فاطمي
10-10-2007, 07:46 AM
أيام في العراق (11)
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً
http://www.aawsat.com/2007/10/09/images/news1.440529.jpg
رجل دين شيعي يتحلق حوله مجموعة من طلبة الحوزة في مدينة النجف (ا.ف.ب)
النجف: معد فياض
النجف هي أم المرجعيات الشيعية منذ أن انتقل اليها الطوسي هاربا من بطش المغول في بغداد قبل ألف عام. قبل النجف كانت المرجعية في سامراء، ثم انتقلت الى بغداد واستقرت في النجف حيث قبر الامام علي بن أبي طالب.
والنجف هي ايضا، وبمسار مواز لأهمية مرجعيتها، اكبر جامعة علمية، وأم الحوزات الدينية. ويتخيل البعض ممن هم ليسوا بقريبين من اجواء مدينة النجف والعارفين بحياتها بأن الحوزة العلمية في هذه المدينة هي جامعة مثلها مثل الازهر مثلا، او مدرسة معلومة المكان، ولها بناية خاصة بها. في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تعرف «الشرق الاوسط» بالمرجعية وتتجول في بعض حوزاتها العلمية، مكتشفين اسلوب اختيار المرجع الأعلى، وطريقة التدريس في أكبر وأول جامعة مفتوحة في الإسلام.
لم يحدث في تاريخ الشيعة ان اتفقوا على مسألة مثل اتفاقهم على المرجعية وأهميتها. وحسب الباحث والكاتب حسن بحر العلوم، هو حفيد المرجع الديني محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هجرية، والذي التقيناه في (ديوانية) عمه السيد محمد بحر العلوم في النجف، يعرف المرجع قائلا «هو الفقيه المجتهد المسؤول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم.
وقد أكد الفقه الإمامي هذه الحقيقة، حيث يبدأ أي كتاب فقهي بتلك العبارات: يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته، ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا، والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين»، مشيرا الى ان المرجع الذي يتم تقليده، يجب ان يكون عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا». وهذا يعني ان على اي شيعي امامي، اي يتبع الائمة الاثنى عشر، ان يقلد مرجعا، وهذا واجب وليس جائز.
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية، كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الشيعة بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً، الذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته.
لعل أشهر مراجع الشيعة وأقدمهم في العراق هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ولد سنة 460 هجرية، الذي اهتم بعد حدوث «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي في سامراء عام 329 هجرية بجمع أحاديث الشيعة الى جانب كل من محمد بن يعقوب الكليني، ولد سنة 329 هجرية، والشيخ محمد بن علي القمي، ولد سنة 381 هجرية. وقد انتقل مقر المرجعية من سامراء، حيث غاب الامام، الى العاصمة بغداد ثم هاجر الطوسي الى النجف خشية من بطش المغول وحفاظا على المرجعية فاستقرت هناك قرب ضريح الامام علي.
ويمكننا ان نسمي أهم ثلاثة مراجع في القرن العشرين وهم: محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني، ويشير علماء الشيعة الى ان ابرز هذه الاسماء على الاطلاق هو ابو القاسم الخوئي «الذي توفرت له من امور قيادة المرجعية ما لم تتوفر لمن سبقه ولن تتوفر لمن سيأتي من بعده».
ويشرح الباحث الاسلامي جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي، قائلا «يجب ان يكون المرجع مجتهدا ولكن ليس كل مجتهد هو مرجع».
ويضيف الخوئي، الحفيد، قائلا ان «ابو القاسم الخوئي يتحدر من اصول عربية في مدينة الكوفة، بقي على كرسي التدريس اكثر من 70 عاما حتى لقب بأستاذ الاساتذة وزعيم الطائفة، ويعد غالبية المراجع والمجتهدين المعروفين من تلامذته، بمن فيهم السيستاني الذي يعد خير من يمثل مدرسة الخوئي في الاجتهاد والتدريس والاعتدال، كما ان الخوئي بقي مرجعا اعلى لأكثر من 25 عاما، وهو الأطول عمرا بين بقية المراجع، حيث مات قبل ان يبلغ المائة من عمره بخمس سنوات، ولم يستطع أي مرجع منافسة الخوئي في قيادته للأمة الشيعية في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب علمه وفقهه وخبرته ومؤلفاته وانصرافه للدين وللعلم بروح متقشفة وزاهدة عن امور الدنيا».
لا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم، وان كان قد حدث مرة ومن غير الرجوع الى الطائفة، ذلك عندما اختار صدام حسين التعامل مع محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كمرجع للشيعة لكونه عربيا وعراقيا ولا يتحدر من أصول أجنبية. حدث ذلك عام 1992 بعد وفاة المرجع الأعلى آية الله ابو القاسم الخوئي، حيث انتقلت المرجعية العليا الى آية الله الكلبيكاني في قم وبقي الشيعة يتعاملون من الكلبيكاني كمرجع اعلى حتى مات بعد ستة اشهر من تقلده المرجعية، فعادت المرجعية الى مدينة النجف متمثلة في آية الله علي السيستاني.
كما ان المرجعية لا تورث لابن او لأخ او لابن عم، وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد، وهذا لا يتم عن طريق ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه.
ويضيف الباحث الاسلامي غانم جواد قائلا «تضم المرجعية إضافة الى مكتب المرجع، العديد من الأجهزة والمؤسسات تأتي في مقدمتها الحوزة العلمية؛ وهي التي تخرج علماء الدين والمراجع بعد أن يجتازوا المراحل الدراسية المتعددة، وتتميز بالنظام التعليمي المفتوح، بنيتها الأساسية الكتب المقررة والأستاذ ومكان الدراسة (سنأتي بالحديث عن الحوزة العلمية بالنجف في حلقة أخرى). وشبكة الوكلاء، وهم علماء الدين المنتشرون في كافة أنحاء العالم الذين يرتبطون بمكتب المرجع الديني ويقومون بالتوجيه الديني وتقديم الخدمات على ضوء فتوى المرجع ويتلقون منه التعاليم لينشروها بين المسلمين. والمنتديات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والخيرية والأدبية والمبلغين، وتعد منابر ووسائل اتصال أخرى بالمسلمين». وحسب جواد، فان المرجع الديني هو «الفقيه الذي رجعت إليه جمهرة واسعة من الشيعة في شؤونها الدينية، بعد أن وثقت بعدالته وورعه وعلميته». وقد يتوفر في آن واحد عدد محدود من المراجع المتصدين لمهام المرجعية لا يتجاوز أصابع اليد، والمرجع المتصدي عليه أن يقوم بالتدريس التخصصي الديني في أعلى مراحله في علمي الفقه وأصول الفقه، وأن تصدر عنه رسالة عملية وعدد من المؤلفات المتخصصة تعرف من خلالها آراؤه، وأخيراً فقهاء يدرسون عنده منظمون الى جهازه ويعدون مستشاريه. لذا لا يصح التصديق بكل من ادعى لنفسه المرجعية خصوصاً العاملين في الحقل السياسي أو صنيعة الأنظمة الحاكمة. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه. ومن بين اربعة مراجع في العراق وهم: علي السيستاني واسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي، تم ترشيح السيستاني ليكون المرجع الاعلى بسبب أعداد مقلدي هذا المرجع التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين. على ان هناك بعض رجال الدين من المجتهدين الشيعة يعتقدون بعدم وضع المرجعية العليا بشخص واحد بل بوجوب توزيعها على عدة مراجع، كأن يكون مرجع للشؤون الفقهية، ومرجع آخر لشؤون الحوزة والعلوم، ومرجع للشؤون المالية والخمس بدلا من اشغال مرجع واحد بكل شؤون المرجعية. كما ينبري الكثير من رجال الدين الشيعة وشيعة علمانيون ليتصدوا لموضوع تدخل المرجعية بشؤون السياسة وينادون بضرورة عزل السياسة عن الدين باعتبار ان الدين مقدس ومنزه بينما السياسة هي لعبة الوعود والمراوغة. ويجد هؤلاء ان المرجعية الشيعية قد تورطت عندما دعمت جهة شيعية في الانتخابات النيابية الاولى والثانية ضد بقية الجهات الاخرى، بينما كان يجب ان تمارس المرجعية أبوتها لجميع العراقيين بغض النظر عن الدين او الطائفة او المذهب او القومية.
ولعل المفكر والباحث الاسلامي اياد جمال الدين، والذي يتحدر من عائلة دينية شيعية مثقفة وواعية، وهو رجل دين ايضا، أول من نادى بضرورة قيام حكم علماني في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وعارض فكرة التداخل ما بين الدين والسياسة.
اما تمويل المرجعية فيتم عن طريق الزكاة والخمس، أي ان يدفع كل شيعي خمس ارباحه للمرجعية، وللمرجع الحق في التصرف بهذه الاموال حسب احتياجات الطائفة، مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية والمكتبات وتعميرها، وكذلك بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وصرف الرواتب الشهرية لأساتذة الحوزة العلمية وطلبتها والإنفاق على الفقراء وسد احتياجاتهم. ولا نستطيع معرفة الرقم الاكيد لدخل المرجعية، وهذا موضوع صعب للغاية، لكننا نستطيع ان نحدس ان نفقات المرجعية كبيرة جدا، وخاصة في الظروف الحالية في العراق، حيث نفقات المرجعية على الفقراء وطلبة العلم في حوزتي النجف وقم في ايران.
أبناء الطائفة الشيعية لا ينظرون الى قومية المرجع الديني الاعلى، سواء كان عراقيا عربيا أم باكستانيا أم ايرانيا، بل يهتمون بعلمه وفقهه، ونرى ان السيستاني ايراني الاصل، لكنه يعيش في العراق منذ اكثر من نصف قرن. ويبلغ عمر السيد السيستاني 74 عاما، وله ولدان أكبرهما محمد رضا وبنات غالبيتهن تزوجن من رجال دين. ولا ينقطع السيد السيستاني عن امور الدنيا متزهدا بعيدا عما يجري حوله، فهو يشاهد التلفزيون ويسمع الاذاعات ويقرأ الصحف ويستخدم الكومبيوتر.
ولا يقترن اسم النجف بوجود المرجع او المرجعية الشيعية، بل ايضا بوجود حوزتها العلمية الشهيرة. والحوزة العلمية في النجف هي مجموع الحلقات وأماكن الدرس، سواء كان هذا المكان غرفة في بيت رجل الدين (الاستاذ) او في زاوية من صحن الامام علي، او في مسجد، او في مدرسة دينية من مدارس النجف العديدة، او في مكتبة من المكتبات المنتشرة في هذه المدينة. وقد نستطيع القول ان اي حلقة علمية تعقد في النجف في اطار دراسة الفقه والعلوم الاسلامية واللغوية تسمى حوزة.
وبذلك تضم مدينة النجف بمجموعها عشرات الحوزات العلمية التي يطلق عليها جامعة النجف او الحوزة العلمية في النجف. وأسلوب الدراسة في هذه الحوزات هو «التعليم الحر».
يقول غانم جواد الباحث في الثقافة الاسلامية ان «جامعة النجف تعد من أقدم جامعات العالم في دراسات المعارف الاسلامية. على غرار جامع الأزهر الشريف في مصر، والزيتونة بتونس، وجبل عامل في لبنان والقيروان في المغرب. وتمتعت النجف بكونها مركزاً من مراكز الفكر والثقافة العربية/الاسلامية، ومعهداً نشطاً تميز عن غيره في استمراره بفتح باب الاجتهاد الفقهي»، وقد خرج مئات من الفقهاء والمجتهدين والمراجع والأساتذة والمدرسين والأدباء والشعراء أمثال الشيخ النائيني الفقيه الذي كتب في القانون الدستوري الإسلامي، والمرحوم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والعلامة الراحل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقضى المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني سنتين في النجف دارساً ومدرساً، ومنها تخرج المرجع الديني في بلاد الشام السيد محسن الأمين العاملي، ورائد القصة العراقية جعفر الخليلي، وكان شيخ الجامع الأزهر الحالي الدكتور الطنطاوي يتردد على حوزة النجف العلمية، مناقشاً وباحثاً في حوزة الامام الراحل السيد الخوئي، عندما عمل أستاذاً في جامعة البصرة جنوب العراق في سني السبعينيات الميلادية.
وفي كل يوم تعقد في مساجد وحسينيات ومدارس وبيوتات النجف الحلقات الدراسية ضمن الحوزة العلمية التي تضم اليوم وحسب الشيخ علي النجفي، نجل المرجع الديني آية الله بشير حسين النجفي سبعة آلاف طالب، ولولا الظروف الامنية الصعبة لكان عدد الطلبة اضعاف هذا الرقم. ونستطيع ان نعد اكثر من 20 الف طالب يدرسون في حوزات مختلفة من العراق.
نظام الدراسة الحوزوية مفتوح وغير مقيد؛ أي انه لا توجد اية شروط للدراسة في الحوزة، وكل من ينتسب الى هذه الدراسة يسمى طالبا ومجموعهم طلبة»، وعمر الطالب الذي ينتسب الى الحوزة غير محدد؛ فيمكن ان يبدأ الدارس منذ الخامسة عشر من عمره وحتى الثمانين شرط ان يجيد القراءة والكتابة، كما ان موقع الطالب في مرحلته الدراسية لا يتعلق بمستواه العلمي غير الحوزوي، يمكن ان يبدأ طالب الحوزة الدراسة وهو في الصف السادس الابتدائي او في المرحلة المتوسطة من دراسته الاعتيادية، وقد يكون حاصلا على شهادة الدكتوراه في علوم اخرى.
اما نهاية هذه الدراسة فهي مفتوحة، هناك من يمضي اكثر من ثلاثين عاما من الدراسة الحوزوية وهو ما يزال في مرحلة بحث الخارج، وهناك من يمضي خمسين عاما من حياته دارسا في الحوزة؛ فالموضوع يعتمد اولا واخيرا على جهد واجتهاد الطالب نفسه للتقدم في هذه الدراسة الصعبة، ولم تضع الحوزة اية شروط تتعلق بمذهب الدارس سواء كان شيعيا او سنيا، ذلك ان مناهج الدراسة الحوزوية متعددة ومتشعبة وتتناول الفقه الشيعي والسني، لهذا نرى ان المجتهدين من رجال الدين الشيعة لهم المام كبير في المذاهب السنية الاربعة وبقية الفرق الاسلامية او تلك المنشقة عن الاسلام، على انه من المهم ان نعرف انه ليس هناك منهج محدد ومعمم على الحوزات العلمية، بل ان لكل استاذ منهجه وتصوره وأسلوب تدريسه.
يشرح جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الذي بقي على منبر الدرس لاكثر من سبعين عاما، اسلوب الدراسة في حوزة النجف، فيقول «عندما ينتسب الطالب للدراسة الحوزوية عليه ان يسجل اسمه لدى احد المراجع لتتم مساعدته، حيث يصرف له راتب شهري يتناسب مع حياته وعمره ومتطلباته المتقشفة، كما يخصص له مكان للسكن اذا كان من خارج النجف او للقادمين من بلدان بعيدة مثل ايران وباكستان والهند ولبنان وغيرها من الدول، وعادة يجمع الطلبة في مسكن واحد او مساكن متقاربة كي يتيحوا لهم فرصة الدراسة والنقاش والسجال مع بعضهم البعض، وهناك بعض الطلبة يسجلون اسماءهم لدى اكثر من مرجع ليأخذ اكثر من راتب عندما لا يكفيه راتب واحد».
يؤكد الباحث غانم جواد أن «منهج الدراسة في الجامعة الدينية النجفية لا يخضع لنفوذ الدولة، ولا إدارتها، ولا يمول من قبلها. فهي من مكونات المجتمع الديني؛ فبالرغم من كثرة المدارس، لا يوجد رؤساء، أو عمداء، وإنما يشرف عليها علماء الدين، ويستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضم للمدرسة، إذا استطاع أن يجد له مكاناً للإقامة، ما دامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن الوازع الديني، والرغبة الجامحة للتحصيل العلمي والالتزام الأخلاقي والديني (التقوى والزهد)، هي الوسائل التي تدار بها هذه المدارس»، ويستشهد جواد بحديث للدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق الأسبق حيث يتحدث في مقال له عن جامعة النجف الدينية ما نصه «لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية، والبريطانية، والفرنسية، وجامعة أكسفورد، وكامبردج، وتلقيت تعليمي في الجامعات (الأميركية)، إلا أنه ما من جامعة من هذه الجامعات، حتى الألمانية، تستطيع أن تفتخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم، والأصالة اللتين تطبعان شخصية المنتسبين إليها بطابعها المتميز في جامعة النجف».
لا تمنح حوزة النجف العلمية أية شهادة سواء كانت بكلوريوس او ماجستير او دكتوراه او بروفيسور، وكل ما هناك أن الطالب يحصل على اعتراف مكتوب من قبل أستاذه يرشحه فيه بالعبور الى المرحلة اللاحقة او انه أنهى مرحلته الدراسية الحالية، كأن يكون أنهى دراسة المقدمات، ومثلما اوضحنا انه ليست هناك فترة زمنية محددة لنهاية اية مرحلة.
الطالب الحوزوي يكون عرضة دائمة للاختبار سواء من قبل استاذه او من قبل رجال الدين الآخرين الذين هم أرقى درجة علمية منه، فكأن يكون الطالب جالسا في مجلس ما وهناك رجال دين فيسأله احدهم عن المرحلة التي هو فيها ثم يبدأ بتوجيه الاسئلة له ضمن حدود مرحلته، لهذا على الطالب ان يبقى متهيئا لمثل هذه المواقف حتى يبرهن جدارته وجدارة أستاذه، وهذه الاختبارات المفاجئة ليس القصد منها إحراج الطالب أو الأستاذ بل وضع الطالب في موقف علمي جيد.
الأستاذ من طرفه لا يضع ختمه او توقيعه على اية شهادة ما لم يكن متيقنا تماما من كفاءة تلميذه حتى لو كلف ذلك التلميذ سنوات عديدة من الدراسة، علما ان الاستاذ لا يتلقى أي راتب او أجورا سواء من الطالب او من المرجعية، إلا اذا كان نفسه ما يزال طالبا في مرحلة متقدمة من الدراسة في الحوزة. ويوضح جواد بعض مفردات مناهج الحوزة قائلا إن انعقاد حلقات الدرس والبحث اليومي تتواصل منذ طلوع الفجر حتى ساعات متأخرة من الليل، في علوم الفقه والأصول وعلم الكلام والمنطق والحكمة والنحو العربي والبيان والبديع وعلم العروض والأدب العربي، والتاريخ والأخلاق والعرفان والفلسفة وعلم الرجال والتفسير وعلم الحديث النبوي، والرياضيات وعلوم الهيئة والفلك والطب العربي والعلوم الاجتماعية الحديثة، كما تتواصل في مجالسها ومنتدياتها وبيوتاتها المناظرات والمناقشات العلمية والأدبية، والمساجلات والمباريات الشعرية، الأمر الذي يعكس النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في هذه الحاضرة العريقة، إذ لا تمر مناسبة دينية أو وطنية أو قومية، إلا ويعقد رجالاتها المحافل والمنتديات المعبرة عن روح التواصل الحضاري مع تراث الأمة، وقيمها ومبادئها ومثلها العليا، كما تعكس كذلك ملامح الانبعاث الجديد للإسلام وسط عتمة الهيمنة الأجنبية والتسلط الاستعماري. ومدارس النجف الدينية، أشبه بكليات متناثرة في أحياء المدينة، وكل مدرسة من الناحية العمرانية، تتكون من طابق واحد أو طابقين، يحتوي الطابق الواحد منها على عشرات الغرف ومكتبة وقاعة ومرافق خدمية متواضعة (كما يصطلح عليه اليوم بالأقسام الداخلية). ولأغلب هذه المدارس أوقاف ملحقة بها، تخصص مواردها للإنفاق على إدامتها وصيانتها وتغطية بعض احتياجات الطلبة المقيمين فيها، ينفق عليها في الغالب من قبل مراجع الدين، ويسكن هذه المدارس الطلاب غير المتزوجين، أما المتزوجون منهم فيقيمون في منازل خاصة بهم، ومن الجدير بالذكر أن حلقات الدرس والبحث كانت تجري في فناء وغرف صحن مرقد الامام علي(ع)، وفي المساجد والحسينيات والمكتبات المنتشرة داخل المدينة في الغالب. وتحتل المدارس المكان المفضل للدراسة، وفي بيوت الأساتذة تصاحبها متعة خاصة تتمثل في الاستئناس بصحبة الأستاذ المعلم واكتساب مهارته، ومن أشهر المدارس فيها، المدرسة الشبرية، ومدرسة الخليلي، ومدرسة الأحمدية، دار الحكمة، دار العلم، مدرسة القزويني، مدرسة الأخوند، مدرسة كاشف الغطاء، مدرسة البغدادي ومدرسة الصدر.
ان القصد من الدراسة الحوزوية هي «ان الغاية القصوى في سلم هذه الدراسات بلوغ المرتبة العلمية العالية هي (الاجتهاد) ومن ثم تسلم زمام المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة لمن كتب له التوفيق الإلهي، أي أن يصل طالب العلوم الدينية الى المستوى الذي يؤهله، لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها الأساسية (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل)، وان تحقيق هذا المستوى، يتطلب استيعاب الطالب علوم اللغة العربية من مفردات اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم القرآن والتفسير». ان «طبيعة النظام الدراسي في النجف يتصف بأن أغلب العلماء هم طلبة، ومدرسون في آن واحد، فالمتقدمون منهم ممن يحضر بحوث (المرجع الأعلى أو المجتهد) ُيدرسون أولئك الذين هم أقل مرتبة منهم. كما أن هؤلاء يُدرسون الذين لا يزالون أقل من مرتبتهم العلمية، وهكذا. وعلى ذلك فان أي شخص يدرس في النجف سيصبح بعد مضي سني الدراسة الأولى تلميذاً وأستاذا في وقت واحد».
http://www.aawsat.com/details.asp?section=3&article=440529&issue=10542
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً
http://www.aawsat.com/2007/10/09/images/news1.440529.jpg
رجل دين شيعي يتحلق حوله مجموعة من طلبة الحوزة في مدينة النجف (ا.ف.ب)
النجف: معد فياض
النجف هي أم المرجعيات الشيعية منذ أن انتقل اليها الطوسي هاربا من بطش المغول في بغداد قبل ألف عام. قبل النجف كانت المرجعية في سامراء، ثم انتقلت الى بغداد واستقرت في النجف حيث قبر الامام علي بن أبي طالب.
والنجف هي ايضا، وبمسار مواز لأهمية مرجعيتها، اكبر جامعة علمية، وأم الحوزات الدينية. ويتخيل البعض ممن هم ليسوا بقريبين من اجواء مدينة النجف والعارفين بحياتها بأن الحوزة العلمية في هذه المدينة هي جامعة مثلها مثل الازهر مثلا، او مدرسة معلومة المكان، ولها بناية خاصة بها. في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تعرف «الشرق الاوسط» بالمرجعية وتتجول في بعض حوزاتها العلمية، مكتشفين اسلوب اختيار المرجع الأعلى، وطريقة التدريس في أكبر وأول جامعة مفتوحة في الإسلام.
لم يحدث في تاريخ الشيعة ان اتفقوا على مسألة مثل اتفاقهم على المرجعية وأهميتها. وحسب الباحث والكاتب حسن بحر العلوم، هو حفيد المرجع الديني محمد مهدي بحر العلوم المتوفى سنة 1212 هجرية، والذي التقيناه في (ديوانية) عمه السيد محمد بحر العلوم في النجف، يعرف المرجع قائلا «هو الفقيه المجتهد المسؤول عن بيان الحكم الشرعي الذي يحتاج المؤمنون معرفته في عباداتهم ومعاملاتهم.
وقد أكد الفقه الإمامي هذه الحقيقة، حيث يبدأ أي كتاب فقهي بتلك العبارات: يجب على كل مكلف غير بالغ مرتبة الاجتهاد في غير الضروريات من عباداته ومعاملاته، ولو في المستحبات والمباحات أن يكون مقلدا أو محتاطا، والتقليد هو العمل مستندا إلى فتوى فقيه معين»، مشيرا الى ان المرجع الذي يتم تقليده، يجب ان يكون عالما مجتهدا عادلا ورعا في دين الله، بل غير مكب على الدنيا ولا حريصا عليها وعلى تحصيلها جاها ومالا». وهذا يعني ان على اي شيعي امامي، اي يتبع الائمة الاثنى عشر، ان يقلد مرجعا، وهذا واجب وليس جائز.
المرجعية الدينية عند الشيعة الإمامية، كيان فقهي كبير يحتل في الحياة السياسية والدينية مساحة واسعة جداً يرتبط بها الشيعة بأوثق العلاقات وأمتنها، وتكتسب تعليمات المرجعية بالنسبة للفرد الشيعي صفة الأمر والحكم الشرعي الملزم دينياً، الذي لا يجوز التخلف عنه ومخالفته.
لعل أشهر مراجع الشيعة وأقدمهم في العراق هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، ولد سنة 460 هجرية، الذي اهتم بعد حدوث «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي في سامراء عام 329 هجرية بجمع أحاديث الشيعة الى جانب كل من محمد بن يعقوب الكليني، ولد سنة 329 هجرية، والشيخ محمد بن علي القمي، ولد سنة 381 هجرية. وقد انتقل مقر المرجعية من سامراء، حيث غاب الامام، الى العاصمة بغداد ثم هاجر الطوسي الى النجف خشية من بطش المغول وحفاظا على المرجعية فاستقرت هناك قرب ضريح الامام علي.
ويمكننا ان نسمي أهم ثلاثة مراجع في القرن العشرين وهم: محسن الحكيم وأبو القاسم الخوئي وعلي السيستاني، ويشير علماء الشيعة الى ان ابرز هذه الاسماء على الاطلاق هو ابو القاسم الخوئي «الذي توفرت له من امور قيادة المرجعية ما لم تتوفر لمن سبقه ولن تتوفر لمن سيأتي من بعده».
ويشرح الباحث الاسلامي جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي، قائلا «يجب ان يكون المرجع مجتهدا ولكن ليس كل مجتهد هو مرجع».
ويضيف الخوئي، الحفيد، قائلا ان «ابو القاسم الخوئي يتحدر من اصول عربية في مدينة الكوفة، بقي على كرسي التدريس اكثر من 70 عاما حتى لقب بأستاذ الاساتذة وزعيم الطائفة، ويعد غالبية المراجع والمجتهدين المعروفين من تلامذته، بمن فيهم السيستاني الذي يعد خير من يمثل مدرسة الخوئي في الاجتهاد والتدريس والاعتدال، كما ان الخوئي بقي مرجعا اعلى لأكثر من 25 عاما، وهو الأطول عمرا بين بقية المراجع، حيث مات قبل ان يبلغ المائة من عمره بخمس سنوات، ولم يستطع أي مرجع منافسة الخوئي في قيادته للأمة الشيعية في جميع أنحاء العالم، وذلك بسبب علمه وفقهه وخبرته ومؤلفاته وانصرافه للدين وللعلم بروح متقشفة وزاهدة عن امور الدنيا».
لا يتم اختيار المرجع من قبل النظام الحاكم، وان كان قد حدث مرة ومن غير الرجوع الى الطائفة، ذلك عندما اختار صدام حسين التعامل مع محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، كمرجع للشيعة لكونه عربيا وعراقيا ولا يتحدر من أصول أجنبية. حدث ذلك عام 1992 بعد وفاة المرجع الأعلى آية الله ابو القاسم الخوئي، حيث انتقلت المرجعية العليا الى آية الله الكلبيكاني في قم وبقي الشيعة يتعاملون من الكلبيكاني كمرجع اعلى حتى مات بعد ستة اشهر من تقلده المرجعية، فعادت المرجعية الى مدينة النجف متمثلة في آية الله علي السيستاني.
كما ان المرجعية لا تورث لابن او لأخ او لابن عم، وللشيعة طريقتهم الخاصة في انتخاب المرجع الديني الذي يتصدى لشؤون التقليد، وهذا لا يتم عن طريق ترشيح المرجع لنفسه والفوز عبر صناديق الاقتراع. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه.
ويضيف الباحث الاسلامي غانم جواد قائلا «تضم المرجعية إضافة الى مكتب المرجع، العديد من الأجهزة والمؤسسات تأتي في مقدمتها الحوزة العلمية؛ وهي التي تخرج علماء الدين والمراجع بعد أن يجتازوا المراحل الدراسية المتعددة، وتتميز بالنظام التعليمي المفتوح، بنيتها الأساسية الكتب المقررة والأستاذ ومكان الدراسة (سنأتي بالحديث عن الحوزة العلمية بالنجف في حلقة أخرى). وشبكة الوكلاء، وهم علماء الدين المنتشرون في كافة أنحاء العالم الذين يرتبطون بمكتب المرجع الديني ويقومون بالتوجيه الديني وتقديم الخدمات على ضوء فتوى المرجع ويتلقون منه التعاليم لينشروها بين المسلمين. والمنتديات والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والخيرية والأدبية والمبلغين، وتعد منابر ووسائل اتصال أخرى بالمسلمين». وحسب جواد، فان المرجع الديني هو «الفقيه الذي رجعت إليه جمهرة واسعة من الشيعة في شؤونها الدينية، بعد أن وثقت بعدالته وورعه وعلميته». وقد يتوفر في آن واحد عدد محدود من المراجع المتصدين لمهام المرجعية لا يتجاوز أصابع اليد، والمرجع المتصدي عليه أن يقوم بالتدريس التخصصي الديني في أعلى مراحله في علمي الفقه وأصول الفقه، وأن تصدر عنه رسالة عملية وعدد من المؤلفات المتخصصة تعرف من خلالها آراؤه، وأخيراً فقهاء يدرسون عنده منظمون الى جهازه ويعدون مستشاريه. لذا لا يصح التصديق بكل من ادعى لنفسه المرجعية خصوصاً العاملين في الحقل السياسي أو صنيعة الأنظمة الحاكمة. لانتخاب المرجع لدى الشيعية اسلوب مفتوح للجميع، والعملية تتم عندما يرشح العلماء رجل دين مجتهدا ومرجعا ليتصدى للمرجعية استنادا الى عدد مقلديه. ومن بين اربعة مراجع في العراق وهم: علي السيستاني واسحاق الفياض ومحمد سعيد الحكيم وبشير النجفي، تم ترشيح السيستاني ليكون المرجع الاعلى بسبب أعداد مقلدي هذا المرجع التي تفوق بنسب متفاوتة المراجع الآخرين. على ان هناك بعض رجال الدين من المجتهدين الشيعة يعتقدون بعدم وضع المرجعية العليا بشخص واحد بل بوجوب توزيعها على عدة مراجع، كأن يكون مرجع للشؤون الفقهية، ومرجع آخر لشؤون الحوزة والعلوم، ومرجع للشؤون المالية والخمس بدلا من اشغال مرجع واحد بكل شؤون المرجعية. كما ينبري الكثير من رجال الدين الشيعة وشيعة علمانيون ليتصدوا لموضوع تدخل المرجعية بشؤون السياسة وينادون بضرورة عزل السياسة عن الدين باعتبار ان الدين مقدس ومنزه بينما السياسة هي لعبة الوعود والمراوغة. ويجد هؤلاء ان المرجعية الشيعية قد تورطت عندما دعمت جهة شيعية في الانتخابات النيابية الاولى والثانية ضد بقية الجهات الاخرى، بينما كان يجب ان تمارس المرجعية أبوتها لجميع العراقيين بغض النظر عن الدين او الطائفة او المذهب او القومية.
ولعل المفكر والباحث الاسلامي اياد جمال الدين، والذي يتحدر من عائلة دينية شيعية مثقفة وواعية، وهو رجل دين ايضا، أول من نادى بضرورة قيام حكم علماني في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين وعارض فكرة التداخل ما بين الدين والسياسة.
اما تمويل المرجعية فيتم عن طريق الزكاة والخمس، أي ان يدفع كل شيعي خمس ارباحه للمرجعية، وللمرجع الحق في التصرف بهذه الاموال حسب احتياجات الطائفة، مثل بناء المساجد والمعاهد الدينية والمكتبات وتعميرها، وكذلك بناء المستشفيات والمراكز الصحية، وصرف الرواتب الشهرية لأساتذة الحوزة العلمية وطلبتها والإنفاق على الفقراء وسد احتياجاتهم. ولا نستطيع معرفة الرقم الاكيد لدخل المرجعية، وهذا موضوع صعب للغاية، لكننا نستطيع ان نحدس ان نفقات المرجعية كبيرة جدا، وخاصة في الظروف الحالية في العراق، حيث نفقات المرجعية على الفقراء وطلبة العلم في حوزتي النجف وقم في ايران.
أبناء الطائفة الشيعية لا ينظرون الى قومية المرجع الديني الاعلى، سواء كان عراقيا عربيا أم باكستانيا أم ايرانيا، بل يهتمون بعلمه وفقهه، ونرى ان السيستاني ايراني الاصل، لكنه يعيش في العراق منذ اكثر من نصف قرن. ويبلغ عمر السيد السيستاني 74 عاما، وله ولدان أكبرهما محمد رضا وبنات غالبيتهن تزوجن من رجال دين. ولا ينقطع السيد السيستاني عن امور الدنيا متزهدا بعيدا عما يجري حوله، فهو يشاهد التلفزيون ويسمع الاذاعات ويقرأ الصحف ويستخدم الكومبيوتر.
ولا يقترن اسم النجف بوجود المرجع او المرجعية الشيعية، بل ايضا بوجود حوزتها العلمية الشهيرة. والحوزة العلمية في النجف هي مجموع الحلقات وأماكن الدرس، سواء كان هذا المكان غرفة في بيت رجل الدين (الاستاذ) او في زاوية من صحن الامام علي، او في مسجد، او في مدرسة دينية من مدارس النجف العديدة، او في مكتبة من المكتبات المنتشرة في هذه المدينة. وقد نستطيع القول ان اي حلقة علمية تعقد في النجف في اطار دراسة الفقه والعلوم الاسلامية واللغوية تسمى حوزة.
وبذلك تضم مدينة النجف بمجموعها عشرات الحوزات العلمية التي يطلق عليها جامعة النجف او الحوزة العلمية في النجف. وأسلوب الدراسة في هذه الحوزات هو «التعليم الحر».
يقول غانم جواد الباحث في الثقافة الاسلامية ان «جامعة النجف تعد من أقدم جامعات العالم في دراسات المعارف الاسلامية. على غرار جامع الأزهر الشريف في مصر، والزيتونة بتونس، وجبل عامل في لبنان والقيروان في المغرب. وتمتعت النجف بكونها مركزاً من مراكز الفكر والثقافة العربية/الاسلامية، ومعهداً نشطاً تميز عن غيره في استمراره بفتح باب الاجتهاد الفقهي»، وقد خرج مئات من الفقهاء والمجتهدين والمراجع والأساتذة والمدرسين والأدباء والشعراء أمثال الشيخ النائيني الفقيه الذي كتب في القانون الدستوري الإسلامي، والمرحوم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، والعلامة الراحل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقضى المصلح الكبير السيد جمال الدين الأفغاني سنتين في النجف دارساً ومدرساً، ومنها تخرج المرجع الديني في بلاد الشام السيد محسن الأمين العاملي، ورائد القصة العراقية جعفر الخليلي، وكان شيخ الجامع الأزهر الحالي الدكتور الطنطاوي يتردد على حوزة النجف العلمية، مناقشاً وباحثاً في حوزة الامام الراحل السيد الخوئي، عندما عمل أستاذاً في جامعة البصرة جنوب العراق في سني السبعينيات الميلادية.
وفي كل يوم تعقد في مساجد وحسينيات ومدارس وبيوتات النجف الحلقات الدراسية ضمن الحوزة العلمية التي تضم اليوم وحسب الشيخ علي النجفي، نجل المرجع الديني آية الله بشير حسين النجفي سبعة آلاف طالب، ولولا الظروف الامنية الصعبة لكان عدد الطلبة اضعاف هذا الرقم. ونستطيع ان نعد اكثر من 20 الف طالب يدرسون في حوزات مختلفة من العراق.
نظام الدراسة الحوزوية مفتوح وغير مقيد؛ أي انه لا توجد اية شروط للدراسة في الحوزة، وكل من ينتسب الى هذه الدراسة يسمى طالبا ومجموعهم طلبة»، وعمر الطالب الذي ينتسب الى الحوزة غير محدد؛ فيمكن ان يبدأ الدارس منذ الخامسة عشر من عمره وحتى الثمانين شرط ان يجيد القراءة والكتابة، كما ان موقع الطالب في مرحلته الدراسية لا يتعلق بمستواه العلمي غير الحوزوي، يمكن ان يبدأ طالب الحوزة الدراسة وهو في الصف السادس الابتدائي او في المرحلة المتوسطة من دراسته الاعتيادية، وقد يكون حاصلا على شهادة الدكتوراه في علوم اخرى.
اما نهاية هذه الدراسة فهي مفتوحة، هناك من يمضي اكثر من ثلاثين عاما من الدراسة الحوزوية وهو ما يزال في مرحلة بحث الخارج، وهناك من يمضي خمسين عاما من حياته دارسا في الحوزة؛ فالموضوع يعتمد اولا واخيرا على جهد واجتهاد الطالب نفسه للتقدم في هذه الدراسة الصعبة، ولم تضع الحوزة اية شروط تتعلق بمذهب الدارس سواء كان شيعيا او سنيا، ذلك ان مناهج الدراسة الحوزوية متعددة ومتشعبة وتتناول الفقه الشيعي والسني، لهذا نرى ان المجتهدين من رجال الدين الشيعة لهم المام كبير في المذاهب السنية الاربعة وبقية الفرق الاسلامية او تلك المنشقة عن الاسلام، على انه من المهم ان نعرف انه ليس هناك منهج محدد ومعمم على الحوزات العلمية، بل ان لكل استاذ منهجه وتصوره وأسلوب تدريسه.
يشرح جواد الخوئي، حفيد آية الله ابو القاسم الخوئي الذي بقي على منبر الدرس لاكثر من سبعين عاما، اسلوب الدراسة في حوزة النجف، فيقول «عندما ينتسب الطالب للدراسة الحوزوية عليه ان يسجل اسمه لدى احد المراجع لتتم مساعدته، حيث يصرف له راتب شهري يتناسب مع حياته وعمره ومتطلباته المتقشفة، كما يخصص له مكان للسكن اذا كان من خارج النجف او للقادمين من بلدان بعيدة مثل ايران وباكستان والهند ولبنان وغيرها من الدول، وعادة يجمع الطلبة في مسكن واحد او مساكن متقاربة كي يتيحوا لهم فرصة الدراسة والنقاش والسجال مع بعضهم البعض، وهناك بعض الطلبة يسجلون اسماءهم لدى اكثر من مرجع ليأخذ اكثر من راتب عندما لا يكفيه راتب واحد».
يؤكد الباحث غانم جواد أن «منهج الدراسة في الجامعة الدينية النجفية لا يخضع لنفوذ الدولة، ولا إدارتها، ولا يمول من قبلها. فهي من مكونات المجتمع الديني؛ فبالرغم من كثرة المدارس، لا يوجد رؤساء، أو عمداء، وإنما يشرف عليها علماء الدين، ويستطيع أي فرد مهما كان مستواه الثقافي أن ينضم للمدرسة، إذا استطاع أن يجد له مكاناً للإقامة، ما دامت لديه الرغبة في الدراسة، كما أن الوازع الديني، والرغبة الجامحة للتحصيل العلمي والالتزام الأخلاقي والديني (التقوى والزهد)، هي الوسائل التي تدار بها هذه المدارس»، ويستشهد جواد بحديث للدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق الأسبق حيث يتحدث في مقال له عن جامعة النجف الدينية ما نصه «لقد درست أغلب نظم التعليم الجامعي في الغرب، وزرت الجامعات الألمانية، والبريطانية، والفرنسية، وجامعة أكسفورد، وكامبردج، وتلقيت تعليمي في الجامعات (الأميركية)، إلا أنه ما من جامعة من هذه الجامعات، حتى الألمانية، تستطيع أن تفتخر في حرية التعليم بما يضاهي حرية التعليم، والأصالة اللتين تطبعان شخصية المنتسبين إليها بطابعها المتميز في جامعة النجف».
لا تمنح حوزة النجف العلمية أية شهادة سواء كانت بكلوريوس او ماجستير او دكتوراه او بروفيسور، وكل ما هناك أن الطالب يحصل على اعتراف مكتوب من قبل أستاذه يرشحه فيه بالعبور الى المرحلة اللاحقة او انه أنهى مرحلته الدراسية الحالية، كأن يكون أنهى دراسة المقدمات، ومثلما اوضحنا انه ليست هناك فترة زمنية محددة لنهاية اية مرحلة.
الطالب الحوزوي يكون عرضة دائمة للاختبار سواء من قبل استاذه او من قبل رجال الدين الآخرين الذين هم أرقى درجة علمية منه، فكأن يكون الطالب جالسا في مجلس ما وهناك رجال دين فيسأله احدهم عن المرحلة التي هو فيها ثم يبدأ بتوجيه الاسئلة له ضمن حدود مرحلته، لهذا على الطالب ان يبقى متهيئا لمثل هذه المواقف حتى يبرهن جدارته وجدارة أستاذه، وهذه الاختبارات المفاجئة ليس القصد منها إحراج الطالب أو الأستاذ بل وضع الطالب في موقف علمي جيد.
الأستاذ من طرفه لا يضع ختمه او توقيعه على اية شهادة ما لم يكن متيقنا تماما من كفاءة تلميذه حتى لو كلف ذلك التلميذ سنوات عديدة من الدراسة، علما ان الاستاذ لا يتلقى أي راتب او أجورا سواء من الطالب او من المرجعية، إلا اذا كان نفسه ما يزال طالبا في مرحلة متقدمة من الدراسة في الحوزة. ويوضح جواد بعض مفردات مناهج الحوزة قائلا إن انعقاد حلقات الدرس والبحث اليومي تتواصل منذ طلوع الفجر حتى ساعات متأخرة من الليل، في علوم الفقه والأصول وعلم الكلام والمنطق والحكمة والنحو العربي والبيان والبديع وعلم العروض والأدب العربي، والتاريخ والأخلاق والعرفان والفلسفة وعلم الرجال والتفسير وعلم الحديث النبوي، والرياضيات وعلوم الهيئة والفلك والطب العربي والعلوم الاجتماعية الحديثة، كما تتواصل في مجالسها ومنتدياتها وبيوتاتها المناظرات والمناقشات العلمية والأدبية، والمساجلات والمباريات الشعرية، الأمر الذي يعكس النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في هذه الحاضرة العريقة، إذ لا تمر مناسبة دينية أو وطنية أو قومية، إلا ويعقد رجالاتها المحافل والمنتديات المعبرة عن روح التواصل الحضاري مع تراث الأمة، وقيمها ومبادئها ومثلها العليا، كما تعكس كذلك ملامح الانبعاث الجديد للإسلام وسط عتمة الهيمنة الأجنبية والتسلط الاستعماري. ومدارس النجف الدينية، أشبه بكليات متناثرة في أحياء المدينة، وكل مدرسة من الناحية العمرانية، تتكون من طابق واحد أو طابقين، يحتوي الطابق الواحد منها على عشرات الغرف ومكتبة وقاعة ومرافق خدمية متواضعة (كما يصطلح عليه اليوم بالأقسام الداخلية). ولأغلب هذه المدارس أوقاف ملحقة بها، تخصص مواردها للإنفاق على إدامتها وصيانتها وتغطية بعض احتياجات الطلبة المقيمين فيها، ينفق عليها في الغالب من قبل مراجع الدين، ويسكن هذه المدارس الطلاب غير المتزوجين، أما المتزوجون منهم فيقيمون في منازل خاصة بهم، ومن الجدير بالذكر أن حلقات الدرس والبحث كانت تجري في فناء وغرف صحن مرقد الامام علي(ع)، وفي المساجد والحسينيات والمكتبات المنتشرة داخل المدينة في الغالب. وتحتل المدارس المكان المفضل للدراسة، وفي بيوت الأساتذة تصاحبها متعة خاصة تتمثل في الاستئناس بصحبة الأستاذ المعلم واكتساب مهارته، ومن أشهر المدارس فيها، المدرسة الشبرية، ومدرسة الخليلي، ومدرسة الأحمدية، دار الحكمة، دار العلم، مدرسة القزويني، مدرسة الأخوند، مدرسة كاشف الغطاء، مدرسة البغدادي ومدرسة الصدر.
ان القصد من الدراسة الحوزوية هي «ان الغاية القصوى في سلم هذه الدراسات بلوغ المرتبة العلمية العالية هي (الاجتهاد) ومن ثم تسلم زمام المرجعية الدينية للمسلمين الشيعة لمن كتب له التوفيق الإلهي، أي أن يصل طالب العلوم الدينية الى المستوى الذي يؤهله، لاستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من مصادرها الأساسية (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل)، وان تحقيق هذا المستوى، يتطلب استيعاب الطالب علوم اللغة العربية من مفردات اللغة والنحو والصرف والبلاغة وعلوم القرآن والتفسير». ان «طبيعة النظام الدراسي في النجف يتصف بأن أغلب العلماء هم طلبة، ومدرسون في آن واحد، فالمتقدمون منهم ممن يحضر بحوث (المرجع الأعلى أو المجتهد) ُيدرسون أولئك الذين هم أقل مرتبة منهم. كما أن هؤلاء يُدرسون الذين لا يزالون أقل من مرتبتهم العلمية، وهكذا. وعلى ذلك فان أي شخص يدرس في النجف سيصبح بعد مضي سني الدراسة الأولى تلميذاً وأستاذا في وقت واحد».
http://www.aawsat.com/details.asp?section=3&article=440529&issue=10542