جمال
12-04-2007, 12:13 AM
مارشال برمان - الحياة
في خمسينات القرن العشرين اكتملت معالم مدينة نيويورك، المرفأ وتمثال الحرية وتايمز سكوير ومحطات القطارات ومترو الانفاق وسنترال بارك وجسر بروكلين. وبلغ، يومها، عدد سكانها «7 ملايين نسمة يعيشون في سلام ووفاق، وينعمون بثمار الديموقراطية»، بحسب شعار إذاعة «دبليو أن واي سي».
وألف السكان شوارع مدينتهم الجميلة وعمرانها، ولم ينكروا جهد من شيدها ولا تعبهم. فبُناتها أشخاص فقراء مجهولون، أجهدوا أنفسهم في العمل حتى الموت. وعلى رغم تعبهم ومعاناتهم لم يكل هؤلاء النقمة لمدينتهم، بل افتخروا بكونهم جزءاً من «أعظم مدينة في العالم». ودعت الرسالة التي درجت على بثها إذاعة «دبليو أن واي سي» مواطني نيويورك إلى الرقص والاحتفاء بكمال هذه المدينة وبمجتمعها الذي تملأه أحزان فردية، ويخفف وطأتها مجد مشترك ولحمة جماعية. وأمل أهل نيويورك في أن ترث الأجيال من بعدهم مدينتهم.
وفي الستينات، تبدّدت أحلام النيويوركيين، وأخذت المدينة تتفكك، وأوصالها تتقطّع. وأمطرت بانتقادات لاذعة ورؤى سوداء طوال ثلاثة عقود. واحتل موضوع «تحلّل نيويورك وتفككها» عناوين الصحف الرئيسية. ومنذ 1968 إلى منتصف الثمانينات، أحرقت، سنوياً، آلاف الأبنية والأحياء الكبيرة. وزاد عدد جرائم القتل خمسة أضعاف، وارتفع من 500 جريمة في السنة إلى 2400 جريمة. واستعرت حروب الشوارع والعصابات، وأهملت الاحصاءات عدّ ضحايا الحروب والحرائق من الأطفال، على رغم أن عددهم كبير. وبدا أن ثمة من يرتكب «جريمة قتل» في مدينة نيويورك. وهذه الجريمة لم تنته فصولها. وبلغت سلسلة الجرائم ضد نيويورك ذروتها في اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
وغدت أطلال البيوت والأحياء المحروقة ملازمة للمشهد النيويوركي. وعندما تردت أحوال المباني القديمة وانهارت، وضعت البنوك «خطوطاً حمراً» في وجه مالكيها، وعرقلت عملية ترميم هذه المباني. فتسارع تداعي الأبنية، وضرب اليأس مالكيها. وخلص هؤلاء إلى أن ريع عمارتهم «الميتة» (المهدمة) أعلى من ريعها وهي «حيّة» (مرتفعة وشامخة). وازدهرت «فنون الحريق» ووسائل إضرامه. وراح ضحية النيران أطفال وشيوخ. وخلّفت سنوات الحريق العمراني مفردات جديدة، ورسمت صوراً جديدة للمدينة. فهي أفق يشتعل ولهب يتّقد، وعمارات متداعية، وبقايا أسرّة وطاولات وتلفزيونات، ونتف من ثياب أطفال، وردم ونثرات من حياة الناس. وكانت تلك الصور تستدر العطف والتعاطف، في حين كان مسؤولون منتخبون يتهمون ضحايا الحرائق بإضرامها. وألقى بعض الضحايا باللائمة على نفسه.
وصارت نيويورك شغل السياسيين ووسائل الإعلام الشاغل، ووضع هؤلاء نصب أعينهم «تدمير» المدينة. فنيويورك على ما زعموا طفيلية، وعالة على أميركا. وهي مليئة بالضجيج والأوساخ والغرباء، وبؤرة الميول الإباحية المقززة. وهي قاطبة الخطيئة ومحجة الآثمين من الـ «هيبيز» والمثليين والشيوعيين الفاسدين. وهذا رأي سياسيين وشريحة من أميركيين رأوا أن القدر منح أميركا فرصة لتدمير نيويورك، والتخلص منها نهائياً. فالجموع هتفت الموت! الموت! الموت! الموت لنيويورك! طوال عقود. وأزكى جيرالد فورد، الرئيس الاميركي السابق، 1974 و 1977، حقد هؤلاء الاميركيين. فهو قضى في نيويورك بالموت، في أثناء حملته الانتخابية، والتزم قطع المساعدات الفيديرالية عنها.
فقرع النيويوركيون ناقوس الخطر، وسعوا الى انقاذ مدينتهم. وخشي كبار أثرياء الحزب الجمهوري أن يؤثر تدمير أكبر مدينة في الولايات المتحدة، وأكبر مركز اقتصادي، سلباً في أعمالهم. فحملوا الحكومة على منح نيويورك قروضاً لتسديد ديونها. وفي السبعينات، بلغ معدّل حرق المنازل 2000 منزل سنوياً، وخصوصاً في حي برونكس، وطاولت الحرائق أحياء غنية. وزعم اليسار أن المالكين يحرقون ممتلكاتهم ليحصلوا على أموال التأمين. وبدا هذا الزعم منطقياً وانتشر في أوساط متفرقة مثل دائرة مكافحة الحريق وشركات التأمين واليسار الجديد. وظهرت صحة نظرية اليسار حين يتقن الناس أن 90 في المئة من الحرائق يفتعلها المالكون. فأوقفت شركات التأمين التعويضات عن حريق الأبنية، وتوقّفت الحرائق بسحر ساحر. وتغيّرت أحوال الناس، وبات في وسعهم أن يمضوا قدماً في حياتهم.
ومن رحم البؤس في حي برونكس الجنوبي، وُلدت ثقافة الـ «هيب هوب». وآذنت بانبعاث نيويورك من الرماد والموت. ومن فن الكتابة على الجدران وعلى هياكل مقطورات المترو، برز فنانون لامعون شرعوا في «تزيين» المدينة. وكتب النجاح لعدد كبير من هؤلاء الفنانين، وخاضوا مجالات الرسم والمسرح والأزياء والفيديو. ولم يسع هؤلاء الى التباهي والشهرة، بل الى ابراز وجه نيويورك المدني في أعمالهم. وشن الفنانون «حرباً» شعواء على عجرفة سلطة النقل العام التي لم تعرهم انتباهاً. ومع الفنانين الجداريين، ظهر الجيل الأول من «روائيي» أغاني «الرابْ»، أو «موسيقى الفقراء». وانتشروا في الأحياء، ورووا قصص حياتهم بواسطة مكبّرات صوت صغيرة. وسرعان ما تفشّت عدوى «الرابْ»، وذاع صيتها في العالم، في 1982، مع ظهور فرقة «غراند ماستر فلاش» وفريق «فيوريوس فايف» (الغاضبون الخمسة). وولدت المدينة من جديد، من رماد التحلل الاجتماعي والبؤس الوجودي. واستطاع جيل فتيّ نشأ في أسوأ أحياء أميركا التخلص من الفقر والخروج من العنف والانعزال، والانفتاح على أميركا والعالم. وتدنّى معدل جرائم القتل إلى 600 جريمة في السنة.
ووسط نيويورك عالم مصغّر ومشرع على جنسيات وثقافات متنوعة. ومباني مؤسساته العالمية تغص بموظفين من الهند وروسيا والصين واليابان. ويشغل السياح من كل أقطار العالم فنادقه. وفي اعتداءات 11 أيلول 2001، تعاطف أهل نيويورك بعضهم مع بعض، وشدت بينهم لحمة متينة خلفت أثراً كبيراً في نفوس ممثليهم السياسيين. ولحقت نيويورك بركاب المدن العالمية، مثل لندن وباريس وطوكيو وريو دو جانيرو، ولوس أنجليس، وغيرها... وأصبح العيش في المدينة باهظ التكلفة. وغلاء العقارات يأتي على أماكن جمعت الناس في أوقات المحنة، مثل مكتبات الكتب والموسيقى والفنون الجميلة الصغيرة. وإغلاقها يخلف فراغاً في المدينة الجديدة المزدهرة. وقد يشكّل الإنترنت وفضاءاته الرقمية أمكنة بديلة وحقيقية لتلاقي النيويوركيين واجتماعهم.
عن «ديسنت» الأميركية، خريف 2007
في خمسينات القرن العشرين اكتملت معالم مدينة نيويورك، المرفأ وتمثال الحرية وتايمز سكوير ومحطات القطارات ومترو الانفاق وسنترال بارك وجسر بروكلين. وبلغ، يومها، عدد سكانها «7 ملايين نسمة يعيشون في سلام ووفاق، وينعمون بثمار الديموقراطية»، بحسب شعار إذاعة «دبليو أن واي سي».
وألف السكان شوارع مدينتهم الجميلة وعمرانها، ولم ينكروا جهد من شيدها ولا تعبهم. فبُناتها أشخاص فقراء مجهولون، أجهدوا أنفسهم في العمل حتى الموت. وعلى رغم تعبهم ومعاناتهم لم يكل هؤلاء النقمة لمدينتهم، بل افتخروا بكونهم جزءاً من «أعظم مدينة في العالم». ودعت الرسالة التي درجت على بثها إذاعة «دبليو أن واي سي» مواطني نيويورك إلى الرقص والاحتفاء بكمال هذه المدينة وبمجتمعها الذي تملأه أحزان فردية، ويخفف وطأتها مجد مشترك ولحمة جماعية. وأمل أهل نيويورك في أن ترث الأجيال من بعدهم مدينتهم.
وفي الستينات، تبدّدت أحلام النيويوركيين، وأخذت المدينة تتفكك، وأوصالها تتقطّع. وأمطرت بانتقادات لاذعة ورؤى سوداء طوال ثلاثة عقود. واحتل موضوع «تحلّل نيويورك وتفككها» عناوين الصحف الرئيسية. ومنذ 1968 إلى منتصف الثمانينات، أحرقت، سنوياً، آلاف الأبنية والأحياء الكبيرة. وزاد عدد جرائم القتل خمسة أضعاف، وارتفع من 500 جريمة في السنة إلى 2400 جريمة. واستعرت حروب الشوارع والعصابات، وأهملت الاحصاءات عدّ ضحايا الحروب والحرائق من الأطفال، على رغم أن عددهم كبير. وبدا أن ثمة من يرتكب «جريمة قتل» في مدينة نيويورك. وهذه الجريمة لم تنته فصولها. وبلغت سلسلة الجرائم ضد نيويورك ذروتها في اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
وغدت أطلال البيوت والأحياء المحروقة ملازمة للمشهد النيويوركي. وعندما تردت أحوال المباني القديمة وانهارت، وضعت البنوك «خطوطاً حمراً» في وجه مالكيها، وعرقلت عملية ترميم هذه المباني. فتسارع تداعي الأبنية، وضرب اليأس مالكيها. وخلص هؤلاء إلى أن ريع عمارتهم «الميتة» (المهدمة) أعلى من ريعها وهي «حيّة» (مرتفعة وشامخة). وازدهرت «فنون الحريق» ووسائل إضرامه. وراح ضحية النيران أطفال وشيوخ. وخلّفت سنوات الحريق العمراني مفردات جديدة، ورسمت صوراً جديدة للمدينة. فهي أفق يشتعل ولهب يتّقد، وعمارات متداعية، وبقايا أسرّة وطاولات وتلفزيونات، ونتف من ثياب أطفال، وردم ونثرات من حياة الناس. وكانت تلك الصور تستدر العطف والتعاطف، في حين كان مسؤولون منتخبون يتهمون ضحايا الحرائق بإضرامها. وألقى بعض الضحايا باللائمة على نفسه.
وصارت نيويورك شغل السياسيين ووسائل الإعلام الشاغل، ووضع هؤلاء نصب أعينهم «تدمير» المدينة. فنيويورك على ما زعموا طفيلية، وعالة على أميركا. وهي مليئة بالضجيج والأوساخ والغرباء، وبؤرة الميول الإباحية المقززة. وهي قاطبة الخطيئة ومحجة الآثمين من الـ «هيبيز» والمثليين والشيوعيين الفاسدين. وهذا رأي سياسيين وشريحة من أميركيين رأوا أن القدر منح أميركا فرصة لتدمير نيويورك، والتخلص منها نهائياً. فالجموع هتفت الموت! الموت! الموت! الموت لنيويورك! طوال عقود. وأزكى جيرالد فورد، الرئيس الاميركي السابق، 1974 و 1977، حقد هؤلاء الاميركيين. فهو قضى في نيويورك بالموت، في أثناء حملته الانتخابية، والتزم قطع المساعدات الفيديرالية عنها.
فقرع النيويوركيون ناقوس الخطر، وسعوا الى انقاذ مدينتهم. وخشي كبار أثرياء الحزب الجمهوري أن يؤثر تدمير أكبر مدينة في الولايات المتحدة، وأكبر مركز اقتصادي، سلباً في أعمالهم. فحملوا الحكومة على منح نيويورك قروضاً لتسديد ديونها. وفي السبعينات، بلغ معدّل حرق المنازل 2000 منزل سنوياً، وخصوصاً في حي برونكس، وطاولت الحرائق أحياء غنية. وزعم اليسار أن المالكين يحرقون ممتلكاتهم ليحصلوا على أموال التأمين. وبدا هذا الزعم منطقياً وانتشر في أوساط متفرقة مثل دائرة مكافحة الحريق وشركات التأمين واليسار الجديد. وظهرت صحة نظرية اليسار حين يتقن الناس أن 90 في المئة من الحرائق يفتعلها المالكون. فأوقفت شركات التأمين التعويضات عن حريق الأبنية، وتوقّفت الحرائق بسحر ساحر. وتغيّرت أحوال الناس، وبات في وسعهم أن يمضوا قدماً في حياتهم.
ومن رحم البؤس في حي برونكس الجنوبي، وُلدت ثقافة الـ «هيب هوب». وآذنت بانبعاث نيويورك من الرماد والموت. ومن فن الكتابة على الجدران وعلى هياكل مقطورات المترو، برز فنانون لامعون شرعوا في «تزيين» المدينة. وكتب النجاح لعدد كبير من هؤلاء الفنانين، وخاضوا مجالات الرسم والمسرح والأزياء والفيديو. ولم يسع هؤلاء الى التباهي والشهرة، بل الى ابراز وجه نيويورك المدني في أعمالهم. وشن الفنانون «حرباً» شعواء على عجرفة سلطة النقل العام التي لم تعرهم انتباهاً. ومع الفنانين الجداريين، ظهر الجيل الأول من «روائيي» أغاني «الرابْ»، أو «موسيقى الفقراء». وانتشروا في الأحياء، ورووا قصص حياتهم بواسطة مكبّرات صوت صغيرة. وسرعان ما تفشّت عدوى «الرابْ»، وذاع صيتها في العالم، في 1982، مع ظهور فرقة «غراند ماستر فلاش» وفريق «فيوريوس فايف» (الغاضبون الخمسة). وولدت المدينة من جديد، من رماد التحلل الاجتماعي والبؤس الوجودي. واستطاع جيل فتيّ نشأ في أسوأ أحياء أميركا التخلص من الفقر والخروج من العنف والانعزال، والانفتاح على أميركا والعالم. وتدنّى معدل جرائم القتل إلى 600 جريمة في السنة.
ووسط نيويورك عالم مصغّر ومشرع على جنسيات وثقافات متنوعة. ومباني مؤسساته العالمية تغص بموظفين من الهند وروسيا والصين واليابان. ويشغل السياح من كل أقطار العالم فنادقه. وفي اعتداءات 11 أيلول 2001، تعاطف أهل نيويورك بعضهم مع بعض، وشدت بينهم لحمة متينة خلفت أثراً كبيراً في نفوس ممثليهم السياسيين. ولحقت نيويورك بركاب المدن العالمية، مثل لندن وباريس وطوكيو وريو دو جانيرو، ولوس أنجليس، وغيرها... وأصبح العيش في المدينة باهظ التكلفة. وغلاء العقارات يأتي على أماكن جمعت الناس في أوقات المحنة، مثل مكتبات الكتب والموسيقى والفنون الجميلة الصغيرة. وإغلاقها يخلف فراغاً في المدينة الجديدة المزدهرة. وقد يشكّل الإنترنت وفضاءاته الرقمية أمكنة بديلة وحقيقية لتلاقي النيويوركيين واجتماعهم.
عن «ديسنت» الأميركية، خريف 2007