علي علي
04-12-2008, 12:39 AM
12/04/2008 الجزائر ــ نصر الدين قاسم
كانوا مجموعة من الشباب يعبثون بالألعاب النارية، حتى انفجرت مفرقعة تحت أقدام امرأة حامل في الشارع، وبعضهم يقول سقطت في بيتها، فخرت المرأة صعقة من شدة الفزع والخوف وسقط معها الجنين.
تلك كانت الشعلة التي أوقدت الفتنة في بلدية بريان في ولاية غرداية (550 كلم جنوب العاصمة الجزائر). فخرج الزوج ليقتص من المعتدين على حرمته، فتوسعت المشادات. كل يحتج ويصارع حتى تحولت إلى مواجهات بدت وكأنها أخذت طابعا «عروشيا» قبليا.
وبسرعة البرق تطور الشجار إلى أحداث دامية انتشرت مثل النار في الهشيم، فطالت البشر والحجر، والأخضر واليابس. اقتتال شديد واشتباكات كبيرة، وحرق ونهب للبيوت والمحلات. ولم تهدأ العاصفة إلا بعد تدخل قوات الأمن بكثافة كبيرة، بعد ساعات من اندلاع الأحداث. الحصيلة قتيل وأكثر من عشرين جريحا، وخسائر مادية ضخمة، ومئات المحلات والبيوت المخربة والمدمرة، بالإضافة الى فرار العشرات من السكان إلى خارج المدينة، هروبا من الانتقام في حالة تجدد المواجهات.
بعض التقارير نقلت أن الأحداث كانت بتلك الحدة لأنها أيقظت فتنة طائفية عرقية نائمة في المنطقة بين «الإباضيين»، من بني ميزاب، و«السنيين» من «الشعامبة» الذين يتقاسمون العيش في تلك المناطق. وكان التفسير يبدو الأقرب إلى التصديق بالنظر إلى الكثير من الأحداث المشابهة التي تعرفها المنطقة بصفة تكاد تكون دورية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. غير أن الكثير من السكان رفضوا هذا التفسير، وأعابوا على المراسلين ذلك، مؤكدين أن منطقة «بريان» لا يسكنها الشعامبة، وبالتالي فإن إعطاء الأحداث التفسير الطائفي فيه الكثير من التضليل والافتراء. وأن الأحداث حركتها أسباب أخرى تتعلق بالوضع الاجتماعي التي تعرفه المنطقة.
فكان يكفي أي شيء ليفجر غضب السكان ويختلط الحابل بالنابل.
السلطات المحلية، وعلى رأسها والي ولاية غرداية، اعتبرت أن الأحداث كانت بفعل فاعل ولم تكن صدفة، حقيقة أنها بدأت بمفرقعة لكن الحادثة استغلت من طرف جهات وصفها الوالي بالمجهولة وإلا بماذا نفسر ــ يقول الوالي ــ كل هذا النهب والتخريب الذي حصل.
الوالي بدا مصمما على فتح تحقيق حول الأحداث إلى غاية كشف كل خيوط الأحداث وإلقاء القبض على المتسببين فيها والقتلة والمخربين وتقديمهم إلى العدالة، وهي المهمة والعزم الذين يشاركه فيهما ويسنده السكان والأعيان.
علاج أو مجرد مسكنات
نفس التفسير تقريبا يذهب إليه الكثيرون ممن عايشوا الأحداث. إذ يتحدث بعضهم عن عناصر غريبة عن الحي ـ يصفونها بالمشبوهة ـ تم تسريبها ليلا إلى بعض أركان المدينة أين تم تخريب الإنارة العمومية مسبقا، في عملية يقول هؤلاء أنها كانت مبرمجة؟
وتصر هذه الروايات على أن الأحداث كانت من تدبير ما يسمونه «لوبي الفساد الخطير»، الذي كان يريد «استدراج الأحداث» لتعرف توجهات مأساوية تساعده على الاختفاء وإبعاد كل من يشكل عليه خطرا. لكن المؤامرة، كما يفيد أصحاب هذا الطرح، لم تنطل على الجميع. حتى أن قوات الأمن تنبهت للشرك، ولم تقم بحملات اعتقالات جماعية، بل اقتصرت ملاحقاتها على شخص واحد اشتبه في أنه كان قاتل الضحية الوحيدة في الأحداث.
السلطات السياسية، بدورها، لم تترك شيئا للصدفة. فقد تحركت بقوة نظرا لجسامة الحصيلة، وخطورة التفسيرات والقراءات المتلاحقة عن المشادات، بالإضافة الى حساسية الأزمة.
فقد تنقل رئيس الحكومة شخصيا، والتقى بأعيان المنطقة وعقلائها الذين كان لهم الفضل الكبير في تهدئة النفوس وعودة الهدوء إلى المنطقة ورجوع الناس إلى ما تبقى من بيوتهم.
بلخادم، وبعد اطلاعه على الوضع ومناقشته مع السلطات المحلية وتقديم التعازي لعائلة الضحية، وعد السكان بفتح تحقيق لمعرفة المتورطين في إشعال نار الفتنة ليعيثوا في المدينة وسكانها فسادا ونهبا، ووعد المتضررين بتعويضات مجزية عما تكبدوه من خسائر جراء الأحداث سواء في تجارتهم أو في ممتلكاتهم.
معاناة تؤسس لأخرى
كما تعهد بلخادم بتخصيص حصة من مناصب العمل في المنشآت البترولية في «حاسي الرمل» المدينة المجاورة والتابعة إداريا لولاية الأغواط، كخطوة نحو التكفل بمشاكل الشباب والتخفيف من معاناتهم، خصوصا أن بلدية بريان يسكنها زهاء 47 ألف نسمة، ولا تتمتع بمزايا صناعية أو فلاحية كبيرة تساهم في رفع الغبن عن سكانها، رغم ما تزخر به من إمكانات.
رئيس الحكومة عاد مطمئنا لنجاح مهمته في بريان حتى انه اعتبر أن ملف الأحداث قد طوي نهائيا، غير أن بريان لا تزال تضمد جراحها، وترمم خرابها، ولم تعد الحياة الطبيعية إليها. الأحداث خلفت معاناة اضافية إلى السكان الذين وجدوا أنفسهم في مدينة تكاد تكون مخربة ومنهوبة عن آخرها تفتقر لأبسط ضرورات الحياة، من خبز وخضار وحليب.. فحتى النشاط التجاري الذي كان يمثل مصدر الحياة الرئيسي للسكان تضرر بأكثر من 70%، مما يعني زيادة بطالين إضافيين للقائمة الطويلة أصلا.
الفتنة وكنوز «خيمة جلد الجمال»
سكان بريان يأملون في أن لا يطوى ملف الأحداث بهذه السرعة لأنهم يعتقدون بأن القضية يجب أن ينظر إليها بعمق، وتعالج بكل الصرامة الضرورية، حتى لا تتكرر هذه المأساة. ذلك لأن مدينتهم مؤهلة لتكون أحسن بكثير مما هي عليه. فبريان التي تعني بالأمازيغية «خيمة جلد الجمال» مدينة استراتيجية وتاريخية وسياحية إنها تقع أولا على الطريق الوطني رقم واحد الذي يربط الشمال بالجنوب، بكل ما تعنيه هذه الأهمية من أبعاد اقتصادية واتصالية.
كما أن المنطقة تزخر بمواقع أثرية ومعالم هندسية ذات صيت عالمي، ونقوشات ورسومات تعود إلى ما قبل التاريخ، وكتابات نادرة بالتيفيناغ (اللغة الأمازيغية القديمة)، ناهيك عن المناظر السياحية الخلابة في الواحات ذات الجمال الأخاذ وما جاورها.
وعليه فإن الأوضاع المتسمة بعدم الاستقرار تحرم المدينة وسكانها من الكثير من الأنعم، وعليه فإن القضاء نهائيا على جيوب الفتنة وفتيلها سيعطي المدينة دفعا قويا يجعلها محل استقطاب اقتصادي وتجاري وسياحي دولي كبير.
كانوا مجموعة من الشباب يعبثون بالألعاب النارية، حتى انفجرت مفرقعة تحت أقدام امرأة حامل في الشارع، وبعضهم يقول سقطت في بيتها، فخرت المرأة صعقة من شدة الفزع والخوف وسقط معها الجنين.
تلك كانت الشعلة التي أوقدت الفتنة في بلدية بريان في ولاية غرداية (550 كلم جنوب العاصمة الجزائر). فخرج الزوج ليقتص من المعتدين على حرمته، فتوسعت المشادات. كل يحتج ويصارع حتى تحولت إلى مواجهات بدت وكأنها أخذت طابعا «عروشيا» قبليا.
وبسرعة البرق تطور الشجار إلى أحداث دامية انتشرت مثل النار في الهشيم، فطالت البشر والحجر، والأخضر واليابس. اقتتال شديد واشتباكات كبيرة، وحرق ونهب للبيوت والمحلات. ولم تهدأ العاصفة إلا بعد تدخل قوات الأمن بكثافة كبيرة، بعد ساعات من اندلاع الأحداث. الحصيلة قتيل وأكثر من عشرين جريحا، وخسائر مادية ضخمة، ومئات المحلات والبيوت المخربة والمدمرة، بالإضافة الى فرار العشرات من السكان إلى خارج المدينة، هروبا من الانتقام في حالة تجدد المواجهات.
بعض التقارير نقلت أن الأحداث كانت بتلك الحدة لأنها أيقظت فتنة طائفية عرقية نائمة في المنطقة بين «الإباضيين»، من بني ميزاب، و«السنيين» من «الشعامبة» الذين يتقاسمون العيش في تلك المناطق. وكان التفسير يبدو الأقرب إلى التصديق بالنظر إلى الكثير من الأحداث المشابهة التي تعرفها المنطقة بصفة تكاد تكون دورية منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. غير أن الكثير من السكان رفضوا هذا التفسير، وأعابوا على المراسلين ذلك، مؤكدين أن منطقة «بريان» لا يسكنها الشعامبة، وبالتالي فإن إعطاء الأحداث التفسير الطائفي فيه الكثير من التضليل والافتراء. وأن الأحداث حركتها أسباب أخرى تتعلق بالوضع الاجتماعي التي تعرفه المنطقة.
فكان يكفي أي شيء ليفجر غضب السكان ويختلط الحابل بالنابل.
السلطات المحلية، وعلى رأسها والي ولاية غرداية، اعتبرت أن الأحداث كانت بفعل فاعل ولم تكن صدفة، حقيقة أنها بدأت بمفرقعة لكن الحادثة استغلت من طرف جهات وصفها الوالي بالمجهولة وإلا بماذا نفسر ــ يقول الوالي ــ كل هذا النهب والتخريب الذي حصل.
الوالي بدا مصمما على فتح تحقيق حول الأحداث إلى غاية كشف كل خيوط الأحداث وإلقاء القبض على المتسببين فيها والقتلة والمخربين وتقديمهم إلى العدالة، وهي المهمة والعزم الذين يشاركه فيهما ويسنده السكان والأعيان.
علاج أو مجرد مسكنات
نفس التفسير تقريبا يذهب إليه الكثيرون ممن عايشوا الأحداث. إذ يتحدث بعضهم عن عناصر غريبة عن الحي ـ يصفونها بالمشبوهة ـ تم تسريبها ليلا إلى بعض أركان المدينة أين تم تخريب الإنارة العمومية مسبقا، في عملية يقول هؤلاء أنها كانت مبرمجة؟
وتصر هذه الروايات على أن الأحداث كانت من تدبير ما يسمونه «لوبي الفساد الخطير»، الذي كان يريد «استدراج الأحداث» لتعرف توجهات مأساوية تساعده على الاختفاء وإبعاد كل من يشكل عليه خطرا. لكن المؤامرة، كما يفيد أصحاب هذا الطرح، لم تنطل على الجميع. حتى أن قوات الأمن تنبهت للشرك، ولم تقم بحملات اعتقالات جماعية، بل اقتصرت ملاحقاتها على شخص واحد اشتبه في أنه كان قاتل الضحية الوحيدة في الأحداث.
السلطات السياسية، بدورها، لم تترك شيئا للصدفة. فقد تحركت بقوة نظرا لجسامة الحصيلة، وخطورة التفسيرات والقراءات المتلاحقة عن المشادات، بالإضافة الى حساسية الأزمة.
فقد تنقل رئيس الحكومة شخصيا، والتقى بأعيان المنطقة وعقلائها الذين كان لهم الفضل الكبير في تهدئة النفوس وعودة الهدوء إلى المنطقة ورجوع الناس إلى ما تبقى من بيوتهم.
بلخادم، وبعد اطلاعه على الوضع ومناقشته مع السلطات المحلية وتقديم التعازي لعائلة الضحية، وعد السكان بفتح تحقيق لمعرفة المتورطين في إشعال نار الفتنة ليعيثوا في المدينة وسكانها فسادا ونهبا، ووعد المتضررين بتعويضات مجزية عما تكبدوه من خسائر جراء الأحداث سواء في تجارتهم أو في ممتلكاتهم.
معاناة تؤسس لأخرى
كما تعهد بلخادم بتخصيص حصة من مناصب العمل في المنشآت البترولية في «حاسي الرمل» المدينة المجاورة والتابعة إداريا لولاية الأغواط، كخطوة نحو التكفل بمشاكل الشباب والتخفيف من معاناتهم، خصوصا أن بلدية بريان يسكنها زهاء 47 ألف نسمة، ولا تتمتع بمزايا صناعية أو فلاحية كبيرة تساهم في رفع الغبن عن سكانها، رغم ما تزخر به من إمكانات.
رئيس الحكومة عاد مطمئنا لنجاح مهمته في بريان حتى انه اعتبر أن ملف الأحداث قد طوي نهائيا، غير أن بريان لا تزال تضمد جراحها، وترمم خرابها، ولم تعد الحياة الطبيعية إليها. الأحداث خلفت معاناة اضافية إلى السكان الذين وجدوا أنفسهم في مدينة تكاد تكون مخربة ومنهوبة عن آخرها تفتقر لأبسط ضرورات الحياة، من خبز وخضار وحليب.. فحتى النشاط التجاري الذي كان يمثل مصدر الحياة الرئيسي للسكان تضرر بأكثر من 70%، مما يعني زيادة بطالين إضافيين للقائمة الطويلة أصلا.
الفتنة وكنوز «خيمة جلد الجمال»
سكان بريان يأملون في أن لا يطوى ملف الأحداث بهذه السرعة لأنهم يعتقدون بأن القضية يجب أن ينظر إليها بعمق، وتعالج بكل الصرامة الضرورية، حتى لا تتكرر هذه المأساة. ذلك لأن مدينتهم مؤهلة لتكون أحسن بكثير مما هي عليه. فبريان التي تعني بالأمازيغية «خيمة جلد الجمال» مدينة استراتيجية وتاريخية وسياحية إنها تقع أولا على الطريق الوطني رقم واحد الذي يربط الشمال بالجنوب، بكل ما تعنيه هذه الأهمية من أبعاد اقتصادية واتصالية.
كما أن المنطقة تزخر بمواقع أثرية ومعالم هندسية ذات صيت عالمي، ونقوشات ورسومات تعود إلى ما قبل التاريخ، وكتابات نادرة بالتيفيناغ (اللغة الأمازيغية القديمة)، ناهيك عن المناظر السياحية الخلابة في الواحات ذات الجمال الأخاذ وما جاورها.
وعليه فإن الأوضاع المتسمة بعدم الاستقرار تحرم المدينة وسكانها من الكثير من الأنعم، وعليه فإن القضاء نهائيا على جيوب الفتنة وفتيلها سيعطي المدينة دفعا قويا يجعلها محل استقطاب اقتصادي وتجاري وسياحي دولي كبير.