مرتاح
12-22-2007, 11:50 PM
النهار اللبنانية
جهاد الزين
لم أكن في ذروة ايام يساريتي في النصف الاول من عشرينات عمري صاحب موقف راديكالي ضد المؤسسات الدينية. ربما كان السبب نشأتي في بيت ذي تقاليد دينية او كما يقال في "بيوت معمَّمين" اي رجال دين لم تنقطع سلالتهم في الدراسة الدينية في العراق حتى جيل والد والدي، بل الى جيل اصغر سناً في بعض فروع العائلة.
لكن يحدث الان استفحال في استخدام الطقوس الدينية المتصلة بالجماعات المسلمة على حياتنا بحيث باتت تهدّد النسيج الاهلي نفسه في زمن لا يخلو من مخاطر كبيرة وملموسة بل ومتحققة، يحدث ما يدفع الى بدء البحث، بل اعادة البحث الجذري في هذا العصر الاصولي "الذي يسيطر علينا.
هذا ليس جديدا. لكن الجديد ان السيطرة في السياسة والمجتمع للمؤسسات الدينية باتت تؤسس لخلافات لا سابقة لها في وعي المسلمين. كان الخلاف على توقيت عيد الاضحى مؤشرا لا يطاق في هذا الاتجاه. ومن يعلم إذا استمرّ التأسيس (وكله باسم الماضي الديني) ان نصل الى يوم في جيل لاحق يبدأ فيه انقسام جديد مثلا بين "مهاجر" و"انصاري"! او ان نتخيل زمنا آتيا تنشأ فيه حساسيات صدامية بين المذاهب الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي نفسها؟!
هل اصبحنا في هذا الزمن المتوحش من الحساسية السنية – الشيعية في العراق أمام "اعادة ترتيب" التاريخ السياسي الاسلامي؟ طبعا لا. فهذه مهمة مجنونة قياسا بالمهمة العاقلة لزمننا وهي معالجة امر مسلمي اليوم في زمن تحديات الحداثة وما بعد الحداثة بل وما بعد بعد الحداثة في مواجهة الاخطار الحقيقية التي تواجه البشرية: البيئة، توزيع الثروة، المزيد من تحرير الديموقراطية من سيطرة كتل المصالح في العالم المتقدم، التطور العلمي... كل هذه القضايا وغيرها التي على الفلسفة المعاصرة ان تواجهها تبعا للفصل بين "بنية" الدين و"بنية" الفلسفة... وهو فصل، ندعي نحن المسلمين ان عالما كبيرا من "عندنا" في "القرون الوسطى" او على مشارف عصر النهضة الاوروبي هو الذي اطلقه... اي ابن رشد، الفصل بين النقل والعقل. ابن رشد الذي يعتبره مفكر عربي معاصر هو محمد عابد الجابري احد ثلاثة مفكرين قدماء مع ابن خلدون والشاطبي "يشكلون فعلا حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا"... "لاعادة كتابة تاريخنا الثقافي بروح علمية نقدية" بحيث لا يبقى هذا التاريخ "كما ظل يدرس طوال العهود الماضية هو تاريخ فرق كلامية ومذاهب فقهية... تاريخ يعكس الصراعات السياسية الظرفية التي تمزق الزمن الثقافي وتجعله خاضعا للزمن السياسي..." كما يقول الجابري في مقال اخير له في "المستقبل العربي" (عدد كانون الاول).
لا يبدو في الزمن الراهن الذي تسيطر فيه التيارات الدينية السياسية على حياتنا العامة في العالم المسلم وخصوصا في العالم العربي، ان المؤسسات الدينية التقليدية والحزبية ليست الآن المرجع الموثوق للانتقال الى قيادة مواجهة عقلانية كاملة لقضايا الحداثة وما بعد الحداثة. من ابرز معالم سيطرة المؤسسات الدينية انه حتى السلطات السياسية الآتية من ايديولوجيات غير اصولية استسلمت ثقافيا لـ"الاصولية الثقافية" مقابل منع "الاصولية السياسية" من تولي السلطة الامنية – السياسية. اي انها – كما يحدث في العديد من الدول العربية بينها مصر وفلسطين الضفة الغربية وسوريا – تخلت عن السلطة الثقافية للاصوليين على انواعهم مقابل احتفاظها بالسلطة السياسية.
هذه هي الظاهرة الأولى.
الظاهرة الثانية لزمننا الحالي ان المجتمع نفسه اصبح اكثر اصولية في ثقافته الدينية. تعج مجتمعاتنا بحالات اللجوء الفردي والجماعي الى ممارسات "روحانية" الاسم تبلغ في بعض الحالات حد الشعوذة وفي حالات اخرى حد التفاهة. اسألوا ماذا يحدث في "قيعان" القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد والرياض وارياف هذه العواصم في السلوك الاجتماعي نفسه: المجتمع اصولي وليس السلطة هنا او بعض النخب والاحزاب هناك.
كان هذا ما اعتبر "المحافظون الجدد" انهم "اكتشفوه" بعد احداث 11 ايلول او ارادوا ان يعلنوا انهم "اكتشفوه" ليبنوا عليه استراتيجية عالمية كاملة. لقد قالوا – وليس كل ما قالوه خطأ – ان الهجوم الذي نفذه الـ 15 سعوديا والاماراتي والكويتي والمصري واللبناني الاربعة على نيويورك وواشنطن في 11 ايلول 2001 كشف كم تتحول فئات واسعة في المجتمعات المسلمة نحو الفكر الاصولي... (المعادي لأميركا). وكان درس 11 ايلول غير طبقي. فقد اظهر خلافا للمدرسة السوسيولوجية الاولى التي رافقت ولادة التيارات الاصولية في السبعينات من القرن العشرين في مصر وايران تحديدا، تلك المدرسة التي ربطت "الاصولية" بالضواحي الفقيرة للمدن، اظهر ان الاصولية في نسختها "البن لادنية" هي اصولية الاغنياء والفئات العليا من الطبقة الوسطى.
اذن – وهذا صحيح – تخترق "الاصولية" كصيغة معاصرة للفكر الديني مجتمعاتنا افقيا وعاموديا، ما فوق "السياسة" وما تحتها، "درس" يعرف الجميع، قبل ان ينتقل الرئيس جورج بوش الى استراتيجيته الثانية انه جعل"الاف. بي. آي" تفتش عن هذا النوع من الاصولية حتى في بعض فروع العائلات المالكة في المنطقة. لقد روى لي المرحوم رفيق الحريري انه بعد 11 ايلول طلبت وكالة المباحث الفيديرالية من احدى شركاته في هيوستون، وكانت تقوم ببناء مركز تجاري كبير، معلومات عن سجلات ومصادر اموال وعاملين في هذه الشركة لأنها سعودية.
في الرياض او طهران او الخرطوم "السلطة" دينية اياً تكن الاوضاع السوسيولوجية المختلفة للسلطات بين كل من هذه العواصم.
ففي طهران مثلاً يحكم رجال الدين مباشرة منذ حوالى ثلاثين عاماً، كـ"كتلة" سياسية من حوالى ثلاثماية الف الى اربعماية الف شخص مع امتداداتها الاجتماعية... "كتلة" واحدة في نظر معظم الفئات الاخرى من السبعين مليون ايراني ولا سيما ملايين الشباب والنساء في المدن الذي يعانون الضغط الايديولوجي الهائل للنظام السياسي والذي يضاف اليه طبعاً الضغط الاقتصادي... مع ان كتلة الاربعماية الف رجل دين، اذا روقبت داخلياً فهي كتل عديدة متنافرة بل طبقات عديدة ايضاً رغم الامتيازات العامة التي باتت تجمعها حول السلطة المركزية في طهران والتي تستتبع "قم" الآن وليس العكس. السؤال المستقبلي هو التالي: ضد من في جيل آخر ستقوم الثورة الايرانية الثانية؟ فقط للتذكير: ظاهرة حكم "رجال الدين"، كرجال دين لم تحدث في التاريخ الاسلامي كله.
انها اذن قياساً على ايران ظاهرة جديدة. في السعودية ايضاً "دولة دينية"، وهي دولة اظهرت انها نافذة في العالم المسلم اكثر من الدولة الدينية الايرانية. ولكن تركيبتها السلطوية تقليدية: عائلة مالكة متحالفة مع بنية دينية. هذا دائماً كان يحصل في العالم المسلم. في السودان حصل انقلاب عسكري بالتحالف مع ورثة احد التيارات المتفرعة عن "الاخوان المسلمين" وانشأ دولة دينية.
لكن لاحقاً شق العسكر "الحزب الديني" بل استبعدوا زعيمه حسن الترابي وابقوا دولتهم "الدينية" (حاول "الاخوان المسلمون" ذلك في مصر الخمسينات ففشلوا. اما في سوريا اواخر السبعينات واوائل الثمانينات فقاموا بـ"ثورة" عنفية وفشلوا).
• • •
يتواصل صعود المدّ الديني في منطقتنا، الآن يأخذ من المتوسط حتى الهند شكل الحساسية السنية – الشيعية وشكل الحساسية الأصولية السنية ضد حساسيات سنية أخرى. هذا شكل جديد للسيطرة الدينية على حياتنا يقوم على تعزيز الانقسامات الاجتماعية المذهبية، وربما عندما "يقتضي الامر" على الحروب الاهلية. حصل الامر في العراق بتضافر عوامل عديدة مع سقوط نظام استبداد استثنائي، كان لا يمنع "الفتن" فقط، بل يدمّر المجتمع نفسه. لهذا جاء رد الفعل مَرَضياً من تكوينات الحكم الجديد كما من تكوينات المعارضين الجدد.
... انها المرحلة الجديدة من السيطرة، سيطرة المؤسسات الدينية الكاملة على حياتنا او استكمال هذه السيطرة في ظرفها الاكثر مأساوية ان لم اقل انتحارية.
كان الخلاف الذي ظهر الاسبوع المنصرم على توقيت عيد الاضحى اشارة مذهلة (واشدد على الكلمة) لما يمكن ان تصل اليه سطوة المؤسسات الدينية التقليدية والحزبية في هذه الفترة على حياتنا.
لقد اظهر هذا الخلاف الى اي مدى يمكن الخلاف المذهبي لا ان يتجدد - فالتجدد كلمة غير صحيحة بل كاذبة ومضللة حتى لو كانت الحساسية المذهبية تستند الى احداث منذ 15 قرناً تقريباً - بل ان يتأسس. فالخلاف على توقيت عيد الاضحى لا تاريخ له معروف او محصور بين الشيعة والسنة. كان الامر كما هو شائع محصوراً على المستوى العام في "رؤية الهلال" لتحديد نهاية شهر رمضان ويوم عيد الفطر.. وهو على اي حال كما نعرف خلاف ليس محصوراً بين رجال دين من المذاهب السنية الاربعة من جهة، ورجال دين من المذهب الجعفري فقط بل بين رجال من هذه المذاهب الاربعة نفسها، كما يتضح في اعوام كثيرة حين تبدأ السعودية بالعيد في يوم مختلف عن الذي تبدأ به مصر او سوريا، بل احياناً يبدأ العيد في ايران والسعودية او مصر او المغرب في يوم واحد في حين دول اخرى في اليوم الثاني، اما حول عيد الاضحى فالخلاف في التوقيت جديد تماماً اذا استثنينا ربما سجالات فقهية في المراكز الدينية لا طابع مذهبياً لها ولا يعرفها سوى القلة من "المحترفين".
هذا يعني ان "المؤسسات الدينية" قادرة على تأسيس خلافات لا سابق لها تُعرّض بالمعنى المباشر للكلمة حياتنا كمسلمين لمخاطر مادية. وهذا اعلى انواع التسلّط. فرجال الدين الذين – لا سيما عبر قرار الدول – سمحوا لانفسهم بتحويل الخلاف الجديد على توقيت عيد الاضحى، كانوا يعبرون ليس فقط عن رأي خطير بل عن تحويل المؤسسات الدينية الى مؤسسات تفريق. مؤسسات تبدو وكأنها قائمة على "كهانة" وظيفتها التأسيس للفرقة... وبالتالي للحروب الاهلية القائمة والمحتملة. وهذا دور تضعها فيه بالنتيجة المقاربة الاصولية المتصاعدة والضاغطة على كل وجوه حياتنا العامة.
رجل الدين ذو القرار المؤثر شعبياً، كذلك رجل الدين على رأس المؤسسة الدينية المؤثرة وغالباً العابرة للدول والقارات يجب ان يتحمل مسؤولية الموقف الذي يتخذه، ولا يمكن القبول قطعاً باعتبار رأيه مجرد رأي فقهي حين يمس نسيج الحساسيات (ولا اريد ان اقول "العلاقات") بين عشرات ملايين المسلمين.
كان يمكن – بل كان يجب – احتراماً لـ"مقاصد الشرع" لا لـ"الفاظ" الشرع"، التقيد الصارم بتوقيت العيد قياساً الى ما نظمته السلطة المشرفة على مكة المكرمة، وهي الأَولى في تحمل عناء استقبال مئات الوف الحجاج.
وكان يمكن لسماحة السيد السيستاني الحريص على وحدة مسلمي العراق ان يؤكد ذلك فيمنع تأسيس – لا تجديد – خلاف بين السنة والشيعة كما بين السنة والسنة والشيعة والشيعة.
جهاد الزين
لم أكن في ذروة ايام يساريتي في النصف الاول من عشرينات عمري صاحب موقف راديكالي ضد المؤسسات الدينية. ربما كان السبب نشأتي في بيت ذي تقاليد دينية او كما يقال في "بيوت معمَّمين" اي رجال دين لم تنقطع سلالتهم في الدراسة الدينية في العراق حتى جيل والد والدي، بل الى جيل اصغر سناً في بعض فروع العائلة.
لكن يحدث الان استفحال في استخدام الطقوس الدينية المتصلة بالجماعات المسلمة على حياتنا بحيث باتت تهدّد النسيج الاهلي نفسه في زمن لا يخلو من مخاطر كبيرة وملموسة بل ومتحققة، يحدث ما يدفع الى بدء البحث، بل اعادة البحث الجذري في هذا العصر الاصولي "الذي يسيطر علينا.
هذا ليس جديدا. لكن الجديد ان السيطرة في السياسة والمجتمع للمؤسسات الدينية باتت تؤسس لخلافات لا سابقة لها في وعي المسلمين. كان الخلاف على توقيت عيد الاضحى مؤشرا لا يطاق في هذا الاتجاه. ومن يعلم إذا استمرّ التأسيس (وكله باسم الماضي الديني) ان نصل الى يوم في جيل لاحق يبدأ فيه انقسام جديد مثلا بين "مهاجر" و"انصاري"! او ان نتخيل زمنا آتيا تنشأ فيه حساسيات صدامية بين المذاهب الحنبلي والشافعي والحنفي والمالكي نفسها؟!
هل اصبحنا في هذا الزمن المتوحش من الحساسية السنية – الشيعية في العراق أمام "اعادة ترتيب" التاريخ السياسي الاسلامي؟ طبعا لا. فهذه مهمة مجنونة قياسا بالمهمة العاقلة لزمننا وهي معالجة امر مسلمي اليوم في زمن تحديات الحداثة وما بعد الحداثة بل وما بعد بعد الحداثة في مواجهة الاخطار الحقيقية التي تواجه البشرية: البيئة، توزيع الثروة، المزيد من تحرير الديموقراطية من سيطرة كتل المصالح في العالم المتقدم، التطور العلمي... كل هذه القضايا وغيرها التي على الفلسفة المعاصرة ان تواجهها تبعا للفصل بين "بنية" الدين و"بنية" الفلسفة... وهو فصل، ندعي نحن المسلمين ان عالما كبيرا من "عندنا" في "القرون الوسطى" او على مشارف عصر النهضة الاوروبي هو الذي اطلقه... اي ابن رشد، الفصل بين النقل والعقل. ابن رشد الذي يعتبره مفكر عربي معاصر هو محمد عابد الجابري احد ثلاثة مفكرين قدماء مع ابن خلدون والشاطبي "يشكلون فعلا حلقة الوصل بين ماضينا وحاضرنا"... "لاعادة كتابة تاريخنا الثقافي بروح علمية نقدية" بحيث لا يبقى هذا التاريخ "كما ظل يدرس طوال العهود الماضية هو تاريخ فرق كلامية ومذاهب فقهية... تاريخ يعكس الصراعات السياسية الظرفية التي تمزق الزمن الثقافي وتجعله خاضعا للزمن السياسي..." كما يقول الجابري في مقال اخير له في "المستقبل العربي" (عدد كانون الاول).
لا يبدو في الزمن الراهن الذي تسيطر فيه التيارات الدينية السياسية على حياتنا العامة في العالم المسلم وخصوصا في العالم العربي، ان المؤسسات الدينية التقليدية والحزبية ليست الآن المرجع الموثوق للانتقال الى قيادة مواجهة عقلانية كاملة لقضايا الحداثة وما بعد الحداثة. من ابرز معالم سيطرة المؤسسات الدينية انه حتى السلطات السياسية الآتية من ايديولوجيات غير اصولية استسلمت ثقافيا لـ"الاصولية الثقافية" مقابل منع "الاصولية السياسية" من تولي السلطة الامنية – السياسية. اي انها – كما يحدث في العديد من الدول العربية بينها مصر وفلسطين الضفة الغربية وسوريا – تخلت عن السلطة الثقافية للاصوليين على انواعهم مقابل احتفاظها بالسلطة السياسية.
هذه هي الظاهرة الأولى.
الظاهرة الثانية لزمننا الحالي ان المجتمع نفسه اصبح اكثر اصولية في ثقافته الدينية. تعج مجتمعاتنا بحالات اللجوء الفردي والجماعي الى ممارسات "روحانية" الاسم تبلغ في بعض الحالات حد الشعوذة وفي حالات اخرى حد التفاهة. اسألوا ماذا يحدث في "قيعان" القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد والرياض وارياف هذه العواصم في السلوك الاجتماعي نفسه: المجتمع اصولي وليس السلطة هنا او بعض النخب والاحزاب هناك.
كان هذا ما اعتبر "المحافظون الجدد" انهم "اكتشفوه" بعد احداث 11 ايلول او ارادوا ان يعلنوا انهم "اكتشفوه" ليبنوا عليه استراتيجية عالمية كاملة. لقد قالوا – وليس كل ما قالوه خطأ – ان الهجوم الذي نفذه الـ 15 سعوديا والاماراتي والكويتي والمصري واللبناني الاربعة على نيويورك وواشنطن في 11 ايلول 2001 كشف كم تتحول فئات واسعة في المجتمعات المسلمة نحو الفكر الاصولي... (المعادي لأميركا). وكان درس 11 ايلول غير طبقي. فقد اظهر خلافا للمدرسة السوسيولوجية الاولى التي رافقت ولادة التيارات الاصولية في السبعينات من القرن العشرين في مصر وايران تحديدا، تلك المدرسة التي ربطت "الاصولية" بالضواحي الفقيرة للمدن، اظهر ان الاصولية في نسختها "البن لادنية" هي اصولية الاغنياء والفئات العليا من الطبقة الوسطى.
اذن – وهذا صحيح – تخترق "الاصولية" كصيغة معاصرة للفكر الديني مجتمعاتنا افقيا وعاموديا، ما فوق "السياسة" وما تحتها، "درس" يعرف الجميع، قبل ان ينتقل الرئيس جورج بوش الى استراتيجيته الثانية انه جعل"الاف. بي. آي" تفتش عن هذا النوع من الاصولية حتى في بعض فروع العائلات المالكة في المنطقة. لقد روى لي المرحوم رفيق الحريري انه بعد 11 ايلول طلبت وكالة المباحث الفيديرالية من احدى شركاته في هيوستون، وكانت تقوم ببناء مركز تجاري كبير، معلومات عن سجلات ومصادر اموال وعاملين في هذه الشركة لأنها سعودية.
في الرياض او طهران او الخرطوم "السلطة" دينية اياً تكن الاوضاع السوسيولوجية المختلفة للسلطات بين كل من هذه العواصم.
ففي طهران مثلاً يحكم رجال الدين مباشرة منذ حوالى ثلاثين عاماً، كـ"كتلة" سياسية من حوالى ثلاثماية الف الى اربعماية الف شخص مع امتداداتها الاجتماعية... "كتلة" واحدة في نظر معظم الفئات الاخرى من السبعين مليون ايراني ولا سيما ملايين الشباب والنساء في المدن الذي يعانون الضغط الايديولوجي الهائل للنظام السياسي والذي يضاف اليه طبعاً الضغط الاقتصادي... مع ان كتلة الاربعماية الف رجل دين، اذا روقبت داخلياً فهي كتل عديدة متنافرة بل طبقات عديدة ايضاً رغم الامتيازات العامة التي باتت تجمعها حول السلطة المركزية في طهران والتي تستتبع "قم" الآن وليس العكس. السؤال المستقبلي هو التالي: ضد من في جيل آخر ستقوم الثورة الايرانية الثانية؟ فقط للتذكير: ظاهرة حكم "رجال الدين"، كرجال دين لم تحدث في التاريخ الاسلامي كله.
انها اذن قياساً على ايران ظاهرة جديدة. في السعودية ايضاً "دولة دينية"، وهي دولة اظهرت انها نافذة في العالم المسلم اكثر من الدولة الدينية الايرانية. ولكن تركيبتها السلطوية تقليدية: عائلة مالكة متحالفة مع بنية دينية. هذا دائماً كان يحصل في العالم المسلم. في السودان حصل انقلاب عسكري بالتحالف مع ورثة احد التيارات المتفرعة عن "الاخوان المسلمين" وانشأ دولة دينية.
لكن لاحقاً شق العسكر "الحزب الديني" بل استبعدوا زعيمه حسن الترابي وابقوا دولتهم "الدينية" (حاول "الاخوان المسلمون" ذلك في مصر الخمسينات ففشلوا. اما في سوريا اواخر السبعينات واوائل الثمانينات فقاموا بـ"ثورة" عنفية وفشلوا).
• • •
يتواصل صعود المدّ الديني في منطقتنا، الآن يأخذ من المتوسط حتى الهند شكل الحساسية السنية – الشيعية وشكل الحساسية الأصولية السنية ضد حساسيات سنية أخرى. هذا شكل جديد للسيطرة الدينية على حياتنا يقوم على تعزيز الانقسامات الاجتماعية المذهبية، وربما عندما "يقتضي الامر" على الحروب الاهلية. حصل الامر في العراق بتضافر عوامل عديدة مع سقوط نظام استبداد استثنائي، كان لا يمنع "الفتن" فقط، بل يدمّر المجتمع نفسه. لهذا جاء رد الفعل مَرَضياً من تكوينات الحكم الجديد كما من تكوينات المعارضين الجدد.
... انها المرحلة الجديدة من السيطرة، سيطرة المؤسسات الدينية الكاملة على حياتنا او استكمال هذه السيطرة في ظرفها الاكثر مأساوية ان لم اقل انتحارية.
كان الخلاف الذي ظهر الاسبوع المنصرم على توقيت عيد الاضحى اشارة مذهلة (واشدد على الكلمة) لما يمكن ان تصل اليه سطوة المؤسسات الدينية التقليدية والحزبية في هذه الفترة على حياتنا.
لقد اظهر هذا الخلاف الى اي مدى يمكن الخلاف المذهبي لا ان يتجدد - فالتجدد كلمة غير صحيحة بل كاذبة ومضللة حتى لو كانت الحساسية المذهبية تستند الى احداث منذ 15 قرناً تقريباً - بل ان يتأسس. فالخلاف على توقيت عيد الاضحى لا تاريخ له معروف او محصور بين الشيعة والسنة. كان الامر كما هو شائع محصوراً على المستوى العام في "رؤية الهلال" لتحديد نهاية شهر رمضان ويوم عيد الفطر.. وهو على اي حال كما نعرف خلاف ليس محصوراً بين رجال دين من المذاهب السنية الاربعة من جهة، ورجال دين من المذهب الجعفري فقط بل بين رجال من هذه المذاهب الاربعة نفسها، كما يتضح في اعوام كثيرة حين تبدأ السعودية بالعيد في يوم مختلف عن الذي تبدأ به مصر او سوريا، بل احياناً يبدأ العيد في ايران والسعودية او مصر او المغرب في يوم واحد في حين دول اخرى في اليوم الثاني، اما حول عيد الاضحى فالخلاف في التوقيت جديد تماماً اذا استثنينا ربما سجالات فقهية في المراكز الدينية لا طابع مذهبياً لها ولا يعرفها سوى القلة من "المحترفين".
هذا يعني ان "المؤسسات الدينية" قادرة على تأسيس خلافات لا سابق لها تُعرّض بالمعنى المباشر للكلمة حياتنا كمسلمين لمخاطر مادية. وهذا اعلى انواع التسلّط. فرجال الدين الذين – لا سيما عبر قرار الدول – سمحوا لانفسهم بتحويل الخلاف الجديد على توقيت عيد الاضحى، كانوا يعبرون ليس فقط عن رأي خطير بل عن تحويل المؤسسات الدينية الى مؤسسات تفريق. مؤسسات تبدو وكأنها قائمة على "كهانة" وظيفتها التأسيس للفرقة... وبالتالي للحروب الاهلية القائمة والمحتملة. وهذا دور تضعها فيه بالنتيجة المقاربة الاصولية المتصاعدة والضاغطة على كل وجوه حياتنا العامة.
رجل الدين ذو القرار المؤثر شعبياً، كذلك رجل الدين على رأس المؤسسة الدينية المؤثرة وغالباً العابرة للدول والقارات يجب ان يتحمل مسؤولية الموقف الذي يتخذه، ولا يمكن القبول قطعاً باعتبار رأيه مجرد رأي فقهي حين يمس نسيج الحساسيات (ولا اريد ان اقول "العلاقات") بين عشرات ملايين المسلمين.
كان يمكن – بل كان يجب – احتراماً لـ"مقاصد الشرع" لا لـ"الفاظ" الشرع"، التقيد الصارم بتوقيت العيد قياساً الى ما نظمته السلطة المشرفة على مكة المكرمة، وهي الأَولى في تحمل عناء استقبال مئات الوف الحجاج.
وكان يمكن لسماحة السيد السيستاني الحريص على وحدة مسلمي العراق ان يؤكد ذلك فيمنع تأسيس – لا تجديد – خلاف بين السنة والشيعة كما بين السنة والسنة والشيعة والشيعة.