جمال
01-05-2008, 11:37 PM
الشاعر الذي أبصر العميان شعره عاش أحلى سنواته في ظل سيف الدولة ثم خسر ثقته
رحلة المتنبي من السجن إلى طعنة الاغتيال
http://www.alamalyawm.com/uploads/1056/04mawsel.jpg
بقلم: أحمد بن محارب الظفيري
باحث في التاريخ والتراث
ah-mhareb@maktoob.com
قال عنه الحسن بن رشيق القيرواني «ت463 هـ/ 1071» صاحب كتاب «العمدة» بعد ان تكلم عن كبار شعراء العرب: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس». ونحن نقول: مازال المتنبي شاغل الدنيا ومالئ فم الزمان.
اليس هوالقائل عن نفسه:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ثم جاء أبو العلاء أحمد بن عبدالله المعرّي «ت 944هـ /7501م» وكان من أشد المعجبين بشعر المتنبي وبشخصيته البدوية الفذة، وكان كلما سمع احداً ينشد قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واستمعت كلماتي من به صمم
يهز رأسه ويقول لمن حوله: أنا الأعمى الذي يقصده المتنبي ولقد دفع حب أبي العلاء الجارف للمتنبي، ان يؤلف عنه كتاباً اسماه «معجز أحمد» يتحدث فيه عن الاعجاز في شعر أبي الطيب أحمد المتنبي.
لاحظ ان المعربي ذكر اسم أحمد ولم يذكر اسم والده، لان اسم والد المتنبي فيه خلاف كثير.
< لقد رفع المتنبي في هذا الكتاب إلى مصاف أصحاب المعجزات من الانبياء واللافت للنظر في كل المراجع التاريخية ان شاعر المعرّة وفيلسوفها «رهين المحبسين» كان هائماً في حب المتنبي ومدافعاً عنه، ولقد تعرض للجلد بالسياط والأذى بسبب حبه له ودفاعه عنه على يد عبيد وغلمان الشريف المرتضى ـ نقيب العلويين ـ فهجر بغداد بسبب هذه الاهانة عائداً للشام.
< أبو الطيَّب أحمد المتنبي.. هذا الطود الشامخ.. من هو؟
المعروف ان اسمه «أحمد» ومولده عام 303 هـ/ 915م، قيل ولد في الكوفة المدنية، وقيل في بادية الكوفة.
قيل ان من قام بتربيته هي «جدته» لامه ـ لا نعرف اسمها، ولانعرف عنها شيئاً، هو اشار اليها في شعره.
ولما بلغ عمره سبع عشرة سنة، أي في سنة 320هـ خرج من الكوفة وهو شاب، إلى بادية قبيلة بني كلب«حفيدتها الآن قبيلة الشرارات وتقطن شمال المملكة السعودية على حدود الاردن» ولا نعلم سبباً لخروجه إلى هذه القبيلة.. هل له صلة نسب معها.. لا ندري! ولكن المعروف عن هذه القبيلة انها ذات شأن عظيم في العهد الأموي خاصة، فهم أخوال يزيد بن معاوية وعين منهم عدة ولاة، وقبيلة بني كلب هي زعيمة القبائل اليمنية المؤيدة للأمويين وهي التي ناصرت مروان بن الحكم الأموي في القضاء على حركة الضحاك بن قيس الفهري زعيم قبيلة بني قيس المناصرة لعبدالله بن الزبير.. واستمرت حروب الثأرات مشتعلة بين القيسية والكلبية بصورة دائمة ومتقطعة إلى زمن خلافة الوليد بن عبدالملك.
وعلى أيام المتنبي بدأت هيبة خليفة المسلمين العباس القابع في بغداد بالتدهور حيث تسلط على الحكم عناصر أجنبية فارسية، فأحكمت قبضتها على الحواضر والمدن، وبقيت الصحاري العربية نظيفة من هذه العناصر وتأثيراتها ومنها صحراء بني كلب التي كانت كثيرة التمرد والعصيان على الولاة المحيطين بها.
ويظهر ان أبا الطيب أحمد، هذا الشاب الأديب النابغة، القادم من مدينة الكوفة الواقعة على مشارف الصحراء والتي تقطنها قبائل عربية نصفها متحضر ونصفها بدوي، وقد وجد ضالته عند أعراب بني كلب، فأخذ عنهم اللغة والتاريخ وأصول العربية وأنساب العرب.
ولا نستبعد ان هذا الشاب المسمى أحمد ابن الطيب ـ لم يكن يلقب بالمتنبي في هذا الوقت ـ قد أخذ يمارس دوراً سياسياً وقيادياً بتوجيه هذه القبيلة للثورة على الاوضاع السائدة وتخليص العرب من حكم الأجانب الأغراب الذين تسلطوا على مقاليد الامور في ديار العرب، وقبيلة بني كلب بتاريخها الطويل المعروف بالثورات هي اصلاً مهيأة لقبول مثل هذه الأفكار التحررية لانها تنسجم مع مفاهيمها واخلاقها البدوية المتوارثة.
ولما عظم شأن أبي الطيب أحمد، وانتشرت دعوته بين مضارب قبيلة بني كلب، وصلت أخباره المزعجة إلى كل الولاة من عباسيين واخشيديين واكثرهم من أصول تركية وفارسية فخشوا من انتشار دعوته بين القبائل الأخرى.
فكان رد الفعل الثابت على هذه الدعوة، كما ذكرته كل المراجع التاريخية، ان لؤلؤ والي حمص من قبل كافور الاخشيدي حاكم مصر خرج بجيش كبير وحارب بني كلب وقبض على الشاب أبي الطيب أحمد وعلى بعض كبار شيوخ قبيلة بني كلب، وتم سجن الشاب أبي الطيب أحمد في قرية كوتكين من قرى الشام وكلف أمير القرية ابن علي الهاشمي بالتشديد عليه وتعذيبه، ثم نقل إلى سجن حمص، ولفقوا له تهمة ادعائه النبوة ليبرروا سجنه أو قتله، ومكث في السجن سنتين ونصف السنة.
ولؤلؤ والي حمص من أصل تركي، ورئيسه كافور الاخشيدي أمير مصر عبدمخصي من أصل زنجي اسمه الحقيقي «كيغلغ».
< هل ثورته علوية؟
< ذكر الاستاذ الكاتب المصري محمود محمد شاكر في مقاله «المتنبي» المنشور في مجلة «المقتطف» سنة1936م: إن المتبني قام بثورة علوية في بادية بني كلب ويسميها «بادية السماوة» وان ثورته باءت بالفشل وآلت به إلى السجن حتى كاد ان يهلك في سجنه.
ونحن نقول: من الجائز ان تكون دعوة المتنبي علوية، ولكن أين الدليل على ذلك؟ المتنبي نفسه في كل اشعاره لم يذكر انه علوي، أو ان ثورته علوية، ثم أن المصادر التاريخية لم تذكر ان الثورة علوية، علماً بأنها مجمعة على أن المتنبي قام بحركة تمرد او ثورة «الاسم لايهم» في بادية بني قلب ولكنه فشل وسجن.
والذي لاخلاف عليه اطلاقاً ان المتنبي عربي صميم فهو بدوي في كل تصرفاته سواء كان من قبيلة قريش أو من بقية القبائل العربية الاخرى.
< هل ثورته قرمطية؟
ورداً غير مباشر على الأستاذ محمود محمد شاكر، ذكر الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي»: ان المتنبي قام بثورة قرمطية، وشاركه في رأيه هذا بعض المستشرقين الغربيين.
ونحن نقول: ان مقولة الدكتور طه حسين والمستشرقين الغربيين القائلين بقرمطية المتنبي، تنهار تماماً ولا تصمد لحظة واحدة امام حقائق التاريخ واليكم الآدلة على ذلك: دعوة القرامطة قامت على العبيد والاجراء والطبقات الضعيفة ولا تقيم للنسب وزناً وهي شبيهة بالشيوعية.
بينما المتنبي في كل شعره يؤمن بأن هناك اصحاب النسب الصريح وهم العرب العرباء، وادعياء النسب من الموالي والعجم والعبيد.
قال ابو الطيب المتنبي:
لاتشتر العبد الا والعصامعه
ان العبيد لانجاس مناكيد
وإنما القوم بالملوك وما
تصلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولاحسب
ولا عهود لهم ولا نعم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عنك لاعرب ولاعجم
وفي عهد المتنبي منذ ولادته سنة 303هـ/915 وحتى وفاته مقتولاً سنة 354/965م عاصر أقوى دولة قرمطية قائمة على الساحل الشرقي بجزيرة العرب، حكامها الفرس القرامطة، وكانت تحكم الاحساء «هجر» والقطيف «الخط» والبحرين «اوال».
فلماذا لم يذهب اليها المتنبي «سمي المتنبي بعد خروجه من السجن» بعد الجواب: ابداً لم يذكر التاريخ انه زارهم اوقابلهم.. بل على العكس من ذلك بعد خروجه من السجن نجده يطبق نظريته الي يؤمن بها وهي سيادة العرب الاصلاء.. فيتجه الى الدولة الحمدانية التي يحكمها ملك عربي صريح النسب هو سيف الدولة علي ابن أبي الهيجاء عبد الله الحمداني التغلبي الوائلي ملك الموصل والجزيرة وحلب، فيلقى الترحاب والتقدير ويمكث في بلاط سيف الدولة فينسجم مع نفسه ومع الدهر ويعيش احلى وأجمل سنوات عمره على الاطلاق، ويصبح وزير اعلام لسيف الدولة فيخلده ويخلد انتصاراته بقصائد شعرية رائعة تذوب منها نفس الشاعر بنفس الملك، فكان الشاعر الملك، والملك الشاعر، فتظهر كلوجود قصائد «انسيفيات» يقول المتنبي مادحاً سيف الدولة:
اذا العرب العرباء رازت نفوسها
فأنت فتاها والمليك الحلاحل
< عقدة النسب الواضحة عند المتنبي
عقدة النسب هي العقدة الواضحة في سائر شعر المتنبي وفي حياته الخاصة وهي التي كان يعاني منها معاناة نفسية هائلة، والعجيب انه لايوجد في كل شعر المتنبي مايشير الى ابيه او الى نسبه او الى عائلته، فنسبه غامض مبهم.. فهو مجهول النسب حتى على المقربين منه من العرب الاوائل.
حتى بطاقته العائلية يكتنفها الغموض من كل جانب!.. هل هو متزوج؟ هل الشاب «محسد» الذي قيل انه ابنه والذي قتل معه في دير العاقول جنوب بغداد سنة 354هـ ابن شرعي له؟ فمن هي أم محسد ومن هم اخواله؟! الغاز وطلاسم صنعها المتنبي بنفسه متعمداً لسبب نجهله! علماً بأن عصره كان عصر التفاخر بالانساب والاعمام والاخوال.شرح ديوان المتنبي اكثر من مائة عالم من ائمة اللغة والادب والتاريخ، وطبع عدة مرات بمختلف الشروع، منهم تلميذ المتنبي نفسه ابو الفتح عثمان بن جني «ت 392هـ» والذي يروي ان المتنبي قال عنه :«ان ابن جني اعرف بشعري مني» هذا التلميذ النشيط الذي لايفارق استاذه حالما يصل من البادية الى مدينة بغداد او الكوفة او الذي ألف كتاب «الفسر» في شرح شعر المتنبي، وانه لم يفدنا شيئاً عن نسب استاذه المتنبي.
ومن شراح الديوان الواحدي صاحب كتاب «أسباب نزول القرآن» وأبو بكر الخوارزمي «ت 381هـ» صاحب كتاب «مفاتيح العلوم» والصاحب بن عباد «ت385هـ» صاحب كتاب «المحيط» وأبو البقاء العكبري «ت616هـ» وعفيف الدين علي بن عدلان الموصلي «ت 666هـ» صاحب كتاب «التبيان في شرح الديوان» وضياء الدين ابن الاثير صاحب كتاب «المثل السائر» تحدث عن المتنبي وأكبر شعره.
كل هؤلاء الشراح قديمهم وحديثهم لم يقدموا لنا شيئاً واضحاً عن نسب المتنبي فقط هم متفقون على اسم المتنبي وهو ««أحمد» ويكنى بـ«أبي الطيب».
أسمه «أحمد» لاخلاف عليه، ولقبه «المتنبي» لاخلاف عليه، و«المتنبي» لقب علق به بعد خروجه من السجن وهو يكره هذا اللقب ويمقته ولكنه ابتلى به لانه شاع بين الناس وانتشر بسبب ولاة الدولة وعمالها.
اما اسم والده فهو في اكثر المصادر يسمى «الحسين» وهناك شك بأن اسمه «عبدان» السقاء وأنه كان فقيراً من أهل الكوفة يمتهن سقاية الماء على بعيره، حيث يبيع الماء لأهل الكوفة.
والملاحظ عند بدو اليوم في جزيرة العرب شيوع اسم «عبدان» لفحل الإبل القوي، فهل ياترى لقب الد المتنبي نسبة الى جملة! علماً بأن الرجل ايضاً ممكن ان يسمى بعبدان».
وتشير بعض المصادر التاريخية ان والده يسكن في محلة كندة في الكوفة واليها نسب وهو ليس من كندة القبيلة التي تسكن المحلة.
أما والدة المتنبي فلا يوجد ذكر لاسمها اطلاقاً في كل المصادر.
بعض المصادر تقول: أن جده لابيه اسمه «الحسن» وتقف.. وبعضها تكتب اسم الجد كاملاً هكذا: «الحسن بن عبدالصمد» وبعضها يشكك بصحته.
< هل المتنبي ابن الإمام الثاني عشر للشيعة؟
يرى الأستاذ عبدالغني الملاح صاحب كتاب «المتنبي يسترد أباه» وله عدة مقالات في هذا الموضوع، إن المتنبي هو «أحمد بن محمد بن الحسن العسكري معتمداً على مخطوطة «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» لابي الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي 597هـ، الطبعة العثمانية في مطبعة حيدر آباد الدكن والمحفوظة في مكتبة جامع آيا صوفيا التركي.
ولقد جاء في هذه المخطوطة اسم المتنبي هكذا: «أحمد بن... الحسن» وهذا الفراغ الذي جاء في خانة اسم والد المتنبي في مخطوطه ابن الجوزي المتوفي سنة 597هـ هو الذي جعل الأستاذ عبدالغني الملاح يتأول باسم الأب فيملأ الفراغ بأسم «محمد» معتمداً على احدى روايات الخطيب البغدادي «ت463هـ»، والخطيب البغدادي مثله مثل غيره يتخبط بأسم والد المتنبي فمرة اسمه «محمد» ومرة اسمه «الحسين» ومرة اسمه «عبدان»، أما اسم جد المتنبي فهو «الحسن بن عبدالصمد الجعفي». ولكن الأستاذ عبدالغني الملاح عندما وضع في الفراغ اسم «محمد» وجعله والداً للمتنبي معتمداً على احدى روايات الخطيب البغدادي، أصبح اسم المتنبي الكامل هو: «احمد بن محمد بن الحسن» ثم أخذ يسرد الحوادث والتواريخ سرداً ملتوياً ومتاولاً للأمور حسب مبتغاه من دون سند مثبت وحقيقة واضحة حتى يصل الى هدفه الذي وضعه نصب عينيه، فأضاف كلمة «العسكري» بعد «الحسن» معتقداً انه بالبحث والتحقيق وصل اليها وبذلك قال: إن المتنبي هو: «أحمد بن محمد بن الحسن العسكري».
ولو افترضنا التصديق بمقولة عبدالغني الملاح بأن أحمد المتنبي هو ابن الإمام الثاني عشر للشيعة المسمى «محمد بن الحسن العسكري» فكل مصادر الشيعة الاثني عشرية تؤكد أنه غاب سنة 317هـ واختفى ولم ينجب وبذلك توقفت الإمامة عليه، ومكان اختفائه في مدينة سامراء بالعراق وبني على مكان اختفائه بناية كبيرة ومسجد كبير وهو من مزارات الشيعة.
ثم ان المعروف عن الشيعة انهم يهتمون ايما اهتمام باحياء ذكرى كل من له صلة بمذهبهم، فكيف اذا كان هذا الشخص ابناً لامامهم أو من الموالين لمذهبهم!!
إن الشيعة العرب شأنهم شأن الآخرين يمجدون المتنبي ويكبرونه كشاعر من شعراء العرب.. لا اكثر ولا أقل.. لم نسمع ولم نقرأ ولم نشاهد انهم ينظرون الى المتنبي كأحد رجال المذهب الشيعي.
ثم لا ننسى أن الفرس البويهيين وهم من الشيعة سيطروا على الدولة العباسية في سنة 334هـ، ومنهم عضد الدولة بن بويه الديلمي وقد زاره المتنبي في شيراز ومدحه، ومنهم أحد شراح ديوان المتنبي وهو الوزير الأديب اسماعيل بن عباد الطالقاني الملقب بـ «الصاحب بن عباد» لصحبته مؤيد الدولة البويهي لم نقرأ في تاريخ كل هؤلاء البويهيين أن المتنبي من ائمتهم أو من شيعتهم.
وفاة الجدة فجرت براكين الألم واظهرت المكنون في الضمير
نعم إن وفاة جدة المتنبي «أم أمه» قد فجرت براكين الألم والحزن والغضب في نفسية الحفيد، وقد توفيت بسبب الحمى «السخونة». ويظهر أن هذه الجدة هي أمه التي قامت بتربيته- وتسمية الجدة بالأم جائز عند العرب قديماً وحديثا- وقد رثاها بقصيدة لاشبيه لها تتفجر الما وحسرة، نقتطف منها الأبيات التالية:
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غير ملحقها وصما
من هي هذه المرأة التي لها الله فيما أصابها من الفجيعة بمحبوبها؟ فماتت صريعة عشق.. ولكن هذا الموت لم يلحق بها وصمار «عارا».. «لاحظ شطحات اللاشعور التي تظهر على لسان المتنبي «مفجوعة»، «قتيلة شوق»، «وصما» من هو هذا الحبيب؟ هل هو ولدها المتنبي التي تحملت من أجله المتاعب والمصائب، كما هو واضح من الشعر!!
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما
عجيب.. إن لم تكن بنتاً لأب كريم! فيكفيها فخراً ان تنتسب لأضخم أب! لماذا؟ لأنها أم المتنبي! (لاحظ «الوالد الاكرم»، «الأب الضخم»).
هل هذه المرأة وضيعة النسب أو من طبقة دونية؟ هل والد المتنبي اتصل بابنتها سراً وأنجب المتنبي؟ ثم رفض الاعتراف بالزواج والأبن بسبب عدم تكافؤ المنسب كأن يكون من أبناء شيوخ وأمراء ذلك الزمان! علماً بأن أمثال هذه القصة تتكرر دائماً
.. والعرب قديماً وحديثاً لا يثبتون نسب الأبن إلا باعتراف الأب شرعاً.
لئن لذ يوم الشامتين بموتها فقد ولدت مني لانا فهم رغما
يقولون لي: ما انت؟ في كل بلدة وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
اسئلة مهمة ومركزة تطرحها يا متنبي! والجواب في صدرك!! الى ان يقيض الله لنا مخطوطة من تراثنا القديم المبعثر في أرجاء العالم تكشف لنا شخصيتك يامتنبي.
نحن أحفادك يا متنبي من أبناء هذه الأمة في جزيرة العرب، بالرغم من المسافة الزمنية بيننا وبينك «1050 سنة» فمثقفونا يفهمون معاني شعرك مباشرة من دون شرح الشراح الذين يخطئون أحياناً، لانك أعرابي بدوي مثلنا من أهل الوبر.. صاحب نجعة وانتواء وتتبع لمساقط الغيث، فجاءت أبياتك مختلفة عن شعراء زمانك من أهل الحاضرة.
نماذج من شعر أبي الطيب المتنبي
كان «كيغلغ» عبداً لحجام مصري، يساعد سيده في عملية الحجامة، فباعه سيده في سوق النخاسة «سوق العبيد فاشتراه الاخشيد حاكم مصر فخصاه «قطع خصيتيه» وسماه كافوراً وجعله عبداً لمحارمه، فلما مات الاخشيد ترك ابنه صغيراً فقتل كافور سيده الصغير وحكم مصر باسم كافور الاخشيدي.
زار المتبني كافوراً الاخشيدي ومدحه بعدة قصائد ظاهرها المديح المبالغ فيه، وباطنها الهجاء الخفي الذي يكتشف بسهولة. ولما يئس المتنبي وأحس بكذب كافور، اراد المغادرة فرفض كافور ووضع المتنبي بالأقامة الجبرية اي كما يقول بدو اليوم بجزيرة العرب «ثقل عليه»، ولكن الشاعر البدوي المتنبي كان أذكى واحيل منهم فبينما هم منهمكون في التحضير لليلة عيد الاضحى لسنة 350 هـ، سرق نفسه منهم وكان بانتظاره غلامه وذلوله «بعيره» فهرب ليلاً يسابق نجوم الليل فأنبلج الصباح عليه وقد توسط رمال سيناء. ولما ابتعد المتنبي عن كافور الاخشيدي وديرته قال فيه هاجياً:
من أية الطرق يأتي نحوك الكرم
أين المحاجم يا كافور والجلم
يعير المتنبي كافوراً بمهنة «الحجامة» كعادة أعراب زمانه فهم ينظرون باحتقار وازدراء لاصحاب المهن والحرف، وما زال لهذه النظرة بقية عند اعراب جزيرة العرب اليوم.
والحجامة: هي طريقة علاج قديمة مازالت مستعملة حتى اليوم عند بدو جزيرة العرب، وكيفيتها كالآتي: يؤتى بخرقة ويشعل في طرفها النار وتوضع هذه الخرقة على المكان الذي سيحجم من جسم الانسان، ثم ينكس فوقها كاس زجاجي «محجم» وبعد قليل تنطفئ النار، ووظيفة النار هي تفريغ الهواء من الكأس فقط وبسبب تفريغ الهواء ينجذب الجلد للكأس فيلتصق به. وبعض الحجامين يشطب «يجر» الجسم بسكين «جلم» ويضع الكاس فوق الشطوب «الجروح» فعندما يلتصق الجلد بالكأس ينجذب الدم الى فوق ويخرج من الجروح.
ويقول في كافور:
يستخشن الخز حين يلبسه
وكان يبرى بظفره القلم
ثم يخاطب عسكر ورجال كافور مشبها أياهم بـ «الفحل الذكر» ومشبهاً قائدهم بالجارية التي ليس لها رحم.. وهذا منتهي التهكم والسخرية.. يقول:
لا شيء أقبح من فحل له ذكر
تقوده أمه ليست لها رحم!
ثم يصرخ مخاطباً رجال الأمة:
غاية الدين ان تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت في جهلها الأمم
سئل ماذا رأيت في مصر؟ فقالت: رأيت المضحكات المبكيات! وشر البلية ما يضحك.
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا!!
وله ايضاً:
نحن ادرى وقد سألنا بنجد
أقصير طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
عجيب امرك يا ابا الطيب! روح وثابة.. وطموح اكبر من الحلم.. والدنيا لمن غلبا.. فلنسمع ما تقول:
اقرار الذ فوق شرار
ومراماً ابغي وظلمي يرام
دون ان يشرق الحجاز ونجد
والعراقان بالقنا والشآم
شاعر الرجولة يستقر في بلاط الملك العربي الوائلي
بعد عذابات الرحيل والتنقل بين العراق والشام وصحارى نجد.. وبعد نكبات الدهر ومؤمرات الاعداء، استقر المتنبي في بلاط سيف الدولة فتوحدت شخصية شاعر الرجولة العربية بشخصية الملك العربي المثال سيف الدولة الحمداني الوائلي.. وشعر المتنبي لأول مرة في حياته ان دنياه قد صفت له.. ولكن آماله وأحلامه تهاوت وتحطمت بعد تسع سنين، عندما زعل عليه سيف الدولة وأعرض عنه وأشعره بأنه غير مرغوب فيه.. فأنفجر الألم في صدر المتنبي الذي لا يهمه المال.. لقد فعلها ملك البطولات والرجولات بشاعر البطولة والرجولة.. فزفر المتنبي زفرة حراء وسلط نظراته الغاضبة التي تقدح شرراً على وجه سيف الدولة.. وباشداق متهدجة يعلوها الزبد وبصوت يهز جدران البلاط انشد هذه القصيدة، التي منها:
وآحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي اكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت اليه والسيوف دمم
يأ أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
يا من يعز علينا ان نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
كم تطلبون لنا عيبا فيعجز كم
ويكره الله ما تأتون والكرم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ان لا تفارقهم فالراحلون هم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بانني خير من تسعى به قدم
كل المصادر التاريخية تؤكد ان المبتنبي لم يشرب الخمر ولم يزن ولم يلط، وفي احدى المرات دعى الى الشراب، فأجابهم قائلاً:
لا حبتي ان يملاؤا
بالصافيات الاكوبا
وعليهم ان يبذلوا
وعلي ان لا اشربا
حتى تكون الباترا
ت المسمعات فأطربا
يصف المتنبي بنات الاعراب «البدو» قائلاً:
من الجأذر في زي الاعاريب
حمر الحلي والمطايا والجلابيب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الراعبيب
حسن الحضارة ملجوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
افدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
اوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب
رحلة المتنبي من السجن إلى طعنة الاغتيال
http://www.alamalyawm.com/uploads/1056/04mawsel.jpg
بقلم: أحمد بن محارب الظفيري
باحث في التاريخ والتراث
ah-mhareb@maktoob.com
قال عنه الحسن بن رشيق القيرواني «ت463 هـ/ 1071» صاحب كتاب «العمدة» بعد ان تكلم عن كبار شعراء العرب: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس». ونحن نقول: مازال المتنبي شاغل الدنيا ومالئ فم الزمان.
اليس هوالقائل عن نفسه:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
ثم جاء أبو العلاء أحمد بن عبدالله المعرّي «ت 944هـ /7501م» وكان من أشد المعجبين بشعر المتنبي وبشخصيته البدوية الفذة، وكان كلما سمع احداً ينشد قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
واستمعت كلماتي من به صمم
يهز رأسه ويقول لمن حوله: أنا الأعمى الذي يقصده المتنبي ولقد دفع حب أبي العلاء الجارف للمتنبي، ان يؤلف عنه كتاباً اسماه «معجز أحمد» يتحدث فيه عن الاعجاز في شعر أبي الطيب أحمد المتنبي.
لاحظ ان المعربي ذكر اسم أحمد ولم يذكر اسم والده، لان اسم والد المتنبي فيه خلاف كثير.
< لقد رفع المتنبي في هذا الكتاب إلى مصاف أصحاب المعجزات من الانبياء واللافت للنظر في كل المراجع التاريخية ان شاعر المعرّة وفيلسوفها «رهين المحبسين» كان هائماً في حب المتنبي ومدافعاً عنه، ولقد تعرض للجلد بالسياط والأذى بسبب حبه له ودفاعه عنه على يد عبيد وغلمان الشريف المرتضى ـ نقيب العلويين ـ فهجر بغداد بسبب هذه الاهانة عائداً للشام.
< أبو الطيَّب أحمد المتنبي.. هذا الطود الشامخ.. من هو؟
المعروف ان اسمه «أحمد» ومولده عام 303 هـ/ 915م، قيل ولد في الكوفة المدنية، وقيل في بادية الكوفة.
قيل ان من قام بتربيته هي «جدته» لامه ـ لا نعرف اسمها، ولانعرف عنها شيئاً، هو اشار اليها في شعره.
ولما بلغ عمره سبع عشرة سنة، أي في سنة 320هـ خرج من الكوفة وهو شاب، إلى بادية قبيلة بني كلب«حفيدتها الآن قبيلة الشرارات وتقطن شمال المملكة السعودية على حدود الاردن» ولا نعلم سبباً لخروجه إلى هذه القبيلة.. هل له صلة نسب معها.. لا ندري! ولكن المعروف عن هذه القبيلة انها ذات شأن عظيم في العهد الأموي خاصة، فهم أخوال يزيد بن معاوية وعين منهم عدة ولاة، وقبيلة بني كلب هي زعيمة القبائل اليمنية المؤيدة للأمويين وهي التي ناصرت مروان بن الحكم الأموي في القضاء على حركة الضحاك بن قيس الفهري زعيم قبيلة بني قيس المناصرة لعبدالله بن الزبير.. واستمرت حروب الثأرات مشتعلة بين القيسية والكلبية بصورة دائمة ومتقطعة إلى زمن خلافة الوليد بن عبدالملك.
وعلى أيام المتنبي بدأت هيبة خليفة المسلمين العباس القابع في بغداد بالتدهور حيث تسلط على الحكم عناصر أجنبية فارسية، فأحكمت قبضتها على الحواضر والمدن، وبقيت الصحاري العربية نظيفة من هذه العناصر وتأثيراتها ومنها صحراء بني كلب التي كانت كثيرة التمرد والعصيان على الولاة المحيطين بها.
ويظهر ان أبا الطيب أحمد، هذا الشاب الأديب النابغة، القادم من مدينة الكوفة الواقعة على مشارف الصحراء والتي تقطنها قبائل عربية نصفها متحضر ونصفها بدوي، وقد وجد ضالته عند أعراب بني كلب، فأخذ عنهم اللغة والتاريخ وأصول العربية وأنساب العرب.
ولا نستبعد ان هذا الشاب المسمى أحمد ابن الطيب ـ لم يكن يلقب بالمتنبي في هذا الوقت ـ قد أخذ يمارس دوراً سياسياً وقيادياً بتوجيه هذه القبيلة للثورة على الاوضاع السائدة وتخليص العرب من حكم الأجانب الأغراب الذين تسلطوا على مقاليد الامور في ديار العرب، وقبيلة بني كلب بتاريخها الطويل المعروف بالثورات هي اصلاً مهيأة لقبول مثل هذه الأفكار التحررية لانها تنسجم مع مفاهيمها واخلاقها البدوية المتوارثة.
ولما عظم شأن أبي الطيب أحمد، وانتشرت دعوته بين مضارب قبيلة بني كلب، وصلت أخباره المزعجة إلى كل الولاة من عباسيين واخشيديين واكثرهم من أصول تركية وفارسية فخشوا من انتشار دعوته بين القبائل الأخرى.
فكان رد الفعل الثابت على هذه الدعوة، كما ذكرته كل المراجع التاريخية، ان لؤلؤ والي حمص من قبل كافور الاخشيدي حاكم مصر خرج بجيش كبير وحارب بني كلب وقبض على الشاب أبي الطيب أحمد وعلى بعض كبار شيوخ قبيلة بني كلب، وتم سجن الشاب أبي الطيب أحمد في قرية كوتكين من قرى الشام وكلف أمير القرية ابن علي الهاشمي بالتشديد عليه وتعذيبه، ثم نقل إلى سجن حمص، ولفقوا له تهمة ادعائه النبوة ليبرروا سجنه أو قتله، ومكث في السجن سنتين ونصف السنة.
ولؤلؤ والي حمص من أصل تركي، ورئيسه كافور الاخشيدي أمير مصر عبدمخصي من أصل زنجي اسمه الحقيقي «كيغلغ».
< هل ثورته علوية؟
< ذكر الاستاذ الكاتب المصري محمود محمد شاكر في مقاله «المتنبي» المنشور في مجلة «المقتطف» سنة1936م: إن المتبني قام بثورة علوية في بادية بني كلب ويسميها «بادية السماوة» وان ثورته باءت بالفشل وآلت به إلى السجن حتى كاد ان يهلك في سجنه.
ونحن نقول: من الجائز ان تكون دعوة المتنبي علوية، ولكن أين الدليل على ذلك؟ المتنبي نفسه في كل اشعاره لم يذكر انه علوي، أو ان ثورته علوية، ثم أن المصادر التاريخية لم تذكر ان الثورة علوية، علماً بأنها مجمعة على أن المتنبي قام بحركة تمرد او ثورة «الاسم لايهم» في بادية بني قلب ولكنه فشل وسجن.
والذي لاخلاف عليه اطلاقاً ان المتنبي عربي صميم فهو بدوي في كل تصرفاته سواء كان من قبيلة قريش أو من بقية القبائل العربية الاخرى.
< هل ثورته قرمطية؟
ورداً غير مباشر على الأستاذ محمود محمد شاكر، ذكر الدكتور طه حسين في كتابه «مع المتنبي»: ان المتنبي قام بثورة قرمطية، وشاركه في رأيه هذا بعض المستشرقين الغربيين.
ونحن نقول: ان مقولة الدكتور طه حسين والمستشرقين الغربيين القائلين بقرمطية المتنبي، تنهار تماماً ولا تصمد لحظة واحدة امام حقائق التاريخ واليكم الآدلة على ذلك: دعوة القرامطة قامت على العبيد والاجراء والطبقات الضعيفة ولا تقيم للنسب وزناً وهي شبيهة بالشيوعية.
بينما المتنبي في كل شعره يؤمن بأن هناك اصحاب النسب الصريح وهم العرب العرباء، وادعياء النسب من الموالي والعجم والعبيد.
قال ابو الطيب المتنبي:
لاتشتر العبد الا والعصامعه
ان العبيد لانجاس مناكيد
وإنما القوم بالملوك وما
تصلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولاحسب
ولا عهود لهم ولا نعم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عنك لاعرب ولاعجم
وفي عهد المتنبي منذ ولادته سنة 303هـ/915 وحتى وفاته مقتولاً سنة 354/965م عاصر أقوى دولة قرمطية قائمة على الساحل الشرقي بجزيرة العرب، حكامها الفرس القرامطة، وكانت تحكم الاحساء «هجر» والقطيف «الخط» والبحرين «اوال».
فلماذا لم يذهب اليها المتنبي «سمي المتنبي بعد خروجه من السجن» بعد الجواب: ابداً لم يذكر التاريخ انه زارهم اوقابلهم.. بل على العكس من ذلك بعد خروجه من السجن نجده يطبق نظريته الي يؤمن بها وهي سيادة العرب الاصلاء.. فيتجه الى الدولة الحمدانية التي يحكمها ملك عربي صريح النسب هو سيف الدولة علي ابن أبي الهيجاء عبد الله الحمداني التغلبي الوائلي ملك الموصل والجزيرة وحلب، فيلقى الترحاب والتقدير ويمكث في بلاط سيف الدولة فينسجم مع نفسه ومع الدهر ويعيش احلى وأجمل سنوات عمره على الاطلاق، ويصبح وزير اعلام لسيف الدولة فيخلده ويخلد انتصاراته بقصائد شعرية رائعة تذوب منها نفس الشاعر بنفس الملك، فكان الشاعر الملك، والملك الشاعر، فتظهر كلوجود قصائد «انسيفيات» يقول المتنبي مادحاً سيف الدولة:
اذا العرب العرباء رازت نفوسها
فأنت فتاها والمليك الحلاحل
< عقدة النسب الواضحة عند المتنبي
عقدة النسب هي العقدة الواضحة في سائر شعر المتنبي وفي حياته الخاصة وهي التي كان يعاني منها معاناة نفسية هائلة، والعجيب انه لايوجد في كل شعر المتنبي مايشير الى ابيه او الى نسبه او الى عائلته، فنسبه غامض مبهم.. فهو مجهول النسب حتى على المقربين منه من العرب الاوائل.
حتى بطاقته العائلية يكتنفها الغموض من كل جانب!.. هل هو متزوج؟ هل الشاب «محسد» الذي قيل انه ابنه والذي قتل معه في دير العاقول جنوب بغداد سنة 354هـ ابن شرعي له؟ فمن هي أم محسد ومن هم اخواله؟! الغاز وطلاسم صنعها المتنبي بنفسه متعمداً لسبب نجهله! علماً بأن عصره كان عصر التفاخر بالانساب والاعمام والاخوال.شرح ديوان المتنبي اكثر من مائة عالم من ائمة اللغة والادب والتاريخ، وطبع عدة مرات بمختلف الشروع، منهم تلميذ المتنبي نفسه ابو الفتح عثمان بن جني «ت 392هـ» والذي يروي ان المتنبي قال عنه :«ان ابن جني اعرف بشعري مني» هذا التلميذ النشيط الذي لايفارق استاذه حالما يصل من البادية الى مدينة بغداد او الكوفة او الذي ألف كتاب «الفسر» في شرح شعر المتنبي، وانه لم يفدنا شيئاً عن نسب استاذه المتنبي.
ومن شراح الديوان الواحدي صاحب كتاب «أسباب نزول القرآن» وأبو بكر الخوارزمي «ت 381هـ» صاحب كتاب «مفاتيح العلوم» والصاحب بن عباد «ت385هـ» صاحب كتاب «المحيط» وأبو البقاء العكبري «ت616هـ» وعفيف الدين علي بن عدلان الموصلي «ت 666هـ» صاحب كتاب «التبيان في شرح الديوان» وضياء الدين ابن الاثير صاحب كتاب «المثل السائر» تحدث عن المتنبي وأكبر شعره.
كل هؤلاء الشراح قديمهم وحديثهم لم يقدموا لنا شيئاً واضحاً عن نسب المتنبي فقط هم متفقون على اسم المتنبي وهو ««أحمد» ويكنى بـ«أبي الطيب».
أسمه «أحمد» لاخلاف عليه، ولقبه «المتنبي» لاخلاف عليه، و«المتنبي» لقب علق به بعد خروجه من السجن وهو يكره هذا اللقب ويمقته ولكنه ابتلى به لانه شاع بين الناس وانتشر بسبب ولاة الدولة وعمالها.
اما اسم والده فهو في اكثر المصادر يسمى «الحسين» وهناك شك بأن اسمه «عبدان» السقاء وأنه كان فقيراً من أهل الكوفة يمتهن سقاية الماء على بعيره، حيث يبيع الماء لأهل الكوفة.
والملاحظ عند بدو اليوم في جزيرة العرب شيوع اسم «عبدان» لفحل الإبل القوي، فهل ياترى لقب الد المتنبي نسبة الى جملة! علماً بأن الرجل ايضاً ممكن ان يسمى بعبدان».
وتشير بعض المصادر التاريخية ان والده يسكن في محلة كندة في الكوفة واليها نسب وهو ليس من كندة القبيلة التي تسكن المحلة.
أما والدة المتنبي فلا يوجد ذكر لاسمها اطلاقاً في كل المصادر.
بعض المصادر تقول: أن جده لابيه اسمه «الحسن» وتقف.. وبعضها تكتب اسم الجد كاملاً هكذا: «الحسن بن عبدالصمد» وبعضها يشكك بصحته.
< هل المتنبي ابن الإمام الثاني عشر للشيعة؟
يرى الأستاذ عبدالغني الملاح صاحب كتاب «المتنبي يسترد أباه» وله عدة مقالات في هذا الموضوع، إن المتنبي هو «أحمد بن محمد بن الحسن العسكري معتمداً على مخطوطة «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» لابي الفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي 597هـ، الطبعة العثمانية في مطبعة حيدر آباد الدكن والمحفوظة في مكتبة جامع آيا صوفيا التركي.
ولقد جاء في هذه المخطوطة اسم المتنبي هكذا: «أحمد بن... الحسن» وهذا الفراغ الذي جاء في خانة اسم والد المتنبي في مخطوطه ابن الجوزي المتوفي سنة 597هـ هو الذي جعل الأستاذ عبدالغني الملاح يتأول باسم الأب فيملأ الفراغ بأسم «محمد» معتمداً على احدى روايات الخطيب البغدادي «ت463هـ»، والخطيب البغدادي مثله مثل غيره يتخبط بأسم والد المتنبي فمرة اسمه «محمد» ومرة اسمه «الحسين» ومرة اسمه «عبدان»، أما اسم جد المتنبي فهو «الحسن بن عبدالصمد الجعفي». ولكن الأستاذ عبدالغني الملاح عندما وضع في الفراغ اسم «محمد» وجعله والداً للمتنبي معتمداً على احدى روايات الخطيب البغدادي، أصبح اسم المتنبي الكامل هو: «احمد بن محمد بن الحسن» ثم أخذ يسرد الحوادث والتواريخ سرداً ملتوياً ومتاولاً للأمور حسب مبتغاه من دون سند مثبت وحقيقة واضحة حتى يصل الى هدفه الذي وضعه نصب عينيه، فأضاف كلمة «العسكري» بعد «الحسن» معتقداً انه بالبحث والتحقيق وصل اليها وبذلك قال: إن المتنبي هو: «أحمد بن محمد بن الحسن العسكري».
ولو افترضنا التصديق بمقولة عبدالغني الملاح بأن أحمد المتنبي هو ابن الإمام الثاني عشر للشيعة المسمى «محمد بن الحسن العسكري» فكل مصادر الشيعة الاثني عشرية تؤكد أنه غاب سنة 317هـ واختفى ولم ينجب وبذلك توقفت الإمامة عليه، ومكان اختفائه في مدينة سامراء بالعراق وبني على مكان اختفائه بناية كبيرة ومسجد كبير وهو من مزارات الشيعة.
ثم ان المعروف عن الشيعة انهم يهتمون ايما اهتمام باحياء ذكرى كل من له صلة بمذهبهم، فكيف اذا كان هذا الشخص ابناً لامامهم أو من الموالين لمذهبهم!!
إن الشيعة العرب شأنهم شأن الآخرين يمجدون المتنبي ويكبرونه كشاعر من شعراء العرب.. لا اكثر ولا أقل.. لم نسمع ولم نقرأ ولم نشاهد انهم ينظرون الى المتنبي كأحد رجال المذهب الشيعي.
ثم لا ننسى أن الفرس البويهيين وهم من الشيعة سيطروا على الدولة العباسية في سنة 334هـ، ومنهم عضد الدولة بن بويه الديلمي وقد زاره المتنبي في شيراز ومدحه، ومنهم أحد شراح ديوان المتنبي وهو الوزير الأديب اسماعيل بن عباد الطالقاني الملقب بـ «الصاحب بن عباد» لصحبته مؤيد الدولة البويهي لم نقرأ في تاريخ كل هؤلاء البويهيين أن المتنبي من ائمتهم أو من شيعتهم.
وفاة الجدة فجرت براكين الألم واظهرت المكنون في الضمير
نعم إن وفاة جدة المتنبي «أم أمه» قد فجرت براكين الألم والحزن والغضب في نفسية الحفيد، وقد توفيت بسبب الحمى «السخونة». ويظهر أن هذه الجدة هي أمه التي قامت بتربيته- وتسمية الجدة بالأم جائز عند العرب قديماً وحديثا- وقد رثاها بقصيدة لاشبيه لها تتفجر الما وحسرة، نقتطف منها الأبيات التالية:
لك الله من مفجوعة بحبيبها
قتيلة شوق غير ملحقها وصما
من هي هذه المرأة التي لها الله فيما أصابها من الفجيعة بمحبوبها؟ فماتت صريعة عشق.. ولكن هذا الموت لم يلحق بها وصمار «عارا».. «لاحظ شطحات اللاشعور التي تظهر على لسان المتنبي «مفجوعة»، «قتيلة شوق»، «وصما» من هو هذا الحبيب؟ هل هو ولدها المتنبي التي تحملت من أجله المتاعب والمصائب، كما هو واضح من الشعر!!
ولو لم تكوني بنت أكرم والد لكان أباك الضخم كونك لي أما
عجيب.. إن لم تكن بنتاً لأب كريم! فيكفيها فخراً ان تنتسب لأضخم أب! لماذا؟ لأنها أم المتنبي! (لاحظ «الوالد الاكرم»، «الأب الضخم»).
هل هذه المرأة وضيعة النسب أو من طبقة دونية؟ هل والد المتنبي اتصل بابنتها سراً وأنجب المتنبي؟ ثم رفض الاعتراف بالزواج والأبن بسبب عدم تكافؤ المنسب كأن يكون من أبناء شيوخ وأمراء ذلك الزمان! علماً بأن أمثال هذه القصة تتكرر دائماً
.. والعرب قديماً وحديثاً لا يثبتون نسب الأبن إلا باعتراف الأب شرعاً.
لئن لذ يوم الشامتين بموتها فقد ولدت مني لانا فهم رغما
يقولون لي: ما انت؟ في كل بلدة وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
اسئلة مهمة ومركزة تطرحها يا متنبي! والجواب في صدرك!! الى ان يقيض الله لنا مخطوطة من تراثنا القديم المبعثر في أرجاء العالم تكشف لنا شخصيتك يامتنبي.
نحن أحفادك يا متنبي من أبناء هذه الأمة في جزيرة العرب، بالرغم من المسافة الزمنية بيننا وبينك «1050 سنة» فمثقفونا يفهمون معاني شعرك مباشرة من دون شرح الشراح الذين يخطئون أحياناً، لانك أعرابي بدوي مثلنا من أهل الوبر.. صاحب نجعة وانتواء وتتبع لمساقط الغيث، فجاءت أبياتك مختلفة عن شعراء زمانك من أهل الحاضرة.
نماذج من شعر أبي الطيب المتنبي
كان «كيغلغ» عبداً لحجام مصري، يساعد سيده في عملية الحجامة، فباعه سيده في سوق النخاسة «سوق العبيد فاشتراه الاخشيد حاكم مصر فخصاه «قطع خصيتيه» وسماه كافوراً وجعله عبداً لمحارمه، فلما مات الاخشيد ترك ابنه صغيراً فقتل كافور سيده الصغير وحكم مصر باسم كافور الاخشيدي.
زار المتبني كافوراً الاخشيدي ومدحه بعدة قصائد ظاهرها المديح المبالغ فيه، وباطنها الهجاء الخفي الذي يكتشف بسهولة. ولما يئس المتنبي وأحس بكذب كافور، اراد المغادرة فرفض كافور ووضع المتنبي بالأقامة الجبرية اي كما يقول بدو اليوم بجزيرة العرب «ثقل عليه»، ولكن الشاعر البدوي المتنبي كان أذكى واحيل منهم فبينما هم منهمكون في التحضير لليلة عيد الاضحى لسنة 350 هـ، سرق نفسه منهم وكان بانتظاره غلامه وذلوله «بعيره» فهرب ليلاً يسابق نجوم الليل فأنبلج الصباح عليه وقد توسط رمال سيناء. ولما ابتعد المتنبي عن كافور الاخشيدي وديرته قال فيه هاجياً:
من أية الطرق يأتي نحوك الكرم
أين المحاجم يا كافور والجلم
يعير المتنبي كافوراً بمهنة «الحجامة» كعادة أعراب زمانه فهم ينظرون باحتقار وازدراء لاصحاب المهن والحرف، وما زال لهذه النظرة بقية عند اعراب جزيرة العرب اليوم.
والحجامة: هي طريقة علاج قديمة مازالت مستعملة حتى اليوم عند بدو جزيرة العرب، وكيفيتها كالآتي: يؤتى بخرقة ويشعل في طرفها النار وتوضع هذه الخرقة على المكان الذي سيحجم من جسم الانسان، ثم ينكس فوقها كاس زجاجي «محجم» وبعد قليل تنطفئ النار، ووظيفة النار هي تفريغ الهواء من الكأس فقط وبسبب تفريغ الهواء ينجذب الجلد للكأس فيلتصق به. وبعض الحجامين يشطب «يجر» الجسم بسكين «جلم» ويضع الكاس فوق الشطوب «الجروح» فعندما يلتصق الجلد بالكأس ينجذب الدم الى فوق ويخرج من الجروح.
ويقول في كافور:
يستخشن الخز حين يلبسه
وكان يبرى بظفره القلم
ثم يخاطب عسكر ورجال كافور مشبها أياهم بـ «الفحل الذكر» ومشبهاً قائدهم بالجارية التي ليس لها رحم.. وهذا منتهي التهكم والسخرية.. يقول:
لا شيء أقبح من فحل له ذكر
تقوده أمه ليست لها رحم!
ثم يصرخ مخاطباً رجال الأمة:
غاية الدين ان تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت في جهلها الأمم
سئل ماذا رأيت في مصر؟ فقالت: رأيت المضحكات المبكيات! وشر البلية ما يضحك.
وماذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا!!
وله ايضاً:
نحن ادرى وقد سألنا بنجد
أقصير طريقنا أم يطول
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
عجيب امرك يا ابا الطيب! روح وثابة.. وطموح اكبر من الحلم.. والدنيا لمن غلبا.. فلنسمع ما تقول:
اقرار الذ فوق شرار
ومراماً ابغي وظلمي يرام
دون ان يشرق الحجاز ونجد
والعراقان بالقنا والشآم
شاعر الرجولة يستقر في بلاط الملك العربي الوائلي
بعد عذابات الرحيل والتنقل بين العراق والشام وصحارى نجد.. وبعد نكبات الدهر ومؤمرات الاعداء، استقر المتنبي في بلاط سيف الدولة فتوحدت شخصية شاعر الرجولة العربية بشخصية الملك العربي المثال سيف الدولة الحمداني الوائلي.. وشعر المتنبي لأول مرة في حياته ان دنياه قد صفت له.. ولكن آماله وأحلامه تهاوت وتحطمت بعد تسع سنين، عندما زعل عليه سيف الدولة وأعرض عنه وأشعره بأنه غير مرغوب فيه.. فأنفجر الألم في صدر المتنبي الذي لا يهمه المال.. لقد فعلها ملك البطولات والرجولات بشاعر البطولة والرجولة.. فزفر المتنبي زفرة حراء وسلط نظراته الغاضبة التي تقدح شرراً على وجه سيف الدولة.. وباشداق متهدجة يعلوها الزبد وبصوت يهز جدران البلاط انشد هذه القصيدة، التي منها:
وآحر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم
مالي اكتم حباً قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم
قد زرته وسيوف الهند مغمدة
وقد نظرت اليه والسيوف دمم
يأ أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
يا من يعز علينا ان نفارقهم
وجداننا كل شيء بعدكم عدم
كم تطلبون لنا عيبا فيعجز كم
ويكره الله ما تأتون والكرم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ان لا تفارقهم فالراحلون هم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بانني خير من تسعى به قدم
كل المصادر التاريخية تؤكد ان المبتنبي لم يشرب الخمر ولم يزن ولم يلط، وفي احدى المرات دعى الى الشراب، فأجابهم قائلاً:
لا حبتي ان يملاؤا
بالصافيات الاكوبا
وعليهم ان يبذلوا
وعلي ان لا اشربا
حتى تكون الباترا
ت المسمعات فأطربا
يصف المتنبي بنات الاعراب «البدو» قائلاً:
من الجأذر في زي الاعاريب
حمر الحلي والمطايا والجلابيب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الراعبيب
حسن الحضارة ملجوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
افدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
اوراكهن صقيلات العراقيب
ومن هوى كل من ليست مموهة
تركت لون مشيبي غير مخضوب