مرتاح
09-13-2007, 11:26 AM
إيمان القحطاني - « العربية نت »
لو قارن مراقب «ما» عدد الدعاة والمشائخ في عالمنا العربي لصعق جراء النتائج التي ستصدم عقله، تلك ليست مبالغة فبعملية رياضية بسيطة أو جولة عامة لمكتباتنا العربية لما خرجنا بذلك العدد الكبير للعلماء والمفكرين الذين غيروا مجرى مجتمعاتهم بمنتوجهم العلمي أو الثقافي.
إنه لأمر يحز في النفس كيف أن معظم المجتمعات العربية تعتاش على الفتاوى والمنتوج الديني بقدر إهمالها للمنتوج الفكري والعلمي، وفي عهود التداخلات السياسية الدينية ضاع العالم والمفكر و المثقف الذي بات في حيرة من أمره في الكيفية التي قد تنقذ مجتمعه من دوامة الدين الذي يحرك مجتمعاتنا وكأن الكون سيتوقف إن تدبرنا للحظة حال الانحطاط والتردي الحضاري التي نعيشها.
ذلك الداعية المعروف الذي انبرى للدفاع عن قيم المجتمع ذلك الداعية الجهبذ الذي لا يحتمل إلا أن يطلق على أتباع المذهب الشيعي (رافضة) يتصل على احد سماسرة العقار ليتبين قيمة عقار ضخمة تتجاوز الستة أصفار لكي يحظى بنصيبه من الصفقة وليضيفه إلى حسابه الضخم، ذلك هو العالم الخاص والسري لأحد الدعاة ذوي الحسابات المتضخمة.
فكيف خُدعت الشعوب المسلمة بالخطاب الديني المتدثر بالمصالح الشخصية على مدى العقود الماضية.
ها هو رمضان يطل علينا ومعه يطل عدد هائل من المشائخ لمحو البقية الباقية من العقل العربي!
وليعلم القارئ العزيز أني لا استهدف هنا الدين الإسلامي بشكل خاص بل أؤكد له احترامي التام للعقائد الدينية كافة، ولكني أحثه على استقلالية التفكير وربما أكون متفائلة إن طالبته بالتمرد على أدعياء الحق بعد أن أصبحت الشعوب المسلمة هي محامي الدفاع عن هؤلاء في المجالس الخاصة والعامة.
من الصعب أن يتربى أفراد مجتمع ما على هذه الثقافة المعلبة لعقود ثم تطالبهم بالتوقف للحظات للتفكير! أليس كذلك!
كنت أجري تقريرا صحافيا لإحدى الجرائد اليومية التي عملت بها حول احد مشائخ تيار الصحوة الذين يحظون بجمهور واسع وحين عرضته على مديري أصر على استطلاع رأي احد أعضاء هيئة كبار العلماء وحيث أنني مثابرة في عملي ومتفائلة دائما بتحقيق ما يطلب مني بادرت بالاتصال بأحد أعضائها والذي ما أن سمع بالموضوع حتى تهرب من الإجابة !! فاتصلت بعضو آخر والذي رفض أيضا الحديث وذلك حقه الشخصي ولا غضاضة في ذلك إلا أن احد الأعضاء البارزين إعلاميا والمكثرين من الظهور التلفزيوني، رحب باتصالي كثيرا حتى سمع بفحوى الموضوع فبادرني متسائلا:«وش تبين بهالموضوع؟ فقلت له أني اجري تقريرا صحافيا ويهمني رأيه خاصة أن الأعضاء كانوا مجتمعين في الطائف لمناقشة أجندة عملهم وكان من - وجهة نظري طبعا- أن من اخطر تلك القضايا هي عبثية الفتوى !! إلا أن الشيخ احتد في حديثه معي ووصفني بالملقوفة! «هذي لقافة مو صحافة» على حد تعبيره، كما حذرني من أن يسجد الشيخ المعني بالتحقيق ويطلق سهام دعائه نحوي فلا أقوم بعدها أبدا !!.
ذلك الشيخ كان خائفا من سطوة الجمهور العريض لذاك الشيخ وتلك حسابات لا يفترض بعالم متبحر في الدين أن يضعها في حسبانه إلا أن المتأمل في عدد مشابه لتلك الحالة سيجد أن بعض المشائخ يخشون في الله لومة لائم وتلك لعمري مصيبة ابتلي بها «العقل المشائخي» الذي يحتاج في تحليله إلى مجلدات بحثية عميقة.
إن كان بعض هؤلاء المشائخ يخافون من إبداء أرائهم تجاه فتاوى منسوبة لزملائهم في المهنة إذا فكيف يتحدثون عن خشية الله وعن قول الحق أيا كانت الظروف و خاصة أن الأمر لم يكن ليثير فتنة طائفية أو سياسية!
تلك مسألة خطيرة تثير استفهامات عدة حول استقلالية« العقل المشائخي» ومدى صدقيتهم مع جمهورهم المتلقي العريض الذي يتلقف الفتوى كما لو أنها اختراع عظيم لم تصل إليه الإنسانية جمعاء!.
لطالما كانت هناك علاقة وثيقة بين السياسي والديني واشتبكت تلك العلاقة إلى حد التصاق الجنين برحم أمه إلا أن الحبل السري الذي جمع بين الطرفين بدا أخيرا في التهلهل والانفكاك بعد أن أصبحت المواجهة مباشرة في وجه السياسي، والذي من جهة أخرى بدأت تنتفي مصالحه التاريخية مع الديني لتتمظهر تلك العلاقة في مواجهات حادة كان احد أشكالها العنف المسلح.
ما أدى أيضا إلى ظهور صيغة جديدة لتلك العلاقة تشكلت من خلالها مجموعة جديدة من المشائخ أصحاب العقل البراغماتي الميكافيللي فهؤلاء ما فتئوا ينبرون للتبرير فأصبحت فتاواهم معملا لتبرير ذاك الفعل السياسي أو تحريم ذاك الشأن السياسي، فباتت السياسة تعيث في الدين فسادا وزادت من حدة الاحتقان الموجود أصلا بين السياسي و الطرف الآخر المعني بتلك الفتوى.
منذ زمن ليس بالقصير صدر عن صحيفة أجنبية تقرير يحوي أكثر الفتاوى عجائبية في وطننا العربي وبرأيي كانت تلك الفتاوى من أكثر الفتاوى فضائحية وإحراجا لنا على جميع المستويات كما أنها كشفت مدى هشاشة «العقل المشائخي» وترهله الفكري أمام العالم الخارجي.
في عهد الدولة القاجارية إبان انهيار الدولة الصفوية أصابت التجارة الإيرانية انهيارا ملحوظا وذلك جراء ارتفاع الضرائب وفقدان الأمن واحتكار كل من روسيا وانجلترا لتجارة إيران الخارجية حينها نشأ تحالف وثيق بين الفقهاء وتجار البازار على المستوى السياسي يقول مصطفى اللباد في كتابه «حدائق الأحزان، إيران وولاية الفقيه»،: «وبتعاظم المظالم والضغوط على المجتمع الإيراني وفئاته وشرائحه الاجتماعية دخل الفقهاء حلبة السياسة من باب الفتوى الدينية .إذ جاءت فتوى قصيرة الكلمات عميقة الأثر لمرجع التقليد الأكبر آية الله محمد حسن شيرازي بتحريم التبغ عام 1891 لتكلل التحالف الوثيق الناشئ على المستوى السياسي في عصر الأسرة القاجارية والمستمر حتى اليوم، بين الفقهاء من جهة والبازار من جهة أخرى».
كان هذا التحالف بين الفقهاء والتجار تحالفا سياسيا بالدرجة الأولى تعمد من خلاله الفقهاء إحراج الأسرة القاجارية الحاكمة أمام حليفها الأجنبي ولحصد مزيد من السلطة داخل الجسد الإيراني وذلك مثال بسيط أمام كم هائل من المصالح المشتركة والتي استخدمها الديني لتحقيق مصالحه السلطوية والشعبية، يسردها لنا التاريخ متجردا من الانحياز اللاعقلاني!
ونتج عن ذلك التحالف التاريخي بين الطرفين السياسي والديني انهيار تدريجي أصاب العقل العربي في جميع مفاصله الحياتية فبات أسيرا كالدمية معلقا بخيوط العقل المشائخي الذي يحركه تارة نحو اليسار ثم يسحبه عائدا نحو اليمين ما تسبب في انشقاق بعض تلاميذ ذلك العقل وحلفائه وجنوحه نحو تشكيل جماعات مستقلة تسعى إلى خلق كينونة جديدة تمثلت في مخلوق مشوه جر مجتمعاته إلى انهار من الدماء وأكوام من الدمار.
و رغم تلك النتائج المروعة لذلك التحالف إلا أن واقعنا الحالي لا يشهد أي نوع من الحلول الجذرية بل هو عصر المزايدات الدينية حتى بات الكل مفتيا وشيخا ومرشدا وملا!
فالمجتمعات العربية لم تكتف بتعبئة عقلها بذلك المنتج بل تلبست ذلك الدور في أشكال عدة حيث لا يخلو مجلس أو شارع أو مقهى, من فرد متوسط التعليم يبسط سلطته على الآخرين من خلال ثقافته الدينية السمعية فيحرم ذلك ويزمجر غضبا دفاعا عن أراء مشائخ سمعها هنا أو شاهدها هناك!
تلك الأجواء المشحونة دينيا وطائفيا هي احد العوامل الرئيسة التي ساهمت في إجهاض العقل العربي واحتكاره لقرون متتالية حتى وان خرج من يتمرد على تلك المنظومة المهترئة نجده إما مهددا كما حدث مع المفكر سيد القمني او العفيف الأخضر أو رجاء سلامة أو شهيد قلمه كالمفكر المصري فرج فودة أو الإيراني علي شريعتي، فمجتمعات مهووسة بالدين لهذا الحد لا يمكن لها إخراج جيل من المفكرين والفلاسفة.
آفة أخرى أفرزها لنا «العقل المشائخي» هي صغار المفتين وهم خريجو الجامعات والمعاهد الشرعية وهم بلاء مصغر عن ذلك البلاء الكبير الذي ابتلي به العقل العربي، هؤلاء هم تلامذة صغار يفتون في كل شأن حتى وان كان بعيدا كل البعد عن تخصصهم العلمي او المعرفي.
بعض هؤلاء متغلغلون في القطاعات التعليمية العربية نافذين في أركانها الإدارية، أخرجوا لنا جيلا من العقول الصدئة و عددا لا يستهان به من الإرهابيين والانتحاريين المحتملين.
تقول الداعية السعودية الدكتورة قذلة القحطاني على موقعها الشخصي على الانترنت ،وهي بالمناسبة تنقلت خلال 20 عاما بين قطاعات ومراحل تعليمية مختلفة مابين تعليم أولى إلى التعليم الجامعي في رد لها على سؤال مستفتية حول صديقتها الشيعية وهل هي آثمة بصحبتها:« احذري مصادقة هؤلاء، وكما لا يخفى عليك أنَّ من أصولهم: »التقية»، وتعني ـ كما عرفها أحد علمائهم المعاصرين بقوله ـ: «التقية: أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد؛ لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك» ولهذا لن تظهر لك الخلاف ولا العداء، وهذا ممَّا يزيد الأمر خطورة.
أيضاً لا بدَّ أن تقرئي عن هذا المذهب، وتعرفيه على حقيقته ولا بد لك من مناصحتها وبيان الحق لها؛ لعلّ الله أن يهديها للحق، ويمكن إهداؤها بعض الكتب لتبرأ ذمتك، فإن أصرَّت على ما هي عليه ففارقيها، واسألي الله لك الثبات، وابحثي عن صديقة صالحة مخلصة تعينك على طاعة الله، وتعاوني وإياها على فعل الخيرات، وتذكري قوله تعالى: ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ (الزخرف:67).».
وهذه الفتوى العبقرية ليست بالقديمة بل لم يتعد زمنها الشهرين، وبقدر خطورة تلك الفتوى هناك آلاف بل ربما ملايين من الفتاوى المماثلة التي لا تختلف عن سابقتها تطرفا وطائفية ولا تقل عنها خطورة. والسؤال الذي تثيره تلك الفتوى مدى التغلغل الذي تسببت به فتاوى ومواقف سابقة في خلق حال من التوتر الديني لدى الأفراد البسطاء لتجعلهم في حال متأهبة لاستقبالها وتخزينها وممارستها سلوكيا في مناحي حياتهم لنخلق بذلك جوا من الهوس الديني الذي لا يخضع لتحليل منطقي او إنساني.
وكما أشرت سابقا حول خطورة العبث الإفتائي الذي أنتجه «العقل المشائخي» فإننا لن ننعم بمجتمعات مستقلة فكريا يحركها المنطق السليم والفطرة الإنسانية إلا إن تخلصنا من ذلك الاحتكار العقلي ويبقى الخيار دائما في يد الإنسان الحر المعافى من لوثة الفكر المتعصب وزنزانة الرأي الواحد.
لو قارن مراقب «ما» عدد الدعاة والمشائخ في عالمنا العربي لصعق جراء النتائج التي ستصدم عقله، تلك ليست مبالغة فبعملية رياضية بسيطة أو جولة عامة لمكتباتنا العربية لما خرجنا بذلك العدد الكبير للعلماء والمفكرين الذين غيروا مجرى مجتمعاتهم بمنتوجهم العلمي أو الثقافي.
إنه لأمر يحز في النفس كيف أن معظم المجتمعات العربية تعتاش على الفتاوى والمنتوج الديني بقدر إهمالها للمنتوج الفكري والعلمي، وفي عهود التداخلات السياسية الدينية ضاع العالم والمفكر و المثقف الذي بات في حيرة من أمره في الكيفية التي قد تنقذ مجتمعه من دوامة الدين الذي يحرك مجتمعاتنا وكأن الكون سيتوقف إن تدبرنا للحظة حال الانحطاط والتردي الحضاري التي نعيشها.
ذلك الداعية المعروف الذي انبرى للدفاع عن قيم المجتمع ذلك الداعية الجهبذ الذي لا يحتمل إلا أن يطلق على أتباع المذهب الشيعي (رافضة) يتصل على احد سماسرة العقار ليتبين قيمة عقار ضخمة تتجاوز الستة أصفار لكي يحظى بنصيبه من الصفقة وليضيفه إلى حسابه الضخم، ذلك هو العالم الخاص والسري لأحد الدعاة ذوي الحسابات المتضخمة.
فكيف خُدعت الشعوب المسلمة بالخطاب الديني المتدثر بالمصالح الشخصية على مدى العقود الماضية.
ها هو رمضان يطل علينا ومعه يطل عدد هائل من المشائخ لمحو البقية الباقية من العقل العربي!
وليعلم القارئ العزيز أني لا استهدف هنا الدين الإسلامي بشكل خاص بل أؤكد له احترامي التام للعقائد الدينية كافة، ولكني أحثه على استقلالية التفكير وربما أكون متفائلة إن طالبته بالتمرد على أدعياء الحق بعد أن أصبحت الشعوب المسلمة هي محامي الدفاع عن هؤلاء في المجالس الخاصة والعامة.
من الصعب أن يتربى أفراد مجتمع ما على هذه الثقافة المعلبة لعقود ثم تطالبهم بالتوقف للحظات للتفكير! أليس كذلك!
كنت أجري تقريرا صحافيا لإحدى الجرائد اليومية التي عملت بها حول احد مشائخ تيار الصحوة الذين يحظون بجمهور واسع وحين عرضته على مديري أصر على استطلاع رأي احد أعضاء هيئة كبار العلماء وحيث أنني مثابرة في عملي ومتفائلة دائما بتحقيق ما يطلب مني بادرت بالاتصال بأحد أعضائها والذي ما أن سمع بالموضوع حتى تهرب من الإجابة !! فاتصلت بعضو آخر والذي رفض أيضا الحديث وذلك حقه الشخصي ولا غضاضة في ذلك إلا أن احد الأعضاء البارزين إعلاميا والمكثرين من الظهور التلفزيوني، رحب باتصالي كثيرا حتى سمع بفحوى الموضوع فبادرني متسائلا:«وش تبين بهالموضوع؟ فقلت له أني اجري تقريرا صحافيا ويهمني رأيه خاصة أن الأعضاء كانوا مجتمعين في الطائف لمناقشة أجندة عملهم وكان من - وجهة نظري طبعا- أن من اخطر تلك القضايا هي عبثية الفتوى !! إلا أن الشيخ احتد في حديثه معي ووصفني بالملقوفة! «هذي لقافة مو صحافة» على حد تعبيره، كما حذرني من أن يسجد الشيخ المعني بالتحقيق ويطلق سهام دعائه نحوي فلا أقوم بعدها أبدا !!.
ذلك الشيخ كان خائفا من سطوة الجمهور العريض لذاك الشيخ وتلك حسابات لا يفترض بعالم متبحر في الدين أن يضعها في حسبانه إلا أن المتأمل في عدد مشابه لتلك الحالة سيجد أن بعض المشائخ يخشون في الله لومة لائم وتلك لعمري مصيبة ابتلي بها «العقل المشائخي» الذي يحتاج في تحليله إلى مجلدات بحثية عميقة.
إن كان بعض هؤلاء المشائخ يخافون من إبداء أرائهم تجاه فتاوى منسوبة لزملائهم في المهنة إذا فكيف يتحدثون عن خشية الله وعن قول الحق أيا كانت الظروف و خاصة أن الأمر لم يكن ليثير فتنة طائفية أو سياسية!
تلك مسألة خطيرة تثير استفهامات عدة حول استقلالية« العقل المشائخي» ومدى صدقيتهم مع جمهورهم المتلقي العريض الذي يتلقف الفتوى كما لو أنها اختراع عظيم لم تصل إليه الإنسانية جمعاء!.
لطالما كانت هناك علاقة وثيقة بين السياسي والديني واشتبكت تلك العلاقة إلى حد التصاق الجنين برحم أمه إلا أن الحبل السري الذي جمع بين الطرفين بدا أخيرا في التهلهل والانفكاك بعد أن أصبحت المواجهة مباشرة في وجه السياسي، والذي من جهة أخرى بدأت تنتفي مصالحه التاريخية مع الديني لتتمظهر تلك العلاقة في مواجهات حادة كان احد أشكالها العنف المسلح.
ما أدى أيضا إلى ظهور صيغة جديدة لتلك العلاقة تشكلت من خلالها مجموعة جديدة من المشائخ أصحاب العقل البراغماتي الميكافيللي فهؤلاء ما فتئوا ينبرون للتبرير فأصبحت فتاواهم معملا لتبرير ذاك الفعل السياسي أو تحريم ذاك الشأن السياسي، فباتت السياسة تعيث في الدين فسادا وزادت من حدة الاحتقان الموجود أصلا بين السياسي و الطرف الآخر المعني بتلك الفتوى.
منذ زمن ليس بالقصير صدر عن صحيفة أجنبية تقرير يحوي أكثر الفتاوى عجائبية في وطننا العربي وبرأيي كانت تلك الفتاوى من أكثر الفتاوى فضائحية وإحراجا لنا على جميع المستويات كما أنها كشفت مدى هشاشة «العقل المشائخي» وترهله الفكري أمام العالم الخارجي.
في عهد الدولة القاجارية إبان انهيار الدولة الصفوية أصابت التجارة الإيرانية انهيارا ملحوظا وذلك جراء ارتفاع الضرائب وفقدان الأمن واحتكار كل من روسيا وانجلترا لتجارة إيران الخارجية حينها نشأ تحالف وثيق بين الفقهاء وتجار البازار على المستوى السياسي يقول مصطفى اللباد في كتابه «حدائق الأحزان، إيران وولاية الفقيه»،: «وبتعاظم المظالم والضغوط على المجتمع الإيراني وفئاته وشرائحه الاجتماعية دخل الفقهاء حلبة السياسة من باب الفتوى الدينية .إذ جاءت فتوى قصيرة الكلمات عميقة الأثر لمرجع التقليد الأكبر آية الله محمد حسن شيرازي بتحريم التبغ عام 1891 لتكلل التحالف الوثيق الناشئ على المستوى السياسي في عصر الأسرة القاجارية والمستمر حتى اليوم، بين الفقهاء من جهة والبازار من جهة أخرى».
كان هذا التحالف بين الفقهاء والتجار تحالفا سياسيا بالدرجة الأولى تعمد من خلاله الفقهاء إحراج الأسرة القاجارية الحاكمة أمام حليفها الأجنبي ولحصد مزيد من السلطة داخل الجسد الإيراني وذلك مثال بسيط أمام كم هائل من المصالح المشتركة والتي استخدمها الديني لتحقيق مصالحه السلطوية والشعبية، يسردها لنا التاريخ متجردا من الانحياز اللاعقلاني!
ونتج عن ذلك التحالف التاريخي بين الطرفين السياسي والديني انهيار تدريجي أصاب العقل العربي في جميع مفاصله الحياتية فبات أسيرا كالدمية معلقا بخيوط العقل المشائخي الذي يحركه تارة نحو اليسار ثم يسحبه عائدا نحو اليمين ما تسبب في انشقاق بعض تلاميذ ذلك العقل وحلفائه وجنوحه نحو تشكيل جماعات مستقلة تسعى إلى خلق كينونة جديدة تمثلت في مخلوق مشوه جر مجتمعاته إلى انهار من الدماء وأكوام من الدمار.
و رغم تلك النتائج المروعة لذلك التحالف إلا أن واقعنا الحالي لا يشهد أي نوع من الحلول الجذرية بل هو عصر المزايدات الدينية حتى بات الكل مفتيا وشيخا ومرشدا وملا!
فالمجتمعات العربية لم تكتف بتعبئة عقلها بذلك المنتج بل تلبست ذلك الدور في أشكال عدة حيث لا يخلو مجلس أو شارع أو مقهى, من فرد متوسط التعليم يبسط سلطته على الآخرين من خلال ثقافته الدينية السمعية فيحرم ذلك ويزمجر غضبا دفاعا عن أراء مشائخ سمعها هنا أو شاهدها هناك!
تلك الأجواء المشحونة دينيا وطائفيا هي احد العوامل الرئيسة التي ساهمت في إجهاض العقل العربي واحتكاره لقرون متتالية حتى وان خرج من يتمرد على تلك المنظومة المهترئة نجده إما مهددا كما حدث مع المفكر سيد القمني او العفيف الأخضر أو رجاء سلامة أو شهيد قلمه كالمفكر المصري فرج فودة أو الإيراني علي شريعتي، فمجتمعات مهووسة بالدين لهذا الحد لا يمكن لها إخراج جيل من المفكرين والفلاسفة.
آفة أخرى أفرزها لنا «العقل المشائخي» هي صغار المفتين وهم خريجو الجامعات والمعاهد الشرعية وهم بلاء مصغر عن ذلك البلاء الكبير الذي ابتلي به العقل العربي، هؤلاء هم تلامذة صغار يفتون في كل شأن حتى وان كان بعيدا كل البعد عن تخصصهم العلمي او المعرفي.
بعض هؤلاء متغلغلون في القطاعات التعليمية العربية نافذين في أركانها الإدارية، أخرجوا لنا جيلا من العقول الصدئة و عددا لا يستهان به من الإرهابيين والانتحاريين المحتملين.
تقول الداعية السعودية الدكتورة قذلة القحطاني على موقعها الشخصي على الانترنت ،وهي بالمناسبة تنقلت خلال 20 عاما بين قطاعات ومراحل تعليمية مختلفة مابين تعليم أولى إلى التعليم الجامعي في رد لها على سؤال مستفتية حول صديقتها الشيعية وهل هي آثمة بصحبتها:« احذري مصادقة هؤلاء، وكما لا يخفى عليك أنَّ من أصولهم: »التقية»، وتعني ـ كما عرفها أحد علمائهم المعاصرين بقوله ـ: «التقية: أن تقول أو تفعل غير ما تعتقد؛ لتدفع الضرر عن نفسك أو مالك أو لتحتفظ بكرامتك» ولهذا لن تظهر لك الخلاف ولا العداء، وهذا ممَّا يزيد الأمر خطورة.
أيضاً لا بدَّ أن تقرئي عن هذا المذهب، وتعرفيه على حقيقته ولا بد لك من مناصحتها وبيان الحق لها؛ لعلّ الله أن يهديها للحق، ويمكن إهداؤها بعض الكتب لتبرأ ذمتك، فإن أصرَّت على ما هي عليه ففارقيها، واسألي الله لك الثبات، وابحثي عن صديقة صالحة مخلصة تعينك على طاعة الله، وتعاوني وإياها على فعل الخيرات، وتذكري قوله تعالى: ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ (الزخرف:67).».
وهذه الفتوى العبقرية ليست بالقديمة بل لم يتعد زمنها الشهرين، وبقدر خطورة تلك الفتوى هناك آلاف بل ربما ملايين من الفتاوى المماثلة التي لا تختلف عن سابقتها تطرفا وطائفية ولا تقل عنها خطورة. والسؤال الذي تثيره تلك الفتوى مدى التغلغل الذي تسببت به فتاوى ومواقف سابقة في خلق حال من التوتر الديني لدى الأفراد البسطاء لتجعلهم في حال متأهبة لاستقبالها وتخزينها وممارستها سلوكيا في مناحي حياتهم لنخلق بذلك جوا من الهوس الديني الذي لا يخضع لتحليل منطقي او إنساني.
وكما أشرت سابقا حول خطورة العبث الإفتائي الذي أنتجه «العقل المشائخي» فإننا لن ننعم بمجتمعات مستقلة فكريا يحركها المنطق السليم والفطرة الإنسانية إلا إن تخلصنا من ذلك الاحتكار العقلي ويبقى الخيار دائما في يد الإنسان الحر المعافى من لوثة الفكر المتعصب وزنزانة الرأي الواحد.