سيد مرحوم
07-22-2004, 12:36 AM
الديمقراطية في الاسلام / د. علي الوردي
القرآن كتاب رباني عظيم، وهو سجل الثورة المحمدية، ولكن المترفين يستطيعون ان يأولوه ويفسروه كما يشتهون، فيخرجونه من طبيعته الاصيلة ويجعلونه بضاعة من بضائع الموتى. فلا يكاد يموت منهم ميت حتى يحشدون في سبيله عدداً كبيراً من "القراء" ليمطروه بوابل من الختمات والرحمات _انه كان مرحوما.
بدأ الاسلام في أول أمره نظاما ديمقراطيا. ولكن الديمقراطية اختفت منه بعد ما رفع معاوية المصاحف وقال للمسلمين: تعالوا نحتكم الى كتاب الله. وكانت نتيجة الاحتكام الى كتاب الله ان تولى يزيد امر المسلمين وقال:
لعبت هاشم بالملك فـــلا
خبر جاء ولا وحــي نــزلونحن حين نشاهد الترف الخبيث مستحوذا على سلاطين المسلمين وامراء المؤمنين يجب ان لا ننسى تلك الثورة الشعبية الكبرى التي قام بها ابو ذر وعمار وعلي بن ابي طالب في مكافحة هذا الترف عند أول ظهوره في تاريخ الاسلام.
لقد كانت تلك الثورة فاشلة. لا شك في ذلك. فهي قد سبقت زمانها بعدة قرون، حق لها اذن ان تفشل. ولكنها مع ذلك بقيت في التاريخ رمزا لديمقراطية الاسلام ودليلا صارخا على ان حكومة الاسلام نشأت في أول أمرها من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب.
يقول المؤرخون الغربيون ان حكومة الاغريق كانت أول ديمقراطية وآخر ديمقراطية في التاريخ القديم. ونسى هؤلاء حكومة الاسلام الاولى التي تمثلت في محمد وخلفائه الراشدين.
ولو درسنا سيرة هؤلاء في ايام حكمهم لوجدناهم ديمقراطيين الى درجة لا يستهان بها.
يروى أن أبا بكر اعتاد قبل خلافته ان يحلب للضعفاء من جيرانه أغنامهم كرما منه ورفقا بهم. فلما تولى الخلافة سمع جارة له تقول: "اليوم لا تحلب لنا..." فقال: "لعمري لا حلبنها لكم..." وأخذ يحلبها فعلا.
وعندما تولى علي بن أبي طالب خلافة المسلمين بعد عثمان اتضحت في سيرته معالم الديمقراطية وضوحا مدهشا. ولعلنا لا نغالي اذا قلنا ان ديمقراطية هذا الرجل وصلت الى درجة يعجز عن الوصول اليها كثير من حكام القرن العشرين.
وهو في الواقع آخر حاكم في تاريخ الاسلام انثالت العامة على بيعته طوعا واختياراً. وقد أشار هو الى ذلك حيث قال: "ان العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر". اما الخاصة فقد بايعه معظمهم. وحين رفض بعضهم بيعته تركهم احرارا، فلم يجبر أحد منهم عليها، وانما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من ان يصلوا اليهم.
والاعجب من هذا ان عبد الله بن عمر أبى أن يبايع علياً ثم طلب الاذن بالسفر. فلما طولب بكفيل يكفله، أبى ان يأتي به، فقام الامام علي يكفله بنفسه. ولم يشهد التاريخ حاكما يكفل رجلا أبى بيعته ورفض ان يطيعه. وتلك لعمري آية من آيات الديمقراطية يعجز عن الاتيان بها كثير من الناس.
وكان علي جالساً بين أصحابه ذات يوم يتحدث اليهم فقال رجل من الخوارج يصف علياً: "قاتله الله كافرا ما أفقهه". فوثب القوم ليقتلوه فقال علي: "رويدا. انما هو سب بسب أو عفو عن ذنب".
ولو درسنا معاملة الامام علي للخوارج الذين كفروه وشتموه في وجهه وتآمروا عليه في عاصمته لرأينا فيها عجبا. فهو قد كان يتحمل منهم ذلك صابرا. فكان يعطيهم عطاءهم المفروض لهم ويجادلهم جدالاً طويلاً لعلهم يتدارسون أمرهم ويثوبون الى رشدهم. ولم يقاتل منهم إلا تلك الجماعة التي خرجت عليه بالسيف وقطعت طريق السابلة واذاعت الذعر في الناس وقتلت عبد الله بن خباب مع نسوة كن معه. فارسل اليهم الامام رسولا يسألهم عن هذا الفساد فقتلوا الرسل ايضاً. ولم يبدأ بقتالهم إلا بعد ان استنفذ جهده في محاجتهم وجدالهم، بالكتابة مرة وبالمشافهة أخرى.
يقال أن أحد الخوارج، واسمه الخريت بن راشد الناجي، جاء الى علي بعد انقضاء معركة صفين. فجرت بينهما المحاورة التالية:
الخريت: لا والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك واني غدا لمفارق لك.
علي: ثكلتك أمك. اذن تنقض عهدك وتعصي ربك ولا تضر إلا نفسك. أخبرني لم تفعل ذلك؟
الخريت: لانك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق اذ جد الجد وركنت الى القوم الذين ظلموا أنفسهم. فانا عليك راد وعليهم ناقم ولكم جميعا مباين.
علي: ويحك هلم اليّ أدارسك وأناظرك في السنن وأفاتحك أمورا من الحق انا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت الآن منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عم وبه جاهل.
الخريت: فانى غاد عليك غدا.
علي: اغدو ولا يستهوينك الشيطان، ولا يتقحمن بك رأى السوء ولا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون. فوالله ان استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لاهدينك سبيل الرشاد.
فانصرف الخريت من عنده ولم يعد غدا ولا بعد غد، وبقى على مفارقته. فجاء أحد اصحابه يشير عليه بان يقبض على الخريت ويستوثق منه. فأجابه الامام: "لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس لملأنا السجون منهم. ولا أراني يسعني الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف".يعطينا هذا الجواب تحديدا واضحا للديمقراطية. فالامام علي لا يحاسب أحد على رأي فاه به ولا يعاقبه على تهمة أتهم بها. انما هو يعاقب الرعية حين يظهرون له الخلاف أو يقطعون الطريق أو يقلقون الامن. وأظن ان هذا هو ما تسير عليه الديمقراطية في يومنا هذا.
والواقع ان الايمان الذي يتحمله المؤمن في سبيل ايمانه يصهر نفسه ويصبها في قالب جديد. وهو اذن يختلف عن ذلك الذي يدخل الدين استسلاماً أو يتظاهر به طمعاً بالغنيمة.
وقد اشار الامام علي في احدى خطبه الى المنافع النفسية والاجتماعية التي تنبعث من اضطهاد الدين في بدء دعوته: "فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين بأوليائه المستضعفين في أعينهم". فلو ظهر الدين قويا منتصرا منذ أول أمره، لدخل فيه جميع الناس ولا نتفى بينهم عامل الامتحان والاختبار. "ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، اخراجا للتكبر من قلوبهم، واسكانا للتذلل في نفوسهم...".
والقرآن يشير الى مثل هذا المعنى أيضا، حيث يقول: "أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين". ووصف القرآن المهاجرين والانصار فقال: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف رحيم".
ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة أن أكثرية المهاجرين والانصار انظموا الى جانب علي اثناء خلافته. ولم يتخلف عنه منهم سوى نفر قليل. ومما يلفت النظر ان الانصار كلهم كانوا مع علي باستثناء ثلاثة فقط. اثنان منهم ذهبا الى معاوية هما النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، والثالث هو محمد بن مسلمة الذي اعتزل الفريقين.
يحكى أن معاوية أرسل ابا هريرة والنعمان بن بشير الى الامام علي يسألانه ان يدفع قتلة عثمان اليه ليقتص منها. فلما أتيا علياً التفت علي الى النعمان فقال له: "حدثني عنك يا نعمان هل انت أهدى قومك سبيلا؟... فكل قومك قد اتبعني إلا شذّاذ منهم، ثلاثة أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ؟". فقال النعمان: "اصلحك الله. انما جئت لاكون معك فالزمك. وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام ورجوت ان يكون لي موقف اجتمع فيه معك وسمعت ان يجري الله تعالى بينكما صلحا. فاذا كان رأيك غير ذلك فانا ملازمك وكائن معك" وبقى النعمان مع علي زمنا ثم هرب منه الى معاوية لسبب لا نعرفه.والظاهر ان معاوية أحس بضعف موقفه من هذه الناحية. فلقد حاول ان يجتذب اليه عددا كبيرا من المهاجرين والانصار ليوازن بهم ما كان عند علي منهم، وبذل في سبيل ذلك أموالا طائلة، فلم يوفق.
التحق بمعاوية من الانصار اثنان فقط، كما مر بنا. اما المهاجرون فلم يلتحق به منهم سوى اولئك الذين هاجروا الى المدينة قبل الفتح بمدة قصيرة كأبى هريرة وعمر بن العاص والمغيرة بن شعبة. وهؤلاء لا نستطيع ان نعدهم من المهاجرين الصادقين لانهم هاجروا يوم أخذت علائم الانتصار تبدو بجانب محمد وصارت قريش تخشى من هجوم المسلمين عليها في مكة. ولما فتحت مكة بعد ذلك انقطعت الهجرة حيث قيل: "لا هجرة بعد الفتح".
ويخيل لي ان معاوية أخذ يفكر في هذا الامر ويطيل التفكير، لعله يستطيع ان يجد له طريقة تستر عليه ضعف موقفه ذاك. وأظن انه وجد هذه الطريقة أخيراً. فقد رأينا يهمل ذكر المهاجرين والانصار في كتبه وخطبه ويذكر بدلا منه اسم "الصحابة". واسم "الصحابة" ذو معنى واسع يمكن ان يستوعب عددا كبيراً من الناس، سواء فيه اولئك الذين قاتلوا النبي أو قاتلوا معه. فبمجرد ان يسمع المسلم حديث النبي أو يحضر مجلسه أو يسلم عليه صار صحابيا ودخل في قائمة "المقدسين".
وجاء ابو هريرة لمعاوية بحديث يرويه عن النبي حيث قال فيه: "أصحابي كالنجوم، ايهم أقتديتم اهتديتم". وأحسب ان معاوية فرح بهذا الحديث كثيرا، فهذا الحديث يعطيه الحق بان يقول لعلي: عندي من الصحابة ما عندك. مثلي مثلك.
والواقع ان معاوية كان يملك بين يديه عددا كبيرا من الصحابة من طراز ابي هريرة والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم ومن لف لفهم. وأخذ هؤلاء يملأون الدنيا بأحاديث صاحبهم رسول الله صلاة الله وسلامه عليه. وكان معاوية يغدق على كل من يأتيه منهم بحديث نبوي يرضيه مبلغا لا يستهان به من الاصفر الرنان.
اما المهاجرون والانصار الذين كانوا مع علي فقد انكسف شأنهم وصاروا كأنهم قطرة من بحر في هذا الحشد الحاشد من الصحابة رضي الله عنهم.
ولم يكتف معاوية بهذا بل أخذ ينكر على المهاجرين والانصار حق الشورى بتاتا. وليته حول هذا الحق الى الصحابة. انما حوله الى أهل الشام فقط دون الناس جميعا. فلما ذكره الامام علي بحق المهاجرين والانصار في الشورى كتب اليه يقول: "... وقد أبى أهل الشام الا قتالك حتى تدفع اليهم قتلة عثمان. فان فعلت كانت شورى بين المسلمين. وانما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام...".
يلاحظ في هذا الجواب ان معاوية لا يذكر المهاجرين والانصار باسمهم الذي سماهم به القرآن. انما سماهم "الحجازيين". وهو يتهمهم بقتل عثمان، ولهذا فهم قد فارقوا الحق في نظره وفقدوا حق الشورى من جراء ذلك. وأصبح الحكام على الناس اذن أهل الشام لانهم يطالبون بدم عثمان.
ومن يتأمل في وضع أهل الشام حينذاك يجدهم لا يعرفون الشورى ولا يؤمنون بها. وقد اشتهروا في التاريخ بأنهم كانوا من أطوع الناس لولي أمرهم كائنا من كان. ومعنى هذا ان الشورى انقلبت عندهم الى "طاعة". يقول المسعودي ان أهل الشام بلغوا في طاعتهم لامر معاوية انهم صلوا خلفه صلاة الجمعة في يوم الاربعاء، حيث اقتضت مشيئة معاوية ذلك عند مسيره الى صفين.
وكان معاوية قد عود أهل الشام على طاعة السلطان وعلى عدم الجدل في أمره منذ زمان بعيد. ورأيناه في ايام عثمان يمنع كل محدث منطيق من الاختلاط بأهل الشام. فلما اختلط ابو ذر بفقراء الشام وأخذ يحدثهم كتب معاوية الى عثمان يقول له: ان ابا ذر يريد ان يفسد أهل الشام.
واتخذ معاوية لنفسه الحراس والجلاوزة، يسيرون معه في موكب اذا سار في شوارع الشام، كما تفعل القياصرة تماما.
اما علي بن ابي طالب فكان يسير في الكوفة على غير هذه السيرة. قبل انه كان يمشي في شوارع الكوفة منفردا فيتحدث الى البقال والقصاب، ويجالس أصحاب الدكاكين. وحدث مرة اثناء مسيره الى صفين ان بعض دهاقين الانبار رأوه فترجلوا وأخذوا ينحنون بين يديه كما اعتادوا ان يفعلوا في سالف الازمان. فقال لهم: "ما هذا الذي صنعتموه؟" قالوا: "خلق منا نعظم به أمراءنا". فقال: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وانكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخرتكم...".
وعند رجوعه من صفين افتقد درعه، ثم وجده عند نصراني. فأمسك به وجاء به الى قاضي الكوفة. ووقف الامام مع النصراني جنبا الى جنب يترافعان بين يدي القاضي. ولما لم يستطع الامام الاتيان ببينة قضى القاضي بالدرع للنصراني فأخذه ومشى والامام ينظر اليه...".
يقول الاستاذ عباس محمود العقاد: ان النزاع بين علي ومعاوية لم يكن خلافا على شيء واحد ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك، ولكنه كان خلاف بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يمثل الخلافة الدينية والآخر يمثل الدولة الدنيوية.
ولنا ان نقول هنا ان عليا كان ينظر في "الحق" بمنظار آخر، اذ كان يعتبر الاسلام دينا قبل ان يكون دولة، وهو قد جاهد في سبيل العدالة والمساواة أكثر مما جاهد في سبيل الفتح والغلبة.
يتهم بعض المستشرقين محمدا بأنه كان من طراز جنكيزخان، قائدا بدويا وجه أمته نحو الغنيمة والغلبة. ولذلك شرع لاتباعه شرعة الحرب والقتال بخلاف ما فعل المسيح قبله.
نسى هؤلاء ان محمدا سار سيرة المسيح في بدء دعوته، حيث أخذ يدعو الى ربه بالطريقة السلمية ويحض اتباعه على العفو والصبر ومقابلة السيئة بالحسنة. وبقى على ذلك مدة طويلة تناهز ثلاثة عشر عاما. وكانت نتيجة ذلك ان قريشا اجتمعت على قتله وكادت تنجح فيه، لو لم يهيأ الله له خيط العنكبوت وبيض الحمام كما هو معروف. ولو ان قريشا نجحت في قتله آنذاك لذهب محمد في التاريخ كما ذهب أخوه المسيح من قبل، ولما وجد المؤرخون بينهما فرقا كبيراً.
ولم يكد محمد يصل المدينة سالما، بعد هذه الحادثة، حتى بدأ يغير خطته تجاه قريش. فقد ادرك بعد التجارب المرة التي مرت عليه في مكة ان قريشا لا ترضخ لدعوة إلا اذا اخضعها بحد السيف. وأدرك كذلك ان العرب لا يدخلون في الاسلام إلا اذا انتصر على قريش. وكان العرب يقولون: "دعوا محمدا يقاتل قومه فان نجح فهو نبي حقا".
يتساءل البروفسور توينبي: أكان محمد نصابا يريد الملك أم كان نبيا يريد الإصلاح؟. يقول توينبي في الجواب على ذلك: ان سيرة محمد في بدء دعوته تدل على انه كان صادقا في ايمانه مخلصا لرسالته. اما ما حدث بعد الهجرة من تحول في سيرته فمرده الى انه كان يعيش في مجتمع يختلف عن مجتمع المسيح اختلافا كبيراً.
وقد أشار البروفسور نكلسون الى ان معركة بدر هي أول حادثة لفتت نظر القبائل البدوية الى محمد وأثارت اعجابهم به. ويقول نكلسون في شأن هذه المعركة:"ومهما كان العرب قليلي الاكتراث بدين محمد، فانهم لم يستطيعوا إلا ان يحترموا الرجل الذي أذل نبلاء مكة". ويعد نكلسون معركة بدر من أعظم المعارك العالية التي غيرت وجه التاريخ.
نستنتج من هذا ان محمدا لم يتبع طريق الحرب حبا بالحرب والغلبة كما زعم المستشرقون من اعداء الاسلام. انما هو لجأ الى الحرب اضطرارا. ولولا ذلك لما قامت للاسلام قائمة في جزيرة العرب.
والواقع ان الحروب المحمدية لم تكن سوى مظهر من مظاهر الثورة الاجتماعية التي قام بها. والثوار في جميع الازمان يتبعون في بدء دعوتهم طريق السلم، فاذا اجتمع لديهم من الانصار عددا كافيا عبأوهم تعبئة القتال وأخذوا يشنون على خصومهم حربا شعواء قد تقضى على ما كان لهم من مكانة اجتماعية وترف باذخ.
هذا هو "الحق" الذي فهمه علي بن أبي طالب وجاهد في سبيله. فالامر ليس جهادا في سبيل الفتح والغلبة كما ظن معاوية ومن لف لفه من وعاظ السلاطين. والامام علي اذن لا يهتم بمصلحة الدولة بقدر اهتمامه بمصلحة الشعوب التي تحكمها تلك الدولة.
يقول وعاظ السلاطين: ان معاوية كان أقدر على سياسة الشعوب من علي. فعلي شتت بسياسته الديمقراطية شمل الجماعة، اما معاوية فقد كانت خلافته مصدر بركة واتحاد ونصر للمسلمين.
ما درى هؤلاء ان المجتمع البشري لا يمكن توحيده على رأي واحد، حتى ولو جاء جبرئيل نفسه يقوده. فالتنازع البشري طبيعة اجتماعية لا مناص منها ومن يحاول توحيد الناس على رأي واحد هو كالذي يريد صد تيار المياه الدافقة عن المسير. ولهذا كانت وحدة الجماعة التي أقامها معاوية مؤقتة. فلم يكد يموت معاوية حتى رجع المسلمون الى تناحر أبشع مما كان قبلا. ولم يتحد المسلمون في عهد معاوية إلا لكي يتفرقوا بعده على شكل أضرّ وأعمق.
وقد يصح ان نقول بان الذي يريد توحيد الجماعة في حزب واحد، انما هو يزيد في التفريق عاملا جديدا. وخلاصة ما يفعله هو انه يضيف الى الاحزاب المتناحرة حزبا آخر.
وإذا أجبر السلطان رعاياه على طاعته رغم آنافهم، أدى ذلك الى ازدياد النفرة منه. والذي لا يعترض عليه علانية ينقم عليه سرا. وكل ضغط يولد انفجارا، كما قيل.
حاول يزيد ان يدخل المسلمين في طاعته عن طريق العنف. فحدث من جراء ذلك مجزرة كربلاء ومجزرة المدينة وهدم الكعبة. وكان أهل الشام بعد واقعة الحرة يقولون للفرد من أهل المدينة: "بايع على انك عبد قن ليزيد". فان أبى ضربوا عنقه، فكانت مذبحة ذريعة. وكانوا يرمون الكعبة بالمنجنيق ويصيحون: "الطاعة الطاعة".
فكان من نتائج هذه المذابح ان انتشر التذمر بين الناس. ولقد نسى دعاة "الطاعة" ان كل فرد يقتل على يدهم في سبيل هذه الطاعة يجعل عشرة أفراد من وراءه متذمرين ينتهزون الفرصة للانتقاض على "أمير المؤمنين".
وصف الخصوم علياً بأنه سفك دم المسلمين. وهذا الوصف ذاته هو الذي قال به اعداء محمد حين سموه "نبي الحرب". كأنهم يظنون ان مكافحة الظلمة والمترفين أمر هين جدا يستطيع ان يقوم به المصلح عن طريق الخطب والمواعظ الرنانة.
يقول علي في احدى خطبه: "ولقد كنا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلا ايمانا وتسليما... وصبرا على مضض الألم، وجدا في جهاد العدو ... ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضر للايمان عود وايم الله لتحتلبنها دما ولتتبعنها ندما". وهذه الكلمة من علي تشبه في مغزاها الاجتماعي تلك الآية التي أذنت بالقتال للمهاجرين والانصار عند الهجرة. وهي تشير الى ان الدين لا يقوم إلا بالكفاح والتدافع الاجتماعي. وما الهجرة في الواقع إلا نضال وتضحية، وترك للمال والاهل في سبيل مكافحة الطغاة المترفين.
فعلي كان يعتقد ان الهجرة انقطعت بعد معركة بدر. وقد أشار الى ذلك في أحد كتبه الى معاوية. فقد كان معاوية يستعين ببعض المهاجرين الذين التحقوا بالنبي بعد بدر كأبي هريرة وابن العاص. فكان من رأى الامام علي ان هؤلاء ليسوا بمهاجرين صادقين، اذ هم قد هاجروا الى المدينة بعد ان اتضحت معالم النصر بجانب محمد. فالمهاجرون في نظر علي هم اولئك الذين التحقوا بمحمد يوم كان الاسلام مكافحا غير منتصر.
والغريب أن نجد قريشا تعتبر الهجرة مستمرة، فهي لم تنقطع بمعركة بدر ولا بفتح مكة. ولهذا كانت قريش تسمى الشام في عهد بني أمية: "دار الهجرة". نستنتج هذا من القول الذي أدلى به القائد الاموي عند هجومه على المدينة في أيام يزيد حيث خاطب أهل الشام قائلا: "انكم أهل البصيرة ودار الهجرة، ووالله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بارضى منه عنكم...".ويخبرنا ابن خلدون ان أحد أصحاب النبي سكن البادية في أيام الحجاج فقال له الحجاج: "ارتددت على عقبيك، تعرّبت". والحجاج يشير بذلك الى أن الرجوع الى البادية هو بمثابة الارتداد عن الدين وترك الهجرة. ولهذا نرى الامويين يصنفون المسلمين في عهدهم الى نوعين: أعراب ومهاجرين. فالمهاجر في نظرهم هو الذي يترك حياة البادية ويلتحق بجيشهم الفاتح الغانم السائح في الارض.
قلنا ونعيد القول هنا: ان الديمقراطية الحديثة ليست إلا ثورة "بيضاء"، حيث يبدل الشعب حكامه بواسطة الانتخاب حينا بعد حين. والشعوب الآن تستخدم أوراق التصويت لعين الغرض الذي كانت تستخدم السيوف من أجله قديماً.
وهنا يجب أن لا ننسى ان الثورة الديمقراطية لم تصبح "بيضاء" دفعة واحدة. فلقد كانت في مبدأ أمرها "حمراء" وظلت كذلك زمنا طويلا. ونحن حين نتمتع اليوم بهذه الثورة البيضاء يجدر بنا ان نذكر اولئك الابطال الذي بذلوا في سبيل تصويرها دماءهم.
وعندما نمجد ذكرى الثورة الفرنسية أو الانكليزية أو الامريكية أو غيرها، يجب أن نمجد كذلك ثورة علي والحسين وزيد وغيرهم من اولئك الذين ضحوا بأنفسهم من أجل هذه المبادىء التي نجني ثمارها في هذا العصر.
لقد استبدلت الديمقراطية الحديثة مبدأ الحكم الألهي بمبدأ المحاسبة والمراقبة كما قال مونتسكيو. وأصبح الحاكم اليوم فردا من الناس تستخدمه الامة في شؤونها العامة فاذا رأت منه اعوجاجا صفعته على وجهه وأنزلته عن كرسيه الوثير.
ان الثورة في مفهومها العلمي، كما قال هبرله، لا تعني العنف بالضرورة. فالجالس في بيته قد يعد ثائراً اذا كان مؤمنا بحقوق الانسان كما جاءت بها الثورة الفرنسية أو غيرها من الحركات الاجتماعية الكبرى.
لو تابعنا وعاظ السلاطين في رأيهم لالغينا الاحزاب الديمقراطية، وسددنا الصحف السياسية، وقمعنا كل رأي يخالف رأينا، بحجة ان هذه الامور تفرق الجماعة وتضعف الامة تجاه العدو الواقف لها بالمرصاد.
نسي هؤلاء ان الظلم يضعف الامة أكثر مما يضعفها الجدال والتنازع. وقد قيل في المأثورات الدينية: "الكفر يدوم والظلم لا يدوم". فالامة التي تتنازع فيها الاحزاب هي أقوى على البقاء من تلك التي يكون الحاكم فيها ظالما والمحكوم ساكتاً. فالتماسك الذي نلاحظه في تلك الامة هو تماسك ظاهري أشبه بالورم المعدي منه بالنسيج الحي. انه تماسك قائم بحد السيف، ولا يكاد ينغمد السيف عنه قليلاً حتى تراه قد تهاوى الى الأرض كما يتهاوى البناء المتداعي.
يعتقد وعاظ السلاطين: ان كفاح الظالمين أمر هين جدا. فهو في نظرهم كغيره من أمور الاصلاح الاجتماعي لا يحتاج إلا الى صب المواعظ الرنانة على رؤوس الناس: "أيها الناس لا تظلموا فان الله لا يحب الظالمين..." وهم حين يقولون ذلك يظنون ان الظالم سوف يرتدع عن ظلمه حالما يستمع اليهم. ونسوا ان الظالم لا يدري بنفسه انه ظالم فهو يتخيل نفسه أعدل الناس وأكثرهم جهادا في سبيل الله.
والظالم حين يسمع الوعاظ يذمون الظلم يفرح كثيرا اذ هو يعتقد بان المقصود بهذا الذم أعداءه. اما هو فلا يمسه شيء من هذا الذم. وكيف يمسه الذم وهو يسير في حكمه على كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا كان من الاسباب التي جعلت طغاة العصور القديمة يبجلون الواعظين ويجزلون لهم العطاء ويشيدون لهم المساجد الطويلة والاوقاف العريضة. وكلما كان الواعظ اكثر صراخا وعويلا في ذم الظلم كان أقرب الى قلوبهم. ذلك ان الواعظ يذم الظالمين، بينما صاحبنا الطاغية يعتبر نفسه من العادلين.
يجيد الواعظ عندنا سبك الخطب البديعة، فيستحسنها المترفون ويقولون له عند انتهائها: "لا فض فوك. كثر الله من امثالك". ثم يخرجون من مكان الاجتماع وقد عمرت افئدتهم بالدعاء لخير العباد. اما العباد فيبقون كما كانوا في شقاء مقيم.
انها مواعظ رائعة بذل اصحابها في نحتها كثيرا من أفانين النحو والصرف، والبيان والبديع. ثم يرمونها في الهواء امواجا يتلو بعضها بعضاً.
ومن حسن حظ البشر في الازمنة القديمة ان هذه المواعظ كانت تقتصر في أثرها على أمواج الهواء وحده. اما في هذا الزمان فقد صارت تشمل أمواج الاثير وأمواج الضوء أيضا لا سيما بعد انشاء محطات التلفزة والعياذ بالله.
انها على أي حال لا تحرك إلا الامواج، كما كان العبيد يحركون مراوح اسيادهم في قديم الزمان. فهي مواعظ للترويح أو المريخ. والاسياد يحبون من يمرخ لهم أو يروح.
من : مهزلة العقل البشري / د. علي الوردي
القرآن كتاب رباني عظيم، وهو سجل الثورة المحمدية، ولكن المترفين يستطيعون ان يأولوه ويفسروه كما يشتهون، فيخرجونه من طبيعته الاصيلة ويجعلونه بضاعة من بضائع الموتى. فلا يكاد يموت منهم ميت حتى يحشدون في سبيله عدداً كبيراً من "القراء" ليمطروه بوابل من الختمات والرحمات _انه كان مرحوما.
بدأ الاسلام في أول أمره نظاما ديمقراطيا. ولكن الديمقراطية اختفت منه بعد ما رفع معاوية المصاحف وقال للمسلمين: تعالوا نحتكم الى كتاب الله. وكانت نتيجة الاحتكام الى كتاب الله ان تولى يزيد امر المسلمين وقال:
لعبت هاشم بالملك فـــلا
خبر جاء ولا وحــي نــزلونحن حين نشاهد الترف الخبيث مستحوذا على سلاطين المسلمين وامراء المؤمنين يجب ان لا ننسى تلك الثورة الشعبية الكبرى التي قام بها ابو ذر وعمار وعلي بن ابي طالب في مكافحة هذا الترف عند أول ظهوره في تاريخ الاسلام.
لقد كانت تلك الثورة فاشلة. لا شك في ذلك. فهي قد سبقت زمانها بعدة قرون، حق لها اذن ان تفشل. ولكنها مع ذلك بقيت في التاريخ رمزا لديمقراطية الاسلام ودليلا صارخا على ان حكومة الاسلام نشأت في أول أمرها من الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب.
يقول المؤرخون الغربيون ان حكومة الاغريق كانت أول ديمقراطية وآخر ديمقراطية في التاريخ القديم. ونسى هؤلاء حكومة الاسلام الاولى التي تمثلت في محمد وخلفائه الراشدين.
ولو درسنا سيرة هؤلاء في ايام حكمهم لوجدناهم ديمقراطيين الى درجة لا يستهان بها.
يروى أن أبا بكر اعتاد قبل خلافته ان يحلب للضعفاء من جيرانه أغنامهم كرما منه ورفقا بهم. فلما تولى الخلافة سمع جارة له تقول: "اليوم لا تحلب لنا..." فقال: "لعمري لا حلبنها لكم..." وأخذ يحلبها فعلا.
وعندما تولى علي بن أبي طالب خلافة المسلمين بعد عثمان اتضحت في سيرته معالم الديمقراطية وضوحا مدهشا. ولعلنا لا نغالي اذا قلنا ان ديمقراطية هذا الرجل وصلت الى درجة يعجز عن الوصول اليها كثير من حكام القرن العشرين.
وهو في الواقع آخر حاكم في تاريخ الاسلام انثالت العامة على بيعته طوعا واختياراً. وقد أشار هو الى ذلك حيث قال: "ان العامة لم تبايعني لسلطان غالب ولا لعرض حاضر". اما الخاصة فقد بايعه معظمهم. وحين رفض بعضهم بيعته تركهم احرارا، فلم يجبر أحد منهم عليها، وانما خلى بينهم وبين ما أرادوا من الاعتزال، وقبل منهم ما قدموا من عذر، وقام دونهم يمنع الثائرين من ان يصلوا اليهم.
والاعجب من هذا ان عبد الله بن عمر أبى أن يبايع علياً ثم طلب الاذن بالسفر. فلما طولب بكفيل يكفله، أبى ان يأتي به، فقام الامام علي يكفله بنفسه. ولم يشهد التاريخ حاكما يكفل رجلا أبى بيعته ورفض ان يطيعه. وتلك لعمري آية من آيات الديمقراطية يعجز عن الاتيان بها كثير من الناس.
وكان علي جالساً بين أصحابه ذات يوم يتحدث اليهم فقال رجل من الخوارج يصف علياً: "قاتله الله كافرا ما أفقهه". فوثب القوم ليقتلوه فقال علي: "رويدا. انما هو سب بسب أو عفو عن ذنب".
ولو درسنا معاملة الامام علي للخوارج الذين كفروه وشتموه في وجهه وتآمروا عليه في عاصمته لرأينا فيها عجبا. فهو قد كان يتحمل منهم ذلك صابرا. فكان يعطيهم عطاءهم المفروض لهم ويجادلهم جدالاً طويلاً لعلهم يتدارسون أمرهم ويثوبون الى رشدهم. ولم يقاتل منهم إلا تلك الجماعة التي خرجت عليه بالسيف وقطعت طريق السابلة واذاعت الذعر في الناس وقتلت عبد الله بن خباب مع نسوة كن معه. فارسل اليهم الامام رسولا يسألهم عن هذا الفساد فقتلوا الرسل ايضاً. ولم يبدأ بقتالهم إلا بعد ان استنفذ جهده في محاجتهم وجدالهم، بالكتابة مرة وبالمشافهة أخرى.
يقال أن أحد الخوارج، واسمه الخريت بن راشد الناجي، جاء الى علي بعد انقضاء معركة صفين. فجرت بينهما المحاورة التالية:
الخريت: لا والله لا أطيع أمرك ولا أصلي خلفك واني غدا لمفارق لك.
علي: ثكلتك أمك. اذن تنقض عهدك وتعصي ربك ولا تضر إلا نفسك. أخبرني لم تفعل ذلك؟
الخريت: لانك حكمت في الكتاب وضعفت عن الحق اذ جد الجد وركنت الى القوم الذين ظلموا أنفسهم. فانا عليك راد وعليهم ناقم ولكم جميعا مباين.
علي: ويحك هلم اليّ أدارسك وأناظرك في السنن وأفاتحك أمورا من الحق انا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت الآن منكر وتبصر ما أنت الآن عنه عم وبه جاهل.
الخريت: فانى غاد عليك غدا.
علي: اغدو ولا يستهوينك الشيطان، ولا يتقحمن بك رأى السوء ولا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون. فوالله ان استرشدتني واستنصحتني وقبلت مني لاهدينك سبيل الرشاد.
فانصرف الخريت من عنده ولم يعد غدا ولا بعد غد، وبقى على مفارقته. فجاء أحد اصحابه يشير عليه بان يقبض على الخريت ويستوثق منه. فأجابه الامام: "لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس لملأنا السجون منهم. ولا أراني يسعني الوثوب بالناس والحبس لهم وعقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف".يعطينا هذا الجواب تحديدا واضحا للديمقراطية. فالامام علي لا يحاسب أحد على رأي فاه به ولا يعاقبه على تهمة أتهم بها. انما هو يعاقب الرعية حين يظهرون له الخلاف أو يقطعون الطريق أو يقلقون الامن. وأظن ان هذا هو ما تسير عليه الديمقراطية في يومنا هذا.
والواقع ان الايمان الذي يتحمله المؤمن في سبيل ايمانه يصهر نفسه ويصبها في قالب جديد. وهو اذن يختلف عن ذلك الذي يدخل الدين استسلاماً أو يتظاهر به طمعاً بالغنيمة.
وقد اشار الامام علي في احدى خطبه الى المنافع النفسية والاجتماعية التي تنبعث من اضطهاد الدين في بدء دعوته: "فان الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين بأوليائه المستضعفين في أعينهم". فلو ظهر الدين قويا منتصرا منذ أول أمره، لدخل فيه جميع الناس ولا نتفى بينهم عامل الامتحان والاختبار. "ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، اخراجا للتكبر من قلوبهم، واسكانا للتذلل في نفوسهم...".
والقرآن يشير الى مثل هذا المعنى أيضا، حيث يقول: "أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين". ووصف القرآن المهاجرين والانصار فقال: "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم انه بهم رؤوف رحيم".
ومما يجدر ذكره في هذه المناسبة أن أكثرية المهاجرين والانصار انظموا الى جانب علي اثناء خلافته. ولم يتخلف عنه منهم سوى نفر قليل. ومما يلفت النظر ان الانصار كلهم كانوا مع علي باستثناء ثلاثة فقط. اثنان منهم ذهبا الى معاوية هما النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، والثالث هو محمد بن مسلمة الذي اعتزل الفريقين.
يحكى أن معاوية أرسل ابا هريرة والنعمان بن بشير الى الامام علي يسألانه ان يدفع قتلة عثمان اليه ليقتص منها. فلما أتيا علياً التفت علي الى النعمان فقال له: "حدثني عنك يا نعمان هل انت أهدى قومك سبيلا؟... فكل قومك قد اتبعني إلا شذّاذ منهم، ثلاثة أو أربعة، أفتكون أنت من الشذاذ؟". فقال النعمان: "اصلحك الله. انما جئت لاكون معك فالزمك. وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام ورجوت ان يكون لي موقف اجتمع فيه معك وسمعت ان يجري الله تعالى بينكما صلحا. فاذا كان رأيك غير ذلك فانا ملازمك وكائن معك" وبقى النعمان مع علي زمنا ثم هرب منه الى معاوية لسبب لا نعرفه.والظاهر ان معاوية أحس بضعف موقفه من هذه الناحية. فلقد حاول ان يجتذب اليه عددا كبيرا من المهاجرين والانصار ليوازن بهم ما كان عند علي منهم، وبذل في سبيل ذلك أموالا طائلة، فلم يوفق.
التحق بمعاوية من الانصار اثنان فقط، كما مر بنا. اما المهاجرون فلم يلتحق به منهم سوى اولئك الذين هاجروا الى المدينة قبل الفتح بمدة قصيرة كأبى هريرة وعمر بن العاص والمغيرة بن شعبة. وهؤلاء لا نستطيع ان نعدهم من المهاجرين الصادقين لانهم هاجروا يوم أخذت علائم الانتصار تبدو بجانب محمد وصارت قريش تخشى من هجوم المسلمين عليها في مكة. ولما فتحت مكة بعد ذلك انقطعت الهجرة حيث قيل: "لا هجرة بعد الفتح".
ويخيل لي ان معاوية أخذ يفكر في هذا الامر ويطيل التفكير، لعله يستطيع ان يجد له طريقة تستر عليه ضعف موقفه ذاك. وأظن انه وجد هذه الطريقة أخيراً. فقد رأينا يهمل ذكر المهاجرين والانصار في كتبه وخطبه ويذكر بدلا منه اسم "الصحابة". واسم "الصحابة" ذو معنى واسع يمكن ان يستوعب عددا كبيراً من الناس، سواء فيه اولئك الذين قاتلوا النبي أو قاتلوا معه. فبمجرد ان يسمع المسلم حديث النبي أو يحضر مجلسه أو يسلم عليه صار صحابيا ودخل في قائمة "المقدسين".
وجاء ابو هريرة لمعاوية بحديث يرويه عن النبي حيث قال فيه: "أصحابي كالنجوم، ايهم أقتديتم اهتديتم". وأحسب ان معاوية فرح بهذا الحديث كثيرا، فهذا الحديث يعطيه الحق بان يقول لعلي: عندي من الصحابة ما عندك. مثلي مثلك.
والواقع ان معاوية كان يملك بين يديه عددا كبيرا من الصحابة من طراز ابي هريرة والمغيرة بن شعبة ومروان بن الحكم ومن لف لفهم. وأخذ هؤلاء يملأون الدنيا بأحاديث صاحبهم رسول الله صلاة الله وسلامه عليه. وكان معاوية يغدق على كل من يأتيه منهم بحديث نبوي يرضيه مبلغا لا يستهان به من الاصفر الرنان.
اما المهاجرون والانصار الذين كانوا مع علي فقد انكسف شأنهم وصاروا كأنهم قطرة من بحر في هذا الحشد الحاشد من الصحابة رضي الله عنهم.
ولم يكتف معاوية بهذا بل أخذ ينكر على المهاجرين والانصار حق الشورى بتاتا. وليته حول هذا الحق الى الصحابة. انما حوله الى أهل الشام فقط دون الناس جميعا. فلما ذكره الامام علي بحق المهاجرين والانصار في الشورى كتب اليه يقول: "... وقد أبى أهل الشام الا قتالك حتى تدفع اليهم قتلة عثمان. فان فعلت كانت شورى بين المسلمين. وانما كان الحجازيون هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحكام على الناس أهل الشام...".
يلاحظ في هذا الجواب ان معاوية لا يذكر المهاجرين والانصار باسمهم الذي سماهم به القرآن. انما سماهم "الحجازيين". وهو يتهمهم بقتل عثمان، ولهذا فهم قد فارقوا الحق في نظره وفقدوا حق الشورى من جراء ذلك. وأصبح الحكام على الناس اذن أهل الشام لانهم يطالبون بدم عثمان.
ومن يتأمل في وضع أهل الشام حينذاك يجدهم لا يعرفون الشورى ولا يؤمنون بها. وقد اشتهروا في التاريخ بأنهم كانوا من أطوع الناس لولي أمرهم كائنا من كان. ومعنى هذا ان الشورى انقلبت عندهم الى "طاعة". يقول المسعودي ان أهل الشام بلغوا في طاعتهم لامر معاوية انهم صلوا خلفه صلاة الجمعة في يوم الاربعاء، حيث اقتضت مشيئة معاوية ذلك عند مسيره الى صفين.
وكان معاوية قد عود أهل الشام على طاعة السلطان وعلى عدم الجدل في أمره منذ زمان بعيد. ورأيناه في ايام عثمان يمنع كل محدث منطيق من الاختلاط بأهل الشام. فلما اختلط ابو ذر بفقراء الشام وأخذ يحدثهم كتب معاوية الى عثمان يقول له: ان ابا ذر يريد ان يفسد أهل الشام.
واتخذ معاوية لنفسه الحراس والجلاوزة، يسيرون معه في موكب اذا سار في شوارع الشام، كما تفعل القياصرة تماما.
اما علي بن ابي طالب فكان يسير في الكوفة على غير هذه السيرة. قبل انه كان يمشي في شوارع الكوفة منفردا فيتحدث الى البقال والقصاب، ويجالس أصحاب الدكاكين. وحدث مرة اثناء مسيره الى صفين ان بعض دهاقين الانبار رأوه فترجلوا وأخذوا ينحنون بين يديه كما اعتادوا ان يفعلوا في سالف الازمان. فقال لهم: "ما هذا الذي صنعتموه؟" قالوا: "خلق منا نعظم به أمراءنا". فقال: "والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وانكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم وتشقون به في آخرتكم...".
وعند رجوعه من صفين افتقد درعه، ثم وجده عند نصراني. فأمسك به وجاء به الى قاضي الكوفة. ووقف الامام مع النصراني جنبا الى جنب يترافعان بين يدي القاضي. ولما لم يستطع الامام الاتيان ببينة قضى القاضي بالدرع للنصراني فأخذه ومشى والامام ينظر اليه...".
يقول الاستاذ عباس محمود العقاد: ان النزاع بين علي ومعاوية لم يكن خلافا على شيء واحد ينحسم فيه النزاع بانتصار هذا أو ذاك، ولكنه كان خلاف بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يمثل الخلافة الدينية والآخر يمثل الدولة الدنيوية.
ولنا ان نقول هنا ان عليا كان ينظر في "الحق" بمنظار آخر، اذ كان يعتبر الاسلام دينا قبل ان يكون دولة، وهو قد جاهد في سبيل العدالة والمساواة أكثر مما جاهد في سبيل الفتح والغلبة.
يتهم بعض المستشرقين محمدا بأنه كان من طراز جنكيزخان، قائدا بدويا وجه أمته نحو الغنيمة والغلبة. ولذلك شرع لاتباعه شرعة الحرب والقتال بخلاف ما فعل المسيح قبله.
نسى هؤلاء ان محمدا سار سيرة المسيح في بدء دعوته، حيث أخذ يدعو الى ربه بالطريقة السلمية ويحض اتباعه على العفو والصبر ومقابلة السيئة بالحسنة. وبقى على ذلك مدة طويلة تناهز ثلاثة عشر عاما. وكانت نتيجة ذلك ان قريشا اجتمعت على قتله وكادت تنجح فيه، لو لم يهيأ الله له خيط العنكبوت وبيض الحمام كما هو معروف. ولو ان قريشا نجحت في قتله آنذاك لذهب محمد في التاريخ كما ذهب أخوه المسيح من قبل، ولما وجد المؤرخون بينهما فرقا كبيراً.
ولم يكد محمد يصل المدينة سالما، بعد هذه الحادثة، حتى بدأ يغير خطته تجاه قريش. فقد ادرك بعد التجارب المرة التي مرت عليه في مكة ان قريشا لا ترضخ لدعوة إلا اذا اخضعها بحد السيف. وأدرك كذلك ان العرب لا يدخلون في الاسلام إلا اذا انتصر على قريش. وكان العرب يقولون: "دعوا محمدا يقاتل قومه فان نجح فهو نبي حقا".
يتساءل البروفسور توينبي: أكان محمد نصابا يريد الملك أم كان نبيا يريد الإصلاح؟. يقول توينبي في الجواب على ذلك: ان سيرة محمد في بدء دعوته تدل على انه كان صادقا في ايمانه مخلصا لرسالته. اما ما حدث بعد الهجرة من تحول في سيرته فمرده الى انه كان يعيش في مجتمع يختلف عن مجتمع المسيح اختلافا كبيراً.
وقد أشار البروفسور نكلسون الى ان معركة بدر هي أول حادثة لفتت نظر القبائل البدوية الى محمد وأثارت اعجابهم به. ويقول نكلسون في شأن هذه المعركة:"ومهما كان العرب قليلي الاكتراث بدين محمد، فانهم لم يستطيعوا إلا ان يحترموا الرجل الذي أذل نبلاء مكة". ويعد نكلسون معركة بدر من أعظم المعارك العالية التي غيرت وجه التاريخ.
نستنتج من هذا ان محمدا لم يتبع طريق الحرب حبا بالحرب والغلبة كما زعم المستشرقون من اعداء الاسلام. انما هو لجأ الى الحرب اضطرارا. ولولا ذلك لما قامت للاسلام قائمة في جزيرة العرب.
والواقع ان الحروب المحمدية لم تكن سوى مظهر من مظاهر الثورة الاجتماعية التي قام بها. والثوار في جميع الازمان يتبعون في بدء دعوتهم طريق السلم، فاذا اجتمع لديهم من الانصار عددا كافيا عبأوهم تعبئة القتال وأخذوا يشنون على خصومهم حربا شعواء قد تقضى على ما كان لهم من مكانة اجتماعية وترف باذخ.
هذا هو "الحق" الذي فهمه علي بن أبي طالب وجاهد في سبيله. فالامر ليس جهادا في سبيل الفتح والغلبة كما ظن معاوية ومن لف لفه من وعاظ السلاطين. والامام علي اذن لا يهتم بمصلحة الدولة بقدر اهتمامه بمصلحة الشعوب التي تحكمها تلك الدولة.
يقول وعاظ السلاطين: ان معاوية كان أقدر على سياسة الشعوب من علي. فعلي شتت بسياسته الديمقراطية شمل الجماعة، اما معاوية فقد كانت خلافته مصدر بركة واتحاد ونصر للمسلمين.
ما درى هؤلاء ان المجتمع البشري لا يمكن توحيده على رأي واحد، حتى ولو جاء جبرئيل نفسه يقوده. فالتنازع البشري طبيعة اجتماعية لا مناص منها ومن يحاول توحيد الناس على رأي واحد هو كالذي يريد صد تيار المياه الدافقة عن المسير. ولهذا كانت وحدة الجماعة التي أقامها معاوية مؤقتة. فلم يكد يموت معاوية حتى رجع المسلمون الى تناحر أبشع مما كان قبلا. ولم يتحد المسلمون في عهد معاوية إلا لكي يتفرقوا بعده على شكل أضرّ وأعمق.
وقد يصح ان نقول بان الذي يريد توحيد الجماعة في حزب واحد، انما هو يزيد في التفريق عاملا جديدا. وخلاصة ما يفعله هو انه يضيف الى الاحزاب المتناحرة حزبا آخر.
وإذا أجبر السلطان رعاياه على طاعته رغم آنافهم، أدى ذلك الى ازدياد النفرة منه. والذي لا يعترض عليه علانية ينقم عليه سرا. وكل ضغط يولد انفجارا، كما قيل.
حاول يزيد ان يدخل المسلمين في طاعته عن طريق العنف. فحدث من جراء ذلك مجزرة كربلاء ومجزرة المدينة وهدم الكعبة. وكان أهل الشام بعد واقعة الحرة يقولون للفرد من أهل المدينة: "بايع على انك عبد قن ليزيد". فان أبى ضربوا عنقه، فكانت مذبحة ذريعة. وكانوا يرمون الكعبة بالمنجنيق ويصيحون: "الطاعة الطاعة".
فكان من نتائج هذه المذابح ان انتشر التذمر بين الناس. ولقد نسى دعاة "الطاعة" ان كل فرد يقتل على يدهم في سبيل هذه الطاعة يجعل عشرة أفراد من وراءه متذمرين ينتهزون الفرصة للانتقاض على "أمير المؤمنين".
وصف الخصوم علياً بأنه سفك دم المسلمين. وهذا الوصف ذاته هو الذي قال به اعداء محمد حين سموه "نبي الحرب". كأنهم يظنون ان مكافحة الظلمة والمترفين أمر هين جدا يستطيع ان يقوم به المصلح عن طريق الخطب والمواعظ الرنانة.
يقول علي في احدى خطبه: "ولقد كنا مع رسول الله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا: ما يزيدنا ذلك إلا ايمانا وتسليما... وصبرا على مضض الألم، وجدا في جهاد العدو ... ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، ولا اخضر للايمان عود وايم الله لتحتلبنها دما ولتتبعنها ندما". وهذه الكلمة من علي تشبه في مغزاها الاجتماعي تلك الآية التي أذنت بالقتال للمهاجرين والانصار عند الهجرة. وهي تشير الى ان الدين لا يقوم إلا بالكفاح والتدافع الاجتماعي. وما الهجرة في الواقع إلا نضال وتضحية، وترك للمال والاهل في سبيل مكافحة الطغاة المترفين.
فعلي كان يعتقد ان الهجرة انقطعت بعد معركة بدر. وقد أشار الى ذلك في أحد كتبه الى معاوية. فقد كان معاوية يستعين ببعض المهاجرين الذين التحقوا بالنبي بعد بدر كأبي هريرة وابن العاص. فكان من رأى الامام علي ان هؤلاء ليسوا بمهاجرين صادقين، اذ هم قد هاجروا الى المدينة بعد ان اتضحت معالم النصر بجانب محمد. فالمهاجرون في نظر علي هم اولئك الذين التحقوا بمحمد يوم كان الاسلام مكافحا غير منتصر.
والغريب أن نجد قريشا تعتبر الهجرة مستمرة، فهي لم تنقطع بمعركة بدر ولا بفتح مكة. ولهذا كانت قريش تسمى الشام في عهد بني أمية: "دار الهجرة". نستنتج هذا من القول الذي أدلى به القائد الاموي عند هجومه على المدينة في أيام يزيد حيث خاطب أهل الشام قائلا: "انكم أهل البصيرة ودار الهجرة، ووالله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بارضى منه عنكم...".ويخبرنا ابن خلدون ان أحد أصحاب النبي سكن البادية في أيام الحجاج فقال له الحجاج: "ارتددت على عقبيك، تعرّبت". والحجاج يشير بذلك الى أن الرجوع الى البادية هو بمثابة الارتداد عن الدين وترك الهجرة. ولهذا نرى الامويين يصنفون المسلمين في عهدهم الى نوعين: أعراب ومهاجرين. فالمهاجر في نظرهم هو الذي يترك حياة البادية ويلتحق بجيشهم الفاتح الغانم السائح في الارض.
قلنا ونعيد القول هنا: ان الديمقراطية الحديثة ليست إلا ثورة "بيضاء"، حيث يبدل الشعب حكامه بواسطة الانتخاب حينا بعد حين. والشعوب الآن تستخدم أوراق التصويت لعين الغرض الذي كانت تستخدم السيوف من أجله قديماً.
وهنا يجب أن لا ننسى ان الثورة الديمقراطية لم تصبح "بيضاء" دفعة واحدة. فلقد كانت في مبدأ أمرها "حمراء" وظلت كذلك زمنا طويلا. ونحن حين نتمتع اليوم بهذه الثورة البيضاء يجدر بنا ان نذكر اولئك الابطال الذي بذلوا في سبيل تصويرها دماءهم.
وعندما نمجد ذكرى الثورة الفرنسية أو الانكليزية أو الامريكية أو غيرها، يجب أن نمجد كذلك ثورة علي والحسين وزيد وغيرهم من اولئك الذين ضحوا بأنفسهم من أجل هذه المبادىء التي نجني ثمارها في هذا العصر.
لقد استبدلت الديمقراطية الحديثة مبدأ الحكم الألهي بمبدأ المحاسبة والمراقبة كما قال مونتسكيو. وأصبح الحاكم اليوم فردا من الناس تستخدمه الامة في شؤونها العامة فاذا رأت منه اعوجاجا صفعته على وجهه وأنزلته عن كرسيه الوثير.
ان الثورة في مفهومها العلمي، كما قال هبرله، لا تعني العنف بالضرورة. فالجالس في بيته قد يعد ثائراً اذا كان مؤمنا بحقوق الانسان كما جاءت بها الثورة الفرنسية أو غيرها من الحركات الاجتماعية الكبرى.
لو تابعنا وعاظ السلاطين في رأيهم لالغينا الاحزاب الديمقراطية، وسددنا الصحف السياسية، وقمعنا كل رأي يخالف رأينا، بحجة ان هذه الامور تفرق الجماعة وتضعف الامة تجاه العدو الواقف لها بالمرصاد.
نسي هؤلاء ان الظلم يضعف الامة أكثر مما يضعفها الجدال والتنازع. وقد قيل في المأثورات الدينية: "الكفر يدوم والظلم لا يدوم". فالامة التي تتنازع فيها الاحزاب هي أقوى على البقاء من تلك التي يكون الحاكم فيها ظالما والمحكوم ساكتاً. فالتماسك الذي نلاحظه في تلك الامة هو تماسك ظاهري أشبه بالورم المعدي منه بالنسيج الحي. انه تماسك قائم بحد السيف، ولا يكاد ينغمد السيف عنه قليلاً حتى تراه قد تهاوى الى الأرض كما يتهاوى البناء المتداعي.
يعتقد وعاظ السلاطين: ان كفاح الظالمين أمر هين جدا. فهو في نظرهم كغيره من أمور الاصلاح الاجتماعي لا يحتاج إلا الى صب المواعظ الرنانة على رؤوس الناس: "أيها الناس لا تظلموا فان الله لا يحب الظالمين..." وهم حين يقولون ذلك يظنون ان الظالم سوف يرتدع عن ظلمه حالما يستمع اليهم. ونسوا ان الظالم لا يدري بنفسه انه ظالم فهو يتخيل نفسه أعدل الناس وأكثرهم جهادا في سبيل الله.
والظالم حين يسمع الوعاظ يذمون الظلم يفرح كثيرا اذ هو يعتقد بان المقصود بهذا الذم أعداءه. اما هو فلا يمسه شيء من هذا الذم. وكيف يمسه الذم وهو يسير في حكمه على كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا كان من الاسباب التي جعلت طغاة العصور القديمة يبجلون الواعظين ويجزلون لهم العطاء ويشيدون لهم المساجد الطويلة والاوقاف العريضة. وكلما كان الواعظ اكثر صراخا وعويلا في ذم الظلم كان أقرب الى قلوبهم. ذلك ان الواعظ يذم الظالمين، بينما صاحبنا الطاغية يعتبر نفسه من العادلين.
يجيد الواعظ عندنا سبك الخطب البديعة، فيستحسنها المترفون ويقولون له عند انتهائها: "لا فض فوك. كثر الله من امثالك". ثم يخرجون من مكان الاجتماع وقد عمرت افئدتهم بالدعاء لخير العباد. اما العباد فيبقون كما كانوا في شقاء مقيم.
انها مواعظ رائعة بذل اصحابها في نحتها كثيرا من أفانين النحو والصرف، والبيان والبديع. ثم يرمونها في الهواء امواجا يتلو بعضها بعضاً.
ومن حسن حظ البشر في الازمنة القديمة ان هذه المواعظ كانت تقتصر في أثرها على أمواج الهواء وحده. اما في هذا الزمان فقد صارت تشمل أمواج الاثير وأمواج الضوء أيضا لا سيما بعد انشاء محطات التلفزة والعياذ بالله.
انها على أي حال لا تحرك إلا الامواج، كما كان العبيد يحركون مراوح اسيادهم في قديم الزمان. فهي مواعظ للترويح أو المريخ. والاسياد يحبون من يمرخ لهم أو يروح.
من : مهزلة العقل البشري / د. علي الوردي