهزة الأمنية في إدامة زخم الملاحقة للمجرمين».
وأضافوا أن ليلة الجمعة الماضية قد شهدت - لأول مرة منذ عدة شهور - جوقات موسيقية رافقت مواكب الأعراس، بيد أن أحد هذه المواكب قد تعرض الى هجوم برمانات (قنابل يدوية) تسببت في قتل وجرح العديد من المحتفلين».
وتابعوا: «ثمة أشياء مخبأة بالتأكيد تبعث على القلق مازالت بيد العناصر المسلحة رغم الملاحقات المكثفة ضدهم».
فثمة اجتماعات سرية جارية للذين يطلق عليهم اسم «الصكاكة» المختصين بعمليات القتل ربما ستتمخض عن حملة اغتيالات تستهدف من هب ودب من اجل إشاعة الفوضى الأمنية بعد هذا التحسن الرائع .