المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أسس في منهج التفكير



سيد مرحوم
07-20-2004, 08:48 AM
أسس في منهج التفكير

كتابات - ضياء الشكرجي

وجه إلي أحد القراء الأعزاء من العراق سؤالا فأجبته بجواب، رأيت من المفيد ان أحوره إلى مقالة بعد حذف الجوانب الذاتية التي فرضتها طبيعة السؤال وتفرضها عادة طبيعة التعاطي مع المراسلات الشخصية، وربما تغيير بعض العبارات وإضافة أخرى بما يتناسب مع طبيعة المقالة.

فكانت هذه أفكار التي سطرتها من وحي تراكمات التجربة الذاتية المتواضعة مع الشأن الثقافي، بما أثار سؤال السائل لدي من إيحاءات، تبين الأسس التي يمكن أن تتبع لتنتج نوعا من فكر أو من ثقافة تتحرك بالاتجاه الصحيح، فيما هي الصحة النسبية التي يمكن أن تختزن من غير شك قدرا من الخطأ، لطبيعة لامعصومية الفكر الإنساني ونسبيته.

حول سؤال "ماهية الثقافة التي تزود المثقف لكي يصل إلى ما وصل إليه بعض المثقفين الذين حققوا نجاحا نسبيا"، أقول أن القضية عند البعض من المثقفين أو بعض المتعاطين مع الفكر – تجنبا لمصطلح "مفكرين" - ليست دائما وبالضرورة قضية ثقافة حازوها، وإنما هي قضية منهج تفكير اكتشفوه ونمّوه وواصلوه، حتى غدى مَلـَكة، فقد يكون الرصيد الثقافي المقروء عند بعضهم رصيدا متواضعا، بينما يملكون قسطا يعتد به من الثقافة التأملية.

ما معنى أن القضية عند هذا النوع من متعاطي الفكر والثقافة هي ليست قضية ثقافة مقروءة بل قضية منهج وطريقة تفكير. نعم المنهج هو الذي صنع ويصنع الكثير من الكتابات التي تحولت إلى ثروة فكرية. التأملات مع استخدام المنج هو الذي حقق ما حقق لبعض هؤلاء مما غدى ذا شأن ما. لكن ما هو هذا المنهج؟ أذكر هنا ملامح المنهج ربما دون مراعاة الأهميات في الترتيب، بل حسب ما يخطر على ذهني. مع العلم أن هذا المنهج نفسه يكون عادة حاضرا لديهم في تعاطيهم مع المفاهيم القرآنية – إن كانوا من نوع المثقفين الإسلاميين - وممارستهم لما أسماه السيد فضل الله بالتفسير الاستيحائي، الذي قد يمارسه الكثيرون من هذا النوع من متعاطي الفكر لسنوات طويلة دون أن يفكروا أن يجعلوا له تسمية خاصة، كما اصطلح علي السيد فضل الله المصطلح المذكور، كما إنهم يمارسونه في تناولهم للقضايا العقائدية أو ما يسمى بعلم الكلام، وكذلك يستخدمون هذا المنهج في المفاهيم السياسية والمفاهيم العامة. طبعا عندما يكتبون او يفكرون أو يحاضرون ربما لا يستحضرون في وعيهم أن يضعوا هذه النقاط أمامهم، بل هي حاضرة بشكل عفوي وتلقائي في اللاوعي أو في الوعي أو في المساحة ما بينهما.

ملامح منهج التفكير عند هذا النوع من متعاطي الفكر والفعل الثقافي:

- محاولة تقليص المسلـَّمات والمقدسات غير المسموح بالمساس بها إلى أضيق دائرة ممكنة، فكل شيء عندهم خاضع للمناقشة ولإعادة النظر.

- بذل الجهد في اتباع المنهج العقلي في العقليات، والمنهج العقلائي في العقلائيات والعقلاني في العقلانيات. وثمة فرق بين العقلية من جهة والعقلائية أو العقلانية من جهة أخرى. الأولى فلسفية أي نظرية، والثانية تتحرك في مساحة الفكر العملي أي الفكر للحياة، وبتعبير آخر مجال الأولى العقل النظري، ومجال الثانية العقل العملي أو ما يسمى بالحكمة.

- الرجوع فيما هو المنهج العقلي إلى قاعدة عرض الفكرة على المعقولات الثلاث أي إدراكات أو أحكام العقل الثلاثة والتي هي (الضروري) أو (الواجب) العقلي، والممتنع العقلي أو (المستحيل) أو (المحال)، والممكن العقلي. فهذا حاضر لديهم في أغلب ما يفكرون به، حتى لو لم يشيروا إليه بشكل مباشر، أو لم يتضح استخدامه من الوهلة الأولى، أو حتى لو لم يقصدوه، لكنه يمثل مؤثرا أساسيا في تفكيرهم حاضر في الوعي أو اللاوعي.

- محاولة توخي الموضوعية أي تجريد الموضوع من أشخاصه، إلا ما يثبت فيه دخل الأشخاص في فهم الفكرة المناقـَشة، وتناول الفكرة بشكل مجرد.

- النظرة الشمولية فيما يتطلب أن يعالج بشكل شامل، ذلك من قبيل استحضار الشمولية، وليس بالضرورة من قبيل الإحاطة بها في كل بحث. يعني كمثال إذا عولج مفهوم قرآني، يستحضرون الفهم الشمولي لروح القرآن، بل ويطبقون ذلك حتى على الأشخاص أو التيارات الفكرية ولو بنسبة أخرى، وبقدر تحقق الانسجام في شخصة الشخص الذي يجري تفسير أقواله ومواقفه أو التيار أو المدرسة الفكرية، فلا يعالج نص أو موقف مستقطعا عن المعرفة الشمولية للشخص أو التيار.

- التعامل حتى مع الخصوم الفكريين بالعدل أي بمحاكمة فكرهم بما يرضى المحاكِم له أن يحاكـَم فكره به، والبحث لهم عن المبررات فيما يبحث لقناعاته فيه عن مبررات، أو يحب للآخرين أن يجدوا له من مبررات، أي أن يحب لا فقط للإخوان بل حتى للخصوم ما يحب لنفسه، أو طبقا لقاعدة التعامل بالمثل في جانبها الإيجابي لا السلبي.

- عدم المكابرة في إقرار التعلم حتى من الخصم الفكري.

- التعامل تقريبا مع كل شيء بمفهوم النسبية، فحتى الفكرة المطلقة، إذا فرضوا مطلقيتها أو حتى لو آمنوا بمطلقيتها على نحو القطع، يكون عندهم فهم الفكرة المطلقة فهما نسبيا، وبالتالي متفاوتا من الواحد إلى الآخر، ثم المطلق نفسه يعتبرونه رغم مطلقيته نسبيا في نفس مسألة اعتباره مطلقا، أي إنه مطلق عند من يرى مطلقيته وليس كذلك عند غيره.

- الاعتدال كلازم أساسي من لوازم العقلانية من جهة، وكلازم من لوازم العدالة من جهة ثانية.

- المؤثرات الأساسية الثلاثة في التفكير – بالنسبة للمؤمنين بالإسلام منهم - هي العقل والقرآن والحياة. فلكل ما ذكر آنفا يمكن إيراد شاهد عليه من القرآن، ومن الدليل العقلي أو العقلائي، ومن تجربة الحياة، أو من أحد الثلاثة فيما لا يتعارض مع الآخرَين. ومن هنا كان قول أحدهم في بعض المناسبات أن أهم الكتب التي قرأها في حياته وتعلم منها ثلاث: 1) كتاب الله، 2) كتاب العقل، 3) كتاب الحياة.

- التركيز على جوهر الأشياء والأفكار لا على الشكل، إلا إذا تحول الشكل إلى رمز للجوهر لا يتم التعبير عن الثاني إلا بالتمسك بالأول، وبالتالي التحرر من القوالب اللفظية والثقافية، ومنها تقليص ما يسمى بالتوقيفيات في الثقافة الدينية إلى أضيق دائرة، والتمييز بين التوقيفي التعبدي الذي يلزم به المؤمن نفسه بالتمسك به بحسب إيمانه، والتوقيفي المعبِّر عما سماه أحدهم بالمنهج القوالبي، أي الجمود على القوالب.

- محاولة الربط بين الأفكار والمفاهيم والبحث عن العلاقات بينها، حتى لو كانت العلاقة خفية وغير مباشرة.

- تطبيق الفكرة والمفهوم على كل واقع ومصداق وعدم تضييق المفهوم وقصره على المصداق الذي ورد فيه، لكن مع استحضار نسبية التطابق وبالتالي نسبية التطبيق.

- تحري الدقة ما أمكن في الفكرة وكذلك في التعبير عنها.

- اعتماد الشفافية والصدق في الطرح والخطاب والحوار.

- الاكتفاء بطرح المفاهيم عندما تمنع الحكمة من تناول المصاديق، مثلا لحساسية الاقتراب من المصاديق في ظرف ما.

- التعويل في تحديد المشتركات على المنطلقات وإن اختلفت النتائج.

- الإفادة من منهجي الاستقراء والاستنباط في معظم قضايا الفكر والثقافة، أي تارة ملاحقة مفردات الأفكار والمفاهيم أو مفردات الوقائع والظواهر للوصول إلى قانون عام، وتارة أخرى ملكة تطبيق القانون العام على الحالات المفردة.

- اجتناب ما أمكن التعميم والإطلاق إلا مع وجود الدليل القاطع على جواز أو لعله وجوب التعميم والطلاق.

- التمييز بين القيمة المجردة التي قد تكون مطلقة والسلوك على ضوء تلك القيمة الذي هو على الأعم الأغلب نسبي، إلا إذا ثبت التطابق الكلي بين المفهوم والمصداق.

- تحقيق وعي لوني بتعميق الملكة على التمييز بين الألوان المفاهيمية، والتمييز ما بين المزيج والنقي، واستحضار أن جمالية اللون جمالية نسبية بحسب الموقع الذي يستخدم فيه اللون، وبحسب القرائن اللونية المجاورة، وبحسب المتلقي، أي المتذوق للون.

- تجذير وعيين؛ وعي مفاهيمي ووعي مصاديقي، أي تنمية ملكة تطبيق المفهوم على المصداق في الخارج تطبيقا دقيقا ووعي نسبية التطبيق.

هذا بعض ما أعانتني عليه الذاكرة فيما وفقها الله إليه، ولعل هناك ملامح أخرى لكن قد تكون هذه التي ذكرتها هي الأهم. نعم هذه هي ملامح لون من ألوان الثقافة للون من ألوان المثقفين ومتعاطي الفكر، حيث يكون من الصعب عندهم الإجابة على سؤال وصلوا إليه، في حال أنهم وصلوا فعلا إلى ثمة ما هو مفيد وذي جذر وقاعدة وأصول.
19/07/2004

d-alsh@web.de