المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيام في العراق .......مدينة بـ 3 أسماء يحكمها قانون السلاح



yasmeen
10-03-2007, 07:31 AM
أيام في العراق (4)

خرج منها شعراء وفنانون وأصبحت محاصرة بالبرك الآسنة ومحاكم الملالي وجيش المهدي


بغداد : معد فياض


من يتعرف على مدينة الثورة والتي سماها صدام حسين فيما بعد بمدينة صدام ثم انتهت باسم مدينة الصدر بعد سقوط النظام عام 2003، من خلال الاعلام المرئي فقط سوف يتصورها مدينة خارجين على القانون وعصاة وقتلة ومعسكرا لجيش المهدي فقط، حيث اللقطات التي تتكرر في شاشات التلفزيون كلما ورد خبر عن مدينة الثورة (الصدر) يظهر بعض الشباب الذين يرتدون ملابس غير متناسقة وهم يحملون رشاشات الكلاشنيكوف، باعتبارهم من هواة القتل ليس الا.
وبالرغم من ان بعض هذه المشاهد تشكل جزءا بسيطا من الحقيقة، خاصة في ما يتعلق باتباع جيش المهدي، الا ان الصورة العامة وما يخص شرائح واسعة وكبيرة من سكان هذه المدينة الذين ربما يزيدون على المليوني عراقي هي غير ذلك تماما.

في هذه الحلقة من (ايام في العراق) تمضي «الشرق الاوسط» يوما كاملا في هذه المدينة المضطربة بفعل اضطراب انتماءات ناسها وتناقضات اوضاعها.. فمنذ ان قامت هذه المدينة في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وحتى اليوم تغير اسمها ثلاث مرات.. لكن طباع اهلها لم تتغير.

أكاد أزعم باني كنت اعرف هذه المدينة منذ منتصف السبعينات، حيث كنت ادرس في اكاديمية الفنون الجميلة، وحتى مغادرتي العراق في أوائل التسعينات كنت ازور اصدقاء وزملاء دراسة لي يقيمون في مدينة الثورة، وغالبيتهم فنانون مسرحيون وسينمائيون وتشكيليون وشعراء وكتاب قصة ومؤلفون في مجالات المسرح والتلفزيون ونقاد واساتذة جامعة في اختصاصات عدة، بل استطيع القول ان غالبية الاسماء المتميزة في مجال الابداع العراقي يتحدرون من تلك المدينة الفقيرة، وهذا ينطبق على مجالات اخرى كالطب والهندسة وبقية الفروع العلمية.

ما من احد عرفته من ابناء مدينة الثورة كان يشعر بالخجل لانتمائه لهذه المدينة، بل على العكس من ذلك كانوا يشعرون بكثير من الفخر والاعتزاز بانتسابهم لمدينة فقيرة، والاكثر من هذا انهم كانوا يستعرضون صور فقرهم الى جانب صور ابداعهم وتفوقهم.

وليس غريبا ان نجد في مدينة فقيرة تعداد سكانها يفوق الثلاثة ملايين نسبة من الجهلة والأميين والخارجين على القانون ايضا. لكن الصفة التي تطبع اهلها بصورة عامة هي الطيبة، اذ انهم ما زالوا يتحلون باخلاق الريف الذي نزح منه أباؤهم واجدادهم.

لم يكن هناك قرار حكومي لتأسيس مدينة الثورة، فهي مثل كل المدن الكبرى في العالم، والعالم الثالث خاصة، والتي تضم مدن الصفيح والاكواخ البسيطة نتيجة تجمع الفقراء من الريف والمدن المجاورة.

وأول ما تكونت هذه المدينة في العهد الملكي عندما كان الاقطاعيون في الريف العراقي وخاصة ريف جنوب العراق يتصرفون بارواح الفلاحين كما يتصرفون بالارض التي يتعب الفلاح بزراعتها وحصاد منتوجها، ومن ثم لم يكن يحصل على ما يكفي لاطعام عائلته، من هنا بدأت العوائل الفلاحية بالهروب من الريف والزراعة باتجاه المدن الكبيرة كالبصرة وبغداد، وكانت حصة العاصمة هي الاكبر، وانخرط الفلاحون في اعمال البناء وغيرها من المهن التي لم تكن بحاجة الى الابداع او الشهادة الجامعية.

وبدأت هذه العوائل بالتجمع في منطقة تقع شرق بغداد وكانت وقتذاك بعيدة جدا عن مركزها، كانوا يعيشون في اكواخ مبنية من الطين من غير ان تتوفر لهم اية خدمات حتى مجيء عبد الكريم قاسم الى السلطة بعد انقلابه على الحكم الملكي وتشكيل اول حكم جمهوري، وعرف عنه حبه للفقراء وانتماؤه لهم، فاهتم بسكان مناطق شرق بغداد وملكهم الاراضي السكنية بمساحات صغيرة لكل عائلة ومد الطرق اليهم وشيد لهم المدارس والمراكز الصحية واطلق على المنطقة اسم مدينة الثورة تيمنا بثورة 14 يوليو (تموز) 1958 التي كان قد قادها قاسم بنفسه.

وصارت المدينة تتسع عشوائيا ومن غير أي تخطيط مديني او حضري وتمتد رقعتها في جميع الاتجاهات حتى قاربت ان تصل الى المركز لولا وجود حاجز طبيعي وهو قناة الجيش التي شقها الزعيم قاسم بنفسه.

مع اتساع المدينة واستقبالها لعشرات الالاف من العوائل الفقيرة ومن جميع الطوائف والقوميات والاديان ضاع رأس خيط هذه المدينة فلم يعد احد يعرف لها «اساس ولا رأس» مثلما يقال في الامثال العراقية الدارجة، ولأنها مدينة بلا تخطيط وعشوائية فقد افتقدت للخدمات الاساسية مثل ايصال التيار الكهربائي والماء والتصريف الصحي للمياه الثقيلة وتعبيد الشوارع.

ورقعة الارض التي استملكها رب العائلة عندما كان لديه زوجة وثلاثة ابناء مثلا، بنى عليها بيتا صار ينمو باتجاه عمودي حيث صار يعيش في البيت الذي مساحته اقل من مائة متر مربع ثلاث عوائل من الابناء وزوجاتهم وابناؤهم حتى تحول كل شيء الى سكن واقامة وبيئة غير صالحة للسكن لغياب الخدمات عنها لاسباب تخطيطية ولأسباب تتعلق بسياسة الحكومات الطائفية التي تلت حكومة عبد الكريم قاسم، وإزاء ذلك صارت ميزة شباب المدينة هو التمرد على الحكومات المتلاحقة التي لم تهتم بسكان الثورة.

لكن الرئيس العراقي السابق صدام حسين قرر الاهتمام بها لكسب رضا اهلها الناقمين عليه باستمرار، وأمر بتوفير الخدمات البلدية لها خاصة بعد زيارته لها واطلق عليها اسم (مدينة صدام)، لكن الناس ما زالوا يطلقون عليها تسمية مدينة الثورة.

لو كنت قد اصغيت لنصائح اصدقائي ببغداد حول رأيهم بزيارتي لمدينة الثورة لما كنت قد ذهبت اليها، بل لو طرحت عليهم مقترح زيارتي لهذه المدينة لمنعوني ولو بالقوة بسبب ما يشاهدونه على شاشات التلفزيون من صور تجعل اهالي المدينة انفسهم يخافون من مدينتهم. ومع اني اعرف ان الكثير من المغامرة تنطوي على هذه الزيارة لوجود عصابات اختطاف الاشخاص، وكذلك لانتشار عناصر جيش المهدي لكن هذه الافكار يمكن ان تنطبق على العديد من مناطق بغداد وخارج بغداد وبالتالي فان من يفكر كثيرا في هذه الصور فعليه ان يبقى حبيس الجدران.

صديقي عباس وحده اقنعني بضرورة زيارة مدينة الثورة، فهو ابن المدينة ولد وترعرع وكبر فيها. عباس خريج اكاديمية الفنون الجميلة قسم الفنون المسرحية، وهو شيعي علماني لكنه يرتبط بعلاقات جيدة مع كل الاطراف، مع التيار الصدري والسنة والشيوعيين. قال لي «تعال معي ولا تخش شيئا»، ولانني اثق به وبكلمته وبمهاراته صعدت في سيارته، شوفرليه كندية الصنع يعود تاريخ صناعتها الى العام 1983 كانت وزارة الدفاع قد وزعتها لضباط الجيش العراقي وقتذاك، لم تكن جهة في سيارته الرصاصية اللون غير مضروبة، تكاد تكون (مطعوجة) من كل الجهات، قال «هذه السيارة التي تنفع للتنقل في بغداد،لا احد يطمع فيها فيقتلني من اجل سرقتها، وحتى لو اتركها قرب البيت من غير ان اغلق ابوابها فلن ياتي من ياخذها»، لكنه يملك سيارة اخرى يابانية الصنع (تويوتا، موديل 2003) مركونة في كراج البيت يقودها في اوقات محددة للغاية، حسب ايضاحه.

كانت آخر مرة زرت فيها مدينة الثورة عام 1992 عندما زرت احد الاصدقاء وهو رسام معروف يقيم حاليا في هولندا، كان حال المدينة افضل مما عليه الان بمراحل كثيرة. لم أفاجأ من المناظر التي شاهدتها ذلك ان مناطق في بغداد اكثر رقيا وترفا ويسكنها الاغنياء تحولت اليوم الى مزابل واوضاعها يرثى لها. لكن في مدينة الثورة نرى تلال القمامة اعلى من غيرها في بقية المناطق، ورائحتها تزكم الانوف، بل تجاور البيوت، يضاف اليها مستنقعات المياه الآسنة التي تحولت الى اللون الاسود نتيجة تركيز الاوساخ فيها، هذه المستنقعات تحيط بالبيوت السكنية وتحولها الى جزر بينها مماش ضيقة من الحجارة التي وضعها اصحاب البيوت للوصول الى مساكنهم.

كان الاطفال يلعبون ويلهون هناك بينما الرجال يجلسون فوق حصير منسوج من سعف النخل على الارض يدخنون ويشربون الشاي ويستهلكون الاحاديث السياسية بكل جدية وهناك ملايين الحشرات الطائرة من بعوض وذباب فوق سطح المياه التي لا تطاق رائحتها. سألت عباس مستغربا، الا يشعر هؤلاء برائحة هذه المياه والقمامة ولا بقرصات هذه الحشرات. ابتسم بمرارة وقال «هناك شيء اسمه التعود والتطبيع، نحن تعودنا هذه الرائحة وتطبعنا مع هذه الحشرات فانا منذ ولدت هنا وحتى اليوم لم اشعر باي تغيير في اوضاع المدينة. اختبرت معلوماتي وسألته ان كانت المنطقة التي نقطعها تحمل اسم (الجوادر)، اجاب بنعم واثنى على ذاكرتي لان المنطقة تغيرت سلبيا كثيرا وتراجعت الى الوراء. كانت هناك ساحة توسطتها سابقا صورة كبيرة مرسومة لصدام حسين، تم طلاء الصورة وازالة ملامحها، بالطبع، ورسم مكانها ثلاث صور لمحمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر ومقتدى الصدر، ابتسم عباس عندما صرنا قرب هذه اللوحة وقال «كنا نرى صورة صدام فقط واليوم نرى عشرات الوجوه، فعلوا ذلك من باب التنويع»، اردت ان التقط صورة للوحة لكن عباس فاجأني بحركة بيده اسقطت الكاميرا في ارضية السيارة، وقال «انت مجنون،لاتخرج اية كاميرا هنا، خاصة انها كاميرا حديثة، انت صحافي يعني هذا انت جاسوس وخائن وسيحل جيش المهدي قتلك»، سالته كيف اذن يلتقط مصورو الوكالات انواع الصور في هذه المدينة، اجاب قائلا «هذا يتم وفق اتفاقيات مع المسؤولين وان يكونوا برفقة حماية شخصية او برفقة القوات العراقية او الاميركية».

هذه المدينة تشهد كثافة كبيرة جدا، وحسب شروحات عباس فان غالبية البيوت تحيا بها ثلاثة عوائل او تسع او عشر اشخاص كأقل حد مع ان البيوت صغيرة ولا تتسع لاربعة اشخاص في الغالب. شوارع ودروب وازقة مدينة الثورة مؤثثة بالاطفال الذين يتحركون بدأب هنا وهناك، اطفال حفاة او نصف حفاة، ملابسهم رثة لكننا نقرأ كل علامات البراءة في وجوههم وعيونهم التي تتساءل عن الذنب الذي اقترفوه ليعيشوا وسط بؤر الامراض هذه حيث لا تيار كهربائي ولا مياه صالحة للشرب ولا خدمات طبية كافية.

عبد الحسين منشد، شيخ في الثالثة والستين من عمره، قال «كل يوم تحاصر مدينتنا وكأننا مجرمون وطائرات الهليكوبتر الاميركية تقصف بيوتنا بينما تهاجمنا القوات الاميركية والعراقية ونحن في بيوتنا من غير ان تحترم حرمة عوائلنا، اهذه هي الحياة التي وعدنا بها بعد تغيير نظام صدام حسين والدفاع عن الشيعة المظلومين»، ويضيف هذا الشيخ الذي كان قد فقد اثنين من ابنائه خلال انتفاضة 1991 قائلا «انا ابيع الخضار في السوق صباحا ولا معيل لنا بعد فقد ابنائي الاثنين والحكومة لا تساعدنا بل تعاقبنا كاننا مذنبون».

زوجته التي شارفت على نهاية الخمسينات من عمرها والتي تتشح بالسواد تشكو قائلة «أي حياة هذه التي نعيشها وسط هذه المزابل، بدلا من ان يرسلوا كل يوم قواتهم لتقتل هذا وذاك لماذا لا يرسلون فرق البلدية لتنظف شوارعنا وتساعدنا على ان نعيش كبشر».

لم نستطع من لقاء رئيس مجلس البلدية في مدينة الثورة «فهو مشغول بتعزية بعض العوائل التي قتل ابناؤها بتهمة انتمائهم الى جيش المهدي، لذا قررنا ان نتوجه الى مستشفى الشهيد الصدر العام (كانت المستشفى تحمل اسم مستشفى صدام العام)، في قسم الطوارئ التقى عباس احد الاطباء وهمس باذنه بان من يرافقه صحافي من جريدة «الشرق الاوسط»، اشار الطبيب الشاب لان نلتقي خارج سياج المستشفى التي تقع عمليا تحت سيطرة جيش المهدي او التيار الصدري الذي يقوده رجل الدين الشيعي المتشدد مقتدى الصدر، نزع الطبيب صدريته البيضاء وعلقها في قسم الطوارئ ولحق بنا الى خارج المستشفى التي تنتشر فيها رائحة الدم والديتول.

كانت الفوضى تعم كل شيء في المستشفى الفقير حيث اسراب من الذباب والبعوض تسبح في فضاء ردهة الطوارئ.

قال الطبيب الشاب الذي بان على وجهه التعب الشديد «لم يبق في المستشفى اختصاصيون معروفون اذ ادت عمليات اغتيال الاطباء واختطافهم وتهديدهم الى هجرة من بقي حيا منهم. نحن نعاني هنا من نقص في الاطباء والممرضات والممرضين والصيادلة والادوية والمستلزمات الطبية مع ان باقي المستشفيات يحسدون مستشفانا كونها تحمل اسم الشهيد الصدر ووزارة الصحة كانت للتيار الصدري ووزيرها كان من التيار الصدري، هذا قبيل اقالته من قبل مقتدى الصدر ومن ثم هروبه الى الولايات المتحدة وطلبه حق اللجوء هناك. فكرت اذا كانت بقية المستشفيات تحسد هذا المستشفى فكيف هو الحال اذن في بقية المستشفيات العراقية.

كان عباس يخفي مسدسه تحت قميصه، ففي مدينة الثورة لا تستطيع ان تمشي من غير ان تحمل معك سلاحك، سواء تخفيه في سيارتك او تحت قميصك او تشهر بحمله اذا كان رشاش كلاشنيكوف، وهنا، حسب ايضاح عباس «اكبر مستودع للاسلحة في العراق وتوجد على مقربة منا سوق سلاح عامرة بانواع الرشاشات والمسدسات والقذائف والعتاد حتى اني اخشى ان تتوفر لديهم طائرات هليكوبتر ودبابات».

في بيت عباس تتوفر مكتبة كبيرة مزدهرة بانواع من الكتب الفنية والروايات والكتب النقدية والسياسية وايضا الكتب الدينية العائدة لوالده. وبالرغم من ان والده كان عسكريا بسيطا الا انه متتبع جيد لما يصدر من الكتب ويقول الشعر الشعبي بطلاقة وهو يحلل الاوضاع السياسية بذكاء ولا تخلو هذه التحليلات من الصحة.

لم يسالني أي من الذين اجتمعوا معنا على بساط الغداء ان كنت سنيا او شيعيا، مثل هذه الاسئلة يخجل العراقيون عن طرحها. الحاضرون لم يكونوا غرباء، عم عباس وابن عمه وثلاثة من اصدقائه قبل ان يلتحق بهم اثنين من اصدقائنا المشتركين والذين درسوا معي في اكاديمية الفنون الجميلة وتفاجأوا بوجودي في بيت عباس. احدهم هو الان استاذ في الاكاديمية ويحمل شهادة الدكتوراه في الفن السينمائي، والآخر رسام ما يزال يقيم المعارض او يشارك فيها.

الدكتور في الفنون السينمائية قال «لقد انتجت فيلما وثائقيا عن اوضاع المدينة لكنني اخشى عرضه لانني اتعرض لموضوع الدين والطائفة وكيفية استغلالهما للسيطرة على الناس هنا، اخشى عرضه واذا قمت بذلك فسوف يقتلوني». عندما دار الحديث عن الطائفية اقسم لهم عباس بانه يعرفني منذ اكثر من 25 سنة ولا يعرف ان كنت سنيا ام شيعيا، انبرى ابو خميس، عم عباس، وهو في بداية الستين من عمره فقال «لم نكن نعرف كل هذا طوال حياتنا، فالسنة طوال عمرهم اهلنا وجيراننا والناس يحسبون ان جميع سكان هذه المدينة هم من اتباع مقتدى الصدر او جيش المهدي بينما هناك قلة قليلة في مدينة الثورة هم اتباع جيش المهدي».

مدينة الثورة التي يصفها الاعلام عادة بانها ذات الاغلبية الشيعية تضم الكثير من العوائل السنية والكردية والمسيحية والصابئية، بل ان هناك حيا كبيرا جدا اسمه «حي الاكراد» تسكنه المئات من العوائل الكردية، لكن ابو خميس يعترف ان الغلبة حاليا في مدينة الثورة هي لرجال الدين، الملالي، الذين يتكئ عليهم مقتدى الصدر وباستطاعة المتنفذين منهم اصدار احكام عشوائية باعدام هذا او جلد ذاك، ومكاتب هؤلاء هي الحسينيات. بامكان هؤلاء الملالي تحشيد الاف الاشخاص للخروج في مظاهرة او السير على الاقدام الى النجف، او أي امر يصدره الصدر، وهم لا يفعلون ذلك تطوعا او خدمة للاسلام بل هناك مصالح شخصية بحته، فهم يتقاضون رواتبهم ورواتب مريديهم من مقتدى الصدر.

يشرح لي عباس طبيعة تنظيمات جيش المهدي في مدينة الثورة قائلا «ليس هناك تعيينات او اوامر بتعيين فلان لقيادة هذه المجموعة او تلك وانما الامر يتوقف على الاقوى والذي يملك السلاح او يستطيع توفيره وله اتباع عند ذاك سيكون قائدا لمجموعة من مقاتلي جيش المهدي ويفرض نفسه كامر واقع حتى وان لم تكن له علاقة مع التيار الصدري او جيش المهدي، ولكن بمرور الزمن وتنامي قوة هذا القائد الميداني وتكريس اسمه بين الناس يعترف به كجزء من جيش المهدي وان لم يكن يتسلم اية اوامر من الصدر او غيره».

نخرج الى اسواق المدينة فنراها عامرة بكل انواع المواد الاستهلاكية، الكهربائية خاصة، مولدات طاقة كهربائية، تلفزونات حديثة، اجهزة صوتية، اجهزة تبريد، فالمدينة تزدهر بالاغنياء بالرغم من مظاهر الفقر التي يعاني منها الاغلبية، وهؤلاء الاغنياء تعودوا الحياة هنا وان كان بعضهم قد نقل سكنه بعيدا عن الثورة الى شارع فلسطين او حي جميلة او تجاوز ذلك الى حي المنصور، لكنه يبقى مرتبطا بالمدينة من حيث مشاريعه التجارية او علاقاته الاجتماعية.

في فترة من الفترات، خاصة بعد دخول القوات العراقية الى الكويت عام 1990 وطوال سنوات الحصار القاسية، شاع اسم سوق (مريدي) الذي كان يباع فيه كل شيء تقريبا، الاطعمة والمواد الكهربائية، وكل شيء لا تجده في اسواق بغداد الاخرى، خاصة البضائع التي نقلت من الكويت، اذ بيعت في هذا السوق اجهزة كمبيوتر معقدة ذات اختصاصات طبية او علمية بحتة باسعار رخيصة لعدم معرفة البائع بها او باهميتها. اشتهر سوق مريدي ايضا بتزوير الوثائق الرسمية بانواعها وصولا الى جوازات السفر والشهادات الجامعية ودفاتر الخدمة العسكرية.

كان النهار ينسحب تدريجيا من يومنا في مدينة الثورة او مدينة صدام او مدينة الصدر الصاخبة بالحياة والناس واصوات الانفجارات والاغاني الريفية، وكان علي ان انسحب بهدوء تماما مثلما دخلت. عدنا الى منطقة الكرادة داخل حيث تعهد عباس على ايصالي الى هناك، مررنا بنقاط سيطرة وتفتيش وحواجز امنية وارتال للقوات العراقية واخرى للقوات الاميركية، لكن كل هذا لم يؤثر على ايقاع الحياة البغدادية، فالناس هناك يقاومون كل شيء وابرز ما يقاومونه هو اليأس والايمان بالغد.

* باستطاعة المتنفذين في مدينة الثورة إصدار أحكام عشوائية بالإعدام والجلد.. وقادة جيش المهدي يفرضون أنفسهم كأمر واقع حتى ولو لم تكن لهم علاقة مع التيار الصدري > سيدة في أواخر الخمسينات: لماذا لا يرسلون فرق البلدية لتنظيف شوارعنا بدلا من إرسال قواتهم كل يوم لتقتل هذا وذاك؟ > ساكن في المدينة: تطبعنا مع أكوام القمامة والرائحة الكريهة والحشرات > أسواق مدينة الثورة عامرة بكل السلع لخدمة الأغنياء