المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحوزات «العلمية» للطائفة الشيعية بين التحديث والجمود والتحزيب



yasmeen
09-07-2007, 10:52 AM
http://www.assafir.com/Photos/Photos12-07-2007/6981M9[047]1.jpg

المفتي مكي: هناك رجال دين بحاجة إلى وعظ وإرشاد لأنهم يفتقدونه في إعدادهم (علي لمع)


http://www.assafir.com/Photos/Photos12-07-2007/6981M9[047]2.jpg

الشيخ الخشن: تحزيب الحوزة ورجال الدين أدى إلى تعط


http://www.assafir.com/Photos/Photos12-07-2007/6981M9[047]3.jpg
د. حمية: نحن جزء من خط تجديدي تطويري يرتبط بتراث


زهير هواري - السفير


لا وجود للحوزات في سجلات وزارة التربية والتعليم العالي. هناك أكثر من طلب في دوائر مديرية التعليم العالي، للحصول على اعتراف، مثل حوزة المرجع السيد محمد حسين فضل الله وغيرها بما لا يتجاوز عددا صغيرا. أما الباقي فلا أثر له في الدوائر الرسمية.

كل ما في الأمر أن أوراقاً كانت تأتي الى مصلحة التعليم الخاص من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى تتضمن طلب إعفاء طالب أو طلاب من الخدمة العسكرية، توافق المصلحة على توقيع المجلس وتحال الى قيادة الجيش من قبل أصحابها، دون أن تملك المصلحة سجلات ثبوتية على هذه الطلبات والحوزات التي يدرسون فيها. هذه هي العلاقة الوحيدة القائمة مع هذه الحوزات، أما سواها فلا وجود له من أي نوع: البرامج الدراسية، نظام الدراسة، إعداد الطلاب في كل صف من الصفوف وغيرها من وثائق حول الأساتذة ومؤهلاتهم والإداريين وما شابه.


الآن تمّ إلغاء الخدمة العسكرية، وبالتالي فإن الحوزات لن تكون ملزمة بالعودة الى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أو مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية ايضا، ولا الى المديرية العامة للتعليم العالي أيضا. ومعنى مثل هذا الأمر، ان المرجعيات السياسية والدينية التي دأبت في ربع القرن الأخير على إنشاء الحوزات لن تجد نفسها ملزمة لتتقدم أمام أحد بأوراق رسمية، سواء للجهات الرسمية، أو غيرها بما يضعها تحت القوانين اللبنانية النافذة.

وعليه فالطالب الذي يتخرج من الحوزة لا وجود لديه في الوثائق القانونية للدولة اللبنانية. ينطبق مثل هذا الأمر على العديد من المعاهد الدينية الإسلامية السنية أيضا. وهي مدارس أو معاهد تنشئها جمعيات وأحزاب ومرجعيات برزت في غضون السنوات الأخيرة. خلاف ما هو عليه وضع المؤسسات المسيحية التعليمية الأخرى. أما التعليم الديني لدى طائفة الموحدين الدروز، فله طابعه الخاص الذي لا «يركب» على قوانين أو أنظمة تعليم حديث.


إذاً تستمر الحوزة كما كانت عليه في العهود الغابرة، دون مستندات قانونية تشرعن أوضاعها. وتشعر الحوزات ان احتضانها من جانب الطائفة بما هي قوى سياسية واجتماعية كافية، وبالتالي لا ضرورة الى تجاوز ذلك نحو أشكال من التوثيق الرسمية كما تجري عليه العادة في الدول. بالطبع مثل هذا الوضع لا يحدث صدفة، رغم مضاعفاته الخطيرة، على أوضاع هذا التعليم من جهة وعلى مصائر المتخرجين من جهة ثانية، الذين يفتقدون إمكانية الانتظام في سلك التعليم العالي، سواء كان جامعيا أو ما دونه. هذا جانب، والجانب الأهم أن المتخرج يصبح أسيرا للمرجعية السياسية أو الدينية التي درس لديها، إذ لا مجال للعمل أمامه دونها، خصوصا أن الاتكال على الأهالي من أجل تدبير شؤونه المعيشية دونه عقبات كبرى، مع الاعتراف بوزن فريضة «الخمس والزكاة» في تأمين الدخل له.

إذ المعروف أن المجتمع اللبناني عموما وضمنه الطائفة الشيعية بالطبع، يعاني من حال إفقار متلاحق، وهو ما يجعل الأهالي الذين يقوم الشيخ على فروضه الدينية بينهم عاجزين عن الإيفاء بمتطلباته الاجتماعية، بما يكفيه مع عائلته. هنا يجد رجل الدين هذا نفسه في حلقة مقفلة لا يستطيع الخروج على أحكامها. بينما الاعتراف الرسمي به كدارس للعلوم الدينية يمنحه إمكانية الإفادة وتوسيع نطاق توظيفه في القطاع العام، بناء على الشهادة التي يحملها.

بالطبع لا يتطلب التدريس الديني مثل هذا الأمر، إذ انه غالبا ما يتم محليا، أي على مستوى المدرسة والمنطقة التي ينتمي إليها رجل الدين، لكن ساعات التعليم الديني تظل محدودة ولا تفي بالمطلوب، بما هو تأمين دخل فعلي يساعد على تدبير مقومات العيش. يتكامل مثل هذا الوضع ويزداد إطباقا في حال فقدان الشهادات التمهيدية المؤهلة، وخصوصا أن نظام التعليم العام في لبنان يقوم انه على كل مرحلة دراسية أن تنهض على شهادة المرحلة التي تسبقها.

فمثلا دراسة البكالوريا تنبني على الشهادة المتوسطة، والجامعة تعتمد للاعتراف على شهادة البكالوريا ـ القسم الثاني، وهكذا دواليك، أي ان إمكانية الاعتراف لا تتحقق إلا من خلال اعتماد هذا المسار المتكامل في الدراسة. وهو مفقود في الدراسة الحوزوية، خصوصا في المعاهد التي لا تشترط للدخول إليها الحصول على شهادات رسمية محددة. وهكذا يقع رجل الدين لدى تخرجه في «فخ» لا خروج منه إلا بالالتصاق بقوة سياسية أو مرجعية تملك الإمكانات التي تستطيع أن تزوده ببعضها، إن لم يكن على شكل رواتب شهرية فمن خلال إعانات موسمية في الأعياد والمناسبات، تساعد على حل المشكلات الاجتماعية.


مرجعيات سياسية ودينية

يقدر المفتي السيد علي مكي عدد رجال الدين الشيعة بألف رجل، وهناك من يقدر العدد بأضعاف هذا الرقم تبعا لاحتساب عدد الحوزات وتعداد طلابها، خصوصا في الصفوف النهائية للدراسة. إذاً لا رقم محددا لعدد رجال الدين. بالعودة الى مرحلة السبعينيات وكما يقول المفتي مكي فإن عدد رجال الدين لم يكن يتجاوز الـ125 رجلا.

هذا الفارق في عدد رجال الدين في الحد الأدنى وهو رقم ألف مع ما كان عليه في مرحلة السبعينيات يرتبط بجملة التطورات التي وسعت من إطار الحوزات العلمية، التي لم تعد تقتصر على المرجعيات الدينية والسياسية في إنشائها، إذ دخلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على خط دعم هذه الحوزات كما يشير الى ذلك المفتي مكي. مع ذلك هناك فارق بين حوزة وحوزة.

لكن السؤال هو التالي: ما هي آثار مثل هذا الوضع على الحوزة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب تفسير المصطلح الذي أوردناه سابقا حول المرجعيات الدينية والسياسية التي تتوزع الحوزات. نبدأ من الجانب السياسي باعتباره الأوضح والأبسط في غضون العقود الثلاثة الماضية. هنا نجد حركة أمل وحزب الله دون منازع لهما لجهة التمثيل السياسي للطائفة. بمعنى أنهما من تولى مثل هذه المهمة باعتبارها تكريساً للتمثيل ولإعطائه بعده الديني.

هنا يدخل على الخط الحضور الإيراني كداعم أو متبن لهذه الحوزة أو تلك. وما تتطلبه من إمكانات ونفقات للنهوض بأعباء مدرسيها وطلابها، فضلا عن توفير البنية التحتية من أبنية وتجهيزات لها، إضافة الى الإنفاق اليومي الإداري على شؤونها. في المضمار المرجعي الديني، تبدأ هذه في العقود الأخيرة مع السيد الإمام موسى الصدر وتمر منه بعد تغييبه الى الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين، وهناك المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله. ولكن الحوزات لا تنحصر بهؤلاء إذ تتعداهم الى آخرين على مستوى المناطق الجنوبية والبقاعية على حد سواء. إضافة بالطبع الى المجلس الإسلامي الشيعي كمرجعية للطائفة.


على أن للحوزات تاريخها يقول المفتي السيد مكي «إذ ان أول حوزة في ما نعرفه هي للشهيد الأول محمد بن مكي الجزيني الذي استشهد في العام 786هـ، ثم تسلسلت الحوزات، الى حوزة الشهيد الثاني في جباع وحوزة السيد الأمين في شقرا وحوزة الشيخ حسن القبيسي في الكوثرية وحوزة جباع للشيخ حسن نعمة وحوزة النبطية للسيد حسن مكي وحوزة النميرية للسيد الأمين والحوزة النورية لآل نور الدين في النبطية وغيرهم.

هذه السلسلة تتابعت حتى جاء دور الحوزات المعاصرة وأهم معلم فيها هو دخول العنصر السياسي بشكل واضح في لغة وحركة المشايخ ومحاولة تطوير الأساليب الدراسية وتبديلها والإضافة عليها إذ كان لكل مرحلة عقد علمي ينتهي بانتهاء عقد أو قرن من الزمان».


وبالعودة إلى السؤال الأول حول الفارق بين حوزة وأخرى، يجيب السيد المفتي مكي قائلا: «الفارق هو في البعد الذي ترسمه الحوزة من خلال عملها، من خلال قناعات رئيسها ومديرها والجهة التي تدعمها، فبرغم أن الكتب الدينية متقاربة من حيث العناوين، لكنها مختلفة من حيث المؤلفين. بحيث ان بعض الحوزات حاولت استبدال الكتاب الشهير «اللمعة الدمشقية» للشهيد الأول بكتب معاصرة على أهميتها، وهذه المحاولة قد تعتبر جنوحا سياسيا تجعل الحوزات تتبع الى جهات موجهة، وهذا على قبوله لدى البعض يشكل ظاهرة خطيرة، تؤدي الى ربط الدين بالسياسة المعاصرة، لا بالسياسة العامة للمدرسة الإسلامية الكبرى. ومن هذا وذاك تتأثر الحوزة بنوع أساتذتها فلا يستقدم الناجح أحيانا لعدم انسجامه مع أطروحات الحوزة السياسية.

كما ينعكس ذلك على المساهمات والمشاركات بل العطل التي تتحكم من خلال ما ذكرنا من حوزات».

ما يقوله المفتي مكي يلقي بثقله على الحوزة، وينسحب على رجال الدين بطبيعة الحال. من هنا تتعدد وتتنوع المرجعية والتقليد، ويقود الى الإرباك الذي يبرز في أيام الأعياد خصوصا، ولا سيما عيد الفطر المبارك، ففيما يعلن المرجع فضل الله عن يوم العيد بناء على حسابات فلكية، يتأثر مناخ حزب الله بـ«الحساب» الإيراني ونائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بمرجعية المرجع الشيعي السيد علي السيستاني في النجف. والحصيلة أن كل قسم من أقسام الطائفة يفطر في يوم يختلف عن الآخر. وبالطبع ينعكس ذلك كله على نظرة المجتمع الى رجال الدين.

الحوزة والعمامة

قبل الغوص في هذا الجانب نعود الى مرحلة الدراسة الدينية. فمن المعروف كما يقول المفتي مكي أن البرنامج الدراسي للحوزات واضح ومعروف، وربما تفاوت من كتاب الى آخر في نفس المادة، دون الأمهات الكبرى التي أجمع عليها العلماء من قبل كتاب «الاجرومية» و«قطر الندى» و«مختصر المعاني» و«الشمسية» و«منطق المظفر» و«الشرائع» و«اللمعة» و«المكاسب» و«الكفاية» و«الرسائل» و«أصول المظفر» والشهيد الثالث الصدر.

إذاً وكما يذكر مكي فإن البرامج تتشابه، لكنها في تشابهها كما يشير تختلف أيضا، إذ ان قوة كل حوزة تكمن في شخص معروف في النجف أو قم له حضوره العلمي وسطوعه الشخصي كشرط لديمومة هذه الحوزة وإلا فليس من المترقب أن تستمر وتنهار بشكل سريع. علماً أن تولي مجموعة من الأساتذة إدارة الحالة التدريسية لا يغير من هذه المعادلة، كما يضيف مكي، الذي يرى أن حوزات قم والنجف لها نكهتها الخاصة، بما هي القدسية للمقامات والأئمة وما تلعبه من عملية صقل روحي ومن تواصل بين العلماء في العالم مما يشبع شخصية المتلقي ويؤسس له كيانا عاما وكبيرا. نعم للحوزات في لبنان دور تمهيدي، يستطيع معه من لا يقوى على عيش الغربة دراسة ما بين 3 ـ 4 سنوات، مع إمكانية الاستغناء عن تكبد عناء السفر والهجرة، ولكن ذلك يتم على حساب ما ذكرت.


يصف المفتي مكي الدراسة في الحوزة التي تعتمد على كبار الأساتذة مع ما تستدعيه من دراسة الحواشي والمطالعات بأنها قد تتفوق ولمرات على دراسة الجامعة، وهذا ما تم لمسه بالتجربة. لا سيما أن الدراسة الإرادية الجيدة توجد في الحوزة أكثر مما توجد في الجامعة، ولما تتمتع به الأولى من مساحة حرية لا تتوفر في سواها، أي ان الطالب في الحوزة غير مقيد.

ففي الدراسة الحوزوية نوع من الترابية التي تتم في المسجد وتحت الشجرة وحتى على الطريق، فضلا عن المحادثات الليلية لوجود منامة في الحوزات. هذا لا يمنع من القول إن هناك مستويات مختلفة لدى المتخرجين، وأعيد ذلك الى عدم التعاون المطلوب بين القمم الدينية، مما يقود الى قصور في إعداد المتخرجين لأن وجود عمالقة موزعين على الحوزات يمنع خروج العملاق العظيم. ولذا من جهتي أفضل قيام حركة دمج مناطقية للحوزات بما يجعل من الطلاب مستفيدين من العلماء الذين يتولون التدريس، بدل أن تكتفي كل

حوزة بأساتذتها مهما كانوا لامعين، مما يقود الى تباين المستويات، خصوصا إذا ما نظرنا الى مدى استعداد الطلاب أيضا.

يفتح هذا على موضوع شروط طالب الحوزة. المعروف ان الحوزة مثلها مثل مؤسسات التعليم الديني لدى الطوائف الأخرى لم تكن تشترط أي شرط سوى رغبة الطالب في هذا النوع من الدراسة. لذلك كان يأتيها من يجيد القراءة والكتابة والحساب وغيرها ومن يرى في الحوزة مجالا لتعلمها. هذه السمة مفتوحة للحوزة، أدت الى تخريج «رجالات كانوا الى الوعظ والتعلم أحوج منهم وعاظا ومعلمين، وهذا ما ترك آثاره السلبية على القرى والمدن وحتى على الدين نفسه، حتى غدا الدين في بعض المراحل كتابا لا يقرأ فيه إلا البسطاء وحدثت تبعا لذلك مقاربة عند الكثير من العلمانيين بين الخرافة والشعوذة والأديان.

لكن الرشد الذي سيطر منذ منتصف القرن العشرين على الأوسطيين من خلال غزو الحضارة الأوروبية وغيرها، وبقاء الأطروحة الدينية مجمدة في طقوس وتقاليد معروفة ومألوفة أحدث مساهمة في اشتداد الحركة العلمانية والصحوات القومية والانكفاء عن اعتبار الدين رسالة وحضارة ودين ودولة وسياسة ليتحول الى عقيدة بلا شريعة والى دين بلا دولة والى دعوة بلا جهاد، وغلب على أنصاره وأتباعه صور البساطة والفقر والانزواء... هذا ما حدث سابقا، لكن الآن عمدت جملة من الحوزات الى عدم قبول البسطاء والذين لا تظهر عليهم علامات نبوغ، وباتت الحوزات تشترط شهادة البكالوريا أو الفلسفة كأساس للانتساب إليها. كما أن هناك تطورا في إدراج جملة من العلوم القرآنية والفلسفية واللغوية في المناهج، وكذلك أصبح الطالب في حوزة قم معرضاً لامتحانات دورية يتأثر على أساس قبوله كما يتأثر بذلك حجم راتبه.


هذا في قم لجهة الامتحانات الدورية، «أما عندنا فإن ذلك ليس شرطا للعمامة والوصول الى رتبة محددة. ولهذا كان يعتمدها المبتدئ، فضلا عن الموغل، وهذا كان يلقي بظلال ثقيلة على الهيبة الدينية. نعم هناك قواعد عرفية تفرضها رؤية الشيوخ ونظرتهم وتعاطيهم بحيث يؤثر هذا الجو المعنوي على من يريد اعتماد العمامة، بأن لا يكون ذلك قبل الوصول الى مرحلة الخارج أو على مشارفها على الأقل. خصوصا أن للطالب دورا طقوسيا كالصلاة والوعظ والصلاة على الميت ودورا تعليميا للقوانين الدينية، وله دور أساسي في رفع الغبار عن حديقة الدين وتوجيه الأمة باتجاه مقاصد الأنبياء من الدعوة الى العدل والسلام والأخلاق والارتباط بالفضيلة وتجهيز الأمة بعناصر القوة لمواجهة الفراعنة والمستبدين إذا ما داهموا بلاد المسلمين». كما يقول المفتي مكي.

التجديد والتقليد

مرجعيات سياسية ودينية، من تتولى مسؤولية الحوزات، لكن بموجب القانون الرسمي فقد أنيطت المهام الدينية للطائفة الشيعية بالمجلس الشيعي الأعلى. لكن علاقة المجلس بالحوزات كما يقول مكي ارتبطت بمسألة التجنيد الإجباري فقط، إذ ربط بشكل حصري الاعتراف بالطلاب في الحوزات به، وبات على كل طالب يود الحصول على الإعفاء أن يحظى بتوقيع المجلس، وهذا ما ساعد على تنظيم شؤون الحوزات، وقد نظمت ملفات لكل حوزة تتضمن أسماء الأساتذة والطلاب والمراحل ونحو ذلك.

لكن هذا التنظيم يعني هذا الجانب فقط، وقد ذكرنا سابقا ان إلغاء التجنيد من شأنه أن «يحرر» العلاقة بين الحوزة والمجلس، لكن هناك جانبا تمويليا في كل حوزة، وهنا تلعب الحقوق الشرعية من خمس وزكاة وكفارات دورا في مساعدة الطلاب وتأمين مبان للسكن والدراسة ونحو ذلك، فضلا عما تجود به الشخصيات الخيرة أو المرجعيات الكبرى التي تتولى بشكل شهري دعم هذه الحوزات، مع التنبيه أن المساعدات غالبا ما تكون يسيرة جدا ولا تفي بثلث حاجات الطالب إن لم نقل أقل، كما يذكر المفتي مكي.


هذا جانب من واقع الحوزة، لكن هناك جوانب أخرى لا تقل أهمية عن ذلك، ان الحوزة ليست فقط عبارة عن علاقة بالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والمرجعية التي تتولى الرعاية والاهتمام والتمويل لعل هذا ما أشرنا إليه قبلا عندما تحدثنا عن الفارق بين حوزة وحوزة. والمقصود أن الحوزة كما يقدمها المفتي مكي لجهة الارتباط بشخص ما تنمو تبعاً لدوره ولكنها تخبو مع رحيله، وهذا يفسر ما آلت إليه الكثير منها التي اندثرت بعد مرحلة ازدهار. بمعنى أن الحوزة لم تتوصل بعد الى أن تصبح مؤسسة قادرة على البقاء، إذ ان ارتباطها بالمرجعية السياسية أو الدينية يجعلها عرضة لرياح الأوضاع السياسية من جهة والمرجعية من جهة ثانية. لكن ما تعيشه الحوزة هو أكثر من هذا كله، «إذ هناك الآن صراع بين خطين في الحوزة.

التقليديون الذين يرفضون التجديد فيها أو في نوعية الانتساب إليها، وهؤلاء يعتبرون أن تنظيم الحوزة يكمن في أوضاعها كما هي عليه دون تغيير أو تطوير، ويقابله اتجاه آخر لا ندعي في حوزة المعهد الشرعي ومرجعيتها السيد فضل الله اننا نمثله وحدنا، إذ هناك الكثير من العلماء والمفكرين الذين دعوا الى التحديث مثل الشهيد الصدر والسيد محسن الأمين والشيخ رضا المظفر. هؤلاء جميعا، وبالطبع المرجع السيد فضل الله، دعوا الى التحديث بدل حال الجمود التي تعانيها الحوزة.

وقد تقدم هذا الفريق خطوات هامة في هذا المنحى، ولا سيما في حوزة قم التي أهملت الأمور المتحجرة وغير النافعة. لكن هذا التقدم لا يعني أن المعركة داخل الحوزة قد حسمت، إذ ان فريق التطوير ما زال يتلقى السهام من المدرسة التقليدية. والمؤسف أن النجف رغم انها كانت سباقة الى التحديث أصيبت بالشلل وحوصرت خلال حكم صدام والآن توقف هذا المشروع الإصلاحي، على أمل انطلاقته مجددا». هذا ما يذكره منسق مجلس حوزات السيد فضل الله الشيخ حسين الخشن.


بين الجامعة والحوزة ما زالت هناك مسافة شاسعة، فالجامعة تتوزع على كليات والكلية تنقسم الى أقسام وتخصصات، بينما الحوزة تقدم في مراحلها الثلاث كل العلوم ودون هذا التخصص الذي نجده في التعليم العالي، ولم يدخل بعد على نحو كامل الى الحوزة، «علما أن الشيخ مظفر أنشأ كلية فقه، ثم ان الدعوات الى التخصص لم تنقطع، خصوصا ان العلوم الإسلامية على درجة من الاتساع. أنت تعطي الطالب معلومات عامة ثم بعدها عليه أن يتخصص في مجال معين. نحن في حوزة السيد فضل الله من أنصار ودعاة المأسسة والتخصص. لم يعد من الممكن أن يكون العالم عارفا بكل شيء كما كان عليه سابقا. باتت المعرفة الشمولية تدخل في باب المستحيل، وعليه فإن الدعوة باتت قوية للتخصص في مجال الفقه، وحتى داخل علم الفقه هناك من يلح على التخصص في فقه الأموال والمواريث والدولة... فما بالك بباقي العلوم الإسلامية على اتساعها» كما يذكر الشيخ خشن.


يثير ما نقلناه عن الشيخ الخشن الكثير من القضايا ودون أن نبقى في العموميات ندخل في صميم التجربة التي اعتمدتها حوزة المعهد بمرجعية السيد فضل الله. هل تتابع هذه الحوزة المناهج التقليدية في مراحل المقدمات والسطوح والبحث الخارجي، أم انها قامت بالتجديد في المناهج والمراحل وشكل النظام التعليمي وفي مضمون المواد الدراسية؟ عن هذه الأسئلة يجيب د.

خنجر حمية قائلا: لقد أحدثنا الكثير من التجديدات، وقد بات لدينا خطة منهجية تمتد الى ثماني سنوات، تتعدل بناء للحاجات، ولدينا لجنة متخصصة، ولدينا لجنة متخصصة أحد أعضائها والمنسق لها هو الشيخ حسين الخشن. مهمة هذه اللجنة هي دراسة جدوى المناهج والثغرات التي تواجهها من عام الى عام من أجل إحداث التعديلات عليها. وعندما وضعت هذه الخطة المنهجية أخذنا على عاتقنا أمرين:


أولهما: أن يكون لدى الطالب وضوح في المواد المقررة طوال سنوات الدراسة، منذ دخوله الى الحوزة وحتى تخرجه، وما يتوجب عليه من إنجاز وحدات دراسية وحجم المادة وعدد الساعات المطلوبة وما شابه ذلك.


ثانيا: أدخلنا الى مناهجنا وبوضوح الكثير من التجديدات الفكرية. مثلا كانت الحوزة تركز سابقا على ثلاثة أمور هي اللغويات والعقليات والفقهيات بما يضمه من فقه وأصول وقرآنيات. في العقليات كان الدرس يقتصر على العقائد والمنطق والفلسفة، بينما الآن في العقليات قد أدخلنا المنطق والفلسفة الإسلامية والغربية وفلسفة العلم. هذه المواد لم تكن تعرفها الحوزات في ما سبق.

أما في العقائد وعلم الكلام، فقد كانت الدراسة تقتصر على المذهب الاثني عشري، بينما نحن الآن أدخلنا المذاهب الكلامية للفرق الإسلامية بما فيها الإسماعيلية والماتريدية والصوفية، كذلك أدخلنا تيارات الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، ومعه بات الطالب يعرف ما مثله كل من الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني كما صار يعرف عن محمد عابد الجابري وجدعان وحسن حنفي غيرهم.

بمعنى أن الطالب عندنا بات يواكب التيارات الفكرية الحديثة...
يؤكد حمية ان الحوزة حاولت إدخال مواد حديثة في مجال الفقه مثل قضايا الحق والقانون والعلاقات الدولية، وكذلك التجديد في الكتب الفقهية التي تدرس الأديان مثل مقاصد الشريعة وفلسفة الفقه وغيرها. نحن ندرّس منذ عشر سنوات وحتى الآن العقائد الشرقية كالبوذية والكونفوشيوسية الى جانب المسيحية واليهودية وضمن هذه المادة ندرس الفرق الإسلامية كالمعتزلة والأشاعرة والصوفية والإسماعيلية والبابية والبهائية... الطالب الذي يدرس في حوزتنا بات يعرف هذه العقائد والتيارات، كما أدخلنا مادة الإنسانيات وفي مجال التاريخ أدخلنا مادة السير.

كان الأمر ماضيا يقتصر على سيرة الرسول والأئمة، نحن جعلنا السير جزءاً من الوحدة وعرفنا الطالب الى تاريخ الإسلام، ثم وضعنا البحث العلمي ومناهجه ضمن سياق بحثنا وكذلك علم الاجتماع.


لا تغني أهمية هذا التجديد العودة الى الوراء، الى قضية الحوزات والفوضى في مجال التعليم الديني لدى الطائفة الشيعية أو سواها من الطوائف. يعتبر الشيخ الخشن ان سبب هذا الوضع هو ان المسألة ليست رسمية كون الموضوع لا يحتاج الى إجازة من الدولة، وعليه بات الكثيرون يفتتحون حوزات مما قاد الى حال الفوضى.

وجراء هذا الوضع تداعت مجموعة من الحوزات الكبرى وتوصلت الى إعداد ميثاق شرف ووضع بعض الأسس والعناوين التي على أساسها يتم فتح الحوزة أو وضع العمامة، وذلك لأنه برزت بعض الحالات الشاذة التي تناولت بعض الحوزات والأفراد. مع ذلك فإن الفوضى ما زالت قائمة، ومسألة التنظيم تحتاج الى اهتمام أكبر كي نتخلص من بعض الحالات الشاذة التي أشرت إليها.


رغم دعوة الشيخ الخشن الى التنظيم إلا أنه يضع ضابطين لمثل هذه العملية. يقول الخشن: رغم ما ذكرت فإننا ضد أمرين أولهما وضع الحوزة في يد سلطة حتى ولو كانت إسلامية. فقد رفض الإمام الخميني في إيران ان تصبح الحوزات في يد الدولة، لأن ذلك يجعلها رهينة. مصدر قوة الحوزة هو استقلالها من خلال استقلال مواردها المحصلة من الخمس ودون وصاية.

وهذه بحاجة الى ترشيد. أما الأمر الثاني فهو اننا ضد تحزيب الحوزات، لأن العلم يجب أن يبقى أعم وأكبر من الأحزاب. نحن ضد أن تنشئ الأحزاب حوزات. وظيفة رجل الدين الهداية والإرشاد لا الدعاية الحزبية. في الحوزة عندنا لا نسأل الطالب عن سياسته، لذلك لدينا طلاب من مختلف المشارب والميول والاتجاهات. لا يهمنا هذا الجانب، ولا ندخل فيه، نحن مع بقاء الحوزة بعيدة عن الجو الحزبي، لأن وضعها في إطار هذا الجو يفقدها دورها ويفقد رجل الدين مهمته.