المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشيخ مصطفى إسماعيل.. رائد مدرسة التلاوة الشجية



فاطمي
02-18-2008, 11:59 PM
أحب صوته الملك فاروق وقلده السادات


http://www.aawsat.com/2008/02/14/images/religion1.458435.jpg
قبلة على خد الشيخ مصطفى إسماعيل من الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد أن قلدهما الرئيس عبد الناصر وسام الجمهورية عام 1965


http://www.aawsat.com/2008/02/14/images/religion2.458435.jpg
الشيخ مصطفى إسماعيل ولحظة تأمل خاصة في آيات الذكر الحكيم («الشرق الأوسط»)

القاهرة: أيمن حامد


«الله يا عم الشيخ».. «كله بقدرتك يا رب».. كانت تلك دوما صيحات «سميعة» القرآن الكريم في مصر عند استماعهم للقرآن من قارئ ندي الصوت عارف بأحكام التلاوة، إلا أن هذه الصيحات تعالت كثيرا في مسجد الحسين في تلك الليلة من شهر رمضان عام 1943، وصوت الشيخ القادم من قرية ميت غزال مركز طنطا يجلجل أركان المسجد العتيق، بنبراته الرنانة العالية الصافية.

وعندما يسكت الشيخ يلف صمت عميق أرجاء المسجد، وعندما يعاود القراءة ينتشي المستمعون وهم يلهجون بالثناء «الله»، يمدونها مدا، يطالبونه بالتكرار «أعد يا سيدنا الشيخ»، يتجمع الناس في الخارج على صوت الميكرفون. يتساءل بعضهم عن هذه الموهبة التي ملأت مسجد الحسين في رمضان بهجة وفرحا بتلك القراءة الشجية من سورة الرحمن. كانت نصف ساعة لا أكثر لكنها امتدت منذ ذلك الحين مع هذا الشيخ لأكثر من أربعين عاما في عالم الذكر الحكيم. في تلك الليلة الرمضانية المباركة شق الشيخ مصطفى إسماعيل (1905ـ1978) طريقه في عالم التلاوة وقراءة القرآن الكريم ليصبح واحدا من أبرز وأهم قارئي القرآن الكريم في تاريخ مصر والعالم الإسلامي في القرن العشرين.

في تلك الليلة كان الشيخ يقرأ للمرة الأولى أمام ميكرفون الإذاعة المصرية، وما ان انتهى من القراءة حتى اندفع المصلون يكبرون ويهللون وقتا طويلا، وقد توجهت أنظارهم إلى الشيخ مصطفى إسماعيل وهو ينزل من فوق «الدكة» ويمسك بنعليه ليشق طريقه وسط الزحام بصعوبة خارجا من المسجد. وتبعه جمهور غفير التف حوله في ميدان الحسين. كان الشيخ الريفي مندهشا في أول أيامه في قاهرة المعز، إذ لم يعهد مثل هذا الموقف من قبل. يقول الشيخ «لما صرت في الشارع وجدت الناس قد ازدحموا حولي كازدحامهم في المسجد، مشيت فمشوا ورائي، وأخذت طريقي في شارع الأزهر نحو ميدان العتبة الخضراء فأخذوا هذا الطريق معي وورائي، فتعجبت وسألت بعضهم:

ماذا تريدون؟ فأجابوا: نريد أن نسمع قراءتك مرة أخرى الآن.. وبينما نحن في هذا الحوار ظهر قبيل وصولنا إلى ميدان العتبة سرادق لمأتم، وكان القراء قد انتهوا من التلاوة فيه، فدفعني الناس دفعا داخل هذا السرادق، وأجلسوني على الدكة وطلبوا مني أن أقرأ! ثم انضم أصحاب السرادق إليهم طالبين أن أقرأ أيضا، فجلست وقرأت حتى مطلع الفجر». وفي تلك الليلة أيضا يستمع الملك فاروق ملك مصر لصوت الشيخ مصطفى اسماعيل عبر الراديو. ويصدر على الفور أمرا ملكيا بتعيينه قارئا للقصر الملكي. ويبحث سكرتير القصر الملكي محمد باشا سالم عن أي معلومات تقوده لهذا الشاب، إلا أن المعلومات المتاحة توقفت عند معرفة اسم الشيخ فقط بينما بقية التفاصيل مجهولة. ويذهب سالم باشا إلى شيخ رابطة القراء الشيخ محمد الصيفي الذي دله على عنوان قريته في مركز طنطا. ويتم تكليف مأمور مركز طنطا بإحضار الشيخ إلى القاهرة. وفي سيارة البوليس يأتي الشيخ مصطفى إسماعيل إلى القصر الملكي ليقرأ في الاحتفال بذكرى وفاة الملك أحمد فؤاد والد الملك فاروق في ابريل من عام 1936، بعد تحرير عقد مع مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية، ليصبح بعد ذلك التاريخ الشيخ مصطفى قارئ القصر الملكي ويتنقل بين قصر عابدين شتاءً وقصر رأس التين بالإسكندرية صيفا يحيي ليالي رمضان جالسا على دكة بجوار الملك فاروق. ويستأجر الشيخ غرفة في فندق شبرد بالقاهرة، الذي كان حكرا على الباشوات والأثرياء والأجانب وكان يدفع لإيجار الغرفة في الليلة الواحدة أربعة جنيهات كاملة، ذلك المبلغ الذي كان يمكن أن يعيش به أي شخص آخر لمدة شهر في القاهرة. جاء الشيخ إسماعيل في فترة كادت تخلو من المقرئين الكبار بعد أن تقاعد الشيخ محمد رفعت عن القراءة في الإذاعة بسبب المرض وكبر السن.

وتلقفت الإذاعة المصرية الشاب الوافد إلى القاهرة حديثا لتتعاقد معه على القراءة لمدة نصف ساعة أسبوعيا.

ويرفض الشيخ في البداية، إذ أنه يحتاج لأكثر من نصف ساعة «للتسخين» حتى ينفتح صوته ويجلجل وذلك لتعوده على القراءة بالساعات في المآتم والاحتفالات الدينية المختلفة، كما كان لا يرغب في القراءة داخل الاستديو المغلق بمعزل عن المستمعين، إلا أنه في نهاية الأمر رضخ لرغبة الإذاعة بعد تزايد عدد الرسائل التي تطلب الاستماع لصوته. وفي عام 1947 يقع الاختيار على الشيخ كي يكون قارئ سورة الكهف بالجامع الأزهر، لينطلق بعدها إلى الشهرة والعالمية، ويصبح قارئ مصر الأول الذي يتهافت على سماع صوته الندي مستمعو الإذاعة المصرية ورواد المساجد الكبرى في القاهرة.

وبعد قيام الثورة يستمر الشيخ على رأس القراء في كل الاحتفالات والمناسبات. ويسافر لإحياء ليالي رمضان في عدد من الدول العربية والإسلامية، ويؤم المصلين في جامع باريس في منتصف الستينيات. ويعود بعدها ليجد وسام الجمهورية في انتظاره، إذ منحه إياه الرئيس جمال عبد الناصر في عيد العلم من عام 1965 مع كل من طه حسين وفكري أباظة وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ليصبح الشيخ مصطفى اسماعيل أول قارئ للقرآن ينال هذا التكريم.

ويستمر الشيخ في جولاته الخارجية لإحياء ليالي رمضان، فيسافر إلى لبنان لينال هناك وسام الأرز من رئيس وزراء لبنان تقي الدين الصلح، ثم يسافر إلى ماليزيا واندونيسيا والعراق ولندن وميونيخ وتركيا حيث استقبله الرئيس التركي آنذاك فخري كورتورك في القصر الجمهوري، وأهداه مصحفا شريفا مكتوبا بماء الذهب.

وللشيخ مصطفى إسماعيل قصة مع الرئيس الراحل انور السادات، إذ أن السادات كان يهوى صوت الشيخ ويقوم بتقليده لزملائه في فترة السجن قبيل الثورة. وبعد أن أصبح السادات رئيسا لمصر (1970) اتخذ مصطفى إسماعيل قارئا خاصا له في كل المناسبات التي تخص مؤسسة الرئاسة. وتأتي خطوة السادات المفاجئة بالسفر إلى إسرائيل للتباحث حول التسوية مع الإسرائيليين في نوفمبر عام 1977، ويسافر السادات إلى تل أبيب في وفد كبير ضم الشيخ مصطفى اسماعيل حتى يقرأ القرآن في المسجد الأقصى إبان زيارة السادات له.

وهناك يقرأ مصطفى إسماعيل كما لم يقرأ من قبل رغم تجاوزه السبعين من عمره. كان صوته حزينا أكثر من أي وقت مضى. كان يبكي المسجد الأقصى ويبكي هذه الأمة التي فقدت قدرتها حتى على البكاء. في تلك الليلة فاضت عينا الشيخ بالدموع وتذكر زيارته الأولى لأولى القبلتين عام 1947، كان يبكي مشايخ فلسطين الذين استقبلوه بالحفاوة والترحاب آنذاك يوم أن كانت مدينتهم منارة للحب والتسامح بين البشر.

قرأ الشيخ مصطفى في المسجد الأقصى على الهواء عبر الأقمار الصناعية، وجاء صوته شجياً يثير ذكريات العرب والمسلمين وأحزانهم على مسجدهم الأسير. كان كل ما يتمناه الشيخ أن يقرأ القرآن حتى آخر يوم في عمره، كانت تلك دعوته لربه في صلاته. وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ديسمبر 1978 يسافر الشيخ إلى دمياط للقراءة في افتتاح جامع البحر بالمدينة الساحلية، قرأ الشيخ ابن الثالثة والسبعين عاما قراءته الأخيرة مودعا محبيه ومستمعيه. وبعدها توجه إلى الإسكندرية التي كان هو نفسه من محبيها ومريديها.

وهناك في حي رشدي، حيث بيته الصيفي يطلب من سائقه أن يضع على السيارة غطاءها البلاستيكي على خلاف عادته. يسأله السائق متعجبا عن علة ذلك، يجيبه الشيخ «أنا مش طالع تاني يا سيدي».

يدخل بيته.. يشعر بألم في رأسه.. ينام.. لكن هذه النومة تطول على غير العادة.. ينقل للمستشفى على عجل.. وفي المستشفى يموت الشيخ. وينقل جثمانه إلى القاهرة للصلاة عليه في جامع عمر مكرم، ويقام سرادق ضخم في الميدان نفسه الذي زلزل جدرانه يوما صوت الشيخ الندي، لكن هذه المرة حضر الجميع للسرادق لكن الشيخ مصطفى غاب.. وفي قريته ميت غزال يوارى جثمانه الثرى هناك بين أشجار النخيل والحقول الخضراء التي شهدت نبوغه وهو طفل يجلس مستندا إلى حائط بيته يتلو القرآن.