yasmeen
08-27-2007, 07:06 AM
رئيسهم: كنت طبيب أسنان عائلة الملك فاروق وعبد الناصر.. وحاليا نعيش على بعض المعونات
http://www.aawsat.com/2007/08/26/images/daily1.434187.jpg
مدخل محكمة حاخامخانة بالإسكندرية
http://www.aawsat.com/2007/08/26/images/daily2.434187.jpg
رئيس الطائفة بالإسكندرية د. ماكس سلامه
الإسكندرية: داليا عاصم
قبل نحو 150 عاما وفي مجتمع الإسكندرية ذي الطابع الكزموبوليتاني عاشت جاليات من أجناس مختلفة، اختلطت دماؤهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم في نسيج إنساني مميز ترعرع ونما بحب في عباءة الإسكندرية السمحة، فكانوا يتفاخرون بهويتهم المستمدة من ظلال تلك العباءة.
أرمن ويونانيون وإيطاليون وسواهم من جنسيات مختلفة خطفهم بريق المدينة الساجية على صدر المتوسط فسكنوها جسدا وروحا، حتى حين عصف بهم تيار التأميم أوائل خمسينات القرن الماضي وهاجروا في أنحاء متفرقة من العالم لم يخب هذا البريق في دمائهم، فظل الحنين إلى الإسكندرية يطاردهم، فمنهم من ألف كتبا أو كتب مذكراته ونشرها، ومن أسس جمعيات للسكندريين المهاجرين.
وحتى الآن يحرص الكثير منهم على زيارة الإسكندرية مسقط رأسهم ومرتع صباهم، ليستعيدوا دفء علاقات إنسانية حميمة تركت بصماتها علي منازل ومقاهٍ وشوارع ومساجد وكنائس ومعابد تنطق بروعة الميراث الثقافي والروحي للإسكندرية.
عاشت الجاليات جنباً إلى جنب مع السكندريين، وبرغم ذلك حافظت كل جالية على عادتها ولغتها وحياتها الاجتماعية ومناسك عباداتها وتاريخها وحتى المقابر الخاصة بها، وكانت الفرنسية هي اللغة الرسمية بين الجاليات ولعبت هذه اللغة دورا أساسيا في توحيدهم، كما كان معظمهم يعرف شيئا من العامية المصرية بحكم الاحتكاك اليومي المباشر.
الجالية اليهودية في الإسكندرية تعتبر مثالاً قوياً على هذه الحالة حيث تمتع اليهود بكامل حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية، وبناء المعابد وإقامة المحافل، وقد ساندتهم الحكومة في تيسيرات البناء ومنحهم الأرض مجانا مما أسهم في انتشار المعابد اليهودية في مختلف مدن مصر وبخاصة القاهرة والإسكندرية. وحتى عام 1930 كان هناك 20 معبدا في الإسكندرية تنتمي إلى مجموعات ومجتمعات متباينة ما بين يهود مغاربة وأتراك وإيطاليين وإسبان وفرنسيين ويهود مستعربين.
وكانت الطائفة لها مجلس عام يتكون من حاخام باشي، ونائب الحاخام، ورئيس، ونائبه، وسكرتير. واتخذت الطائفة من معبد «الياهوحنابي» بشارع النبي دانيال مقراً لها، وهو من أقدم وأشهر معابد اليهود في الإسكندرية. المعبد الذي شيد عام 1354 تعرض للقصف من قبل الحملة الفرنسية علي مصر، عندما أمر نابليون بقصفه لإقامة حاجز رماية للمدفعية بين حصن كوم الدكة والبحر، وأعيد بناؤه مرة أخرى عام 1850 بتوجيه ومساهمة من أسرة محمد علي.
في المعبد التقيت رئيس الطائفة اليهودية الحالي د. ماكس سلامه، طبيب الاسنان المعروف بالإسكندرية، 92 عاما. استقبلتني لارا خادمته وهي مسيحية من سري لانكا.
ماكس استعاد معنا بعض الذكريات. يقول ماكس الذي يرأس الطائفة منذ 6 سنوات: «كانت الجالية اليهودية من أكبر الجاليات وأهمها بالإسكندرية، وكان لهم محال تجارية مثل هانووشيكوريل وعدس. وكطبيب أسنان كان من أهم زُبُنِي الملكة فريدة والملك فاروق وأفراد الأسرة الملكية، وعائلة الأمير طوسون وعائلة عبد الناصر، ولم تكن هناك أي عداوة بيننا كيهود وبين المصريين. فقد بلغ عدد أفراد المجتمع اليهودي ذات مرة 80 ألف نسمة لكن السياسة تدمر كل شيء إنساني».
وبحنين جارف يتابع ماكس: أفتقد «حفلات الأعياد» فحتى عام 1935 كنا نحتفل كمصريين بالأعياد معاً وكان يوم كيبور «عيد الغفران» هو بمثابة احتفال كبير في الإسكندرية، كانت الجماهير سواء مسلمين أو مسيحيين أو يهود يسيرون في ميادين المنشية وحتى المعبد في محطة الرمل، الآن لا توجد هذه المظاهر الاحتفالية، ولكن في أوقات الأعياد يأتي حاخام من اسرائيل ليقيم الشعائر الدينية وتأتي بعض الوفود للاحتفال بشكل يكاد يكون سريا. الآن لا يوجد من يأتي للصلاة، نظرا لتناقص عدد اليهود المقيمين في الاسكندرية فقد اصبح عددهم الآن 4 رجال و20 سيدة من أصل يهودي ولكنهن متزوجات من مسلمين أو من مسيحيين، وكل الشباب هاجروا من مصر.
وحول أنشطة الطائفة، يقول ماكس انها في تقلص متلاحق، ولا توجد حاليا سوى جمعية خيرية واحدة فقط يحتضنها المعبد تتولى مساعدة ما تبقى من اليهود، «أستطيع أن أقول منذ الستينات توقف النشاط بانغلاق النوادي والمستشفيات والمدارس بعد أن كان للطائفة نشاط ملحوظ في مجال الخدمات الاجتماعية، حتى المعابد اليهودية الأخرى التي أنشأتها عائلات يهودية كبيرة تم بيعها أو تهدمت». وتتلقى الطائفة بعض المعونات من مؤسسات يهودية في الخارج لتعينها على سد احتياجات المحتاجين الي جانب ما تدره املاك الطائفة وهي عبارة عن بعض العمارات التي تؤجرها الطائفة منذ سنوات طويلة.
أما السيد يوسف، 54 عاما، القائم بأعمال الطائفة، وهو رجل مثقف ذو شخصية اجتماعية يجيد أكثر من لغة، وله صداقات مع أناس في دول كثيرة، ولد بالإسكندرية لأب وأم يهوديين، والده كان ترزيا مشهورا وكان مصمم ملابس أسرة جمال عبد الناصر. درس يوسف في إحدى المدارس الفرنسية بالإسكندرية. يؤكد يوسف أن أفراد الجالية مصريون يدينون بالولاء لمصر، وهم مخلصون لها، ويقول إنه لا يملك الكثير من الذكريات، لكنه يروي أنه في المرحلة الابتدائية حوالي عام 1965 كان تقريبا الطالب الوحيد الذي يدين باليهودية في المدرسة، وكان في حصة الدين يذهب الطلاب إلي حصة الدين المسيحي أو الاسلامي، بينما كان يجلس هو في فناء المدرسة. ويذكر أن المدرسين عرضوا عليه أن ينضم إلي أي من الجانبين، وبالفعل كان يحضر مرة حصة الدين الإسلامي ومرة أخرى للدين المسيحي، مما جعل لديه خلفية بالديانتين وتعاليمهما، وهذا ما مكنه من الاندماج مع أصدقائه من الجانبين.
بمدخل المعبد، تطالعك آيات قرآنية معلقة في حجرة، إنها حجرة الأستاذ عبد النبي أبوزيد المسؤول الإداري بالمعبد، يعمل به منذ 20 عاماً. استقبلني في مكتبه ببشاشة. وعندما سألته عن المعبد، قال «جميع العاملين هنا مسلمون ومعنا محاسب مسيحي، والجميع هنا متحابون. أما عن المعبد فهو مغلق معظم العام، ولكن يشعر الجميع بالسعادة حقا عندما تأتي الوفود للاحتفال برأس السنة اليهودي في شهر سبتمبر (أيلول)، وعيد الغفران والحانوكاة والبوريم وعيد المظلة، وسمحات أورات وعيد الفصح «بيسح». أثناء تجوالي بالمعبد قابلت سيدة مسنة لطيفة تعلو وجهها ابتسامة رقيقة، هي لينا ماتاتيا، 83 عاما، تعمل بالمعبد منذ أكثر من 30 عاما، وهي المسؤولة عن سجلات الجالية اليهودية بالإسكندرية، وعن تعداد المواليد وتوثيق الزيجات والوفيات. تقول لينا:
«أنا من مواليد الإسكندرية، لأب وأم يونانيين، استقيت عشق مصر منهما، لذا لم أغادرها، فقد عشت بها أجمل أيام حياتي، ولم نكن نعاني يوما من أي مشاكل، كان المعبد هنا يعج باليهود المصريين الذين يأتون للصلاة كل سبت، وكان لا يتسع لهم، وكانت تقام به حفلات الزواج بحضور الفتيات والسيدات في قمة أناقتهن، وكانت تشبه أيضا احتفالات الزواج عند المصريين». وكانت العروس تذهب في الليلة السابقة للاحتفال بالزواج إلي الحمام «الميكفا» أي الحمام الديني في صحبة أمها وحماتها وجدتها وعماتها، تحمل سلة من الصفصاف بها صابون معطر فاخر ومناشف وزجاجة ماء كولونيا أو ماء ورد وليفة جديدة وقبقاب حمام مبرقش مطعم بالصدف أو بكرات زجاجية ملونة وطشت صغير من النحاس أو الفضة، ثم تنزل إلي مسبح شعائري «Apisein Rituelle».
وبعد طقوس التبريك يقدم شراب منعش وقهوة أو شاي مع الجاتوه والحلوي والملبس والبونبون، ثم تتوجه النسوة بالعروس عائدات إلي منزلها حيث يستقبلهن الجيران بالزغاريد والتهاني. وجرت العادة ان يعقد الحفل الديني في شقة احد العروسين، أما حفل الاستقبال، فيقام في خيمة داخل فناء المعبد أو شرفته وتقدم الموسيقي العبرية وغالبا ما يعزف لحن البولكا Polka أو موسيقي المازوركا Mazurka مع الاستعانة بمغنية شرقية وأفراد تختها لإحياء الليلة، وينفض الحفل حوالي الساعة الثانية أو الثالثة صباحا. وتستدرك ماتاتيا:
«كل شيء اختلف عن الماضي، فلا توجد حفلات زواج، وقد اقتصرت الصلاة على الاعياد والمناسبات الدينية، ونحن لا نأكل طعاما دينيا، وبين الحين والآخر يأتي لنا أصدقاؤنا بطعام «الكوشير» المحلل دينيا وهو عبارة عن اللحوم والخبز الذي تجري عليه بعض الطقوس الدينية، فنتناوله مرة أو مرتين في السنة».
يؤدي اليهود الصلاة مرتين في الصباح وفي المغرب ويمكن تأديتها في المنزل، ولكن الصلاة الجماعية تتم فقط يوم السبت ويلزمها عشرة رجال في الأقل لتصبح مقبولة شرعا، وقد توقفت هذه الصلوات الجماعية، بسبب كبر سن معظم من بقي من اليهود كما أن عددهم أصبح أقل من 10.
ومن المعابد الأخرى المهمة بالإسكندرية: معبد «زاراديل» الذي أنشأته عائلة زاراديل عام 1391 ومقره في شارع عمرام بحارة اليهود في سوق السمك القديم. يحتفظ المعبد بمخطوطتين نادرتين للتوراة بالخط الآشوري.
من المعابد اليهودية في الاسكندرية هناك معبد «منشه» أسسه البارون يعقوب دي منشه عام 1860 بميدان المنشية، وهو مبني بسيط مكون من طابقين ومعبد «الياهو حزان» بشارع فاطمة اليوسف بحي سبورتنج الذي أنشئ عام 1928، ومعبد جرين الذي شيدته عائلة جرين بحي محرم بك عام 1901، ومعبد يعقوب ساسون عام 1910 بجليم، ومعبد كاسترو الذي أنشأه موسي كاسترو عام 1920 بحي محرم بك، ومعبد نزاح اسرائيل الاشكنازي عام 1920، ومعبد «شعار تفيله» أسسته عائلتا «انزاراوت» و«شاربيه» عام 1922 بحي كامب شيزار، هذا الى جانب بعض المعابد التي هدمت واندثرت.
أما حارة اليهود الشهيرة، فكانت مثالا حيا على أوضاع اليهود في الاسكندرية واندماجهم مع أهلها، وهي تبدأ من حي الجمرك ببحري حتى حي المنشية، وهي ليست حارة بالمعنى المعروف بل حي كامل فيه شوارع وحارات كثيرة متصلة ببعضها بعضا، سكنها اليهود والمسيحيون والمسلمون، ولا تزال هذه الحارة محتفظة بطابعها المعماري وسكانها من الطبقة المتوسطة والفقيرة. فكانت تقطنها الطبقة الدنيا من الجالية اليهودية وكانوا غالبا من اليهود المصريين المولد والجنسية، وكانت العربية لغتهم وأقاموا علاقات صداقة مع جيرانهم المسلمين والمسيحيين. يسترجع عم مسعد الشهير بـ«مسعد روما» صاحب مقهى بلدي في حارة اليهود، 83 عاما، شريط الذكريات قائلا «لقد كانت أياما حلوة.. كنا كلنا معاً كعائلة واحدة، ولم يكن هناك فرق بيننا كنا نتزاور ونحتفل معا بالأعياد، كانوا يحتفلون معنا بعيد الفطر، وكنا نتبادل الكعك، وهم كانوا يقدمون لنا كعك عيد الغفران، كذلك المسيحيون، لذا كانت الحارة كلها أعياد».
ويستطرد عم مسعد: «لقد عشت وتربيت بينهم وكان معظمهم خياطين ويبيعون لوازم الخياطة، وكانوا حريصين على أسرار مهنتهم. ويشير إلى زقاق أمامه «كان هنا إبراهيم بياع الدقيق.. وبيومي بياع النحاس، كانت عشرة طيبة، كنا بنخاف على بعض لما يكون فيه مشكلة مع واحد منهم، كنا ندافع عنهم، وإذا مرض أحدنا الكل يلتف حوله. كنا نقعد على القهوة ونلعب دومينو وكوتشينه، وكانت لهم قهوة خاصة بهم اسمها قهوة إبراهيم صالح، لكن لما خرجوا من مصر اتغيروا».
وحول المأكولات اليهودية، يقول عم مسعد «كانوا يأكلون مثلنا، لكن كانت لهم مخابز وجزارات خاصة بهم، تقدم لحوما مذبوحة على الطريقة اليهودية، فلم يكن مسموحا لهم بتناول أي لحوم أخرى حيث كان أحد الحاخامات يتولى الإشراف على هذه الذبائح للتأكد من مطابقتها للشريعة اليهودية».
تاريخيا، عاش اليهود في الإسكندرية منذ أسسها الاسكندر الأكبر وشكلوا ربع سكان المدينة القديمة، وشهد العصر الروماني وجود العديد من الجاليات اليهودية الكبيرة، سكنت مناطق معروفة أطلقت عليها أسماء أنبيائها، وظلت هذه الاسماء متداولة ولا تزال حتى الآن. لكن ملامح الجالية اليهودية في تاريخ الإسكندرية الحديث تشكلت مع نهاية القرن السابع عشر، حين رحل مجموعة من الصيادين اليهود الفقراء من رشيد وإدكو، إلى الإسكندرية لينضموا إلى بضع مئات من اليهود متعسري الحال، وأقام هؤلاء الوافدون خياماً لهم فى حى الأنفوشى بمحاذاة الشاطئ وبشارع الصيادين بالقرب من سوق السمك القديم، فيما بعد أصبحت هذه الخيام أكواخاً، تحولت بدورها إلى منازل، لتصبح حى اليهود بالإسكندرية، الذي يمتد من حوش النجار وحوش الجعان وحوش الحنفى إلى ميدان وشارع فرنسا.
ومع مرور الوقت، اجتذبت الإسكندرية مزيداً من يهود القاهرة والدلتا، ومن المغرب والعراق وتركيا وإسبانيا، نتيجة للانتعاش الاقتصادي الهائل الذي شهدته وانفتاحها على أسواق الغرب، وقد أقام يهود الطبقة المتوسطة في حي محرم بك، حيث شيد أول مستشفى يهودي عام 1893 بجهود البارون جاك دي منشه والمعروف الآن بمستشفى الرمد، وما زال في شارعى باولينو والرصافة ملجآن للمسنين من اليهود، إلى جانب العديد من المدارس والمعابد. بينما أقام يهود الطبقة البورجوازية وسط المدينة بالقرب من شارع النبي دانيال ثم توسعت أملاكهم فى منطقة الرمل.
لعب اليهود دور واسطة العقد بين الجاليات المختلفة فكانوا بمثابة همزة الوصل بينها، ساعدهم على ذلك العديد من الأنشطة التجارية والحرفية، التي انتشرت وسط المدينة، كميدان محمد علي ومحلاته الكبيرة. كما سيطر السماسرة وكبار رجال المال من اليهود على البورصة لدرجة أنها كانت تغلق أبوابها فى جميع الأعياد اليهودية، وكان منهم أكبر تجار القطن، كما أسسوا العديد من البنوك التي ما زالت تغلق يوم السبت. وكانت محلات المجوهرات وشركات التأمين والملاحة اليهودية تنتشر فى شوارع شريف وتوفيق وسيزوستريس وأنطونيادس وإستانبول.
اما شارع سعد زغلول فانتشرت به المكتبات والمطابع وتجارة الورق والأحذية ولعب الأطفال، وحلواني بودرو، والمكتبة الفرنسية، وتجار الأدوات والأجهزة الكهربائية ومكاتب بعض الصحف والمجلات اليهودية. فى الطرف الآخر من المدينة، نشط يهود الإسكندرية فى الميناء البحري، حيث كان سماسرة البورصة دائمي الحركة بين بالات القطن وأكياس البصل والأرز المعدة للتصدير. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الطائفة اليهودية بالمدينة من أكثر الجاليات تألقا ونشاطا.
فقاموا بتأسيس بنوك منها: العقاري المصري، الأهلي المصري، والتجاري المصري «بنك التسليف الفرنسي». وكانت من أهم انجازاتهم القائمة إلى الآن تأسيس شركة ترام الإسكندرية البلجيكية وشركة ترام الرمل الإنجليزية بمشاركة من أسرة موصيري. ومن أكثر العائلات تأثيرا في الإسكندرية، عائلة «منشه» وعميدها يعقوب دي منشه، والبارون ليفي دي منشه هو مؤسس البنك العثماني المصري عام 1872، الذي كان له دور بارز في إقراض الخديوي إسماعيل لتنفيذ مشروعاته النهضوية في مصر. وتمتعت هذه العائلة بالنفوذ السياسي والاقتصادي، وسيطرت على مجلس الطائفة بالإسكندرية لأكثر من ربع قرن حتى أطلق عليه «مجلس العائلة». كما تنتسب «سموحه» أشهر مناطق الإسكندرية إلى «جوزيف سموحه» عميد عائلة سموحه التى يرجع نسبها إلى يهود بغداد.
وكان رجل اقتصاد وصناعة من الطراز الأول، شيد ناديا رياضيا لممارسة الفروسية لا زال يحمل اسمه، وكان معروفاً بصداقته الشخصية للملك فؤاد، واشتهر بسخائه في تمويل مشروعات الخدمات الاجتماعية للطائفة؛ وعلى رأسها المستشفى الإسرائيلي بسيدي جابر والتي أسهم في تأسيسها أيضاً عائلات منشه وسوارس وعاداه. كما شملت إسهاماتهم ميدان الثقافة، فنافست الإسكندرية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي مسارح وصالونات باريس الأدبية، وكان من أهم الشخصيات في تاريخ السينما العربية: توجومزراحي، وهو من أسرة يهودية ايطالية، قدم الحياة السكندرية بتنوعها في شخصية شالوم اليهودي وصديقه جنجل المسلم في فيلمه «الترجمان»، ونذكر أيضا الفنانة بهيجة المهدي واسمها الأصلي هنريت كوهين، والتي قامت ببطولة عدة أفلام مع علي الكسار، وكذلك الفنان العالمي عمر الشريف أو ميشيل شلهوب.. وغيرهم ممن تركوا بصمة ناصعة في تاريخ الإسكندرية.
http://www.aawsat.com/2007/08/26/images/daily1.434187.jpg
مدخل محكمة حاخامخانة بالإسكندرية
http://www.aawsat.com/2007/08/26/images/daily2.434187.jpg
رئيس الطائفة بالإسكندرية د. ماكس سلامه
الإسكندرية: داليا عاصم
قبل نحو 150 عاما وفي مجتمع الإسكندرية ذي الطابع الكزموبوليتاني عاشت جاليات من أجناس مختلفة، اختلطت دماؤهم وثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم في نسيج إنساني مميز ترعرع ونما بحب في عباءة الإسكندرية السمحة، فكانوا يتفاخرون بهويتهم المستمدة من ظلال تلك العباءة.
أرمن ويونانيون وإيطاليون وسواهم من جنسيات مختلفة خطفهم بريق المدينة الساجية على صدر المتوسط فسكنوها جسدا وروحا، حتى حين عصف بهم تيار التأميم أوائل خمسينات القرن الماضي وهاجروا في أنحاء متفرقة من العالم لم يخب هذا البريق في دمائهم، فظل الحنين إلى الإسكندرية يطاردهم، فمنهم من ألف كتبا أو كتب مذكراته ونشرها، ومن أسس جمعيات للسكندريين المهاجرين.
وحتى الآن يحرص الكثير منهم على زيارة الإسكندرية مسقط رأسهم ومرتع صباهم، ليستعيدوا دفء علاقات إنسانية حميمة تركت بصماتها علي منازل ومقاهٍ وشوارع ومساجد وكنائس ومعابد تنطق بروعة الميراث الثقافي والروحي للإسكندرية.
عاشت الجاليات جنباً إلى جنب مع السكندريين، وبرغم ذلك حافظت كل جالية على عادتها ولغتها وحياتها الاجتماعية ومناسك عباداتها وتاريخها وحتى المقابر الخاصة بها، وكانت الفرنسية هي اللغة الرسمية بين الجاليات ولعبت هذه اللغة دورا أساسيا في توحيدهم، كما كان معظمهم يعرف شيئا من العامية المصرية بحكم الاحتكاك اليومي المباشر.
الجالية اليهودية في الإسكندرية تعتبر مثالاً قوياً على هذه الحالة حيث تمتع اليهود بكامل حريتهم في ممارسة شعائرهم الدينية، وبناء المعابد وإقامة المحافل، وقد ساندتهم الحكومة في تيسيرات البناء ومنحهم الأرض مجانا مما أسهم في انتشار المعابد اليهودية في مختلف مدن مصر وبخاصة القاهرة والإسكندرية. وحتى عام 1930 كان هناك 20 معبدا في الإسكندرية تنتمي إلى مجموعات ومجتمعات متباينة ما بين يهود مغاربة وأتراك وإيطاليين وإسبان وفرنسيين ويهود مستعربين.
وكانت الطائفة لها مجلس عام يتكون من حاخام باشي، ونائب الحاخام، ورئيس، ونائبه، وسكرتير. واتخذت الطائفة من معبد «الياهوحنابي» بشارع النبي دانيال مقراً لها، وهو من أقدم وأشهر معابد اليهود في الإسكندرية. المعبد الذي شيد عام 1354 تعرض للقصف من قبل الحملة الفرنسية علي مصر، عندما أمر نابليون بقصفه لإقامة حاجز رماية للمدفعية بين حصن كوم الدكة والبحر، وأعيد بناؤه مرة أخرى عام 1850 بتوجيه ومساهمة من أسرة محمد علي.
في المعبد التقيت رئيس الطائفة اليهودية الحالي د. ماكس سلامه، طبيب الاسنان المعروف بالإسكندرية، 92 عاما. استقبلتني لارا خادمته وهي مسيحية من سري لانكا.
ماكس استعاد معنا بعض الذكريات. يقول ماكس الذي يرأس الطائفة منذ 6 سنوات: «كانت الجالية اليهودية من أكبر الجاليات وأهمها بالإسكندرية، وكان لهم محال تجارية مثل هانووشيكوريل وعدس. وكطبيب أسنان كان من أهم زُبُنِي الملكة فريدة والملك فاروق وأفراد الأسرة الملكية، وعائلة الأمير طوسون وعائلة عبد الناصر، ولم تكن هناك أي عداوة بيننا كيهود وبين المصريين. فقد بلغ عدد أفراد المجتمع اليهودي ذات مرة 80 ألف نسمة لكن السياسة تدمر كل شيء إنساني».
وبحنين جارف يتابع ماكس: أفتقد «حفلات الأعياد» فحتى عام 1935 كنا نحتفل كمصريين بالأعياد معاً وكان يوم كيبور «عيد الغفران» هو بمثابة احتفال كبير في الإسكندرية، كانت الجماهير سواء مسلمين أو مسيحيين أو يهود يسيرون في ميادين المنشية وحتى المعبد في محطة الرمل، الآن لا توجد هذه المظاهر الاحتفالية، ولكن في أوقات الأعياد يأتي حاخام من اسرائيل ليقيم الشعائر الدينية وتأتي بعض الوفود للاحتفال بشكل يكاد يكون سريا. الآن لا يوجد من يأتي للصلاة، نظرا لتناقص عدد اليهود المقيمين في الاسكندرية فقد اصبح عددهم الآن 4 رجال و20 سيدة من أصل يهودي ولكنهن متزوجات من مسلمين أو من مسيحيين، وكل الشباب هاجروا من مصر.
وحول أنشطة الطائفة، يقول ماكس انها في تقلص متلاحق، ولا توجد حاليا سوى جمعية خيرية واحدة فقط يحتضنها المعبد تتولى مساعدة ما تبقى من اليهود، «أستطيع أن أقول منذ الستينات توقف النشاط بانغلاق النوادي والمستشفيات والمدارس بعد أن كان للطائفة نشاط ملحوظ في مجال الخدمات الاجتماعية، حتى المعابد اليهودية الأخرى التي أنشأتها عائلات يهودية كبيرة تم بيعها أو تهدمت». وتتلقى الطائفة بعض المعونات من مؤسسات يهودية في الخارج لتعينها على سد احتياجات المحتاجين الي جانب ما تدره املاك الطائفة وهي عبارة عن بعض العمارات التي تؤجرها الطائفة منذ سنوات طويلة.
أما السيد يوسف، 54 عاما، القائم بأعمال الطائفة، وهو رجل مثقف ذو شخصية اجتماعية يجيد أكثر من لغة، وله صداقات مع أناس في دول كثيرة، ولد بالإسكندرية لأب وأم يهوديين، والده كان ترزيا مشهورا وكان مصمم ملابس أسرة جمال عبد الناصر. درس يوسف في إحدى المدارس الفرنسية بالإسكندرية. يؤكد يوسف أن أفراد الجالية مصريون يدينون بالولاء لمصر، وهم مخلصون لها، ويقول إنه لا يملك الكثير من الذكريات، لكنه يروي أنه في المرحلة الابتدائية حوالي عام 1965 كان تقريبا الطالب الوحيد الذي يدين باليهودية في المدرسة، وكان في حصة الدين يذهب الطلاب إلي حصة الدين المسيحي أو الاسلامي، بينما كان يجلس هو في فناء المدرسة. ويذكر أن المدرسين عرضوا عليه أن ينضم إلي أي من الجانبين، وبالفعل كان يحضر مرة حصة الدين الإسلامي ومرة أخرى للدين المسيحي، مما جعل لديه خلفية بالديانتين وتعاليمهما، وهذا ما مكنه من الاندماج مع أصدقائه من الجانبين.
بمدخل المعبد، تطالعك آيات قرآنية معلقة في حجرة، إنها حجرة الأستاذ عبد النبي أبوزيد المسؤول الإداري بالمعبد، يعمل به منذ 20 عاماً. استقبلني في مكتبه ببشاشة. وعندما سألته عن المعبد، قال «جميع العاملين هنا مسلمون ومعنا محاسب مسيحي، والجميع هنا متحابون. أما عن المعبد فهو مغلق معظم العام، ولكن يشعر الجميع بالسعادة حقا عندما تأتي الوفود للاحتفال برأس السنة اليهودي في شهر سبتمبر (أيلول)، وعيد الغفران والحانوكاة والبوريم وعيد المظلة، وسمحات أورات وعيد الفصح «بيسح». أثناء تجوالي بالمعبد قابلت سيدة مسنة لطيفة تعلو وجهها ابتسامة رقيقة، هي لينا ماتاتيا، 83 عاما، تعمل بالمعبد منذ أكثر من 30 عاما، وهي المسؤولة عن سجلات الجالية اليهودية بالإسكندرية، وعن تعداد المواليد وتوثيق الزيجات والوفيات. تقول لينا:
«أنا من مواليد الإسكندرية، لأب وأم يونانيين، استقيت عشق مصر منهما، لذا لم أغادرها، فقد عشت بها أجمل أيام حياتي، ولم نكن نعاني يوما من أي مشاكل، كان المعبد هنا يعج باليهود المصريين الذين يأتون للصلاة كل سبت، وكان لا يتسع لهم، وكانت تقام به حفلات الزواج بحضور الفتيات والسيدات في قمة أناقتهن، وكانت تشبه أيضا احتفالات الزواج عند المصريين». وكانت العروس تذهب في الليلة السابقة للاحتفال بالزواج إلي الحمام «الميكفا» أي الحمام الديني في صحبة أمها وحماتها وجدتها وعماتها، تحمل سلة من الصفصاف بها صابون معطر فاخر ومناشف وزجاجة ماء كولونيا أو ماء ورد وليفة جديدة وقبقاب حمام مبرقش مطعم بالصدف أو بكرات زجاجية ملونة وطشت صغير من النحاس أو الفضة، ثم تنزل إلي مسبح شعائري «Apisein Rituelle».
وبعد طقوس التبريك يقدم شراب منعش وقهوة أو شاي مع الجاتوه والحلوي والملبس والبونبون، ثم تتوجه النسوة بالعروس عائدات إلي منزلها حيث يستقبلهن الجيران بالزغاريد والتهاني. وجرت العادة ان يعقد الحفل الديني في شقة احد العروسين، أما حفل الاستقبال، فيقام في خيمة داخل فناء المعبد أو شرفته وتقدم الموسيقي العبرية وغالبا ما يعزف لحن البولكا Polka أو موسيقي المازوركا Mazurka مع الاستعانة بمغنية شرقية وأفراد تختها لإحياء الليلة، وينفض الحفل حوالي الساعة الثانية أو الثالثة صباحا. وتستدرك ماتاتيا:
«كل شيء اختلف عن الماضي، فلا توجد حفلات زواج، وقد اقتصرت الصلاة على الاعياد والمناسبات الدينية، ونحن لا نأكل طعاما دينيا، وبين الحين والآخر يأتي لنا أصدقاؤنا بطعام «الكوشير» المحلل دينيا وهو عبارة عن اللحوم والخبز الذي تجري عليه بعض الطقوس الدينية، فنتناوله مرة أو مرتين في السنة».
يؤدي اليهود الصلاة مرتين في الصباح وفي المغرب ويمكن تأديتها في المنزل، ولكن الصلاة الجماعية تتم فقط يوم السبت ويلزمها عشرة رجال في الأقل لتصبح مقبولة شرعا، وقد توقفت هذه الصلوات الجماعية، بسبب كبر سن معظم من بقي من اليهود كما أن عددهم أصبح أقل من 10.
ومن المعابد الأخرى المهمة بالإسكندرية: معبد «زاراديل» الذي أنشأته عائلة زاراديل عام 1391 ومقره في شارع عمرام بحارة اليهود في سوق السمك القديم. يحتفظ المعبد بمخطوطتين نادرتين للتوراة بالخط الآشوري.
من المعابد اليهودية في الاسكندرية هناك معبد «منشه» أسسه البارون يعقوب دي منشه عام 1860 بميدان المنشية، وهو مبني بسيط مكون من طابقين ومعبد «الياهو حزان» بشارع فاطمة اليوسف بحي سبورتنج الذي أنشئ عام 1928، ومعبد جرين الذي شيدته عائلة جرين بحي محرم بك عام 1901، ومعبد يعقوب ساسون عام 1910 بجليم، ومعبد كاسترو الذي أنشأه موسي كاسترو عام 1920 بحي محرم بك، ومعبد نزاح اسرائيل الاشكنازي عام 1920، ومعبد «شعار تفيله» أسسته عائلتا «انزاراوت» و«شاربيه» عام 1922 بحي كامب شيزار، هذا الى جانب بعض المعابد التي هدمت واندثرت.
أما حارة اليهود الشهيرة، فكانت مثالا حيا على أوضاع اليهود في الاسكندرية واندماجهم مع أهلها، وهي تبدأ من حي الجمرك ببحري حتى حي المنشية، وهي ليست حارة بالمعنى المعروف بل حي كامل فيه شوارع وحارات كثيرة متصلة ببعضها بعضا، سكنها اليهود والمسيحيون والمسلمون، ولا تزال هذه الحارة محتفظة بطابعها المعماري وسكانها من الطبقة المتوسطة والفقيرة. فكانت تقطنها الطبقة الدنيا من الجالية اليهودية وكانوا غالبا من اليهود المصريين المولد والجنسية، وكانت العربية لغتهم وأقاموا علاقات صداقة مع جيرانهم المسلمين والمسيحيين. يسترجع عم مسعد الشهير بـ«مسعد روما» صاحب مقهى بلدي في حارة اليهود، 83 عاما، شريط الذكريات قائلا «لقد كانت أياما حلوة.. كنا كلنا معاً كعائلة واحدة، ولم يكن هناك فرق بيننا كنا نتزاور ونحتفل معا بالأعياد، كانوا يحتفلون معنا بعيد الفطر، وكنا نتبادل الكعك، وهم كانوا يقدمون لنا كعك عيد الغفران، كذلك المسيحيون، لذا كانت الحارة كلها أعياد».
ويستطرد عم مسعد: «لقد عشت وتربيت بينهم وكان معظمهم خياطين ويبيعون لوازم الخياطة، وكانوا حريصين على أسرار مهنتهم. ويشير إلى زقاق أمامه «كان هنا إبراهيم بياع الدقيق.. وبيومي بياع النحاس، كانت عشرة طيبة، كنا بنخاف على بعض لما يكون فيه مشكلة مع واحد منهم، كنا ندافع عنهم، وإذا مرض أحدنا الكل يلتف حوله. كنا نقعد على القهوة ونلعب دومينو وكوتشينه، وكانت لهم قهوة خاصة بهم اسمها قهوة إبراهيم صالح، لكن لما خرجوا من مصر اتغيروا».
وحول المأكولات اليهودية، يقول عم مسعد «كانوا يأكلون مثلنا، لكن كانت لهم مخابز وجزارات خاصة بهم، تقدم لحوما مذبوحة على الطريقة اليهودية، فلم يكن مسموحا لهم بتناول أي لحوم أخرى حيث كان أحد الحاخامات يتولى الإشراف على هذه الذبائح للتأكد من مطابقتها للشريعة اليهودية».
تاريخيا، عاش اليهود في الإسكندرية منذ أسسها الاسكندر الأكبر وشكلوا ربع سكان المدينة القديمة، وشهد العصر الروماني وجود العديد من الجاليات اليهودية الكبيرة، سكنت مناطق معروفة أطلقت عليها أسماء أنبيائها، وظلت هذه الاسماء متداولة ولا تزال حتى الآن. لكن ملامح الجالية اليهودية في تاريخ الإسكندرية الحديث تشكلت مع نهاية القرن السابع عشر، حين رحل مجموعة من الصيادين اليهود الفقراء من رشيد وإدكو، إلى الإسكندرية لينضموا إلى بضع مئات من اليهود متعسري الحال، وأقام هؤلاء الوافدون خياماً لهم فى حى الأنفوشى بمحاذاة الشاطئ وبشارع الصيادين بالقرب من سوق السمك القديم، فيما بعد أصبحت هذه الخيام أكواخاً، تحولت بدورها إلى منازل، لتصبح حى اليهود بالإسكندرية، الذي يمتد من حوش النجار وحوش الجعان وحوش الحنفى إلى ميدان وشارع فرنسا.
ومع مرور الوقت، اجتذبت الإسكندرية مزيداً من يهود القاهرة والدلتا، ومن المغرب والعراق وتركيا وإسبانيا، نتيجة للانتعاش الاقتصادي الهائل الذي شهدته وانفتاحها على أسواق الغرب، وقد أقام يهود الطبقة المتوسطة في حي محرم بك، حيث شيد أول مستشفى يهودي عام 1893 بجهود البارون جاك دي منشه والمعروف الآن بمستشفى الرمد، وما زال في شارعى باولينو والرصافة ملجآن للمسنين من اليهود، إلى جانب العديد من المدارس والمعابد. بينما أقام يهود الطبقة البورجوازية وسط المدينة بالقرب من شارع النبي دانيال ثم توسعت أملاكهم فى منطقة الرمل.
لعب اليهود دور واسطة العقد بين الجاليات المختلفة فكانوا بمثابة همزة الوصل بينها، ساعدهم على ذلك العديد من الأنشطة التجارية والحرفية، التي انتشرت وسط المدينة، كميدان محمد علي ومحلاته الكبيرة. كما سيطر السماسرة وكبار رجال المال من اليهود على البورصة لدرجة أنها كانت تغلق أبوابها فى جميع الأعياد اليهودية، وكان منهم أكبر تجار القطن، كما أسسوا العديد من البنوك التي ما زالت تغلق يوم السبت. وكانت محلات المجوهرات وشركات التأمين والملاحة اليهودية تنتشر فى شوارع شريف وتوفيق وسيزوستريس وأنطونيادس وإستانبول.
اما شارع سعد زغلول فانتشرت به المكتبات والمطابع وتجارة الورق والأحذية ولعب الأطفال، وحلواني بودرو، والمكتبة الفرنسية، وتجار الأدوات والأجهزة الكهربائية ومكاتب بعض الصحف والمجلات اليهودية. فى الطرف الآخر من المدينة، نشط يهود الإسكندرية فى الميناء البحري، حيث كان سماسرة البورصة دائمي الحركة بين بالات القطن وأكياس البصل والأرز المعدة للتصدير. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الطائفة اليهودية بالمدينة من أكثر الجاليات تألقا ونشاطا.
فقاموا بتأسيس بنوك منها: العقاري المصري، الأهلي المصري، والتجاري المصري «بنك التسليف الفرنسي». وكانت من أهم انجازاتهم القائمة إلى الآن تأسيس شركة ترام الإسكندرية البلجيكية وشركة ترام الرمل الإنجليزية بمشاركة من أسرة موصيري. ومن أكثر العائلات تأثيرا في الإسكندرية، عائلة «منشه» وعميدها يعقوب دي منشه، والبارون ليفي دي منشه هو مؤسس البنك العثماني المصري عام 1872، الذي كان له دور بارز في إقراض الخديوي إسماعيل لتنفيذ مشروعاته النهضوية في مصر. وتمتعت هذه العائلة بالنفوذ السياسي والاقتصادي، وسيطرت على مجلس الطائفة بالإسكندرية لأكثر من ربع قرن حتى أطلق عليه «مجلس العائلة». كما تنتسب «سموحه» أشهر مناطق الإسكندرية إلى «جوزيف سموحه» عميد عائلة سموحه التى يرجع نسبها إلى يهود بغداد.
وكان رجل اقتصاد وصناعة من الطراز الأول، شيد ناديا رياضيا لممارسة الفروسية لا زال يحمل اسمه، وكان معروفاً بصداقته الشخصية للملك فؤاد، واشتهر بسخائه في تمويل مشروعات الخدمات الاجتماعية للطائفة؛ وعلى رأسها المستشفى الإسرائيلي بسيدي جابر والتي أسهم في تأسيسها أيضاً عائلات منشه وسوارس وعاداه. كما شملت إسهاماتهم ميدان الثقافة، فنافست الإسكندرية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي مسارح وصالونات باريس الأدبية، وكان من أهم الشخصيات في تاريخ السينما العربية: توجومزراحي، وهو من أسرة يهودية ايطالية، قدم الحياة السكندرية بتنوعها في شخصية شالوم اليهودي وصديقه جنجل المسلم في فيلمه «الترجمان»، ونذكر أيضا الفنانة بهيجة المهدي واسمها الأصلي هنريت كوهين، والتي قامت ببطولة عدة أفلام مع علي الكسار، وكذلك الفنان العالمي عمر الشريف أو ميشيل شلهوب.. وغيرهم ممن تركوا بصمة ناصعة في تاريخ الإسكندرية.