علي علي
11-09-2007, 09:09 PM
من كتابه {تلخيص الأبريز في حياة باريز}
باريس التي سهرت طويلاً أمس, نائمة الآن. الساعة جاوزت الثامنة صباحاً, لكن السماء ما زالت مظلمة, وكل نوافذ العمارات مطفأة. شبابيك بلون الفحم تشبه عيوناً مستطيلة تحدق الى الفضاء من عمارات قديمة ظهرت على ضفة السين قبل قرون وظلت قائمة, لم تسقط. لم تهدمها الثورة الفرنسية. لم تهدمها حروب بونابرت. لم تهدمها الحرب العالمية الأولى, ولا الثانية. احترق بعضها ثم رُمِم. لكن الشوارع ظلت محافظة على طابعها القديم. تسير بين العمارات كأنك تسير في متحف. كل عمارة متحف. وكل شارع شارع في مدينة خيالية. كأنك لست في باريس. كأنك في كين ساي.
من نافذة هذه البناية القائمة هنا منذ عام 1899 يستطيع الرجل المستيقظ كعادة الجبليين باكراً أن يرى ظلمة النوافذ المقابلة, وظلمة باحة البناية, وظلمة السماء الشتائية الحزينة, وظلمة شارع جورج ساشيه المقفر والممتد حتى دكان الخبز المقفل عند الزاوية. النور لم يطلع على عاصمة الفرنسيس بعد, لكن ثلجاً أبيض - ناصع البياض - يتساقط كالقطن المندوف من الأعالي.
أهل باريس يغطون في نوم ثقيل. كل ذلك الطعام والشراب والسهر المضطرب في شانزليزيه وسان ميشال ومونمارتر وسان جرمان وموفطار ومونبارناس أرهق أجسادهم... الدم تكاثف في الشرايين والعضلات أُنهكت. الكل ينام وينسى زحمة المترو الفظيعة وما جرى أمس تحت أرض المدينة وفوقها. لا أحد يتأمل الآن هذا الثلج الساكن الناصع الذي يهبط متهادياً على الشوارع الفارغة وعلى السيارات المركونة وعلى العمارات المظلمة الهاجعة مثل كائنات خرافية.
أهل باريس يسمون خط المترو الذي يربط مدينتهم بمطار شارل ديغول: RER. المطار يقع في الضاحية الشرقية - الشمالية للعاصمة. لكن الآتي الى فرنسا من آسيا البعيدة لن يجد في مطار شارل ديغول سهماً يدله الى الـRER المنشود. أو الى محطة هذا القطار القائمة افتراضياً في قلب المطار نفسه. لكن المحطة موجودة هنا حقاً. والقطار أيضاً. ببطاقة ثمنها 5,7 يورو تركبه الى قلب المدينة. لكن - أولاً - عليك أن تعثر عليه, على المحطة. من أجل ذلك انسَ كلمة RER وفتش عن كلمة GARE. هذه مفارقة باريسية أولى. للوصول الى مدينة هوغو عليك أن تتقن فن الشعر والاستعارة: فن استعمال أكثر من عبارة للإشارة الى المعنى الواحد ذاته.
هذا اقتراح. الاقتراح الآخر هو الذهاب الى دليل بايدكر والى القرن التاسع عشر: لا تأتِ الى باريس طائراً في بوينغ 747, بل سابحاً عبر مياه القنال الانكليزي (مثل الكاهن دانتون), أو راكباً الدابة على طريق الشام - اسطنبول - اليونان - البانيا - يوغوسلافيا - ايطاليا كما فعل انطوان طرازي... وهناك اقتراح ثالث مختلف: رفاعة رافع الطهطاوي.
ناقد الطعام الفرنساوي
تخرج الطهطاوي من الأزهر واصطحب سنة 1826 بعثة طلاب مصريين الى فرنسا. البعثة أرسلها محمد علي باشا الألباني. والي مصر أراد الاستفادة من علوم الفرنسيس. الطهطاوي قطع المتوسط بالسفينة من الاسكندرية الى مرسيليا في 33 يوماً.
يسمي المتوسط "البحر المالح". ومثل سلفه الاندلسي ابن جبير يصف تقلب أحواله ويصف الجزر التي يعبرها. صاحب "تخليص الابريز في تلخيص باريز" ولد سنة 1801 في طهطا (صعيد مصر) - ومات عن 72 عاماً في 1873. أقام في باريس من 1826 الى 1831. كان شاباً يافعاً قوي الروح لا يخاف السكارى الفرنجة, وعلى استعداد للعبث بهم (انظرْ الفصل الخامس من كتابه: في أغذية أهل باريس وفي عاداتهم في المآكل والمشارب). أقام بينهم خمس سنوات. دخل بيوتهم وعرف صفاتها. يصف طباعهم وعاداتهم. يخبرنا انه اوشك ان يفقد بصره لشدة مطالعته في مكتباتهم.
أدهشت هندسة باريس الطهطاوي. القصور والمخازن والشوارع والجسور. الأقنية والمجارير والسقوف المائلة. أعمال الكنس والرش والتنظيف والصيانة. كتب عن كل ذلك.
(لم يكن وحده من دُهِش. الأمير محمود نامي, الذي درس الرياضيات هناك, بأمر من محمد علي باشا أيضاً, لن يرجع الى الأزهر ليدون رحلته الباريسية. في 1831 أرسل محمد علي باشا مسلةً فرعونية هدية الى باريس وجيوشاً مصرية الى بلاد الشام. الأمير محمود نامي جاء الى بيروت مع ابراهيم باشا وصار والياً عليها. في عهده الذي طال تسعة أعوام أخذت البلدة الصغيرة تتحول الى مدينة مزدهرة. بيروت تحولت الى بوابة بلاد الشام على المتوسط وعلى أوروبا). الطهطاوي لم يحب الطعام الفرنساوي. كتب: "... ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها, فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة, ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ".
هذا الميل عن "طعامهم" يقابله عند الشيخ الأزهري ولع بوصف حدائقهم وبريدهم ومتاحفهم وجمعياتهم العلمية الخ... كتب الطهطاوي عن حدائق باريس العامة وكتب عن مراكب السين وكتب عن فخامة الكنائس والقصور في المدينة. حين خرج الطهطاوي من باريس عائداً الى مصر سنة 1831, كان فيكتور هوغو يتلقى من المطبعة النسخ الأولى من رواية "أحدب نوتردام".
نوتردام... وباريس من الأبراج
لم يكن هوغو بلغ الثلاثين بعد حين نشر روايته التاريخية هذه. من الصفحة الأولى يأخذنا الى باريس القرن الخامس عشر, والى صباح السادس من كانون الثاني (يناير) 1482. هوغو مولع بباريس العصور القوطية, باريس ما قبل النهضة, باريس شارلمان وما بعد شارلمان.
يصف نوتردام القديمة (بُنيت في القرن الثاني عشر للميلاد, والداخل اليها اليوم يقف في البدء لحظة وينظر الى العصافير تغطي الباحة الحجر وتغطي النبات الشائك المواجه لتمثال شارلمان على الحصان). هوغو يفعل ما لم يفعله يوماً تولستوي: ينسى حبكة الرواية ويذهب بعيداً من قصة الأحدب وتلك الفتاة الجميلة ويمضي في الكتاب الثالث من روايته الى وصف جغرافي (وتاريخي) لباريس. هذا الكتاب الثالث يقع في فصلين: الأول عنوانه نوتردام. والثاني عنوانه "مشهد باريس كما تراه عين طائر". هوغو يدون هنا تاريخ توسع باريس من جزيرة وسط السين (موقع كنيسة نوتردام) الى باريس التي عرفها أبناء القرن التاسع عشر. هذا توسع يحصل على مراحل, دائرة كبيرة تخرج من دائرة صغيرة: من الجزيرة وسط السين تخرج البيوت وتغادر الأسوار الى الضفة الجنوبية للنهر حيث السوربون: هذا الجزء من المدينة يسمى "الجامعة".
بعد ذلك يحدث التوسع الى شمال السين: الجزء الذي يسميه هوغو وأهل باريس "البلدة", أو: الضفة اليمنى. ذلك ان السين يدخل باريس من الجهة الجنوبية - الشرقية ويغادرها من الجهة الجنوبية - الغربية. يقف هوغو أعلى نوتردام ويسمع موسيقى الأجراس. يتحول شاعراً: كأنه ووردسورث على جسور لندن.
عصور البارانويا
لا يُسمح لسائحٍ بالصعود الى أعلى نوتردام في هذه العصور المشحونة بالبارانويا, عصور الفزع من الإرهاب. الأسهل الصعود الى مونمارتر.
من باحة كنيسة أخرى هناك (SACRE COEUR), عند سقف الهضبة المشرفة على المدينة, تستطيع أن ترى باريس كلها, وان تحدد باستخدام برج ايفل أو برج مونبارناس, مكان "المدينة الجامعية", أو حديقة اللوكسمبورغ, أو البانثيون, أو"بريزان", أو ساحة "دنفير - روشيرو" بالأسد الحجر الأسود, أو حتى شارع جورج ساشيه القريب من محطة "موتون". من هنا, واقفاً أعلى الدرج الذي رسمه الانطباعيون في عشرات اللوحات, ترى باريس والحمائم والغربان, وترى السماء الرمادية التي وصفها باتريك ساسكند في "عطر" (باريس القرن الثامن عشر) ووصفها خوليو كورتاثار في "لعبة الحجلة" (باريس القرن العشرين) ووصفها كاتب المقال عن باريس PARIS في الطبعة الحادية عشرة من "الموسوعة البريطانية" (1911).
شوارع الشتاء
الأشجار العارية من الورق في الشتاء أحزنت الطهطاوي وأزعجته. ماغريت حولها الى لوحات. فلوبير ذكرها في رسائله. ساسكند لاحظ قطرات الماء تتساقط عنها في "حمامة" (1987). أشجار باريس وشوارع باريس وعمارات باريس. مدينة فوق الأرض. وأخرى تحت الأرض. مترو باريس لا يلمع نظافة مثل المترو السويدي. مترو ستوكهولم يشبه جواهر فيرمير.
قارئ جورج بيريك يركب المترو من محطة لوكسمبورغ الى الدائرة 17 ويفتش طوال ساعتين عن شارع سيمون - كروبليه حيث البناية الشهيرة رقم 11 التي صنعت رواية "الحياة: دليل استعمال". عبثاً يفتش قارئ بيريك عن ذلك الشارع, وعن تلك البناية. يذكر بيريك أسماء أربعة شوارع تحيط بالشارع المنشود. والقارئ يدخن سجائره ويسعى بين الدكاكين والسيارات والإشارات الحمر والخضر ولا يعثر على البناية. يعثر على الشوارع الأربعة, بلى, لكنه لا يعثر على الشارع الخامس, شارع سيمون - كروبليه. لا يعثر على الشارع. تغيب الشمس (الشمس غائبة أصلاً). يغيب نور النهار وتحلّ الظلمة. الكهرباء تشعل الشوارع.
ومحلات الخبز والحلوى (كل هذه الأفران الصغيرة) ترسل دفئاً في الفضاء. الطهطاوي لم يكن على حق. يشتري القارئ خبزاً ساخناً ثم يركب المترو عائداً الى الدائرة 14. لا بأس. كان يعلم ان شارع بيريك خيالي. وأن حياة بيريك خيالية. "الحياة: دليل استعمال" ظهرت سنة 1978.
بعد أربع سنوات مات بيريك عن 46 عاماً. المترو (الموجود هنا منذ 1898) يسرع تحت أرض المدينة والموسيقى تتعالى من آلة سوداء بين الركاب. أمام الآلة يرقص رجل مجري قصير يشبه دب الباندا بكنزته الصوف البيضاء ذات الياقة السوداء العالية.
قبالته ترقص امرأة تشبهه, يلمع ماء في عينيها. الذل والفقر والبرد. منظر يكسر القلب. تخسر رغيف الخبز وتعلم انك لا تربح شيئاً. في شارع جورج ساشيه تنسى بيريك. رذاذ خفيف يتساقط. حدّة البرد تنكسر. ذلك يردّ الكائن الى زمنٍ سحيق, الى أيام بائدة لا تعود. على الدرج الخشب المغطى بسجاد أحمر سميك,أمام باب شقة Maro Leibowitch, ترى مسماراً: كأنك في "لعبة الحجلة" (1963). أوليفييرا وصديقته لاماغا اعتادا جمع المسامير من شوارع باريس, اعتادا جمع المسامير والخيطان والعلب الفارغة. غابرييل غارسيا ماركيز, صديق كورتاثار, كان يبيع القناني في هذه المدينة قبل أن يكتب "مئة عام من العزلة" (1967).
بقايا حياة
مسمار على درج. كلمات منقوشة في عتبة رخام. صف أشجار قاتمة. لافتة مكسورة. درابزين أخضر قديم. أينما نظرت رأيت بقايا حياة. مَنْ كان جورج ساشيه الذي سموا هذا الشارع الفرعي القصير باسمه؟ تبحث عنه في الموسوعات ولا تجده. لكن اسمه معلق على قطعة حديد. وكذلك تاريخ ميلاده ووفاته. عاش حياة قصيرة. رأى القرن التاسع عشر ينتهي, ورأى قرناً جديداً يولد. وكان طياراً. طياراً! ربما ارتفع بمنطاد فوق باريس, كما تخيل هوغو (1802 - 1885) في "أحدب نوتردام" وهو يصف العاصمة من الأعالي. ماذا يبقى من هوغو؟ رواياته؟
الماشي في "شارع فيكتور هوغو" شمال السين يرى تظاهرة صغيرة هادئة ضد العولمة وضد أميركا وضد ديك تشيني وضد تأخير المسافرين في المطارات. رجال ونساء في العقد الخامس أو السادس, البخار يخرج من فتحات وجوههم, وثيابهم قليلة. ألا يبردون؟ احدى النساء ستظهر بعد ساعة أو ساعتين في مكتبة جيبير في سان ميشال, ثم بعد ساعة أخرى في "الحي اللاتيني" المجاور. صدفة غريبة. المرأة مميزة. كنزتها صفراء مثل الظلة البلاستيك لمكتبة جيبير الشهيرة.
شالها أحمر مثل اللون الغالب على مطاعم "الحي اللاتيني". بنطلونها بلون الشوكولا المرّ. لكنها الآن لا تهتف ضد ديك تشيني. فقط تمشي هادئة مع رغيف خبز (باغيت), وفوق رأسها قبعة بيضاء. هل تقرأ فيكتور هوغو؟ أم تفضل عليه ألبير كامو؟ هل تحب بيريك؟
إذا زالت باريس من الوجود, من يحفظها من النسيان؟ هوغو؟ لا. كامو؟ لا. بيريك؟ لِمَ لا؟ ألم يجمع في بنايته الخيالية (11 شارع سيمون - كروبليه) كل ما وُجِد في هذه المدينة؟ ألم يضع بين غلافين شارعاً ودائرة وعاصمة وعالماً؟.
عاصمة العالم
مثل الطهطاوي, كان سليم بسترس وانطوان طرازي والشيخ المئوي لويس الصابونجي, وحتى أحمد فارس الشدياق, ينظرون الى "باريز" فيرونها عاصمة العالم الثانية بعد لندرة (لندن). الكاهن الانكليزي دانتون الذي عبر القنال الانكليزي الى "القارة" سنة 1860 ووصل في رحلته الى صربيا ورأى في قبوٍ أسفل قلعة بلغراد خمسين زعيماً درزياً, لم يعرف كل هؤلاء الشوام, وان كان شاركهم نظرتهم الى عظمة لندن.
مدن - مخازن
مثل باريس نَمَت لندن على ضفة نهر. هذه المدن النهرية, عواصم الامبراطوريات, تشبه المخازن. من ينسى الصفحات الأولى من "قلب الظلام" (1899)؟ جوزف كونراد يصف المدينة - المخزن, العاصمة التي تحمل اليها سفن الامبراطورية الثروات والبضائع والعبيد من انحاء العالم. الماشي في باريس ينظر الى الحديد الكثير المشغول في الشرفات الصغيرة وخارج النوافذ ويعرف أن ثروات لا تحصى تتكدس في هذا المكان. الخشب في الأبنية. الحجارة في الطرقات. الزجاج الملون في الكنائس. الأبراج والتماثيل والنوافير أينما نظرت. الطهطاوي نظر الى العمارات فلم يرَ رخاماً كافياً وأشاح بنظره: وجد العمارة فقيرة!
لكن باريس ليست فقيرة تماماً. قصر العدل تشع بواباته. أصفر الذهب يلمع على الحديد, هل يكون نحاساً؟ هذا القصر احترق ثم جُدِد (انظرْ هوغو). على مسافة قريبة تظهر نوافير فاخرة (في البريتانيكا القديمة يُذكر اسم الكونت الذي تبرع بالنوافير المذكورة للمدينة). داخل اللوفر تحتشد لوحات تختصر تاريخ الفن الكوني. وعلى بعد شارعين يقف مبنى عريق عاش فيه قبل ثلاثة قرون رجل موسوعي رسم خريطة للعالم تضم كل المدن الكبيرة بكل الشوارع الكبرى في هذه المدن: من بلفاست الى موسكو.
أسماء الأمكنة
الروائيون مولعون بأسماء الأمكنة. وبعض الشعراء مثلهم. افتحْ أي رواية لباتريك موديانو على أي صفحة تشاء, وانظرْ: لا بد أن تقرأ اسماً لشارع باريسي! في تراثنا العربي الكلاسيكي هذا موجود أيضاً. ليس في أدب الرحلات فقط (ابن بطوطة, أبو حامد الغرناطي, ابن فضلان, المقدسي...), بل عند بعض الشعراء أيضاً.
المتنبي مثلاً, وكذلك امرؤ القيس. روبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894) يسجل أسماء الأمكنة في لندن القرن التاسع عشر. موديانو يفعل ذلك في باريس النصف الثاني من القرن العشرين. ماذا يفعل الاثنان؟ يحفظان امكنة يهددها الاندثار (يهددها وقت ريلكه المدمِر) في كل لحظة... بين ليلة وضحاها تتساقط الجسور, تضمحل مدن. اليوت عرف ذلك بينما يكتب "الأرض اليباب".
كنبة صفراء في Gibert
رجل يجلس في المكتبة على كنبة صفراء. تصفية في "جيبير" بمناسبة نهاية العام. النافذة تطل على تقاطع, على مصرف عند الناصية, على مارة يعبرون سان ميشال. الحمائم تخفق في نور الغروب فوق السوربون.
السماء رمادية - برتقالية, تذكر بالصفحات الأخيرة في "حمامة" وبدوران جوناثان نويل حول مقبرة مونبارناس. المطر يقطر عن حافة الافريز. الرجل يفكر ان العالم واقعي وخيالي. واقعي لأنه يقعد هنا وينظر من هذه النافذة الى نهار يحتضر في باريس, وهو يلقي نظرة بين حين وآخر الى كتاب ت. س. اليوت المفتوح على الطاولة. اليوت يكتب عن ضبابٍ أصفر وراء زجـاج نافـذة في لندن 1929, والنور يتلاشى الآن في باريس. اليوت يعرف المدينة وعزلة ابن المدينة. ما صنعه في قصائده يشبه ما يصنعه بورخيس في القصص القصيرة التي كتبها بعد 1972.
قصص "كتاب الرمل" أو "ذاكرة شكسبير". هذه قصص عن الوقت, نهر الوقت, وما يصنعه الوقت بالانسان. تنظر من النافذة الشتائية الى المدينة: ترى باريس وترى طوكيو وترى اسطنبول وترى نيويورك وترى القاهرة وترى بوينس ايرس وترى هيروشيما وترى بيروت وترى كيوتو وترى لندن وترى بافوس القبرصية.
كل هذه المدن, كل هذا الصخب, كل هذا الليل الذي يفور بالكهرباء والأجساد والسيارات والأصوات. هدير بلا نهاية. الارجنتينيون المنفيون الى باريس يشربون المتّة في قصص كورتاثار, لعل المتّة الساخنة (طقوس المتّة المرّة: ملمس القرعة وملمس البومبيجة) تردّهم الى البامبا والى هضاب بتاغونيا والى البيت البعيد. من يشرب المتّة في باريس الآن؟
في "بولفار جوردان" وراء "المدينة الجامعية" - عند تخوم عاصمة الفرنسيس - رجل أفغاني يبيع "هوت دوغ", ويتكلم بعض الكلمات العربية. سندويشته زهيدة الثمن:
يورو ونصف اليورو فقط. قطعة نقانق مع جبنة. من أجلك يضيف خردلاً وصلصة طماطم. يتكلم بالعربية ويقول انه كان يعمل سائقاً في البحرين وانه يدعى مرجان وانه عمل في بيروت (في الشحن البحري) قبل الحرب. يبدو ضائعاً هنا. البرد قارس. درجة الحرارة واحدة تحت الصفر.
الغربان تتطاير فوق أشجار "بارك مونسوري". وبائع الهوت دوغ يحكي ويحكي ويحكي. كأنه يُكلِّم نفسه. كأنه مهدد بالموت, بالتلاشي في الهواء الأبيض, لحظة يكفّ عن الكلام.
باريس التي سهرت طويلاً أمس, نائمة الآن. الساعة جاوزت الثامنة صباحاً, لكن السماء ما زالت مظلمة, وكل نوافذ العمارات مطفأة. شبابيك بلون الفحم تشبه عيوناً مستطيلة تحدق الى الفضاء من عمارات قديمة ظهرت على ضفة السين قبل قرون وظلت قائمة, لم تسقط. لم تهدمها الثورة الفرنسية. لم تهدمها حروب بونابرت. لم تهدمها الحرب العالمية الأولى, ولا الثانية. احترق بعضها ثم رُمِم. لكن الشوارع ظلت محافظة على طابعها القديم. تسير بين العمارات كأنك تسير في متحف. كل عمارة متحف. وكل شارع شارع في مدينة خيالية. كأنك لست في باريس. كأنك في كين ساي.
من نافذة هذه البناية القائمة هنا منذ عام 1899 يستطيع الرجل المستيقظ كعادة الجبليين باكراً أن يرى ظلمة النوافذ المقابلة, وظلمة باحة البناية, وظلمة السماء الشتائية الحزينة, وظلمة شارع جورج ساشيه المقفر والممتد حتى دكان الخبز المقفل عند الزاوية. النور لم يطلع على عاصمة الفرنسيس بعد, لكن ثلجاً أبيض - ناصع البياض - يتساقط كالقطن المندوف من الأعالي.
أهل باريس يغطون في نوم ثقيل. كل ذلك الطعام والشراب والسهر المضطرب في شانزليزيه وسان ميشال ومونمارتر وسان جرمان وموفطار ومونبارناس أرهق أجسادهم... الدم تكاثف في الشرايين والعضلات أُنهكت. الكل ينام وينسى زحمة المترو الفظيعة وما جرى أمس تحت أرض المدينة وفوقها. لا أحد يتأمل الآن هذا الثلج الساكن الناصع الذي يهبط متهادياً على الشوارع الفارغة وعلى السيارات المركونة وعلى العمارات المظلمة الهاجعة مثل كائنات خرافية.
أهل باريس يسمون خط المترو الذي يربط مدينتهم بمطار شارل ديغول: RER. المطار يقع في الضاحية الشرقية - الشمالية للعاصمة. لكن الآتي الى فرنسا من آسيا البعيدة لن يجد في مطار شارل ديغول سهماً يدله الى الـRER المنشود. أو الى محطة هذا القطار القائمة افتراضياً في قلب المطار نفسه. لكن المحطة موجودة هنا حقاً. والقطار أيضاً. ببطاقة ثمنها 5,7 يورو تركبه الى قلب المدينة. لكن - أولاً - عليك أن تعثر عليه, على المحطة. من أجل ذلك انسَ كلمة RER وفتش عن كلمة GARE. هذه مفارقة باريسية أولى. للوصول الى مدينة هوغو عليك أن تتقن فن الشعر والاستعارة: فن استعمال أكثر من عبارة للإشارة الى المعنى الواحد ذاته.
هذا اقتراح. الاقتراح الآخر هو الذهاب الى دليل بايدكر والى القرن التاسع عشر: لا تأتِ الى باريس طائراً في بوينغ 747, بل سابحاً عبر مياه القنال الانكليزي (مثل الكاهن دانتون), أو راكباً الدابة على طريق الشام - اسطنبول - اليونان - البانيا - يوغوسلافيا - ايطاليا كما فعل انطوان طرازي... وهناك اقتراح ثالث مختلف: رفاعة رافع الطهطاوي.
ناقد الطعام الفرنساوي
تخرج الطهطاوي من الأزهر واصطحب سنة 1826 بعثة طلاب مصريين الى فرنسا. البعثة أرسلها محمد علي باشا الألباني. والي مصر أراد الاستفادة من علوم الفرنسيس. الطهطاوي قطع المتوسط بالسفينة من الاسكندرية الى مرسيليا في 33 يوماً.
يسمي المتوسط "البحر المالح". ومثل سلفه الاندلسي ابن جبير يصف تقلب أحواله ويصف الجزر التي يعبرها. صاحب "تخليص الابريز في تلخيص باريز" ولد سنة 1801 في طهطا (صعيد مصر) - ومات عن 72 عاماً في 1873. أقام في باريس من 1826 الى 1831. كان شاباً يافعاً قوي الروح لا يخاف السكارى الفرنجة, وعلى استعداد للعبث بهم (انظرْ الفصل الخامس من كتابه: في أغذية أهل باريس وفي عاداتهم في المآكل والمشارب). أقام بينهم خمس سنوات. دخل بيوتهم وعرف صفاتها. يصف طباعهم وعاداتهم. يخبرنا انه اوشك ان يفقد بصره لشدة مطالعته في مكتباتهم.
أدهشت هندسة باريس الطهطاوي. القصور والمخازن والشوارع والجسور. الأقنية والمجارير والسقوف المائلة. أعمال الكنس والرش والتنظيف والصيانة. كتب عن كل ذلك.
(لم يكن وحده من دُهِش. الأمير محمود نامي, الذي درس الرياضيات هناك, بأمر من محمد علي باشا أيضاً, لن يرجع الى الأزهر ليدون رحلته الباريسية. في 1831 أرسل محمد علي باشا مسلةً فرعونية هدية الى باريس وجيوشاً مصرية الى بلاد الشام. الأمير محمود نامي جاء الى بيروت مع ابراهيم باشا وصار والياً عليها. في عهده الذي طال تسعة أعوام أخذت البلدة الصغيرة تتحول الى مدينة مزدهرة. بيروت تحولت الى بوابة بلاد الشام على المتوسط وعلى أوروبا). الطهطاوي لم يحب الطعام الفرنساوي. كتب: "... ومع كثرة تفننهم في الأطعمة والفطورات ونحوها, فطعامهم على الإطلاق عديم اللذة, ولا حلاوة صادقة في فواكه هذه المدينة إلا في الخوخ".
هذا الميل عن "طعامهم" يقابله عند الشيخ الأزهري ولع بوصف حدائقهم وبريدهم ومتاحفهم وجمعياتهم العلمية الخ... كتب الطهطاوي عن حدائق باريس العامة وكتب عن مراكب السين وكتب عن فخامة الكنائس والقصور في المدينة. حين خرج الطهطاوي من باريس عائداً الى مصر سنة 1831, كان فيكتور هوغو يتلقى من المطبعة النسخ الأولى من رواية "أحدب نوتردام".
نوتردام... وباريس من الأبراج
لم يكن هوغو بلغ الثلاثين بعد حين نشر روايته التاريخية هذه. من الصفحة الأولى يأخذنا الى باريس القرن الخامس عشر, والى صباح السادس من كانون الثاني (يناير) 1482. هوغو مولع بباريس العصور القوطية, باريس ما قبل النهضة, باريس شارلمان وما بعد شارلمان.
يصف نوتردام القديمة (بُنيت في القرن الثاني عشر للميلاد, والداخل اليها اليوم يقف في البدء لحظة وينظر الى العصافير تغطي الباحة الحجر وتغطي النبات الشائك المواجه لتمثال شارلمان على الحصان). هوغو يفعل ما لم يفعله يوماً تولستوي: ينسى حبكة الرواية ويذهب بعيداً من قصة الأحدب وتلك الفتاة الجميلة ويمضي في الكتاب الثالث من روايته الى وصف جغرافي (وتاريخي) لباريس. هذا الكتاب الثالث يقع في فصلين: الأول عنوانه نوتردام. والثاني عنوانه "مشهد باريس كما تراه عين طائر". هوغو يدون هنا تاريخ توسع باريس من جزيرة وسط السين (موقع كنيسة نوتردام) الى باريس التي عرفها أبناء القرن التاسع عشر. هذا توسع يحصل على مراحل, دائرة كبيرة تخرج من دائرة صغيرة: من الجزيرة وسط السين تخرج البيوت وتغادر الأسوار الى الضفة الجنوبية للنهر حيث السوربون: هذا الجزء من المدينة يسمى "الجامعة".
بعد ذلك يحدث التوسع الى شمال السين: الجزء الذي يسميه هوغو وأهل باريس "البلدة", أو: الضفة اليمنى. ذلك ان السين يدخل باريس من الجهة الجنوبية - الشرقية ويغادرها من الجهة الجنوبية - الغربية. يقف هوغو أعلى نوتردام ويسمع موسيقى الأجراس. يتحول شاعراً: كأنه ووردسورث على جسور لندن.
عصور البارانويا
لا يُسمح لسائحٍ بالصعود الى أعلى نوتردام في هذه العصور المشحونة بالبارانويا, عصور الفزع من الإرهاب. الأسهل الصعود الى مونمارتر.
من باحة كنيسة أخرى هناك (SACRE COEUR), عند سقف الهضبة المشرفة على المدينة, تستطيع أن ترى باريس كلها, وان تحدد باستخدام برج ايفل أو برج مونبارناس, مكان "المدينة الجامعية", أو حديقة اللوكسمبورغ, أو البانثيون, أو"بريزان", أو ساحة "دنفير - روشيرو" بالأسد الحجر الأسود, أو حتى شارع جورج ساشيه القريب من محطة "موتون". من هنا, واقفاً أعلى الدرج الذي رسمه الانطباعيون في عشرات اللوحات, ترى باريس والحمائم والغربان, وترى السماء الرمادية التي وصفها باتريك ساسكند في "عطر" (باريس القرن الثامن عشر) ووصفها خوليو كورتاثار في "لعبة الحجلة" (باريس القرن العشرين) ووصفها كاتب المقال عن باريس PARIS في الطبعة الحادية عشرة من "الموسوعة البريطانية" (1911).
شوارع الشتاء
الأشجار العارية من الورق في الشتاء أحزنت الطهطاوي وأزعجته. ماغريت حولها الى لوحات. فلوبير ذكرها في رسائله. ساسكند لاحظ قطرات الماء تتساقط عنها في "حمامة" (1987). أشجار باريس وشوارع باريس وعمارات باريس. مدينة فوق الأرض. وأخرى تحت الأرض. مترو باريس لا يلمع نظافة مثل المترو السويدي. مترو ستوكهولم يشبه جواهر فيرمير.
قارئ جورج بيريك يركب المترو من محطة لوكسمبورغ الى الدائرة 17 ويفتش طوال ساعتين عن شارع سيمون - كروبليه حيث البناية الشهيرة رقم 11 التي صنعت رواية "الحياة: دليل استعمال". عبثاً يفتش قارئ بيريك عن ذلك الشارع, وعن تلك البناية. يذكر بيريك أسماء أربعة شوارع تحيط بالشارع المنشود. والقارئ يدخن سجائره ويسعى بين الدكاكين والسيارات والإشارات الحمر والخضر ولا يعثر على البناية. يعثر على الشوارع الأربعة, بلى, لكنه لا يعثر على الشارع الخامس, شارع سيمون - كروبليه. لا يعثر على الشارع. تغيب الشمس (الشمس غائبة أصلاً). يغيب نور النهار وتحلّ الظلمة. الكهرباء تشعل الشوارع.
ومحلات الخبز والحلوى (كل هذه الأفران الصغيرة) ترسل دفئاً في الفضاء. الطهطاوي لم يكن على حق. يشتري القارئ خبزاً ساخناً ثم يركب المترو عائداً الى الدائرة 14. لا بأس. كان يعلم ان شارع بيريك خيالي. وأن حياة بيريك خيالية. "الحياة: دليل استعمال" ظهرت سنة 1978.
بعد أربع سنوات مات بيريك عن 46 عاماً. المترو (الموجود هنا منذ 1898) يسرع تحت أرض المدينة والموسيقى تتعالى من آلة سوداء بين الركاب. أمام الآلة يرقص رجل مجري قصير يشبه دب الباندا بكنزته الصوف البيضاء ذات الياقة السوداء العالية.
قبالته ترقص امرأة تشبهه, يلمع ماء في عينيها. الذل والفقر والبرد. منظر يكسر القلب. تخسر رغيف الخبز وتعلم انك لا تربح شيئاً. في شارع جورج ساشيه تنسى بيريك. رذاذ خفيف يتساقط. حدّة البرد تنكسر. ذلك يردّ الكائن الى زمنٍ سحيق, الى أيام بائدة لا تعود. على الدرج الخشب المغطى بسجاد أحمر سميك,أمام باب شقة Maro Leibowitch, ترى مسماراً: كأنك في "لعبة الحجلة" (1963). أوليفييرا وصديقته لاماغا اعتادا جمع المسامير من شوارع باريس, اعتادا جمع المسامير والخيطان والعلب الفارغة. غابرييل غارسيا ماركيز, صديق كورتاثار, كان يبيع القناني في هذه المدينة قبل أن يكتب "مئة عام من العزلة" (1967).
بقايا حياة
مسمار على درج. كلمات منقوشة في عتبة رخام. صف أشجار قاتمة. لافتة مكسورة. درابزين أخضر قديم. أينما نظرت رأيت بقايا حياة. مَنْ كان جورج ساشيه الذي سموا هذا الشارع الفرعي القصير باسمه؟ تبحث عنه في الموسوعات ولا تجده. لكن اسمه معلق على قطعة حديد. وكذلك تاريخ ميلاده ووفاته. عاش حياة قصيرة. رأى القرن التاسع عشر ينتهي, ورأى قرناً جديداً يولد. وكان طياراً. طياراً! ربما ارتفع بمنطاد فوق باريس, كما تخيل هوغو (1802 - 1885) في "أحدب نوتردام" وهو يصف العاصمة من الأعالي. ماذا يبقى من هوغو؟ رواياته؟
الماشي في "شارع فيكتور هوغو" شمال السين يرى تظاهرة صغيرة هادئة ضد العولمة وضد أميركا وضد ديك تشيني وضد تأخير المسافرين في المطارات. رجال ونساء في العقد الخامس أو السادس, البخار يخرج من فتحات وجوههم, وثيابهم قليلة. ألا يبردون؟ احدى النساء ستظهر بعد ساعة أو ساعتين في مكتبة جيبير في سان ميشال, ثم بعد ساعة أخرى في "الحي اللاتيني" المجاور. صدفة غريبة. المرأة مميزة. كنزتها صفراء مثل الظلة البلاستيك لمكتبة جيبير الشهيرة.
شالها أحمر مثل اللون الغالب على مطاعم "الحي اللاتيني". بنطلونها بلون الشوكولا المرّ. لكنها الآن لا تهتف ضد ديك تشيني. فقط تمشي هادئة مع رغيف خبز (باغيت), وفوق رأسها قبعة بيضاء. هل تقرأ فيكتور هوغو؟ أم تفضل عليه ألبير كامو؟ هل تحب بيريك؟
إذا زالت باريس من الوجود, من يحفظها من النسيان؟ هوغو؟ لا. كامو؟ لا. بيريك؟ لِمَ لا؟ ألم يجمع في بنايته الخيالية (11 شارع سيمون - كروبليه) كل ما وُجِد في هذه المدينة؟ ألم يضع بين غلافين شارعاً ودائرة وعاصمة وعالماً؟.
عاصمة العالم
مثل الطهطاوي, كان سليم بسترس وانطوان طرازي والشيخ المئوي لويس الصابونجي, وحتى أحمد فارس الشدياق, ينظرون الى "باريز" فيرونها عاصمة العالم الثانية بعد لندرة (لندن). الكاهن الانكليزي دانتون الذي عبر القنال الانكليزي الى "القارة" سنة 1860 ووصل في رحلته الى صربيا ورأى في قبوٍ أسفل قلعة بلغراد خمسين زعيماً درزياً, لم يعرف كل هؤلاء الشوام, وان كان شاركهم نظرتهم الى عظمة لندن.
مدن - مخازن
مثل باريس نَمَت لندن على ضفة نهر. هذه المدن النهرية, عواصم الامبراطوريات, تشبه المخازن. من ينسى الصفحات الأولى من "قلب الظلام" (1899)؟ جوزف كونراد يصف المدينة - المخزن, العاصمة التي تحمل اليها سفن الامبراطورية الثروات والبضائع والعبيد من انحاء العالم. الماشي في باريس ينظر الى الحديد الكثير المشغول في الشرفات الصغيرة وخارج النوافذ ويعرف أن ثروات لا تحصى تتكدس في هذا المكان. الخشب في الأبنية. الحجارة في الطرقات. الزجاج الملون في الكنائس. الأبراج والتماثيل والنوافير أينما نظرت. الطهطاوي نظر الى العمارات فلم يرَ رخاماً كافياً وأشاح بنظره: وجد العمارة فقيرة!
لكن باريس ليست فقيرة تماماً. قصر العدل تشع بواباته. أصفر الذهب يلمع على الحديد, هل يكون نحاساً؟ هذا القصر احترق ثم جُدِد (انظرْ هوغو). على مسافة قريبة تظهر نوافير فاخرة (في البريتانيكا القديمة يُذكر اسم الكونت الذي تبرع بالنوافير المذكورة للمدينة). داخل اللوفر تحتشد لوحات تختصر تاريخ الفن الكوني. وعلى بعد شارعين يقف مبنى عريق عاش فيه قبل ثلاثة قرون رجل موسوعي رسم خريطة للعالم تضم كل المدن الكبيرة بكل الشوارع الكبرى في هذه المدن: من بلفاست الى موسكو.
أسماء الأمكنة
الروائيون مولعون بأسماء الأمكنة. وبعض الشعراء مثلهم. افتحْ أي رواية لباتريك موديانو على أي صفحة تشاء, وانظرْ: لا بد أن تقرأ اسماً لشارع باريسي! في تراثنا العربي الكلاسيكي هذا موجود أيضاً. ليس في أدب الرحلات فقط (ابن بطوطة, أبو حامد الغرناطي, ابن فضلان, المقدسي...), بل عند بعض الشعراء أيضاً.
المتنبي مثلاً, وكذلك امرؤ القيس. روبرت لويس ستيفنسون (1850 - 1894) يسجل أسماء الأمكنة في لندن القرن التاسع عشر. موديانو يفعل ذلك في باريس النصف الثاني من القرن العشرين. ماذا يفعل الاثنان؟ يحفظان امكنة يهددها الاندثار (يهددها وقت ريلكه المدمِر) في كل لحظة... بين ليلة وضحاها تتساقط الجسور, تضمحل مدن. اليوت عرف ذلك بينما يكتب "الأرض اليباب".
كنبة صفراء في Gibert
رجل يجلس في المكتبة على كنبة صفراء. تصفية في "جيبير" بمناسبة نهاية العام. النافذة تطل على تقاطع, على مصرف عند الناصية, على مارة يعبرون سان ميشال. الحمائم تخفق في نور الغروب فوق السوربون.
السماء رمادية - برتقالية, تذكر بالصفحات الأخيرة في "حمامة" وبدوران جوناثان نويل حول مقبرة مونبارناس. المطر يقطر عن حافة الافريز. الرجل يفكر ان العالم واقعي وخيالي. واقعي لأنه يقعد هنا وينظر من هذه النافذة الى نهار يحتضر في باريس, وهو يلقي نظرة بين حين وآخر الى كتاب ت. س. اليوت المفتوح على الطاولة. اليوت يكتب عن ضبابٍ أصفر وراء زجـاج نافـذة في لندن 1929, والنور يتلاشى الآن في باريس. اليوت يعرف المدينة وعزلة ابن المدينة. ما صنعه في قصائده يشبه ما يصنعه بورخيس في القصص القصيرة التي كتبها بعد 1972.
قصص "كتاب الرمل" أو "ذاكرة شكسبير". هذه قصص عن الوقت, نهر الوقت, وما يصنعه الوقت بالانسان. تنظر من النافذة الشتائية الى المدينة: ترى باريس وترى طوكيو وترى اسطنبول وترى نيويورك وترى القاهرة وترى بوينس ايرس وترى هيروشيما وترى بيروت وترى كيوتو وترى لندن وترى بافوس القبرصية.
كل هذه المدن, كل هذا الصخب, كل هذا الليل الذي يفور بالكهرباء والأجساد والسيارات والأصوات. هدير بلا نهاية. الارجنتينيون المنفيون الى باريس يشربون المتّة في قصص كورتاثار, لعل المتّة الساخنة (طقوس المتّة المرّة: ملمس القرعة وملمس البومبيجة) تردّهم الى البامبا والى هضاب بتاغونيا والى البيت البعيد. من يشرب المتّة في باريس الآن؟
في "بولفار جوردان" وراء "المدينة الجامعية" - عند تخوم عاصمة الفرنسيس - رجل أفغاني يبيع "هوت دوغ", ويتكلم بعض الكلمات العربية. سندويشته زهيدة الثمن:
يورو ونصف اليورو فقط. قطعة نقانق مع جبنة. من أجلك يضيف خردلاً وصلصة طماطم. يتكلم بالعربية ويقول انه كان يعمل سائقاً في البحرين وانه يدعى مرجان وانه عمل في بيروت (في الشحن البحري) قبل الحرب. يبدو ضائعاً هنا. البرد قارس. درجة الحرارة واحدة تحت الصفر.
الغربان تتطاير فوق أشجار "بارك مونسوري". وبائع الهوت دوغ يحكي ويحكي ويحكي. كأنه يُكلِّم نفسه. كأنه مهدد بالموت, بالتلاشي في الهواء الأبيض, لحظة يكفّ عن الكلام.