سيد مرحوم
07-17-2004, 10:02 AM
الدور العلمائي وإشكاليّات النهوض
:: موقع قطيفيات ::
مقالة للكاتب: حيدر حب الله
على امتداد قرون من الزمن الإسلامي ومنذ عصر النبي (ص)، كان لعلماء الدين دور فاعل في رسم خارطة الحاضر والمستقبل معاً، ولم تؤثّر تغييرات العصر الحديث منذ الطهطاوي و... في دور علماء الدين كثيراً، بل ازداد حضورهم في ساحة الأحداث وتنامى دورهم أكثر فأكثر، ليتوّج بانتصار الثورة الإسلامية في إيران على يد الإمام الخميني (قدس سره).
ولكن تصاعد وتيرة حضور علماء الدين مع الأفغاني وعبده وكذلك في خضم أحداث الحركة الدستورية مع الخراساني والنائيني والتي سبقتها فتوى الميرزا الشيرازي في حادثة التنباك الشهيرة...
كل ذلك ضاعف أكثر فأكثر من حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق علماء الدين، وأدى إلى تحوّل جوهري في نوع الوظائف وأشكال الأداء.
1 ـ أهم تحوّل حصل على هذا الصعيد كان توقّعات الناس عموماً من عالم الدين، فقد ارتفع سقف التوقعات، وشعر الناس بأن ما سيقدّمه لهم علماء الدين هو شيء كبير ومميز، وليس مجرّد الصلاة جماعة في المساجد، أو الطلاق، أو الزواج أو الصلاة على جنازة أو....
وبالفعل دخل العلماء معترك الحياة السياسية والاجتماعية بصورة واسعة وعلى نطاق كبير، واختلف وضعهم اليوم عن السابق اختلافاً بارزاً، وقدّموا نماذج راقية في الأداء والتضحية والعمل والإنجازات.
لكن فوضى التوقعات التي حملها الناس أثقلت كاهل مؤسسة علماء الدين، وهي فوضى يتحمّل جزءاً من مسؤوليّتها العلماء أنفسهم بتقديمهم صوراً سورياليّة أحياناً، إن وضع عالم الدين في موقع حلاّل جميع المشكلات على الإطلاق، وتحميله مسؤولية كلّ شيء، وكأنه معنيٌّ بكل دنيا الناس وآخرتها أثقل كاهله، وجعله يشعر بأنه غير قادر أحياناً على تحقيق المطلوب، ولو أن تعديلاً في المفاهيم والوظائف حصل لخفّف ذلك على السواء من توقعات القاعدة الجماهيريّة وهواجس عالم الدين معاً.
إن جعل عالم الدين معنيّاً بالإجابة عن كل شيء حتّى فيما لا علاقة له به كالعلوم الطبيعيّة وبعض العلوم الإنسانية.. وجعله مسؤولاً عن أيّة إشكاليّة في المجتمع سياسيّة أو إداريّة أو اقتصاديّة.. كان ذا وقع بالغ الخطورة انسحب في النتيجة على التشكيك في مصداقيّته عموماً.
لقد كان ـ وما يزال ـ من المفترض تقديم صورة واقعية عن وظيفة عالم الدين و صلاحياته ومسؤوليّته بعيداً عن التهويمات والضبابيّات والحماسة.
2 ـ وكان لنظرة القداسة التي حملها الناس ـ خطأ ـ عن عالم الدين دور في ردّة الفعل العكسية تجاهه، وقد حذّر الشهيد مرتضى مطهري من هذه الصورة التي تحاول أن توحي بأن عالم الدين إنسان معصوم لا يخطئ، وهو ما يعني أن علماء الدين أنفسهم ـ وكذلك عموم الناس ـ مطالبون بتقديم صورة واقعية عن شخصية عالم الدين، تجعل من رؤية خطئ أو هفوةٍ منه أمراً لا يترك مردوداً سلبياً على دين الناس، ولا يشكل صدمةً قويّة لهم، بل يجب أن يبدو أمراً مترقّباً ومفهوماً في الذهن الجماعي.
إن عالم الدين مطالب بأن يكون أنموذجاً، لكن الواقع أقوى عادةً من المثل والأماني، وهذا معناه أن هناك من بين علماء الدين من لا يتمثل شخصية الرسالة والإيمان، وإذا ما وضعنا في يد المجتمع معايير سليمة للتمييز أمكن للناس ـ بدرجة أو بأخرى ـ التمييز بين علماء الدين صالحهم وفاسدهم دون أن ترتدّ رؤيتهم لمظاهر الفساد إلى مفعول عكسي على تديّنهم، نكون نحن المسؤولين عنه أمام الله تعالى ببثّنا مفاهيم مغلوطة ولو بدواعٍ سليمة.
إنّ من الأخطاء الشائعة التي تنطلق من دواعٍ طيّبة وسليمة محاولة التعتيم على الاخطاء والانحرافات، من المطلوب عدم إشاعة مساوىء المؤمن لكن الدفاع عن المساوىء ومحاولة إخفائها وعدم ممارسة شفافية ووضوح إنما هو وهم زائف في عصر الاتصال والمعرفة، لن ينتج سوى فقدان الثقة.
3 ـ ولكن رفع لباس العصمة أو حالة القداسة عن عالم الدين، لا تعني على الإطلاق الجرأة عليه وعدم احترامه، إن معاملة عالم الدين معاملة إسلامية تتطلّب تقديم الاحترام الكامل له، ونشر هذه الثقافة دوماً في المجتمع على أن لا تؤدي إلى الخلط بين الاحترام والقداسة، أو بين التقدير والعصمة أو التعالي عن المساءلة..
إن هذه المفاهيم تحتاج جدّاً إلى (((وعي دقيق وعالٍ))) يمكنه أن يجمع بين الإطارين السالفة الإشارة إليهما، وإلاّ فقد نتورّط في تقديس تعسفي من جهة أو جرأة وقحة من جهة أخرى.
4 ـ وفي نفس السياق ـ أي سياق احترام العلماء ـ تأتي ضرورة احترام الفقهاء ومراجع التقليد، فقد ظهرت في العقود الأخيرة موجة من عدم احترام مراجع التقليد، وَكَيْلِ التهم والأوصاف لهم بما يخجل الإنسان عن ذكر الكثير ممّا قيل ويقال، وتحت عدّة حجج جرت تعرية عدد من مراجع الدين وفقهاء المسلمين بطريقة غير أخلاقية، وهو ما يؤدي فيما بعد ـ وبالتأكيد ـ إلى هتك حرمة العلماء والفقهاء جميعاً بلا استثناء بما يطال التيارات التي عملت وتعمل على هتك حرمة بعض العلماء بمختلف الحجج والذرائع.
إن السهم الذي يصوّب إلى العلماء والمراجع لن يطال في النهاية إلا الجسم العلمائي برمّته، لأن لا أخلاقية النقد لا تعرف حدوداً ولا ترعى حرمة، مما يستدعي الجميعَ لممارسة درجة عالية من التقوى وحساب عواقب الأمور قبل فوات الأوان.
وإن من الضروري وضع حدّ لما يسمى صراع المرجعيات، لأن تقليد مرجع لا يعني هتك حرمة الآخر وإلغائه، والإيمان بمرجع ـ أيّاً يكن لا فرق أبداً ـ لا يعني إقصاء الآخر أو احتقاره أو تقزيمه، لقد صار لزاماً القيام بصرخة مدوّية توقف هذا اللون من الاستنزاف وتعمل على الإيقاظ من الهجعة التي يغطّ فيها الكثيرون منّا.
إن علماء الدين ومراجع المسلمين مهما كان الموقف العقائدي أو الفقهي أو السياسي أو الثقافي من هذا أو ذاك هم ـ شئنا أم أبينا ـ رموز للدين في مجتمعاتنا، وهم ـ أردنا أم لم نرد ـ من يقف اليوم في الطليعة مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم، وإن الحفاظ على وحدتهم واحترامهم لهو رصيد لمجتمعاتنا وأمّتنا، دون أن يعني ذلك جعلهم فوق النقد العلمي أو المساءلة المشروعة.
5 ـ لكن هذا لا يعني التساهل أكثر في إصلاح الأوضاع العلمائية في البلاد الإسلامية، والاتكال على طيبة الناس واحترامها وتقديرها لعلماء الدين، لأن المراهنة على هذا الوضع الاجتماعي أو... ربما لا تؤدي سوى إلى الاصطدام بالواقع المرير فيما بعد، ومن ثم فالوقت يسير مسرعاً ويلحّ على العلماء ومؤسسة علماء الدين في إصلاح الأوضاع وبأقصى سرعة ممكنة على مختلف الصعد، العلمية والأخلاقية والإداريّة و...
إن مطالبة الناس عموماً باحترام عالم الدين قد تفقد هي الأخرى مصداقيّتها وجدواها إذا أفرط العلماء في العدول عن جادّة الصواب وسبيل التقوى والإيمان، وإن صبر الناس ربما ينفد في يوم أحوج ما نكون إليه، فلا نجد مغيثاً إلا الدعاء، وربما لا يستجاب.
إن صرخة الضمير يجب أن تهزّ الكيان العلمائي بأسره، ليقظةٍ من سبات، وما يبعث على الأمل عيّنات من العلماء الصلحاء والفقهاء القادة بحقّ ممن تبقّى من آمال في أن تصلح أحوالنا وتستقيم أكثر فأكثر.
ودعوة الإصلاح ليست خطاباً أخلاقياً، بل برنامجاً مكتملاً ربما تكون بداياته البسيطة إصلاح برامج الحوزات العلمية والمعاهد الدينية لتتمكّن من الاستجابة لحاجات العصر وما يريده الإسلام حقاً من قيم ومبادىء ومقاصد، تقف على رأسها القيم الأخلاقية التي يطالب عالم الدين بتمثلها في سلوكه سيما فيما يتعلّق بالعلاقة مع السلطان أو حبّ المال أو النساء أو ... فيما يخشى أن يلبس عنواناً شرعياً أحياناً تحت مسمّيات الشأنية أو غيرها فتذهب قيم الزهد والتعاطف مع الطبقات الفقيرة وتحمّل مشاق العيش والكدّ على الأهل والعيال و...
إنّ التوقّف في مسيرة الإصلاح التي بدأها الإمام الخميني والشهيد الصدر والشهيد المطهري والشيخ مغنية والسيد محسن الأمين و... تحت حجج وذرائع دفاعية تنطلق من مجرّد القلق وأزمة الهواجس لن يحقق شيئاً مرجوّاً أبدأً، فإذا لم يتقدّم العلماء أنفسهم في مسيرة الإصلاح الأصيلة والإسلامية لا الإصلاح الأمريكي و ... فإن لعنة التاريخ سوف تلاحقنا جميعاً، وستتلاشى شيئاً فشيئاً جهود العلماء الإصلاحيّين الذين قدّموا أرواحهم وكلّ ما عندهم لتخليص الإسلام من تحجّر العقول والانحباس في القمقم والانعزال عن الحياة و...،
إنّ المفاخرة بأمثال المطهري والصدر وعبده والخالصي ورضا و... ستغدو عديمة الجدوى حينما نظنّ أن الوقوف هو المطلوب، إن مسيرة هؤلاء ليس فيها من توقّف، ويجب أن يكون العلماء هم السبّاقون ـ دون خوف أو وجل أو قلق ـ إلى إصلاح الأوضاع إصلاحاً إسلامياً، سيّما الأوضاع العلمائية الداخلية وإشكاليّات الفكر والثقافة الإسلاميّين، ليفوّتوا بذلك الفرصة على الآخرين ممّن قد لا تكون هناك ثقة في بعض دعواتهم أو بعض أفكارهم في بعض الأوساط الدينية.
6 ـ ومن أهم ما يحتاج للإصلاح في الوضع العلمائي، حالة التمزّق والتشرذم المنقطعة النظير، والتي بات الناس يرونها دون حجب أو أستار هذه المرّة، وقد ساعدت حالة التشرذم هذه مع ما تحمله من حملات وحملات مضادة.. وغيبةٍ وبهتانٍ ونميمةٍ ووقيعةٍ و.... في تقوية حجج الداعين لتنحية العلماء عن الساحة بالمرّة، لتعود الحال إلى ما قبل الإمام الخميني، بل والحركة الدستورية...
إن عدم احترام العلماء لبعضهم كان دافعاً قويّاً لانكسار الحواجز، وإن نشر ثقافة الجُزُر الفكرية والدينية بما تعنيه الكلمة من قطيعة كاملة، ساعد على تبدّد الجهود واجترارها فاستـنـزفت طاقات ما كان أحوجنا إليها في (زواريب) صغيرة بدّدتها واستهلكتها، وبدل أن يكون اختلافنا رحمة لنا ينوّع أفكارنا وينمّي نتاجنا ويلوّن حياتنا بألوان متعدّدة برّاقة صار أحياناً نقمة علينا ونكالاً.
أن يعلو صوت الأخلاق على نشاط علماء الدين وتتنحّى بقية الأصوات لهو الجامع الذي يمكنه أن يربطنا، وإذا كانت هذه الحال هي ما كان يحدث دائماً فإن الزمن يطالبنا بتقديم نماذج أفضل في عصر تفاهمت فيه الأضداد، وتحاورت فيه المتناقضات بل كادت تجتمع لولا الاستحالة.
:: موقع قطيفيات ::
مقالة للكاتب: حيدر حب الله
على امتداد قرون من الزمن الإسلامي ومنذ عصر النبي (ص)، كان لعلماء الدين دور فاعل في رسم خارطة الحاضر والمستقبل معاً، ولم تؤثّر تغييرات العصر الحديث منذ الطهطاوي و... في دور علماء الدين كثيراً، بل ازداد حضورهم في ساحة الأحداث وتنامى دورهم أكثر فأكثر، ليتوّج بانتصار الثورة الإسلامية في إيران على يد الإمام الخميني (قدس سره).
ولكن تصاعد وتيرة حضور علماء الدين مع الأفغاني وعبده وكذلك في خضم أحداث الحركة الدستورية مع الخراساني والنائيني والتي سبقتها فتوى الميرزا الشيرازي في حادثة التنباك الشهيرة...
كل ذلك ضاعف أكثر فأكثر من حجم المسؤوليات الملقاة على عاتق علماء الدين، وأدى إلى تحوّل جوهري في نوع الوظائف وأشكال الأداء.
1 ـ أهم تحوّل حصل على هذا الصعيد كان توقّعات الناس عموماً من عالم الدين، فقد ارتفع سقف التوقعات، وشعر الناس بأن ما سيقدّمه لهم علماء الدين هو شيء كبير ومميز، وليس مجرّد الصلاة جماعة في المساجد، أو الطلاق، أو الزواج أو الصلاة على جنازة أو....
وبالفعل دخل العلماء معترك الحياة السياسية والاجتماعية بصورة واسعة وعلى نطاق كبير، واختلف وضعهم اليوم عن السابق اختلافاً بارزاً، وقدّموا نماذج راقية في الأداء والتضحية والعمل والإنجازات.
لكن فوضى التوقعات التي حملها الناس أثقلت كاهل مؤسسة علماء الدين، وهي فوضى يتحمّل جزءاً من مسؤوليّتها العلماء أنفسهم بتقديمهم صوراً سورياليّة أحياناً، إن وضع عالم الدين في موقع حلاّل جميع المشكلات على الإطلاق، وتحميله مسؤولية كلّ شيء، وكأنه معنيٌّ بكل دنيا الناس وآخرتها أثقل كاهله، وجعله يشعر بأنه غير قادر أحياناً على تحقيق المطلوب، ولو أن تعديلاً في المفاهيم والوظائف حصل لخفّف ذلك على السواء من توقعات القاعدة الجماهيريّة وهواجس عالم الدين معاً.
إن جعل عالم الدين معنيّاً بالإجابة عن كل شيء حتّى فيما لا علاقة له به كالعلوم الطبيعيّة وبعض العلوم الإنسانية.. وجعله مسؤولاً عن أيّة إشكاليّة في المجتمع سياسيّة أو إداريّة أو اقتصاديّة.. كان ذا وقع بالغ الخطورة انسحب في النتيجة على التشكيك في مصداقيّته عموماً.
لقد كان ـ وما يزال ـ من المفترض تقديم صورة واقعية عن وظيفة عالم الدين و صلاحياته ومسؤوليّته بعيداً عن التهويمات والضبابيّات والحماسة.
2 ـ وكان لنظرة القداسة التي حملها الناس ـ خطأ ـ عن عالم الدين دور في ردّة الفعل العكسية تجاهه، وقد حذّر الشهيد مرتضى مطهري من هذه الصورة التي تحاول أن توحي بأن عالم الدين إنسان معصوم لا يخطئ، وهو ما يعني أن علماء الدين أنفسهم ـ وكذلك عموم الناس ـ مطالبون بتقديم صورة واقعية عن شخصية عالم الدين، تجعل من رؤية خطئ أو هفوةٍ منه أمراً لا يترك مردوداً سلبياً على دين الناس، ولا يشكل صدمةً قويّة لهم، بل يجب أن يبدو أمراً مترقّباً ومفهوماً في الذهن الجماعي.
إن عالم الدين مطالب بأن يكون أنموذجاً، لكن الواقع أقوى عادةً من المثل والأماني، وهذا معناه أن هناك من بين علماء الدين من لا يتمثل شخصية الرسالة والإيمان، وإذا ما وضعنا في يد المجتمع معايير سليمة للتمييز أمكن للناس ـ بدرجة أو بأخرى ـ التمييز بين علماء الدين صالحهم وفاسدهم دون أن ترتدّ رؤيتهم لمظاهر الفساد إلى مفعول عكسي على تديّنهم، نكون نحن المسؤولين عنه أمام الله تعالى ببثّنا مفاهيم مغلوطة ولو بدواعٍ سليمة.
إنّ من الأخطاء الشائعة التي تنطلق من دواعٍ طيّبة وسليمة محاولة التعتيم على الاخطاء والانحرافات، من المطلوب عدم إشاعة مساوىء المؤمن لكن الدفاع عن المساوىء ومحاولة إخفائها وعدم ممارسة شفافية ووضوح إنما هو وهم زائف في عصر الاتصال والمعرفة، لن ينتج سوى فقدان الثقة.
3 ـ ولكن رفع لباس العصمة أو حالة القداسة عن عالم الدين، لا تعني على الإطلاق الجرأة عليه وعدم احترامه، إن معاملة عالم الدين معاملة إسلامية تتطلّب تقديم الاحترام الكامل له، ونشر هذه الثقافة دوماً في المجتمع على أن لا تؤدي إلى الخلط بين الاحترام والقداسة، أو بين التقدير والعصمة أو التعالي عن المساءلة..
إن هذه المفاهيم تحتاج جدّاً إلى (((وعي دقيق وعالٍ))) يمكنه أن يجمع بين الإطارين السالفة الإشارة إليهما، وإلاّ فقد نتورّط في تقديس تعسفي من جهة أو جرأة وقحة من جهة أخرى.
4 ـ وفي نفس السياق ـ أي سياق احترام العلماء ـ تأتي ضرورة احترام الفقهاء ومراجع التقليد، فقد ظهرت في العقود الأخيرة موجة من عدم احترام مراجع التقليد، وَكَيْلِ التهم والأوصاف لهم بما يخجل الإنسان عن ذكر الكثير ممّا قيل ويقال، وتحت عدّة حجج جرت تعرية عدد من مراجع الدين وفقهاء المسلمين بطريقة غير أخلاقية، وهو ما يؤدي فيما بعد ـ وبالتأكيد ـ إلى هتك حرمة العلماء والفقهاء جميعاً بلا استثناء بما يطال التيارات التي عملت وتعمل على هتك حرمة بعض العلماء بمختلف الحجج والذرائع.
إن السهم الذي يصوّب إلى العلماء والمراجع لن يطال في النهاية إلا الجسم العلمائي برمّته، لأن لا أخلاقية النقد لا تعرف حدوداً ولا ترعى حرمة، مما يستدعي الجميعَ لممارسة درجة عالية من التقوى وحساب عواقب الأمور قبل فوات الأوان.
وإن من الضروري وضع حدّ لما يسمى صراع المرجعيات، لأن تقليد مرجع لا يعني هتك حرمة الآخر وإلغائه، والإيمان بمرجع ـ أيّاً يكن لا فرق أبداً ـ لا يعني إقصاء الآخر أو احتقاره أو تقزيمه، لقد صار لزاماً القيام بصرخة مدوّية توقف هذا اللون من الاستنزاف وتعمل على الإيقاظ من الهجعة التي يغطّ فيها الكثيرون منّا.
إن علماء الدين ومراجع المسلمين مهما كان الموقف العقائدي أو الفقهي أو السياسي أو الثقافي من هذا أو ذاك هم ـ شئنا أم أبينا ـ رموز للدين في مجتمعاتنا، وهم ـ أردنا أم لم نرد ـ من يقف اليوم في الطليعة مهما كانت اتجاهاتهم وميولهم، وإن الحفاظ على وحدتهم واحترامهم لهو رصيد لمجتمعاتنا وأمّتنا، دون أن يعني ذلك جعلهم فوق النقد العلمي أو المساءلة المشروعة.
5 ـ لكن هذا لا يعني التساهل أكثر في إصلاح الأوضاع العلمائية في البلاد الإسلامية، والاتكال على طيبة الناس واحترامها وتقديرها لعلماء الدين، لأن المراهنة على هذا الوضع الاجتماعي أو... ربما لا تؤدي سوى إلى الاصطدام بالواقع المرير فيما بعد، ومن ثم فالوقت يسير مسرعاً ويلحّ على العلماء ومؤسسة علماء الدين في إصلاح الأوضاع وبأقصى سرعة ممكنة على مختلف الصعد، العلمية والأخلاقية والإداريّة و...
إن مطالبة الناس عموماً باحترام عالم الدين قد تفقد هي الأخرى مصداقيّتها وجدواها إذا أفرط العلماء في العدول عن جادّة الصواب وسبيل التقوى والإيمان، وإن صبر الناس ربما ينفد في يوم أحوج ما نكون إليه، فلا نجد مغيثاً إلا الدعاء، وربما لا يستجاب.
إن صرخة الضمير يجب أن تهزّ الكيان العلمائي بأسره، ليقظةٍ من سبات، وما يبعث على الأمل عيّنات من العلماء الصلحاء والفقهاء القادة بحقّ ممن تبقّى من آمال في أن تصلح أحوالنا وتستقيم أكثر فأكثر.
ودعوة الإصلاح ليست خطاباً أخلاقياً، بل برنامجاً مكتملاً ربما تكون بداياته البسيطة إصلاح برامج الحوزات العلمية والمعاهد الدينية لتتمكّن من الاستجابة لحاجات العصر وما يريده الإسلام حقاً من قيم ومبادىء ومقاصد، تقف على رأسها القيم الأخلاقية التي يطالب عالم الدين بتمثلها في سلوكه سيما فيما يتعلّق بالعلاقة مع السلطان أو حبّ المال أو النساء أو ... فيما يخشى أن يلبس عنواناً شرعياً أحياناً تحت مسمّيات الشأنية أو غيرها فتذهب قيم الزهد والتعاطف مع الطبقات الفقيرة وتحمّل مشاق العيش والكدّ على الأهل والعيال و...
إنّ التوقّف في مسيرة الإصلاح التي بدأها الإمام الخميني والشهيد الصدر والشهيد المطهري والشيخ مغنية والسيد محسن الأمين و... تحت حجج وذرائع دفاعية تنطلق من مجرّد القلق وأزمة الهواجس لن يحقق شيئاً مرجوّاً أبدأً، فإذا لم يتقدّم العلماء أنفسهم في مسيرة الإصلاح الأصيلة والإسلامية لا الإصلاح الأمريكي و ... فإن لعنة التاريخ سوف تلاحقنا جميعاً، وستتلاشى شيئاً فشيئاً جهود العلماء الإصلاحيّين الذين قدّموا أرواحهم وكلّ ما عندهم لتخليص الإسلام من تحجّر العقول والانحباس في القمقم والانعزال عن الحياة و...،
إنّ المفاخرة بأمثال المطهري والصدر وعبده والخالصي ورضا و... ستغدو عديمة الجدوى حينما نظنّ أن الوقوف هو المطلوب، إن مسيرة هؤلاء ليس فيها من توقّف، ويجب أن يكون العلماء هم السبّاقون ـ دون خوف أو وجل أو قلق ـ إلى إصلاح الأوضاع إصلاحاً إسلامياً، سيّما الأوضاع العلمائية الداخلية وإشكاليّات الفكر والثقافة الإسلاميّين، ليفوّتوا بذلك الفرصة على الآخرين ممّن قد لا تكون هناك ثقة في بعض دعواتهم أو بعض أفكارهم في بعض الأوساط الدينية.
6 ـ ومن أهم ما يحتاج للإصلاح في الوضع العلمائي، حالة التمزّق والتشرذم المنقطعة النظير، والتي بات الناس يرونها دون حجب أو أستار هذه المرّة، وقد ساعدت حالة التشرذم هذه مع ما تحمله من حملات وحملات مضادة.. وغيبةٍ وبهتانٍ ونميمةٍ ووقيعةٍ و.... في تقوية حجج الداعين لتنحية العلماء عن الساحة بالمرّة، لتعود الحال إلى ما قبل الإمام الخميني، بل والحركة الدستورية...
إن عدم احترام العلماء لبعضهم كان دافعاً قويّاً لانكسار الحواجز، وإن نشر ثقافة الجُزُر الفكرية والدينية بما تعنيه الكلمة من قطيعة كاملة، ساعد على تبدّد الجهود واجترارها فاستـنـزفت طاقات ما كان أحوجنا إليها في (زواريب) صغيرة بدّدتها واستهلكتها، وبدل أن يكون اختلافنا رحمة لنا ينوّع أفكارنا وينمّي نتاجنا ويلوّن حياتنا بألوان متعدّدة برّاقة صار أحياناً نقمة علينا ونكالاً.
أن يعلو صوت الأخلاق على نشاط علماء الدين وتتنحّى بقية الأصوات لهو الجامع الذي يمكنه أن يربطنا، وإذا كانت هذه الحال هي ما كان يحدث دائماً فإن الزمن يطالبنا بتقديم نماذج أفضل في عصر تفاهمت فيه الأضداد، وتحاورت فيه المتناقضات بل كادت تجتمع لولا الاستحالة.