زوربا
08-20-2007, 11:16 PM
«الجار قبل الدار» تتحول إلى «أغلق باب الدار أسلم لك وللجار»
العلاقات والزيارات المتبادلة بالنسبة للبعض لا ينتح عنها سوى المشكلات من منطلق أن «الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح»، مما يخلق حالة من التوجس والحذر من الآخر
الرباط :لطيفة العروسني
"الجار قبل الدار" مقولة أصبحت من الماضي البعيد ولا احد يقف حاليا عند مغزاها طويلا، بل ان اغلب الناس باتوا مقتنعين بأن "إغلاق باب الدار أسلم لك وللجار"، من باب أن إلقاء السلام وتبادل تحية قصيرة أقصى ما يمكن ان يربط بيننا وبين جيراننا حتى وإن كانوا يشاركوننا السكن في نفس الحي.
فلماذا تعقدت العلاقة بين الجيران وتباعدت الى حد القطيعة والتجاهل؟..
تقول فاطمة، التي كانت تقطن في احد الأحياء العتيقة، قبل ان تنتقل الى السكن بشقة في إحدى العمارات السكنية بحي راق في الرباط، إن جيران الحي كانوا "بمثابة أفراد من العائلة تربط بيننا المودة والعشرة والمعاملة الحسنة، تجدهم بجانبك في السراء والضراء، في المناسبات المفرحة كالزفاف والسبوع، كما في المناسبات المحزنة كالوفاة او المرض".
وتضيف: "كان دور الجيران أساسيا عندما يتعلق الأمر بالتحضير للمناسبات الخاصة والأعياد ايضا، حيث كانوا يساعدون بعضهم بعضا في القيام بأشغال البيت بكل إخلاص وتفان، وتشمل هذه المساعدة حتى الكنس والتنظيف وغسيل الملابس وطهي الطعام".
ومن مظاهر متانة العلاقات بين الجيران في الماضي، تقول فاطمة "انه إذا قامت ربة البيت بطهي اكلة مميزة، فإنها ترسل منها الى كل جيرانها لتذوقها، لأنه كان من العار والعيب ان تصل رائحة الطعام الشهي الى بيوت الجيران من دون ان يتمكنوا من تذوقه. ومن امثلة الاكلات التي كان يتم تداولها بين جيران الامس، "الخليع"، وهي اكلة تحضر بالشحوم ولحم الغنم، وشوربة الغلالة (الحلزون)، وحلوى الشبكاية، والسفوف، بالإضافة الى طبقي "الكسكس" و"الرفيسة"، والسر في ذلك، هو ان هذه الاكلات اللذيذة، تصدر رائحة زكية ونفاذة، تصل الى البيوت الاخرى، وبالتالي يصبح من اللازم على من حضرها في بيته ان يرسل منها الى الجيران ولو بكمية قليلة جدا".
الحديث عن الجيران يجر الى تذكر ايام زمان بل التحسر عليها، لكن لا احد يبادر الى إحياء تلك العلاقات والسعي الى عودة الدفء إليها، وإذا سألت لماذا؟.. تتلقى جوابا جاهزا هو "رحمة الله على ناس زمان"، فجيران اليوم يختلفون كليا عن جيران الامس. والمفارقة هي ان الكل يدفع المسؤولية عنه ويلقيها على الآخرين.
ومن بين مظاهر الجفاء والتباعد التي تحكم العلاقات بين جيران اليوم، عدم توجيه بعضهم دعوات الحضور لحفل زفاف يقيمونه في بيتهم الذي لا يبعد سوى خطوات عن بيت جيرانهم، والاكتفاء بأفراد العائلة المقربين، وهو سلوك يخلف حسرة في نفوس الذين لا تصلهم من الوليمة سوى رائحة الاكل الشهي. ولا يصدق البعض ان تصل العلاقات الى هذا الحد، بل هناك من لا يريد ان تبادله حتى التحية، فيلقاك بوجه عابس حتى لا "تتجرأ "على ذلك.
واذا كان الجيران يغيبون في الافراح، فمن المنطقي ان يغيبوا في الاحزان ايضا، فمهمة الجيران في حالات حدوث وفاة اصبحت تقتصر على تقديم واجب العزاء لا غير، خصوصا أن بعضهم لم يسبق له أن زار منزل جاره قط الا عندما دخل للعزاء.
وتبرر مليكة، القاطنة في إحدى العمارات بحي شعبي في الرباط، قطع علاقاتها بالجيران، بأن الزيارات المتبادلة لا ينتح عنها الا المشكلات التي هي في غنى عنها "فالباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح". والمغزى من كلامها ان الابتعاد عن الجيران السيئين مبرر ومنطقي، إلا ان المفارقة هي ان معظم سكان العمارة ناس طيبون ومن عائلات محترمة، ولم يصدر عنهم ما يزعج طوال المدة التي سكنت في هذا الحي، فلماذا الحذر والتوجس من الآخرين؟. تجيب مليكة ان "المشكلات قد تنشأ من لاشيء، كحدوث عراك بين الأطفال، او نقل الأسرار، فالثقة أصبحت معدومة، لذلك من الافضل ان يغلق كل واحد بابه، وهو احتراز نتخذه جراء ما يصلنا من اخبار عن النتيجة التي تؤول إليها العلاقة ما بين بعض الجيران، فهي تبدأ بالمحبة وتنتهي بالخصام والقطيعة، بسبب إما النميمة أو الخيانة، او مجرد سوء فهم بسيط، او اتلاف لعبة من طرف احد الأطفال، ليتحول الأمر إلى شجار وفضح للأسرار، وغيرها من الأمور التي يمكن تفاديها بأن يلزم كل واحد بيته".
لكن هل القطيعة بين الجيران والعزلة هما الحل لتفادي المشكلات، ام ان تغيرات المجتمع هي التي فرضت هذا الانطواء للحفاظ على الخصوصية؟..
يقول عبد الكبير بلحاج، الاختصاصي في علم الاجتماع التربوي، لـ "الشرق الاوسط": "إن التحول الملاحظ على مستوى العلاقات بين الجيران، والمتمثل في الجفاء والتجاهل وغياب أي شكل من اشكال التآزر كما كان معهودا في الماضي، منتشر اكثر في المدن، لا سيما في الأحياء التي توصف بالراقية، أي تلك التي حصل فيها تطور عمراني وحضاري، بينما في الأحياء الشعبية ما زالت العلاقات العفوية او التقليدية سائدة ما بين الجيران".
ويضيف ان "هناك قاعدة سوسيولوجية تقول بوجود نوعين من التضامن، الاول عضوي، والثاني ميكانيكي. هذا الأخير يشمل العلاقات العفوية في المجتمعات التقليدية، لاسيما في القرى، بينما التضامن العضوي هو الذي نعيشه حاليا في المدن، ويتميز بوجود علاقات منظمة ومادية بين الافراد، تقضي على تلك العفوية، وتتحول الى علاقة الحاجة والمصلحة".
اما سبب التحول الذي طرأ على هذه العلاقات فيعود إلى أن الناس اصبحوا ينظرون الى الجيران على انهم مصدر ازعاج وتدخل في الشؤون الخاصة، اكثر منهم مصدر تعايش وانسجام. فما يجمع بين سكان العمارة الواحدة كما قال، هو النزاعات اكثر من التعاضد والتآزر، بل حتى الافراح والأتراح لم يعد يتشاطرها سكان الحي.
ويوضح بلحاج ان المجتمع المغربي اصبح يتوجه نحو الفردية والذاتية، وهي نتيجة طبيعية لحالة التطور التي تتم برأيه على حساب العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وهذا يجعل الاسر تنعزل اكثر فأكثر بين جدران بيتها، والأدهى من ذلك حسب قوله إننا عندما نقول إننا نعيش عصر التواصل بامتياز، إلا ان الواقع يثبت عكس ذلك تماما. فهذا التواصل اصبح منعدما بين الافراد في البيت الواحد، فما بالك مع الجيران، رغم ما نراه من سعي الكل للتواصل عبر التكنولوجيا مع اشخاص من قارات اخرى، وهنا تكمن المفارقة الغريبة برأيه.
ويضيف بلحاج ان البرود الذي أصبح يميز العلاقات الاجتماعية بين الناس، هو مجرد فترة انتقالية نتيجة التغيرات العمرانية والاقتصادية، مشيرا إلى أن الامور ستعود الى ما كانت عليه في السابق، لان الثقافة المغربية والعربية تزكي التضامن بين الأفراد، فضلا عن أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش في معزل عن الجماعة فهو بحاجة الى الآخر مهما تظاهر بالاستغناء عنهم، والدليل حسب رأيه، هو ان التضامن بين الافراد وتقدير العمل الاجتماعي يسودان بشكل كبير في المجتمعات الغربية التي وصلت درجة كبيرة من التطور، اكثر مما هو الحال عندنا.
العلاقات والزيارات المتبادلة بالنسبة للبعض لا ينتح عنها سوى المشكلات من منطلق أن «الباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح»، مما يخلق حالة من التوجس والحذر من الآخر
الرباط :لطيفة العروسني
"الجار قبل الدار" مقولة أصبحت من الماضي البعيد ولا احد يقف حاليا عند مغزاها طويلا، بل ان اغلب الناس باتوا مقتنعين بأن "إغلاق باب الدار أسلم لك وللجار"، من باب أن إلقاء السلام وتبادل تحية قصيرة أقصى ما يمكن ان يربط بيننا وبين جيراننا حتى وإن كانوا يشاركوننا السكن في نفس الحي.
فلماذا تعقدت العلاقة بين الجيران وتباعدت الى حد القطيعة والتجاهل؟..
تقول فاطمة، التي كانت تقطن في احد الأحياء العتيقة، قبل ان تنتقل الى السكن بشقة في إحدى العمارات السكنية بحي راق في الرباط، إن جيران الحي كانوا "بمثابة أفراد من العائلة تربط بيننا المودة والعشرة والمعاملة الحسنة، تجدهم بجانبك في السراء والضراء، في المناسبات المفرحة كالزفاف والسبوع، كما في المناسبات المحزنة كالوفاة او المرض".
وتضيف: "كان دور الجيران أساسيا عندما يتعلق الأمر بالتحضير للمناسبات الخاصة والأعياد ايضا، حيث كانوا يساعدون بعضهم بعضا في القيام بأشغال البيت بكل إخلاص وتفان، وتشمل هذه المساعدة حتى الكنس والتنظيف وغسيل الملابس وطهي الطعام".
ومن مظاهر متانة العلاقات بين الجيران في الماضي، تقول فاطمة "انه إذا قامت ربة البيت بطهي اكلة مميزة، فإنها ترسل منها الى كل جيرانها لتذوقها، لأنه كان من العار والعيب ان تصل رائحة الطعام الشهي الى بيوت الجيران من دون ان يتمكنوا من تذوقه. ومن امثلة الاكلات التي كان يتم تداولها بين جيران الامس، "الخليع"، وهي اكلة تحضر بالشحوم ولحم الغنم، وشوربة الغلالة (الحلزون)، وحلوى الشبكاية، والسفوف، بالإضافة الى طبقي "الكسكس" و"الرفيسة"، والسر في ذلك، هو ان هذه الاكلات اللذيذة، تصدر رائحة زكية ونفاذة، تصل الى البيوت الاخرى، وبالتالي يصبح من اللازم على من حضرها في بيته ان يرسل منها الى الجيران ولو بكمية قليلة جدا".
الحديث عن الجيران يجر الى تذكر ايام زمان بل التحسر عليها، لكن لا احد يبادر الى إحياء تلك العلاقات والسعي الى عودة الدفء إليها، وإذا سألت لماذا؟.. تتلقى جوابا جاهزا هو "رحمة الله على ناس زمان"، فجيران اليوم يختلفون كليا عن جيران الامس. والمفارقة هي ان الكل يدفع المسؤولية عنه ويلقيها على الآخرين.
ومن بين مظاهر الجفاء والتباعد التي تحكم العلاقات بين جيران اليوم، عدم توجيه بعضهم دعوات الحضور لحفل زفاف يقيمونه في بيتهم الذي لا يبعد سوى خطوات عن بيت جيرانهم، والاكتفاء بأفراد العائلة المقربين، وهو سلوك يخلف حسرة في نفوس الذين لا تصلهم من الوليمة سوى رائحة الاكل الشهي. ولا يصدق البعض ان تصل العلاقات الى هذا الحد، بل هناك من لا يريد ان تبادله حتى التحية، فيلقاك بوجه عابس حتى لا "تتجرأ "على ذلك.
واذا كان الجيران يغيبون في الافراح، فمن المنطقي ان يغيبوا في الاحزان ايضا، فمهمة الجيران في حالات حدوث وفاة اصبحت تقتصر على تقديم واجب العزاء لا غير، خصوصا أن بعضهم لم يسبق له أن زار منزل جاره قط الا عندما دخل للعزاء.
وتبرر مليكة، القاطنة في إحدى العمارات بحي شعبي في الرباط، قطع علاقاتها بالجيران، بأن الزيارات المتبادلة لا ينتح عنها الا المشكلات التي هي في غنى عنها "فالباب الذي يأتيك منه الريح سده واستريح". والمغزى من كلامها ان الابتعاد عن الجيران السيئين مبرر ومنطقي، إلا ان المفارقة هي ان معظم سكان العمارة ناس طيبون ومن عائلات محترمة، ولم يصدر عنهم ما يزعج طوال المدة التي سكنت في هذا الحي، فلماذا الحذر والتوجس من الآخرين؟. تجيب مليكة ان "المشكلات قد تنشأ من لاشيء، كحدوث عراك بين الأطفال، او نقل الأسرار، فالثقة أصبحت معدومة، لذلك من الافضل ان يغلق كل واحد بابه، وهو احتراز نتخذه جراء ما يصلنا من اخبار عن النتيجة التي تؤول إليها العلاقة ما بين بعض الجيران، فهي تبدأ بالمحبة وتنتهي بالخصام والقطيعة، بسبب إما النميمة أو الخيانة، او مجرد سوء فهم بسيط، او اتلاف لعبة من طرف احد الأطفال، ليتحول الأمر إلى شجار وفضح للأسرار، وغيرها من الأمور التي يمكن تفاديها بأن يلزم كل واحد بيته".
لكن هل القطيعة بين الجيران والعزلة هما الحل لتفادي المشكلات، ام ان تغيرات المجتمع هي التي فرضت هذا الانطواء للحفاظ على الخصوصية؟..
يقول عبد الكبير بلحاج، الاختصاصي في علم الاجتماع التربوي، لـ "الشرق الاوسط": "إن التحول الملاحظ على مستوى العلاقات بين الجيران، والمتمثل في الجفاء والتجاهل وغياب أي شكل من اشكال التآزر كما كان معهودا في الماضي، منتشر اكثر في المدن، لا سيما في الأحياء التي توصف بالراقية، أي تلك التي حصل فيها تطور عمراني وحضاري، بينما في الأحياء الشعبية ما زالت العلاقات العفوية او التقليدية سائدة ما بين الجيران".
ويضيف ان "هناك قاعدة سوسيولوجية تقول بوجود نوعين من التضامن، الاول عضوي، والثاني ميكانيكي. هذا الأخير يشمل العلاقات العفوية في المجتمعات التقليدية، لاسيما في القرى، بينما التضامن العضوي هو الذي نعيشه حاليا في المدن، ويتميز بوجود علاقات منظمة ومادية بين الافراد، تقضي على تلك العفوية، وتتحول الى علاقة الحاجة والمصلحة".
اما سبب التحول الذي طرأ على هذه العلاقات فيعود إلى أن الناس اصبحوا ينظرون الى الجيران على انهم مصدر ازعاج وتدخل في الشؤون الخاصة، اكثر منهم مصدر تعايش وانسجام. فما يجمع بين سكان العمارة الواحدة كما قال، هو النزاعات اكثر من التعاضد والتآزر، بل حتى الافراح والأتراح لم يعد يتشاطرها سكان الحي.
ويوضح بلحاج ان المجتمع المغربي اصبح يتوجه نحو الفردية والذاتية، وهي نتيجة طبيعية لحالة التطور التي تتم برأيه على حساب العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وهذا يجعل الاسر تنعزل اكثر فأكثر بين جدران بيتها، والأدهى من ذلك حسب قوله إننا عندما نقول إننا نعيش عصر التواصل بامتياز، إلا ان الواقع يثبت عكس ذلك تماما. فهذا التواصل اصبح منعدما بين الافراد في البيت الواحد، فما بالك مع الجيران، رغم ما نراه من سعي الكل للتواصل عبر التكنولوجيا مع اشخاص من قارات اخرى، وهنا تكمن المفارقة الغريبة برأيه.
ويضيف بلحاج ان البرود الذي أصبح يميز العلاقات الاجتماعية بين الناس، هو مجرد فترة انتقالية نتيجة التغيرات العمرانية والاقتصادية، مشيرا إلى أن الامور ستعود الى ما كانت عليه في السابق، لان الثقافة المغربية والعربية تزكي التضامن بين الأفراد، فضلا عن أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش في معزل عن الجماعة فهو بحاجة الى الآخر مهما تظاهر بالاستغناء عنهم، والدليل حسب رأيه، هو ان التضامن بين الافراد وتقدير العمل الاجتماعي يسودان بشكل كبير في المجتمعات الغربية التي وصلت درجة كبيرة من التطور، اكثر مما هو الحال عندنا.