المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النجف.. مرجعيات فقهية وحوزات علمية



فاطمي
10-10-2007, 07:46 AM
أيام في العراق (11)

المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً

http://www.aawsat.com/2007/10/09/images/news1.440529.jpg
رجل دين شيعي يتحلق حوله مجموعة من طلبة الحوزة في مدينة النجف (ا.ف.ب)

النجف: معد فياض


النجف هي أم المرجعيات الشيعية منذ أن انتقل اليها الطوسي هاربا من بطش المغول في بغداد قبل ألف عام. قبل النجف كانت المرجعية في سامراء، ثم انتقلت الى بغداد واستقرت في النجف حيث قبر الامام علي بن أبي طالب.

والنجف هي ايضا، وبمسار مواز لأهمية مرجعيتها، اكبر جامعة علمية، وأم الحوزات الدينية. ويتخيل البعض ممن هم ليسوا بقريبين من اجواء مدينة النجف والعارفين بحياتها بأن الحوزة العلمية في هذه المدينة هي جامعة مثلها مثل الازهر مثلا، او مدرسة معلومة المكان، ولها بناية خاصة بها. في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تعرف «الشرق الاوسط» بالمرجعية وتتجول في بعض حوزاتها العلمية، مكتشفين اسلوب اختيار المرجع الأعلى، وطريقة التدريس في أكبر وأول جامعة مفتوحة في الإسلام.

لم يحدث في تاريخ الشيعة ان اتفقوا على مسألة مثل اتفاقهم على المرجعية وأهميتها. وحسب الباحث والكاتب حسن بحر العلوم، هو حفيد المرجع الديني محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هجرية، والذي التقيناه في (ديوانية) عمه السيد محمد بحر العلوم في النجف، يعرف المرجع قائلا «هو الفقيه المجتهد المسؤول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم.

وقد أكد الفقه الإمامي هذه الحقيقة، حيث يبدأ أي كتاب فقهي بتلك العبارات: يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته، ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا، والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين»، مشيرا الى ان المرجع الذي يتم تقليده، يجب ان يكون عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا». وهذا يعني ان على اي شيعي امامي، اي يتبع الائمة الاثنى عشر، ان يقلد مرجعا، وهذا واجب وليس جائز.

المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية، كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الشيعة بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً، الذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته.

لعل أشهر مراجع الشيعة وأقدمهم في العراق هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ولد سنة 460 هجرية، الذي اهتم بعد حدوث «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي في سامراء عام 329 هجرية بجمع أحاديث الشيعة الى جانب كل من محمد بن يعقوب الكليني، ولد سنة 329 هجرية، والشيخ محمد بن علي القمي، ولد سنة 381 هجرية. وقد انتقل مقر المرجعية من سامراء، حيث غاب الامام، الى العاصمة بغداد ثم هاجر الطوسي الى النجف خشية من بطش المغول وحفاظا على المرجعية فاستقرت هناك قرب ضريح الامام علي.

ويمكننا ان نسمي أهم ثلاثة مراجع في القرن العشرين وهم: محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني، ويشير علماء الشيعة الى ان ابرز هذه الاسماء على الاطلاق هو ابو القاسم الخوئي «الذي توفرت له من امور قيادة المرجعية ما لم تتوفر لمن سبقه ولن تتوفر لمن سيأتي من بعده».

ويشرح الباحث الاسلامي جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي، قائلا «يجب ان يكون المرجع مجتهدا ولكن ليس كل مجتهد هو مرجع».

ويضيف الخوئي، الحفيد، قائلا ان «ابو القاسم الخوئي يتحدر من اصول عربية في مدينة الكوفة، بقي على كرسي التدريس اكثر من 70 عاما حتى لقب بأستاذ الاساتذة وزعيم الطائفة، ويعد غالبية المراجع والمجتهدين المعروفين من تلامذته، بمن فيهم السيستاني الذي يعد خير من يمثل مدرسة الخوئي في الاجتهاد والتدريس والاعتدال، كما ان الخوئي بقي مرجعا اعلى لأكثر من 25 عاما، وهو الأطول عمرا بين بقية المراجع، حيث مات قبل ان يبلغ المائة من عمره بخمس سنوات، ولم يستطع أي مرجع منافسة الخوئي في قيادته للأمة الشيعية في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب علمه وفقهه وخبرته ومؤلفاته وانصرافه للدين وللعلم بروح متقشفة وزاهدة عن امور الدنيا».

لا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم، وان كان قد حدث مرة ومن غير الرجوع الى الطائفة، ذلك عندما اختار صدام حسين التعامل مع محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كمرجع للشيعة لكونه عربيا وعراقيا ولا يتحدر من أصول أجنبية. حدث ذلك عام 1992 بعد وفاة المرجع الأعلى آية الله ابو القاسم الخوئي، حيث انتقلت المرجعية العليا الى آية الله الكلبيكاني في قم وبقي الشيعة يتعاملون من الكلبيكاني كمرجع اعلى حتى مات بعد ستة اشهر من تقلده المرجعية، فعادت المرجعية الى مدينة النجف متمثلة في آية الله علي السيستاني.

كما ان المرجعية لا تورث لابن او لأخ او لابن عم، وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد، وهذا لا يتم عن طريق ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه.

ويضيف الباحث الاسلامي غانم جواد قائلا «تضم المرجعية إضافة الى مكتب المرجع، العديد من الأجهزة والمؤسسات تأتي في مقدمتها الحوزة العلمية؛ وهي التي تخرج علماء الدين والمراجع بعد أن يجتازوا المراحل الدراسية المتعددة، وتتميز بالنظام التعليمي المفتوح، بنيتها الأساسية الكتب المقررة والأستاذ ومكان الدراسة (سنأتي بالحديث عن الحوزة العلمية بالنجف في حلقة أخرى). وشبكة الوكلاء، وهم علماء الدين المنتشرون في كافة أنحاء العالم الذين يرتبطون بمكتب المرجع الديني ويقومون بالتوجيه الديني وتقديم الخدمات على ضوء فتوى المرجع ويتلقون منه التعاليم لينشروها بين المسلمين. والمنتديات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والخيرية والأدبية والمبلغين، وتعد منابر ووسائل اتصال أخرى بالمسلمين». وحسب جواد، فان المرجع الديني هو «الفقيه الذي رجعت إليه جمهرة واسعة من الشيعة في شؤونها الدينية، بعد أن وثقت بعدالته وورعه وعلميته». وقد يتوفر في آن واحد عدد محدود من المراجع المتصدين لمهام المرجعية لا يتجاوز أصابع اليد، والمرجع المتصدي عليه أن يقوم بالتدريس التخصصي الديني في أعلى مراحله في علمي الفقه وأصول الفقه، وأن تصدر عنه رسالة عملية وعدد من المؤلفات المتخصصة تعرف من خلالها آراؤه، وأخيراً فقهاء يدرسون عنده منظمون الى جهازه ويعدون مستشاريه. لذا لا يصح التصديق بكل من ادعى لنفسه المرجعية خصوصاً العاملين في الحقل السياسي أو صنيعة الأنظمة الحاكمة. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه. ومن بين اربعة مراجع في العراق وهم: علي السيستاني واسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي، تم ترشيح السيستاني ليكون المرجع الاعلى بسبب أعداد مقلدي هذا المرجع التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين. على ان هناك بعض رجال الدين من المجتهدين الشيعة يعتقدون بعدم وضع المرجعية العليا بشخص واحد بل بوجوب توزيعها على عدة مراجع، كأن يكون مرجع للشؤون الفقهية، ومرجع آخر لشؤون الحوزة والعلوم، ومرجع للشؤون المالية والخمس بدلا من اشغال مرجع واحد بكل شؤون المرجعية. كما ينبري الكثير من رجال الدين الشيعة وشيعة علمانيون ليتصدوا لموضوع تدخل المرجعية بشؤون السياسة وينادون بضرورة عزل السياسة عن الدين باعتبار ان الدين مقدس ومنزه بينما السياسة هي لعبة الوعود والمراوغة. ويجد هؤلاء ان المرجعية الشيعية قد تورطت عندما دعمت جهة شيعية في الانتخابات النيابية الاولى والثانية ضد بقية الجهات الاخرى، بينما كان يجب ان تمارس المرجعية أبوتها لجميع العراقيين بغض النظر عن الدين او الطائفة او المذهب او القومية.

ولعل المفكر والباحث الاسلامي اياد جمال الدين، والذي يتحدر من عائلة دينية شيعية مثقفة وواعية، وهو رجل دين ايضا، أول من نادى بضرورة قيام حكم علماني في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وعارض فكرة التداخل ما بين الدين والسياسة.

اما تمويل المرجعية فيتم عن طريق الزكاة والخمس، أي ان يدفع كل شيعي خمس ارباحه للمرجعية، وللمرجع الحق في التصرف بهذه الاموال حسب احتياجات الطائفة، مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية والمكتبات وتعميرها، وكذلك بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وصرف الرواتب الشهرية لأساتذة الحوزة العلمية وطلبتها والإنفاق على الفقراء وسد احتياجاتهم. ولا نستطيع معرفة الرقم الاكيد لدخل المرجعية، وهذا موضوع صعب للغاية، لكننا نستطيع ان نحدس ان نفقات المرجعية كبيرة جدا، وخاصة في الظروف الحالية في العراق، حيث نفقات المرجعية على الفقراء وطلبة العلم في حوزتي النجف وقم في ايران.

أبناء الطائفة الشيعية لا ينظرون الى قومية المرجع الديني الاعلى، سواء كان عراقيا عربيا أم باكستانيا أم ايرانيا، بل يهتمون بعلمه وفقهه، ونرى ان السيستاني ايراني الاصل، لكنه يعيش في العراق منذ اكثر من نصف قرن. ويبلغ عمر السيد السيستاني 74 عاما، وله ولدان أكبرهما محمد رضا وبنات غالبيتهن تزوجن من رجال دين. ولا ينقطع السيد السيستاني عن امور الدنيا متزهدا بعيدا عما يجري حوله، فهو يشاهد التلفزيون ويسمع الاذاعات ويقرأ الصحف ويستخدم الكومبيوتر.

ولا يقترن اسم النجف بوجود المرجع او المرجعية الشيعية، بل ايضا بوجود حوزتها العلمية الشهيرة. والحوزة العلمية في النجف هي مجموع الحلقات وأماكن الدرس، سواء كان هذا المكان غرفة في بيت رجل الدين (الاستاذ) او في زاوية من صحن الامام علي، او في مسجد، او في مدرسة دينية من مدارس النجف العديدة، او في مكتبة من المكتبات المنتشرة في هذه المدينة. وقد نستطيع القول ان اي حلقة علمية تعقد في النجف في اطار دراسة الفقه والعلوم الاسلامية واللغوية تسمى حوزة.

وبذلك تضم مدينة النجف بمجموعها عشرات الحوزات العلمية التي يطلق عليها جامعة النجف او الحوزة العلمية في النجف. وأسلوب الدراسة في هذه الحوزات هو «التعليم الحر».

يقول غانم جواد الباحث في الثقافة الاسلامية ان «جامعة النجف تعد من أقدم جامعات العالم في دراسات المعارف الاسلامية. على غرار جامع الأزهر الشريف في مصر، والزيتونة بتونس، وجبل عامل في لبنان والقيروان في المغرب. وتمتعت النجف بكونها مركزاً من مراكز الفكر والثقافة العربية/الاسلامية، ومعهداً نشطاً تميز عن غيره في استمراره بفتح باب الاجتهاد الفقهي»، وقد خرج مئات من الفقهاء والمجتهدين والمراجع والأساتذة والمدرسين والأدباء والشعراء أمثال الشيخ النائيني الفقيه الذي كتب في القانون الدستوري الإسلامي، والمرحوم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والعلامة الراحل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقضى المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني سنتين في النجف دارساً ومدرساً، ومنها تخرج المرجع الديني في بلاد الشام السيد محسن الأمين العاملي، ورائد القصة العراقية جعفر الخليلي، وكان شيخ الجامع الأزهر الحالي الدكتور الطنطاوي يتردد على حوزة النجف العلمية، مناقشاً وباحثاً في حوزة الامام الراحل السيد الخوئي، عندما عمل أستاذاً في جامعة البصرة جنوب العراق في سني السبعينيات الميلادية.

وفي كل يوم تعقد في مساجد وحسينيات ومدارس وبيوتات النجف الحلقات الدراسية ضمن الحوزة العلمية التي تضم اليوم وحسب الشيخ علي النجفي، نجل المرجع الديني آية الله بشير حسين النجفي سبعة آلاف طالب، ولولا الظروف الامنية الصعبة لكان عدد الطلبة اضعاف هذا الرقم. ونستطيع ان نعد اكثر من 20 الف طالب يدرسون في حوزات مختلفة من العراق.

نظام الدراسة الحوزوية مفتوح وغير مقيد؛ أي انه لا توجد اية شروط للدراسة في الحوزة، وكل من ينتسب الى هذه الدراسة يسمى طالبا ومجموعهم طلبة»، وعمر الطالب الذي ينتسب الى الحوزة غير محدد؛ فيمكن ان يبدأ الدارس منذ الخامسة عشر من عمره وحتى الثمانين شرط ان يجيد القراءة والكتابة، كما ان موقع الطالب في مرحلته الدراسية لا يتعلق بمستواه العلمي غير الحوزوي، يمكن ان يبدأ طالب الحوزة الدراسة وهو في الصف السادس الابتدائي او في المرحلة المتوسطة من دراسته الاعتيادية، وقد يكون حاصلا على شهادة الدكتوراه في علوم اخرى.

اما نهاية هذه الدراسة فهي مفتوحة، هناك من يمضي اكثر من ثلاثين عاما من الدراسة الحوزوية وهو ما يزال في مرحلة بحث الخارج، وهناك من يمضي خمسين عاما من حياته دارسا في الحوزة؛ فالموضوع يعتمد اولا واخيرا على جهد واجتهاد الطالب نفسه للتقدم في هذه الدراسة الصعبة، ولم تضع الحوزة اية شروط تتعلق بمذهب الدارس سواء كان شيعيا او سنيا، ذلك ان مناهج الدراسة الحوزوية متعددة ومتشعبة وتتناول الفقه الشيعي والسني، لهذا نرى ان المجتهدين من رجال الدين الشيعة لهم المام كبير في المذاهب السنية الاربعة وبقية الفرق الاسلامية او تلك المنشقة عن الاسلام، على انه من المهم ان نعرف انه ليس هناك منهج محدد ومعمم على الحوزات العلمية، بل ان لكل استاذ منهجه وتصوره وأسلوب تدريسه.

يشرح جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الذي بقي على منبر الدرس لاكثر من سبعين عاما، اسلوب الدراسة في حوزة النجف، فيقول «عندما ينتسب الطالب للدراسة الحوزوية عليه ان يسجل اسمه لدى احد المراجع لتتم مساعدته، حيث يصرف له راتب شهري يتناسب مع حياته وعمره ومتطلباته المتقشفة، كما يخصص له مكان للسكن اذا كان من خارج النجف او للقادمين من بلدان بعيدة مثل ايران وباكستان والهند ولبنان وغيرها من الدول، وعادة يجمع الطلبة في مسكن واحد او مساكن متقاربة كي يتيحوا لهم فرصة الدراسة والنقاش والسجال مع بعضهم البعض، وهناك بعض الطلبة يسجلون اسماءهم لدى اكثر من مرجع ليأخذ اكثر من راتب عندما لا يكفيه راتب واحد».

يؤكد الباحث غانم جواد أن «منهج الدراسة في الجامعة الدينية النجفية لا يخضع لنفوذ الدولة، ولا إدارتها، ولا يمول من قبلها. فهي من مكونات المجتمع الديني؛ فبالرغم من كثرة المدارس، لا يوجد رؤساء، أو عمداء، وإنما يشرف عليها علماء الدين، ويستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضم للمدرسة، إذا استطاع أن يجد له مكاناً للإقامة، ما دامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن الوازع الديني، والرغبة الجامحة للتحصيل العلمي والالتزام الأخلاقي والديني (التقوى والزهد)، هي الوسائل التي تدار بها هذه المدارس»، ويستشهد جواد بحديث للدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق الأسبق حيث يتحدث في مقال له عن جامعة النجف الدينية ما نصه «لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية، والبريطانية، والفرنسية، وجامعة أكسفورد، وكامبردج، وتلقيت تعليمي في الجامعات (الأميركية)، إلا أنه ما من جامعة من هذه الجامعات، حتى الألمانية، تستطيع أن تفتخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم، والأصالة اللتين تطبعان شخصية المنتسبين إليها بطابعها المتميز في جامعة النجف».

لا تمنح حوزة النجف العلمية أية شهادة سواء كانت بكلوريوس او ماجستير او دكتوراه او بروفيسور، وكل ما هناك أن الطالب يحصل على اعتراف مكتوب من قبل أستاذه يرشحه فيه بالعبور الى المرحلة اللاحقة او انه أنهى مرحلته الدراسية الحالية، كأن يكون أنهى دراسة المقدمات، ومثلما اوضحنا انه ليست هناك فترة زمنية محددة لنهاية اية مرحلة.

الطالب الحوزوي يكون عرضة دائمة للاختبار سواء من قبل استاذه او من قبل رجال الدين الآخرين الذين هم أرقى درجة علمية منه، فكأن يكون الطالب جالسا في مجلس ما وهناك رجال دين فيسأله احدهم عن المرحلة التي هو فيها ثم يبدأ بتوجيه الاسئلة له ضمن حدود مرحلته، لهذا على الطالب ان يبقى متهيئا لمثل هذه المواقف حتى يبرهن جدارته وجدارة أستاذه، وهذه الاختبارات المفاجئة ليس القصد منها إحراج الطالب أو الأستاذ بل وضع الطالب في موقف علمي جيد.

الأستاذ من طرفه لا يضع ختمه او توقيعه على اية شهادة ما لم يكن متيقنا تماما من كفاءة تلميذه حتى لو كلف ذلك التلميذ سنوات عديدة من الدراسة، علما ان الاستاذ لا يتلقى أي راتب او أجورا سواء من الطالب او من المرجعية، إلا اذا كان نفسه ما يزال طالبا في مرحلة متقدمة من الدراسة في الحوزة. ويوضح جواد بعض مفردات مناهج الحوزة قائلا إن انعقاد حلقات الدرس والبحث اليومي تتواصل منذ طلوع الفجر حتى ساعات متأخرة من الليل، في علوم الفقه والأصول وعلم الكلام والمنطق والحكمة والنحو العربي والبيان والبديع وعلم العروض والأدب العربي، والتاريخ والأخلاق والعرفان والفلسفة وعلم الرجال والتفسير وعلم الحديث النبوي، والرياضيات وعلوم الهيئة والفلك والطب العربي والعلوم الاجتماعية الحديثة، كما تتواصل في مجالسها ومنتدياتها وبيوتاتها المناظرات والمناقشات العلمية والأدبية، والمساجلات والمباريات الشعرية، الأمر الذي يعكس النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في هذه الحاضرة العريقة، إذ لا تمر مناسبة دينية أو وطنية أو قومية، إلا ويعقد رجالاتها المحافل والمنتديات المعبرة عن روح التواصل الحضاري مع تراث الأمة، وقيمها ومبادئها ومثلها العليا، كما تعكس كذلك ملامح الانبعاث الجديد للإسلام وسط عتمة الهيمنة الأجنبية والتسلط الاستعماري. ومدارس النجف الدينية، أشبه بكليات متناثرة في أحياء المدينة، وكل مدرسة من الناحية العمرانية، تتكون من طابق واحد أو طابقين، يحتوي الطابق الواحد منها على عشرات الغرف ومكتبة وقاعة ومرافق خدمية متواضعة (كما يصطلح عليه اليوم بالأقسام الداخلية). ولأغلب هذه المدارس أوقاف ملحقة بها، تخصص مواردها للإنفاق على إدامتها وصيانتها وتغطية بعض احتياجات الطلبة المقيمين فيها، ينفق عليها في الغالب من قبل مراجع الدين، ويسكن هذه المدارس الطلاب غير المتزوجين، أما المتزوجون منهم فيقيمون في منازل خاصة بهم، ومن الجدير بالذكر أن حلقات الدرس والبحث كانت تجري في فناء وغرف صحن مرقد الامام علي(ع)، وفي المساجد والحسينيات والمكتبات المنتشرة داخل المدينة في الغالب. وتحتل المدارس المكان المفضل للدراسة، وفي بيوت الأساتذة تصاحبها متعة خاصة تتمثل في الاستئناس بصحبة الأستاذ المعلم واكتساب مهارته، ومن أشهر المدارس فيها، المدرسة الشبرية، ومدرسة الخليلي، ومدرسة الأحمدية، دار الحكمة، دار العلم، مدرسة القزويني، مدرسة الأخوند، مدرسة كاشف الغطاء، مدرسة البغدادي ومدرسة الصدر.

ان القصد من الدراسة الحوزوية هي «ان الغاية القصوى في سلم هذه الدراسات بلوغ المرتبة العلمية العالية هي (الاجتهاد) ومن ثم تسلم زمام المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة لمن كتب له التوفيق الإلهي، أي أن يصل طالب العلوم الدينية الى المستوى الذي يؤهله، لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها الأساسية (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل)، وان تحقيق هذا المستوى، يتطلب استيعاب الطالب علوم اللغة العربية من مفردات اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم القرآن والتفسير». ان «طبيعة النظام الدراسي في النجف يتصف بأن أغلب العلماء هم طلبة، ومدرسون في آن واحد، فالمتقدمون منهم ممن يحضر بحوث (المرجع الأعلى أو المجتهد) ُيدرسون أولئك الذين هم أقل مرتبة منهم. كما أن هؤلاء يُدرسون الذين لا يزالون أقل من مرتبتهم العلمية، وهكذا. وعلى ذلك فان أي شخص يدرس في النجف سيصبح بعد مضي سني الدراسة الأولى تلميذاً وأستاذا في وقت واحد».


http://www.aawsat.com/details.asp?section=3&article=440529&issue=10542

فاطمي
10-10-2007, 07:54 AM
أيام في العراق (12) المرجعية الشيعية لا تحب الصحافة

«الشرق الأوسط» تلتقي في النجف ثلاثة مراجع

http://www.aawsat.com/2007/10/10/images/news1.440653.jpg
باب القبلة إحدى بوابات حضرة الإمام علي في النجف («الشرق الأوسط»)

النجف: معد فياض


مراجع الشيعة في النجف لا يتحدثون الى الصحافة، لا يقولون شيئا أمام وسائل الاعلام، ابناؤهم هم الذين يتحدثون ويدلون بآراء آبائهم، ولكن هذه الآراء تأتي باسم الابناء.هنا القاعدة تتغير مع الاعلام، فعندما يصمت الآباء يتحدث الابناء.

المرجع الشيعي في النجف يتحدث في أمور فقهية، أو أمور عامة تهم الامة، خاصة أمام الصحافي، وإذا ما تحدث امام صحافي فسوف تكون هناك ملاحظة هي أقرب منها إلى التوجيه «هذا الكلام لا ينشر باسمي»، بل ان هذه الملاحظة تسمعها من اقرب الناس الى المرجع «لا تسأله اي سؤال صحافي»، وهذا ما سمعته قبل مقابلتي لثلاثة مراجع شيعية في مدينة النجف قبل وصولي اليهم. إلا ان «الشرق الاوسط» تمكنت من زيارة ثلاثة مراجع كبار خلال يومين متتاليين، وكانت هي الأولى في تحقيق ذلك.

قال لي جواد الخوئي الذي ساعدني في الحصول على مواعيد للقاء المراجع الثلاثة: النجفي والحكيم والفياض «لا تحرج نفسك وتحرجهم فهم لا يجيبون عن اسئلة الصحافيين». ذلك لأن المرجع الشيعي يخشى ان يفسر الصحافي كلامه كيفما أراد، ولأن كل كلمة يقولها المرجع لها اهميتها وتأثيرها على الملايين من شيعة العالم، فيجب ان تصل مثلما يريد المرجع ذاته. ترى هل هي عدم ثقة بالاعلام؟ ام هو قرار متفق عليه بين المراجع. لكن المسألة بالتالي لا تعود لتفسير فقهي على الاطلاق بدليل ان المرجع الشيعي الاعلى الراحل آية الله الخوئي كان يظهر في وسائل الاعلام ويستقبل صحافيين عربا وأجانب.

علي النجفي، نجل المرجع آية الله بشير حسين النجفي يوضح لـ«الشرق الاوسط» هذه الاشكالية قائلا «مشكلة المرجعية مع الاعلام تتلخص في ان غالبية الاعلام العالمي تحت سيطرة دول كبرى، وهذه نقطة سلبية والحرب الاعلامية لها اختصاصاتها وليس هناك اعلام محايد تماما لهذا تخشى المرجعية من استغلالها او تشويهها».

ويذهب جواد الخوئي، حفيد المرجع الراحل آية الله ابو القاسم الخوئي، والذي يعد أشهر مراجع الشيعة كونه تسيد المرجعية لأكثر من ربع قرن، الى ان «علاقة المرجع مع وسائل الاعلام، والصحافة بالذات هي علاقة مزاجية، أي غير مقننة او انها تخضع للفقه كونها حراما او حلالا، فهناك بعض المراجع يستقبلون الصحافي من غير ان يتحدثون اليهم بآراء مباشرة قابلة للنشر، مثلما حدث مع «الشرق الاوسط» حيث استقبلكم ثلاثة مراجع، بينما هناك المرجع آية الله السيستاني لا يستقبل، مجرد استقبال، الصحافي».

ويضيف الخوئي قائلا «اذن المسألة ليست قاعدة واستثناء بل تعود للمرجع ذاته هو الذي يقرر من يستقبل ومن لا يستقبل، لكنهم بصورة عامة لا يتحدثون بآرائهم للصحافة كونهم مراجع دينية، روحية لا يتحدثون في السياسة، ويخشون ان يحرف الصحافي كلامهم وآراءهم».

ويشير حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الى ان «جدي كان يستقبل اجهزة الاعلام، وأتذكر انه في عام 1991 وحده استقبل اكثر من عشرة اجهزة اعلامية بينها محطات تلفزيونية فضائية وصحف واذاعات لم يكن يمانع من مقابلة اجهزة الاعلام او تصويره سواء بواسطة كاميرا فوتغرافية او بواسطة الفيديو، وشجع على ذلك ايضا انفتاح والدي، محمد تقي الخوئي، وعمي، عبد المجيد الخوئي، على الاعلام وعدم الوقوف بوجه الصحافيين».

فإذا كانت المرجعية تتحسس من الاعلام الى هذا الحد فلماذا لا تكون لها وسائلها الاعلامية الخاصة بها من تلفزيون واذاعة وصحافة؟ يجيب علي النجفي قائلا ان «هذا الموضوع قيد الدراسة الآن وطرحت افكار كثيرة حول هذه الفكرة، هناك آليات لإيصال صوت المرجعية وعندما تريد المرجعية ايصال صوتها او اية فكرة فهي قادرة على ذلك».

الا ان هذا لا يعني ان المرجعية تعيش في عصر آخر غير عصرنا، بل على العكس فالمراجع يتابعون احداث العالم عن كثب، وما من مرجع شيعي اليوم ليس له موقعه الخاص، او اكثر من موقع، على شبكة الانترنت الدولية، وعن طريق هذه المواقع صار بإمكان مقلديه واي شخص كان ان يبعث بأسئلته الى المرجع ليقرأ الاجابة عليها بعد فترة قصيرة.

التكنولوجيا الرقمية دخلت الى مكاتب المراجع، كاميرات الديجتال الفوتغرافية او الفيديوية، واجهزة اللاب توب والدسك توب بآخر تقنياتها، ولدى كل مرجع هناك قسم للكمبيوتر يؤرشف ويبث البيانات والمحاضرات والاسئلة الفقهية وأخبار المرجع مصورة. غير هذا هناك مؤسسات ثقافية اعلامية تفرعت عن مكاتب بعض المراجع، مثل مؤسسة انوار النجف التابعة لمرجعية النجفي والتي يشرف عليها علي النجفي نجل آية الله بشير النجفي، والنشرة الاعلامية، نشرة نصف شهرية متخصصة بأخبار المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم، والتابعة الى مرجعية الحكيم.

في حضرة النجفي انزلقنا الى احد ازقة النجف القديمة، زقاق يقود الى زقاق عبر دروب ضيقة تطل عليها الشناشيل والشبابيك حتى وصلنا الى بيت المرجع آية الله الشيخ حسين النجفي، استقبلنا صوته العريض ذو النبرة القوية، كان يلقي درسا في الفقه الشيعي، باب البيت الخشبي البسيط يدل على بساطة المكان وأهله، مدخل صغير يقود الى حوش الدار الذي ازدحم بطلاب الحوزة، طلاب مرحلة البحث الخارج التي تعد أعلى مرحلة يبلغها الطالب في دراسته الحوزوية.

ها هو الشيخ النجفي يتربع فوق منبره في ركن الغرفة المقابلة للفناء الخارجي (الحوش)، فالبيت مثله مثل بيوت النجف الاخرى، فناء داخلي يتوسط البيت وحوله تقوم الغرف، لم ألاحظ وجود مايكرفون لمكبر الصوت، كان صوته هو الذي يتوزع على اركان البيت، الغرفة التي جلس فيها الشيخ النجفي مزدحمة للغاية، والمكان الذي يجلس فيه آية الله يسمى ديوانية الشيخ النجفي.

الجدران تحمل بعض الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث نبوية ودعاء يقول:

«بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على محمد وآل محمد, اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن, صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك يا ارحم الراحمين» وصلنا عند الساعة العاشرة صباحا، كان الشيخ قد بدأ درسه توا ولا مجال للقائه إلا بعد نهاية الدرس. العيون مشدودة الى الدفاتر التي كان يسطر فيها الطلبة ما يقوله شيخهم وهم متربعون فوق الارض، والآذان تلتقط كل كلمة ينطق بها أستاذهم، حتى اننا عندما دلفنا الى غرفة مقابلة لغرفة آية الله النجفي لم يرفع احد وجهه عن قرطاسه كي لا يضيعوا ملاحظة او كلمة يتفوه بها الشيخ الجليل.

ينحدر الشيخ بشير حسين النجفي المولود عام 1942 في مدينة جالندهر، وبدأ الشيخ بدراسة مُقدّمات العلوم الحوزوية في مدينة لاهور على يد جده لأبيه العالم الشيخ محمد إبراهيم الباكستاني، وعمّه الشيخ خادم حسين، والعلاّمة الشيخ أختر عباس الباكستاني، والعلامة رياض حسين، والعلاّمة السيد صفدر حسين النجفي. بدأ آية الله النجفي التدريس منذ عام 1974 بإلقاء دروسه «ابتداءً من (جامعة المنتظر) في باكستان الى يومنا هذا في مختلف الفنون والمستويات وجملة من تلامذته الآن تحاضر في البحث الخارج على الاصول والفروع في مناطق من العالم».

واذا كان طلبته يقصدون اليوم بيته لتلقي دروسهم، فانه كان قد درس في:

مدرسة دار الحكمة ـ موسّسة آية الله العظمى محسن الطباطبائي الحكيم، ومدرسة دار العلم مؤسسة آية الله العظمى ابو القاسم الخوئي، والمدرسة الشبرية، ومدرسة القوام الملاصقة لمسجد شيخ الطائفة الطوسي، ثم مسجد الهندي. وحسب نجله علي النجفي، فان والده يدرس 12 محاضرة أسبوعيا، بواقع 45 دقيقة للمحاضرة الواحدة، ويحضر ما بين 150 الى 200 طالب محاضراته.

ويصف احد تلامذة النجفي طريقة تدريس شيخه قائلا إن «الشيخ البشير قليل التنظير في طريقة تدريسه، وقوّة بيانه، وحسن تبويبه للمطالب، وسلامة ترتيبه للمقدّمات المفضية إلى صحّة النتائج بدقّة متناهية، واستنتاج سليم مع الابتعاد عن الحشو والفضول، وتقريب المعنى البعيد باللفظ الوجيز البعيد عن الاحتمال والاشتراك». ما ان انتهى آية الله النجفي من درسه وترجل عن منبره حتى استقبلنا، فهذا الوقت يكون لاستقبال الزوار والوفود ومن لديه اسئلة فقهية او شرعية، بادرنا بالسؤال عن المسلمين في بريطانيا، أجبته بأنهم بخير ولكننا قلقون على المسلمين هنا في العراق، أجاب باختصار «انشاء الله يكونون بخير». ولعل الشيخ النجفي من المراجع القلائل الذين يتحدثون في السياسة وله آراء سياسية معلنة. وهو بالرغم من اعترافه بشرعية «ولاية الفقيه» إلا انه يؤكد قائلا انه «في الظروف الحالية لا يتمكن القائل بولاية الفقيه كما لا نتمكن حسب الظروف الحالية والمعطيات الاقليمية والدولية والظروف التي يعيشها الشعب العراقي والوضع السائد في ربوع الوطن الجريح، من فرض التعيين؛ فأسهل السبل وآمنها الى البغية المنشودة هو الانتخابات والله العالم».

والشيخ النجفي من المتحمسين لفكرة الانتخابات واختيار الحاكم عن طريق صناديق الاقتراع، يقول «يجب الحفاظ على المكتسبات التي أحرزها الشعب العراقي المظلوم بعد سقوط النظام ولا يمكن الاحتفاظ بها إلا بإنشاء حكومة عادلة مخلصة، ومعلوم أنه لا سبيل الى ذلك في الظروف الحالية إلا بتأييد من هو أهل للقيادة فيجب التحري عنه في الانتخابات ولا علاقة له بالبيعة».

محمد سعيد الحكيم عندما وصلنا منزل المرجع آية الله محمد سعيد الحكيم وجدناه قد انتهى توا من درسه، استقبلنا نجله السيد محمد حسين الحكيم باهتمام كبير وبروح تنم عن تواضع وكرم.

كان الحكيم قد أمضى مع اولاده الاربعة تسع سنوات في سجن ابو غريب في عهد نظام صدام، حيث اطلق سراحهم عام 1991، كما ان عائلته قدمت الكثير من الضحايا الذين قضوا في سجون صدام جراء التعذيب والإعدامات.

البيت من الداخل مبني وفق العمارة النجفية التقليدية؛ فناء واسع بعض الشيء مكشوف للشمس وأرضيته مفروشة لتتيح للزائرين الذين كان يزدحم بهم الفناء والقادمين من مدن عراقية مختلفة فرصة الجلوس والاستراحة.

عندما دخلنا على آية الله الحكيم وجدته مسترخيا فوق فراش ممتد على الارض، وهذه عادة كل المراجع؛ إذ لم التق بواحد منهم وهو يجلس فوق كرسي او أريكة، سمعت ذات الملاحظة التحذيرية من مقرب منه «لا تسأله أي سؤال صحافي رجاء، يكفي ان تحييه وتتحدث معه في امور عامة، ثم انه متعب وهذا وقت راحته».

استقبلنا آية الله محمد سعيد الحكيم بالرغم من انه يعرف بأن ضيوفه من الصحافة، مع انه ليس على وفاق مع الاعلام؛ ذلك لأنه يعتقد، او يؤمن حسب قوله «الاعلام لا ينقل الحقائق، بل يزيفها، والإعلام الخارجي منحاز ضد الشعب العراقي عامة وضد الشيعة خاصة كونه يصور الارهابيين الذين يذبحون أهلنا كأبطال ومقاومين للقوات الاميركية مع انهم يذبحون العراقيين الابرياء في الحلة وكربلاء وبغداد والصدرية». لم يتحدث آية الله الحكيم بالسياسة، فهو مرجع ديني وطروحاته روحانية وليست سياسية، لكنه كان حزينا على ارواح الابرياء من العراقيين الذين يموتون على ايادي الارهابيين «فالشيعة ما زالوا يتعرضون للقتل المجاني على ايدي التكفيريين والقاعدة، وكذلك السنة، ولكن اجهزة الاعلام العربية والدولية لا تسلط الكثير من الضوء على هذه الاحداث».

لقد حظي السيّد الحكيم المولود في 31-10-1936بمدينة النجف، منذ طفولته برعاية والده، وذلك «لما وجده في نفس ولده الأكبر من الاستعداد والقابلية على تلقّي الكمالات النفسية، ومكارم الأخلاق، فوجّهه والده نحو ذلك، وهو بعد لم يتجاوز العقد الأوّل من عمره»، وكان على الحكيم ان يسلك درب الدروس الحوزوية خاصة وانه نجل العلامة والمجتهد والأستاذ في حوزة النجف محمد علي الحكيم، وجده لأمه المرجع الديني السيد محسن الحكيم، وبالاضافة الى والده وجده فقد تتلمذ على يد السيد ابو القاسم الخوئي والشيخ حسين الحلي.

ويتحدث نجله محمد حسين الحكيم عن مرجعية والده قائلا ان «المرجعية هي مأوى الناس، وهي(المرجعية) التي تتحمل آلامهم وتساعدهم على تحقيق طموحاتهم، خاصة بعد تحرير العراق من النظام السابق، حيث تتمتع بالحرية والاستقلالية».

ويضيف الحكيم، الابن، أن «مهمة المرجعية ايضا هي رعاية المؤمنين مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم، وان تراعي مصالحهم من غير ان تتدخل في تفاصيل العمل السياسي»، مشيرا الى ان «المرجعية لا تمارس دور الرقابة على أتباعها او طلبتها وان هناك حالة من التواصل الحر بين المرجعية وأتباعها».

ويؤكد الحكيم قائلا ان «توجيهات السيد الوالد، محمد سعيد الحكيم، بشأن ما يحدث من تغييرات في الحياة العامة والسياسة هو ألا تكون هذه التغييرات نوعا من رد الفعل او الانفعال وان يأخذ القانون مجراه، وان يكون هناك توازن بين الواقع السياسي وبين الظروف التي يمر بها العراق».

ويعتبر آية الله الحكيم ونقلا عن نجله محمد حسين ان «ما حدث بعد تفجير المرقد العسكري في سامراء يعد خطيرا للغاية؛ وهو اتجاه لتدمير الحياة السياسية والاجتماعية»، منبها الى ان «المرجعية كان لها الدور المؤثر في عدم جر الشعب العراقي الى الفتنة الطائفية والى الحرب الاهلية».

ويرى محمد حسين، ناقلا آراء والده، أن «هناك ميليشيات مسلحة تريد جر العراق الى حرب اهلية»، لكنه يعتبر ان «المشكلة سياسية وليست شعبية او طائفية بدليل ان العراقيين سنة وشيعة ومسيحيين واكرادا يعيشون من غير اية مشاكل فيما بينهم، وقد وجهت المرجعية نحو استقرار العراق لاسيما وان الاوضاع العراقية لا تسمح بقيام حرب طائفية في البلد».

وحول علاقة المرجعية،او علاقة مرجعية والده مع الاعلام، قال نجل المرجع الحكيم ان «المرجعية تريد اعلام الحقيقة والمصداقية، لا اعلام الاثارة والكذب»، مشيرا الى «اننا نقوم بأرشفة محاضرات ولقاءات وطروحات السيد». ويضيف قائلا «نحن مرجعية دينية ولا نريد ان ننشغل في الاعلام والصراع الاعلامي ولا نريد ادخال المرجعية في هذه المتاهة بل نريدها (المرجعية) ان تبقى مستقلة وبعيدة عن الصراعات، ذلك ان مهمتها دينية وروحية وثقافية».

الشيخ إسحاق الفياض لم يتغير أي شيء في خارج وداخل بيت المرجع الديني اسحق الفياض منذ زيارتي الاولى له مع السيد عبد المجيد الخوئي في ابريل(نيسان)عام 2003. كانت زيارتنا له، مؤخرا، متأخرة، في الليل، وكان الشيخ الفياض يخلد للراحة، لكنه، ومع ذلك استقبلنا بتواضعه وابتسامته المعهودة.

كان يجلس عند ركن غرفة الاستقبال، فوق فراش على الارض طبعا، وأمامه ذات الطاولة الصغيرة ذات الدرجين والتي ترتفع بمقدار القدم ونصف القدم حيث صف فوقها عدد من الكتب والمصادر، استطعت ان أميز بينها مؤلفه (منهاج الصالحين) الذي يقع في ثلاثة أجزاء.

ولد محمد إسحاق سنة 1930م في قرية (صوبة) إحدى قرى محافظة (غز) في وسط أفغانستان الواقعة جنوب العاصمة كابل، وهو ثاني أبناء والده محمد رضا، وكان والده المتوفى سنة 1989م فلاحا بسيطا يعمل عند بعض المتمولين في القرية من ملاك الأراضي «وقد كان يرى في ولده محمد إسحاق من علامات النبوغ والذكاء ما ألزمه أن يوليه اهتماما ورعاية خاصة، وكأنه يقرأ في ملامح ولده مذ ولادته ما يكون عليه الوليد في مستقبل الأيام من مقام علمي وفضل وورع وتقوى يؤهله للقيام بدور بارز في خدمة دينه والمؤمنين».

ولما كانت امنية كل طلاب العلم والحوزات في العالم هي الدراسة في مدينة النجف، فقد وصل الشيخ الفياض الى هذه المدينة وهو شاب في الثامنة عشر من عمره «وقد مر في طريقه إليها بتجارب عديدة أصقلت مواهبه وعلمته بعض مصاعب الحياة على اختلاف أنواعها والفرق بين نظم العيش والأخلاق والعادات في مدن عديدة مختلفة. إلا أن للنجف الأشرف كمدينة وللحوزة العلمية فيها كمدرسة، صعوباتها وظروفها الخاصة ومتاعبها كما هي العادات والتقاليد المختلفة بين الشعوب والبلدان، مقابل ما لها من خصوصيات إيجابية وفي مقدمتها وجود ضريح الامام علي والتقدم العلمي لحوزتها الدينية التي أهلتها أن تتصدر الحوزات الأخرى وتتزعم قيادتها وتخرج آلاف العلماء وتستقر فيها المرجعية العليا للطائفة، ولتنشد إليها أفكار وأنظار طلاب وعشاق علوم أهل البيت عليهم السلام ومواليهم من جميع نقاط العالم».

يقول الشيخ محمد إسحاق الفياض في هذا الصدد «كان قدومي إلى النجف الأشرف بسنوات بعد وفاة السيد أبو الحسن الاصفهاني، وفي أواخر فترة العهد الملكي، وأوائل فترة مرجعية السيد محسن الحكيم الذي كان قد أجرى راتبا شهريا للطلبة بمقدار دينارين للطالب المعيل ومبلغ دينار للطالب الأعزب من أمثالنا، وكنا غالبا ما نأكل الخبز والبصل، ولا يخطر ببال أحدنا أن يأكل يوما شيئا مما يسمى بالفواكه».

استغرق الشيخ الفياض طويلا قبل ان يسأل عن احوال المسلمين من غير ان يخفي آلامه لما يحدث في العراق، قال «إننا نطالب من الكتل السياسية رص الصفوف وتوحيد الكلمة والتخلي عن المصالح الذاتية والأغراض الحزبية الضيقة والنعرات الطائفية والأخذ بعين الاعتبار مصالح البلد والشعب ككل».

تذكر زيارتي الاولى له مع الخوئي وتحدث عنه كشهيد «كان داعما للاسلام والمسلمين ولعموم العراقيين»؛ فقد عرف عن آية الله العظمى الفياض توسطه واعتداله في الامور غير مفرقا بين سني وشيعي، عربي او غير عربي، وهو غالبا ما كان مفتاح الأمان في القضايا الطارئة التي تحدث في النجف.

ويعد الشيخ الفياض ومنذ افتتاح مدرسة دار العلم المعروفة التي أنشأها الإمام ابو القاسم الخوئي عام 1980 من اكثر المجتهدين تقليدا وتأثرا بأستاذه الخوئي؛ فقد انتقل مجلس بحثه إلى هناك حتى تاريخ هدم المدرسة، فانتقل مجلس الدرس إلى المسجد الهندي الكبير في فترة قليلة، ومن ثم إلى مدرسة اليزدي؛ وهي مدرسة أسسها المرجع الكبير السيد كاظم اليزدي وإلى اليوم، يحضره جمع كبير من الطلبة وفيهم غير واحد من الأفاضل ممن يقرر بحوثه على أمل طبعها إن شاء الله.

يمضي الشيخ الفياض جل وقته في الدرس والتدريس منصرفا الى العلم، وهو ينشغل حتى اليوم بتأليف الكتب التي تعد كمصادر في الفقه الاسلامي وقوانين الشريعة، ومن أبرز مؤلفاته: محاضرات في أصول الفقه، في عشر مجلدات، طبع خمسة منه، الأراضي، النظرة الخاطفة في الاجتهاد، تعاليق مبسوطة على العروة الوثقى، طبع منها عشرة أجزاء، أحكام البنوك، منهاج الصالحين، في ثلاثة مجلدات، مناسك الحج، المباحث الأصولية، في 14 مجلدا، طبع منه 3 مجلدات، ويليها سائر المجلدات.

ان أهم ما يشغل آية الله اسحق الفياض هو «الحفاظ على استقلالية المرجعية وعدم زجها في امور السياسة»، كونه يرى ان «مهمة المرجعية دينية وروحية وعلمية بالدرجة الاولى، لهذا يجب ان ننأى بها عن كل الصراعات التي تعصف بالعراق اليوم».

كان الوقت قد تأخر لزيارة آية الله السيستاني، المرجع الشيعي الاعلى، قيل لنا انه يستريح وهذه فترة راحته وهو لا يستقبل أي شخص في هذا الوقت، بالرغم من اننا نعرف الحقيقة وهي عدم استقباله للصحافيين.

يدير نجله محمد رضا السيستاني مكتب والده وهو من يتحدث نيابة عنه وهو من يستقبل كبار الزوار في حالة ان والده متعب او في فترة استراحته.

رضا هو من يقرر من يستقبل والده ومن يدخل بيتهم وهو الذي ينسق علاقات المرجع الاعلى، ولأن رضا، هو الآخر، لا يحب الصحافة والإعلام فقد حرمنا من هذه الزيارة، واكتفينا بالتقاط صورة لبيت المرجع الاعلى من الخارج.


http://www.aawsat.com/details.asp?section=3&article=440653&issue=10543