سيد مرحوم
07-23-2004, 03:09 AM
مرحى . . الحكمة العراقية
نــــــــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
وصلت بالايميل الشخصي عبر الكاتب ولاتعبر عن راي الناقل بالضرورة
اذا أوتي امرءا الحكمة ، فقد أوتي خيرا كثيرا ، فما بالك بشعب كامل يؤت الحكمة ؟ .
مرة أخرى يثبت العراقيون أنهم أوتوا الحكمة ، ولذلك أوتوا خيرا كثيرا ، تجاوزوا بها العديد من المخاطر التي زرعها النظام الشمولي البائد كالألغام في ساحة المعركة ، كلما غفل المرء عنها او غفا ، إنفجر لغم في وجهه ، فتجاوزوا بالحكمة مخاطر الحرب الاهلية ، ومخاطر الحرب الطائفية ، ومخاطر الحرب العرقية ، بالرغم من كل الجهود والملايين التي صرفها أعداء العراق ، كما تجاوزوا بالحكمة مخاطر حالات الانتقام والانتقام المتبادل التي نفخ في نارها كثيرون ، هذا ، على الرغم من كل التحديات الكبيرة التي لو مر بها أي شعب آخر ، لتفتتت بلاده وتمزقت وحدته وتطاحنت قومياته ومذاهبه ، وتناثرت لحمته ، ولتحول الى رماد تذروه الرياح .
فالحمد لله أولا وأخيرا ، على ما أنعم على العراقيين من حكمة مكنتهم من تجاوز آثار ومخلفات النظام البائد ، وها هم يتجاوزون بالحكمة آثار ومخلفات الاحتلال ، الواحدة تلو الاخرى .
أما المتربصون بالعراق ، ليصفقوا ويفرحوا إذا كبا ، الساعون الى تحطيمه ، والمتآمرون على شعبه ، من الذين يراهنون على العنصرية تارة وعلى الطائفية أخرى ، وعلى إنتقام العراقيين بعضهم من بعض بسبب تراكم الظلامات ، تارة ثالثة ، وعلى الارهاب رابعة وعلى . . وعلى . . وعلى . . فليموتوا بغيضهم ، وليشربوا من ماء البحر .
بالامس ، سمع الجميع وقرأ خبر زيارة وفد علماء كردستان العراق ، الى المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف الاشرف ، وإجتماعهم بالمرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني ، الذي إستمع منهم الى نص مذكرة وقع عليها الف ومئتين وإثنان وتسعون عالما من علماء المسلمين في العراق ، حول موضوع المواطنين العراقيين الذين ورطهم النظام البائد بظلمه للكرد والتركمان في مدينة كركوك وعدد من المدن الأخرى ، من الذين رحلهم قسرا من مناطقهم في الوسط والجنوب ، وأسكنهم في مناطق الشمال ، بعد ان إغتصب أملاك أهلها الاصليين ، ومنحها للمستوطنين بالترغيب أو الترهيب ، فيما رحل المغصوب حقهم الى مناطق الوسط والجنوب ، في خطة لا إنسانية معروفة للقاصي والداني ، إستهدف من خلالها النظام البائد تغيير الوضع الديموغرافي ، ليس للمناطق الكردية فحسب ، وإنما لمختلف مناطق العراق ، تارة قوميا وأخرى مذهبيا ، للعبث بالتركيبة السكانية المتجانسة ، وكل ذلك ، من أجل زرع بذور الحرب والعداوة والبغضاء والانتقام ، بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد .
العراقيون كانوا على علم دقيق بما كان يحيكه النظام البائد ، ولذلك ، عندما سقط في مزبلة التاريخ وولى من دون رجعة ، إستوعب الضحايا خطورة سياساته التدميرية ، فلم ينجروا اليها، ولم يسمحوا لأنفسهم بأن يقعوا في شراكها وحبائلها ، أو ينساقوا وراء أهدافه الشيطانية ، ولذلك تريثوا وصبروا من أجل البحث في أسلم الحلول .
وعلى مدى العام المنصرم ، غلب العراقيون الحكمة على أي شئ آخر ، فحاول الاهالي من ضحايا النظام البائد ، إستيعاب الازمات الواحدة تلو الاخرى ، فلم يستعجلوا في حل المعضلات المعقدة التي ورثوها قسرا من الماضي التعيس ، ومنها موضوع المرحلين من والى كركوك على وجه التحديد ، بل طرقوا كل الابواب السلمية والعقلانية الوطنية ، حتى فتحت لهم بابا حقيقية وواقعية وعقلانية وسليمة ، بزيارة علماء كردستان الحبيبة الى المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف الاشرف .
لقد قرأت وأعدت قراءة نص الحوار الذي جرى بين الوفد الزائر والمرجع السيستاني، كلمة كلمة ، على الرغم من محدودية ما نشر من هذا الحوار، كما أطلت التمعن في مطالعة نص المذكرة التي قدمها الوفد لسماحته ، فرأيت أن كل كلمة وردت في الحوار والمذكرة ، تقطر حكمة ووطنية وحرصا من الطرفين ، على وحدة العراق والعراقيين ، وعلى إيجاد الحلول السلمية لمثل هذه المشاكل ، بما يقلل من معاناة العراقيين ، ولا يساهم أبدا في إضافة أية
آلام جديدة الى آلامهم الكثيرة ، ولا أبالغ إذا دعوت الى أن يكون نص الحوار والمذكرة ، وثيقة وطنية يعتز بها العراقيون ، تكون نموذجا يحتذى به في حل كل المشاكل المماثلة ، العالقة بين العراقيين ، على إختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وإتجاهاتهم الفكرية والسياسية ، كون العراق وطن كل العراقيين ، لا فرق بين هذا وذاك ، كما قال السيستاني ، الذي أضاف بقوله ؛ إننا عراقيون بالدم تربطنا أواصر الدين والارض والتاريخ والوطنية .
والعراقيون يتجاوزون مخلفات النظام الشمولي البائد والاحتلال ، هناك ، بلا شك ، مشاكل عديدة وكثيرة ، بعضها خطير، لا يمكن تجاوزها وحلها ، إلا بالحكمة والتأني والصبر والصفح والتجاوز ، فالشعارت العنصرية والطائفية والحزبية الضيقة ، لا يمكن أن تكون حلا للمشكلة ، بل هي ، في كثير من الاحيان ، جزء من المشكلة .
هناك ظلامات لحقت بالتركمان والآشوريين ، على غرار ما لحق بالكرد من ظلامات ، اتمنى أن يحذو الجميع حذو الوفد لاعادة الحق الى أهله ، ولتعويض المتضررين .
ففي العراق الجديد ، لا نريد أن يأخذ المواطن حقه بالسلاح ، ولا نرغب في أن يتحاور الناس بمنطق القوة ، ولا نحب أن يعاد النصاب الى أهله بالضجيج والضوضاء والتهديد والوعيد ، كما نكره أن نرى منظر الدم في الشوارع ، أو السحل في الازقة ، أو الجثث المعلقة في الساحات العامة ، طلبا لثأر أو لحق مغصوب .
نريد للعراقيين أن يتحاوروا بالمنطق والحب والامل والتعاون والأخوة والصفح والتجاوز والعدل والاحسان ، فالظالم منهم ، أو الذي اضطر لأن يظلم أخاه ، عليه أن يستعد لانصاف المظلوم في أسرع وقت ممكن ، وبملء إرادته وبكامل إختياره ، من دون ضغط أو إكراه أو تهديد ، فهو يعرف قبل غيره ماذا فعل بالآخرين ، كما أنه يعرف أفضل من الباقين ، حجم الظلم الذي ألحقه بأخيه ، فلماذا لا يبادر طوعا الى التخلي عن ظلمه بعد زوال السبب الذي إضطره الى ذلك ، فيترك الارض التي اغتصبها ويخلي البيت أو المحل الذي استولى عليه من دون وجه حق ، ليعاد الحق الى أهله طواعية ، والله تعالى القائل ـ إن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ـ ؟ .
أما المظلوم الذي اغتصبت أرضه أو داره أو محله أو ملكه ، فعليه كذلك ، أن يتحلى بالصبر ويتساهل في حقه الى حين العثور على طريق سليم يلجأ اليه ليستعيد به حقه ، حتى لا تراق الدماء ولا تستباح الاعراض ولا تقتل الارواح ولا تزهق الانفس من أجل قطعة أرض أو قطيع من الغنم ، كما كان يحدث في زمن الجاهلية ، فالنفس والروح والعرض أغلى من كل شئ ، فاذا كان من الممكن أن يعوض الانسان على أرض سلبت منه ظلما وعدوانا ، فبالقطع واليقين ، لا يمكن تعويضه عن روحه ودمه وعرضه .
أعود لأسلط الضوء على أبرز ما يمكن أن نعتبره مواطن حكمة ، في الحوار والمذكرة ؛
أولا ـ كما قال المرجع السيستاني لوفد علماء كردستان ، فإن كل سياسات التطهير العرقي وعمليات الترحيل والتوطين القسرية ، التي مارسها النظام البائد ، غير شرعية وتتنافى مع كل القيم السماوية والشرائع الانسانية ، كما أنها غير قانونية وتتعارض مع أبسط حقوق الانسان ، وأن الكرد الذين قال عنهم السيستاني ، أنهم يعيشون على أرضهم وفي وطنهم منذ آلاف السنين ، تعرضوا للظلم والغبن باستمرار، ولذلك فهم على حق ، وأن من أسكن قسرا على أرضهم ، مسيؤون ، كما قال السيستاني .
مع كل ذلك ، فإن الظلم والغبن ، لا يفوض المظلوم أن يتجاوز أو يستعجل إسترجاع حقه وإنتزاعه بأي ثمن كان ، أبدا ، خاصة في وضع خطير كالذي يمربه العراق اليوم ، إذ لا زالت تحديات الاحتلال والارهاب ومخلفات النظام الشمولي ، تطغى على كل التحديات الاخرى .
ولهذا السبب ، كما أرى ، طلب السيستاني من الكرد أمرين ؛ الأول هو، أن يتم حل مثل هذه المشاكل المعقدة ، عن طريق القانون والمحاكم الوطنية المختصة ، من أجل أن يعاد الحق الى أهله دون تجاوز أو غبن أو ظلم جديد .
الثاني ؛ أنه طلب منهم أن يكونوا مسامحين لمن تجاوز على حقوقهم ، في هذه القضية على وجه التحديد ، ليعفوا عن المسئ ، لأن أغلب الذين أستقدموا وأسكنوا على أرض كردستان ، أجبروا على ذلك ، وأقسروا ، على حد قول السيستاني ، ولذلك ، علينا أن نتذكر ما قد يتعرض له هؤلاء من خسائر لا نريدهم أن يصابوا بها ، ليشعروا بأن عراقا جديدا قيد الانجاز، لا يظلم فيه المواطن بسبب سوابق ، أو يتعرض لمخاطر بسبب ماضيه ، ومن أجل أن يشعر المواطن ، بأن حقوقه مصانة لا يفكر أحد بالانتقام منه ، أو يتعرض للمعاملة الظالمة والسيئة وغير الانسانية ، كما كان يتعرض لها المواطنون زمن النظام البائد ، وأن القضاء الوطني المستقل والعادل ، هو الفيصل في كل المنازعات ، حتى لا يظلم أحد ، أو يتم التجاوز على حقوق أحد ، وأن ما أخذ غصبا يعاد الى أهله بقانون .
ثانيا ـ لقد تحدثت مذكرة علماء كردستان ، التي أيد السيستاني كل ما جاء فيها ، بقوله ـ ما جاء في مذكرتكم من الفها الى يائها ، حق ، وموافقة مع الشريعة الاسلامية ـ بكل ما ينم عن وعي وحكمة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الاخرى .
وأن أروع ما جاء فيها ، قول العلماء ؛ ــ علينا أن نغتنم هذه الفرصة الثمينة لنصنع نحن العراقيين ، وحدة نموذجية مثالية رصينة بين المكونات الاساسية للشعب العراقي ، وحدة
لا تهزها الاعاصير ولا تتخللها الاباطيل ، مبنية على أسس التوافق ، وعلى قواعد ثابتة ترضي جميع الاطراف ، لتمتد محاسنها ومصداقيتها وخيراتها الى الاجيال القادمة .
نصنع عراقا جديدا حرا مستقلا ومزدهرا يسوده الامن والسلام والاخوة والوئام يحكم فيه ابناؤه بالعدل فيردوا المظالم فيما بينهم ويعطوا كل ذي حق حقه .
وتقولون ، أيها الاعراب والشوفينيون وكل أعداء العراق ، أن الكرد يريدون الانفصال عن الوطن الام ـ العراق الحبيب ـ ؟ وأنهم يضمرون تقسيم البلد ؟ .
لقد تحدث علماء كردستان ، بلسان عراقي فصيح ، لا يقبل الشك والجدال والتفسير والتأويل ، ما يعني أنهم حرموا الانفصال وأكدوا وثبتوا وحدة العراق ، أرضا وشعبا ، ولأنهم علماء وفقهاء المسلمين ، فهذا يعني أن كلامهم شريعة ، وحديثهم فقه ، لا مجاملة فيه على حساب الثوابت ، وعلى رأسها وحدة العراق ، أرضا وشعبا .
إن عالم الدين وفقيه المسلمين ، لا يناور بكلامه كما يفعل السياسيون ، كما أنه لا يتلاعب بالألفاظ أو يخادع إذا تحدث في قضية ، لأن كلامه دين ومسؤولية وموقف شرعي ، ولذلك فإن علماء كردستان يقصدون ما وقعوا عليه على وجه الدقة ، فهم لا يضمرون خلاف ما ورد في مذكرتهم ، ولا يناقض فعلهم أقوالهم ، وأن وحدة العراق بالنسبة لهم موقف شرعي قبل أي شئ آخر ، ولا يجوز محاكمة نواياهم أبدا ، كما يحاول الشوفينيون تفسير كلام العراقيين سلبا ، في كل مرة ، حتى لو أقسموا بالايمان المغلضة .
إن الذي يضمر الانفصال ، لا يتكلم بهذه الطريقة ، وأن من يخطط لتقسيم العراق ، لا يفكر ببناء وحدة عراقية تتمتع فيها الاجيال القادمة ، كما ورد في نص المذكرة .
لقد ألقم علماء كردستان الاعلام ، بمذكرتهم ـ هذه الوثيقة التاريخية ـ كل المغرضين والمتربصين والمتصيدين بالماء العكر، والمتقولين على الكرد زورا وبهتانا ، حجرا سيخرسهم مدى الدهر، بإذن الله تعالى وصدق العراقيين .
ثالثا ـ لا أدري إن كان وفد علماء كردستان ، قد طلب من السيستاني أن يصدر فتوى شرعية محددة ، تساهم في حل مشاكل المرحلين من والى مناطق كردستان ، إلا أنني أعتقد أن الفتوى ليست بالضرورة ، هي الحل الانجع لكل المشاكل دائما ، إذ لا بد قبلها أن نفسح المجال أولا ، للحوار والمشورة والتعامل بحكمة وسعة الصدر وربما القضاء ، التي أجزم أنها جميعا طرق سلمية ، مناسبة وسليمة ، لحل الكثير من مشاكل العراق ، وتبقى الفتوى آخر الدواء ، الذي آمل أن لا نلجأ اليه إلا نادرا ، وفي الحالات المستعصية جدا ، كما يفعل الطبيب مع مرضاه .
ولذلك ، ليس من الحكمة بمكان ، أن نلجأ الى الفتوى الدينية ، قبل أن نمر بكل المراحل الاخرى الممكنة ، لتأتي الخسائر قليلة ، والتضحيات بسيطة .
رابعا ـ إن زيارة وفد علماء كردستان الى النجف الاشرف ، وإجتماعه بالسيستاني ، لمناقشة واحدة من أعقد مخلفات النظام الشمولي الديكتاتوري البائد ، التي هي بحاجة الى
الكثير من الحكمة ، للتوصل الى أفضل الحلول ، جاءت ، وبكل تأكيد ، بإقتراح ودعم وتأييد وتشجيع من القيادة السياسية في كردستان ، ما يعني تكامل القيادتين الدينية والسياسية في العراق الجديد ، وعدم تقاطعهما في عملية بناء الديمقراطية وتقدم العملية السياسية الجديدة برمتها .
وبذلك ، تكون الزيارة ، وبهذه الطريقة ، قد ردت على كل الذين ظلوا ينعقون طوال الاشهر الماضية ، بما يسمونه بمبدأ فصل الدين عن السياسة ، وإبعاد علماء الدين عن التداول بالشأن العراقي العام ، فلا هم أكثر ليبرالية أو قل علمانية من الاستاذ جلال الطالباني ليزايدوا عليه في الموقف من الدين وعلمائه ، ولا هم أكثر وطنية من السيستاني وعلماء كردستان ، ليزايدوا عليهم بالحرص على مصلحة الوطن والمواطنين .
وإن دلت هذه الزيارة ، وبهذه الطريقة ، على شئ ، فإنما تدل على الثقة المتبادلة بين القيادتين ، الدينية والسياسية ، فإن مالا تقدر القيادة السياسية على حله ، تلجأ به الى القيادة الدينية لتجد عندها الحل المناسب ، والعكس هو الصحيح ، فما تقدر على حله وتجاوز مخاطره القيادة السياسية ، لا تتدخل فيه القيادة الدينية ، التي ستظل تحتفظ بالمسافة المناسبة بين الدين والسياسة ، لتبقى أبدا فوق الميول الخاصة والانتماءات الضيقة والمحدودة ، لتحافظ على دورها الابوي الريادي الوطني الواسع والشامل ، الذي يرعى كل العراق ، ويضم تحت جناحه ، كل العراقيين ، من دون إستثناء أو تمييز .
إن من الضروري بمكان في العراق الجديد ، أن يحفظ الساسة حدودهم ، حتى لا يتجاوزوا على حدود الدين ، كما كان يفعل الطاغية الذليل ، كما أن من الضروري في الوقت نفسه ، أن يتمسك علماء الدين بدورهم في المراقبة والتوجيه والترشيد ، لتشخيص الانحراف والتحذير من الخطأ ، ليحافظوا ، مع بقية مؤسسات المجتمع المدني ، على المسيرة الديمقراطية الوليدة ، من الوأد أو الانحراف أو السرقة .
خامسا ـ كم هو رائع لو يبادر علماء الدين ، الى تشكيل مجلس علمي ـ فقهي يضم في صفوفه علماء مختلف الاديان والمذاهب في العراق ، يكون بمثابة المرجع الاعلى للبت بمثل هذ القضايا الهامة ، التي تحتاج لحلها الى لمسات روحية ومعنوية ، الى جانب لمسة رحمة وقول حكيم ورأي أبوي حصيف ، قبل أن تمر على المحاكم مثلا ، ففي العراق مشاكل خلفتها سياسات النظام البائد ، العنصرية والشوفينية ، هي أحوج ما تكون الى لمسات معنوية ، تقلل من غلوائها وإحتقاناتها المتراكمة ، يساهم في صياغتها وصناعتها ، العلماء والفقهاء والمراجع والقيادات الدينية .
إن بإمكان مثل هذه المرجعية الدينية ، أن تتصدى لأيضاح الموقف الشرعي والوطني المشترك أزاء الكثير من التجاوزات التي يرتكبها جاهلون أو مراهقون باسم الدين والاسلام الحنيف ، كالتجاوزات اللاقانونية على محلات بيع المشروبات الروحية التي يمتلكها ، مواطنون مسيحيون ، أو التجاوز على النساء غير المحجبات ، أو إطلاق التصريحات المنافية للدين الحنيف على لسان ــ معممين ــ يجهلون ألف باء علوم الفقه والاصول والحديث .
إن مثل هذه المرجعية ، تضع حدا لعبث العابثين بالدين وقيمه السمحاء ، ولتمسك بناصية القضايا المصيرية التي تصدى لها الجهلة وأدعياء الدين ، مستفيدين من إنشغال العلماء والفقهاء ، فلو تصدى الأخيرون ، لما عبث الصغار بمقدساتنا ومقدراتنا ، ولما نصبوا أنفسهم حماة للدين والاسلام على وجه التحديد ، وهم لا يفهمون بمبادئه ، ولا يعرفون حلاله من حرامه ، فضلا عن جهلهم بأبسط القواعد الاصولية التي تمكنهم من الاجتهاد في تحديد قواعد الفتوى ، كمبدأ الاهم والمهم ، ومبدأ المصالح والمفاسد على أساس تشخيص حاجات الزمان والمكان ، وغير ذلك .
إن العراق الجديد ، بحاجة الى تشكيل مثل هذا المجلس ، العلمي ـ الفقهي ، الذي يمثل الجميع ، للحد من ظاهرة التحدث باسم الدين من قبل كل من هب ودب ، ظلما وعدوانا ، ومن أجل التصدي لظاهرة التوظيف السئ للدين وآيات القرآن الكريم ، لخدمة أغراض شخصية وطائفية مشبوهة ، أو تصدي الجهلة للحديث باسم الدين .
كذلك ، فإن مثل هذا المجلس سيلعب ـ بلا شك ـ دورا مفصليا هاما ، في تحريم وتجريم العنف والارهاب ، الذي حصد حتى الآن أرواح الآلآف باسم الدين ، والدين منه براء ، ويغلق الابواب بوجه كل التجاوزات التي ترتكب باسم الدين أو المذهب ، ضد اتباع هذا الدين أو ذاك المذهب ، وبالتالي ، سيلعب دورا بارزا في توحيد صف المتدينين والعراقيين بشكل عام ، بكل إنتماءاتهم .
إن مثل هذا المجلس ، سيمنح علماء وفقهاء كل الطوائف ، كذلك ، فرصة اللقاء والحوار والتعارف ، ما يساهم في خلق فرص التقارب والتعايش أكثر فأكثر ، ما سيكون نموذجا يحتذى .
نــــــــــــــــزار حيدر
NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM
وصلت بالايميل الشخصي عبر الكاتب ولاتعبر عن راي الناقل بالضرورة
اذا أوتي امرءا الحكمة ، فقد أوتي خيرا كثيرا ، فما بالك بشعب كامل يؤت الحكمة ؟ .
مرة أخرى يثبت العراقيون أنهم أوتوا الحكمة ، ولذلك أوتوا خيرا كثيرا ، تجاوزوا بها العديد من المخاطر التي زرعها النظام الشمولي البائد كالألغام في ساحة المعركة ، كلما غفل المرء عنها او غفا ، إنفجر لغم في وجهه ، فتجاوزوا بالحكمة مخاطر الحرب الاهلية ، ومخاطر الحرب الطائفية ، ومخاطر الحرب العرقية ، بالرغم من كل الجهود والملايين التي صرفها أعداء العراق ، كما تجاوزوا بالحكمة مخاطر حالات الانتقام والانتقام المتبادل التي نفخ في نارها كثيرون ، هذا ، على الرغم من كل التحديات الكبيرة التي لو مر بها أي شعب آخر ، لتفتتت بلاده وتمزقت وحدته وتطاحنت قومياته ومذاهبه ، وتناثرت لحمته ، ولتحول الى رماد تذروه الرياح .
فالحمد لله أولا وأخيرا ، على ما أنعم على العراقيين من حكمة مكنتهم من تجاوز آثار ومخلفات النظام البائد ، وها هم يتجاوزون بالحكمة آثار ومخلفات الاحتلال ، الواحدة تلو الاخرى .
أما المتربصون بالعراق ، ليصفقوا ويفرحوا إذا كبا ، الساعون الى تحطيمه ، والمتآمرون على شعبه ، من الذين يراهنون على العنصرية تارة وعلى الطائفية أخرى ، وعلى إنتقام العراقيين بعضهم من بعض بسبب تراكم الظلامات ، تارة ثالثة ، وعلى الارهاب رابعة وعلى . . وعلى . . وعلى . . فليموتوا بغيضهم ، وليشربوا من ماء البحر .
بالامس ، سمع الجميع وقرأ خبر زيارة وفد علماء كردستان العراق ، الى المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف الاشرف ، وإجتماعهم بالمرجع الديني الأعلى آية الله العظمى السيد علي السيستاني ، الذي إستمع منهم الى نص مذكرة وقع عليها الف ومئتين وإثنان وتسعون عالما من علماء المسلمين في العراق ، حول موضوع المواطنين العراقيين الذين ورطهم النظام البائد بظلمه للكرد والتركمان في مدينة كركوك وعدد من المدن الأخرى ، من الذين رحلهم قسرا من مناطقهم في الوسط والجنوب ، وأسكنهم في مناطق الشمال ، بعد ان إغتصب أملاك أهلها الاصليين ، ومنحها للمستوطنين بالترغيب أو الترهيب ، فيما رحل المغصوب حقهم الى مناطق الوسط والجنوب ، في خطة لا إنسانية معروفة للقاصي والداني ، إستهدف من خلالها النظام البائد تغيير الوضع الديموغرافي ، ليس للمناطق الكردية فحسب ، وإنما لمختلف مناطق العراق ، تارة قوميا وأخرى مذهبيا ، للعبث بالتركيبة السكانية المتجانسة ، وكل ذلك ، من أجل زرع بذور الحرب والعداوة والبغضاء والانتقام ، بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد .
العراقيون كانوا على علم دقيق بما كان يحيكه النظام البائد ، ولذلك ، عندما سقط في مزبلة التاريخ وولى من دون رجعة ، إستوعب الضحايا خطورة سياساته التدميرية ، فلم ينجروا اليها، ولم يسمحوا لأنفسهم بأن يقعوا في شراكها وحبائلها ، أو ينساقوا وراء أهدافه الشيطانية ، ولذلك تريثوا وصبروا من أجل البحث في أسلم الحلول .
وعلى مدى العام المنصرم ، غلب العراقيون الحكمة على أي شئ آخر ، فحاول الاهالي من ضحايا النظام البائد ، إستيعاب الازمات الواحدة تلو الاخرى ، فلم يستعجلوا في حل المعضلات المعقدة التي ورثوها قسرا من الماضي التعيس ، ومنها موضوع المرحلين من والى كركوك على وجه التحديد ، بل طرقوا كل الابواب السلمية والعقلانية الوطنية ، حتى فتحت لهم بابا حقيقية وواقعية وعقلانية وسليمة ، بزيارة علماء كردستان الحبيبة الى المرجعية الدينية العليا في مدينة النجف الاشرف .
لقد قرأت وأعدت قراءة نص الحوار الذي جرى بين الوفد الزائر والمرجع السيستاني، كلمة كلمة ، على الرغم من محدودية ما نشر من هذا الحوار، كما أطلت التمعن في مطالعة نص المذكرة التي قدمها الوفد لسماحته ، فرأيت أن كل كلمة وردت في الحوار والمذكرة ، تقطر حكمة ووطنية وحرصا من الطرفين ، على وحدة العراق والعراقيين ، وعلى إيجاد الحلول السلمية لمثل هذه المشاكل ، بما يقلل من معاناة العراقيين ، ولا يساهم أبدا في إضافة أية
آلام جديدة الى آلامهم الكثيرة ، ولا أبالغ إذا دعوت الى أن يكون نص الحوار والمذكرة ، وثيقة وطنية يعتز بها العراقيون ، تكون نموذجا يحتذى به في حل كل المشاكل المماثلة ، العالقة بين العراقيين ، على إختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم وإتجاهاتهم الفكرية والسياسية ، كون العراق وطن كل العراقيين ، لا فرق بين هذا وذاك ، كما قال السيستاني ، الذي أضاف بقوله ؛ إننا عراقيون بالدم تربطنا أواصر الدين والارض والتاريخ والوطنية .
والعراقيون يتجاوزون مخلفات النظام الشمولي البائد والاحتلال ، هناك ، بلا شك ، مشاكل عديدة وكثيرة ، بعضها خطير، لا يمكن تجاوزها وحلها ، إلا بالحكمة والتأني والصبر والصفح والتجاوز ، فالشعارت العنصرية والطائفية والحزبية الضيقة ، لا يمكن أن تكون حلا للمشكلة ، بل هي ، في كثير من الاحيان ، جزء من المشكلة .
هناك ظلامات لحقت بالتركمان والآشوريين ، على غرار ما لحق بالكرد من ظلامات ، اتمنى أن يحذو الجميع حذو الوفد لاعادة الحق الى أهله ، ولتعويض المتضررين .
ففي العراق الجديد ، لا نريد أن يأخذ المواطن حقه بالسلاح ، ولا نرغب في أن يتحاور الناس بمنطق القوة ، ولا نحب أن يعاد النصاب الى أهله بالضجيج والضوضاء والتهديد والوعيد ، كما نكره أن نرى منظر الدم في الشوارع ، أو السحل في الازقة ، أو الجثث المعلقة في الساحات العامة ، طلبا لثأر أو لحق مغصوب .
نريد للعراقيين أن يتحاوروا بالمنطق والحب والامل والتعاون والأخوة والصفح والتجاوز والعدل والاحسان ، فالظالم منهم ، أو الذي اضطر لأن يظلم أخاه ، عليه أن يستعد لانصاف المظلوم في أسرع وقت ممكن ، وبملء إرادته وبكامل إختياره ، من دون ضغط أو إكراه أو تهديد ، فهو يعرف قبل غيره ماذا فعل بالآخرين ، كما أنه يعرف أفضل من الباقين ، حجم الظلم الذي ألحقه بأخيه ، فلماذا لا يبادر طوعا الى التخلي عن ظلمه بعد زوال السبب الذي إضطره الى ذلك ، فيترك الارض التي اغتصبها ويخلي البيت أو المحل الذي استولى عليه من دون وجه حق ، ليعاد الحق الى أهله طواعية ، والله تعالى القائل ـ إن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ـ ؟ .
أما المظلوم الذي اغتصبت أرضه أو داره أو محله أو ملكه ، فعليه كذلك ، أن يتحلى بالصبر ويتساهل في حقه الى حين العثور على طريق سليم يلجأ اليه ليستعيد به حقه ، حتى لا تراق الدماء ولا تستباح الاعراض ولا تقتل الارواح ولا تزهق الانفس من أجل قطعة أرض أو قطيع من الغنم ، كما كان يحدث في زمن الجاهلية ، فالنفس والروح والعرض أغلى من كل شئ ، فاذا كان من الممكن أن يعوض الانسان على أرض سلبت منه ظلما وعدوانا ، فبالقطع واليقين ، لا يمكن تعويضه عن روحه ودمه وعرضه .
أعود لأسلط الضوء على أبرز ما يمكن أن نعتبره مواطن حكمة ، في الحوار والمذكرة ؛
أولا ـ كما قال المرجع السيستاني لوفد علماء كردستان ، فإن كل سياسات التطهير العرقي وعمليات الترحيل والتوطين القسرية ، التي مارسها النظام البائد ، غير شرعية وتتنافى مع كل القيم السماوية والشرائع الانسانية ، كما أنها غير قانونية وتتعارض مع أبسط حقوق الانسان ، وأن الكرد الذين قال عنهم السيستاني ، أنهم يعيشون على أرضهم وفي وطنهم منذ آلاف السنين ، تعرضوا للظلم والغبن باستمرار، ولذلك فهم على حق ، وأن من أسكن قسرا على أرضهم ، مسيؤون ، كما قال السيستاني .
مع كل ذلك ، فإن الظلم والغبن ، لا يفوض المظلوم أن يتجاوز أو يستعجل إسترجاع حقه وإنتزاعه بأي ثمن كان ، أبدا ، خاصة في وضع خطير كالذي يمربه العراق اليوم ، إذ لا زالت تحديات الاحتلال والارهاب ومخلفات النظام الشمولي ، تطغى على كل التحديات الاخرى .
ولهذا السبب ، كما أرى ، طلب السيستاني من الكرد أمرين ؛ الأول هو، أن يتم حل مثل هذه المشاكل المعقدة ، عن طريق القانون والمحاكم الوطنية المختصة ، من أجل أن يعاد الحق الى أهله دون تجاوز أو غبن أو ظلم جديد .
الثاني ؛ أنه طلب منهم أن يكونوا مسامحين لمن تجاوز على حقوقهم ، في هذه القضية على وجه التحديد ، ليعفوا عن المسئ ، لأن أغلب الذين أستقدموا وأسكنوا على أرض كردستان ، أجبروا على ذلك ، وأقسروا ، على حد قول السيستاني ، ولذلك ، علينا أن نتذكر ما قد يتعرض له هؤلاء من خسائر لا نريدهم أن يصابوا بها ، ليشعروا بأن عراقا جديدا قيد الانجاز، لا يظلم فيه المواطن بسبب سوابق ، أو يتعرض لمخاطر بسبب ماضيه ، ومن أجل أن يشعر المواطن ، بأن حقوقه مصانة لا يفكر أحد بالانتقام منه ، أو يتعرض للمعاملة الظالمة والسيئة وغير الانسانية ، كما كان يتعرض لها المواطنون زمن النظام البائد ، وأن القضاء الوطني المستقل والعادل ، هو الفيصل في كل المنازعات ، حتى لا يظلم أحد ، أو يتم التجاوز على حقوق أحد ، وأن ما أخذ غصبا يعاد الى أهله بقانون .
ثانيا ـ لقد تحدثت مذكرة علماء كردستان ، التي أيد السيستاني كل ما جاء فيها ، بقوله ـ ما جاء في مذكرتكم من الفها الى يائها ، حق ، وموافقة مع الشريعة الاسلامية ـ بكل ما ينم عن وعي وحكمة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الاخرى .
وأن أروع ما جاء فيها ، قول العلماء ؛ ــ علينا أن نغتنم هذه الفرصة الثمينة لنصنع نحن العراقيين ، وحدة نموذجية مثالية رصينة بين المكونات الاساسية للشعب العراقي ، وحدة
لا تهزها الاعاصير ولا تتخللها الاباطيل ، مبنية على أسس التوافق ، وعلى قواعد ثابتة ترضي جميع الاطراف ، لتمتد محاسنها ومصداقيتها وخيراتها الى الاجيال القادمة .
نصنع عراقا جديدا حرا مستقلا ومزدهرا يسوده الامن والسلام والاخوة والوئام يحكم فيه ابناؤه بالعدل فيردوا المظالم فيما بينهم ويعطوا كل ذي حق حقه .
وتقولون ، أيها الاعراب والشوفينيون وكل أعداء العراق ، أن الكرد يريدون الانفصال عن الوطن الام ـ العراق الحبيب ـ ؟ وأنهم يضمرون تقسيم البلد ؟ .
لقد تحدث علماء كردستان ، بلسان عراقي فصيح ، لا يقبل الشك والجدال والتفسير والتأويل ، ما يعني أنهم حرموا الانفصال وأكدوا وثبتوا وحدة العراق ، أرضا وشعبا ، ولأنهم علماء وفقهاء المسلمين ، فهذا يعني أن كلامهم شريعة ، وحديثهم فقه ، لا مجاملة فيه على حساب الثوابت ، وعلى رأسها وحدة العراق ، أرضا وشعبا .
إن عالم الدين وفقيه المسلمين ، لا يناور بكلامه كما يفعل السياسيون ، كما أنه لا يتلاعب بالألفاظ أو يخادع إذا تحدث في قضية ، لأن كلامه دين ومسؤولية وموقف شرعي ، ولذلك فإن علماء كردستان يقصدون ما وقعوا عليه على وجه الدقة ، فهم لا يضمرون خلاف ما ورد في مذكرتهم ، ولا يناقض فعلهم أقوالهم ، وأن وحدة العراق بالنسبة لهم موقف شرعي قبل أي شئ آخر ، ولا يجوز محاكمة نواياهم أبدا ، كما يحاول الشوفينيون تفسير كلام العراقيين سلبا ، في كل مرة ، حتى لو أقسموا بالايمان المغلضة .
إن الذي يضمر الانفصال ، لا يتكلم بهذه الطريقة ، وأن من يخطط لتقسيم العراق ، لا يفكر ببناء وحدة عراقية تتمتع فيها الاجيال القادمة ، كما ورد في نص المذكرة .
لقد ألقم علماء كردستان الاعلام ، بمذكرتهم ـ هذه الوثيقة التاريخية ـ كل المغرضين والمتربصين والمتصيدين بالماء العكر، والمتقولين على الكرد زورا وبهتانا ، حجرا سيخرسهم مدى الدهر، بإذن الله تعالى وصدق العراقيين .
ثالثا ـ لا أدري إن كان وفد علماء كردستان ، قد طلب من السيستاني أن يصدر فتوى شرعية محددة ، تساهم في حل مشاكل المرحلين من والى مناطق كردستان ، إلا أنني أعتقد أن الفتوى ليست بالضرورة ، هي الحل الانجع لكل المشاكل دائما ، إذ لا بد قبلها أن نفسح المجال أولا ، للحوار والمشورة والتعامل بحكمة وسعة الصدر وربما القضاء ، التي أجزم أنها جميعا طرق سلمية ، مناسبة وسليمة ، لحل الكثير من مشاكل العراق ، وتبقى الفتوى آخر الدواء ، الذي آمل أن لا نلجأ اليه إلا نادرا ، وفي الحالات المستعصية جدا ، كما يفعل الطبيب مع مرضاه .
ولذلك ، ليس من الحكمة بمكان ، أن نلجأ الى الفتوى الدينية ، قبل أن نمر بكل المراحل الاخرى الممكنة ، لتأتي الخسائر قليلة ، والتضحيات بسيطة .
رابعا ـ إن زيارة وفد علماء كردستان الى النجف الاشرف ، وإجتماعه بالسيستاني ، لمناقشة واحدة من أعقد مخلفات النظام الشمولي الديكتاتوري البائد ، التي هي بحاجة الى
الكثير من الحكمة ، للتوصل الى أفضل الحلول ، جاءت ، وبكل تأكيد ، بإقتراح ودعم وتأييد وتشجيع من القيادة السياسية في كردستان ، ما يعني تكامل القيادتين الدينية والسياسية في العراق الجديد ، وعدم تقاطعهما في عملية بناء الديمقراطية وتقدم العملية السياسية الجديدة برمتها .
وبذلك ، تكون الزيارة ، وبهذه الطريقة ، قد ردت على كل الذين ظلوا ينعقون طوال الاشهر الماضية ، بما يسمونه بمبدأ فصل الدين عن السياسة ، وإبعاد علماء الدين عن التداول بالشأن العراقي العام ، فلا هم أكثر ليبرالية أو قل علمانية من الاستاذ جلال الطالباني ليزايدوا عليه في الموقف من الدين وعلمائه ، ولا هم أكثر وطنية من السيستاني وعلماء كردستان ، ليزايدوا عليهم بالحرص على مصلحة الوطن والمواطنين .
وإن دلت هذه الزيارة ، وبهذه الطريقة ، على شئ ، فإنما تدل على الثقة المتبادلة بين القيادتين ، الدينية والسياسية ، فإن مالا تقدر القيادة السياسية على حله ، تلجأ به الى القيادة الدينية لتجد عندها الحل المناسب ، والعكس هو الصحيح ، فما تقدر على حله وتجاوز مخاطره القيادة السياسية ، لا تتدخل فيه القيادة الدينية ، التي ستظل تحتفظ بالمسافة المناسبة بين الدين والسياسة ، لتبقى أبدا فوق الميول الخاصة والانتماءات الضيقة والمحدودة ، لتحافظ على دورها الابوي الريادي الوطني الواسع والشامل ، الذي يرعى كل العراق ، ويضم تحت جناحه ، كل العراقيين ، من دون إستثناء أو تمييز .
إن من الضروري بمكان في العراق الجديد ، أن يحفظ الساسة حدودهم ، حتى لا يتجاوزوا على حدود الدين ، كما كان يفعل الطاغية الذليل ، كما أن من الضروري في الوقت نفسه ، أن يتمسك علماء الدين بدورهم في المراقبة والتوجيه والترشيد ، لتشخيص الانحراف والتحذير من الخطأ ، ليحافظوا ، مع بقية مؤسسات المجتمع المدني ، على المسيرة الديمقراطية الوليدة ، من الوأد أو الانحراف أو السرقة .
خامسا ـ كم هو رائع لو يبادر علماء الدين ، الى تشكيل مجلس علمي ـ فقهي يضم في صفوفه علماء مختلف الاديان والمذاهب في العراق ، يكون بمثابة المرجع الاعلى للبت بمثل هذ القضايا الهامة ، التي تحتاج لحلها الى لمسات روحية ومعنوية ، الى جانب لمسة رحمة وقول حكيم ورأي أبوي حصيف ، قبل أن تمر على المحاكم مثلا ، ففي العراق مشاكل خلفتها سياسات النظام البائد ، العنصرية والشوفينية ، هي أحوج ما تكون الى لمسات معنوية ، تقلل من غلوائها وإحتقاناتها المتراكمة ، يساهم في صياغتها وصناعتها ، العلماء والفقهاء والمراجع والقيادات الدينية .
إن بإمكان مثل هذه المرجعية الدينية ، أن تتصدى لأيضاح الموقف الشرعي والوطني المشترك أزاء الكثير من التجاوزات التي يرتكبها جاهلون أو مراهقون باسم الدين والاسلام الحنيف ، كالتجاوزات اللاقانونية على محلات بيع المشروبات الروحية التي يمتلكها ، مواطنون مسيحيون ، أو التجاوز على النساء غير المحجبات ، أو إطلاق التصريحات المنافية للدين الحنيف على لسان ــ معممين ــ يجهلون ألف باء علوم الفقه والاصول والحديث .
إن مثل هذه المرجعية ، تضع حدا لعبث العابثين بالدين وقيمه السمحاء ، ولتمسك بناصية القضايا المصيرية التي تصدى لها الجهلة وأدعياء الدين ، مستفيدين من إنشغال العلماء والفقهاء ، فلو تصدى الأخيرون ، لما عبث الصغار بمقدساتنا ومقدراتنا ، ولما نصبوا أنفسهم حماة للدين والاسلام على وجه التحديد ، وهم لا يفهمون بمبادئه ، ولا يعرفون حلاله من حرامه ، فضلا عن جهلهم بأبسط القواعد الاصولية التي تمكنهم من الاجتهاد في تحديد قواعد الفتوى ، كمبدأ الاهم والمهم ، ومبدأ المصالح والمفاسد على أساس تشخيص حاجات الزمان والمكان ، وغير ذلك .
إن العراق الجديد ، بحاجة الى تشكيل مثل هذا المجلس ، العلمي ـ الفقهي ، الذي يمثل الجميع ، للحد من ظاهرة التحدث باسم الدين من قبل كل من هب ودب ، ظلما وعدوانا ، ومن أجل التصدي لظاهرة التوظيف السئ للدين وآيات القرآن الكريم ، لخدمة أغراض شخصية وطائفية مشبوهة ، أو تصدي الجهلة للحديث باسم الدين .
كذلك ، فإن مثل هذا المجلس سيلعب ـ بلا شك ـ دورا مفصليا هاما ، في تحريم وتجريم العنف والارهاب ، الذي حصد حتى الآن أرواح الآلآف باسم الدين ، والدين منه براء ، ويغلق الابواب بوجه كل التجاوزات التي ترتكب باسم الدين أو المذهب ، ضد اتباع هذا الدين أو ذاك المذهب ، وبالتالي ، سيلعب دورا بارزا في توحيد صف المتدينين والعراقيين بشكل عام ، بكل إنتماءاتهم .
إن مثل هذا المجلس ، سيمنح علماء وفقهاء كل الطوائف ، كذلك ، فرصة اللقاء والحوار والتعارف ، ما يساهم في خلق فرص التقارب والتعايش أكثر فأكثر ، ما سيكون نموذجا يحتذى .