زوربا
08-16-2007, 03:39 PM
جمال البنـّا - المصري اليوم
قيل لي إن المقال الذي نشر بهذه الصحيفة تحت عنوان «أحاديث تناقض القرآن.. إذن تستبعد»، أثار انتقادات عديدة وتعليقات لاذعة، وكان يجب علي الذين انتقدوني أن يشكروني، لأني أطهر السُنة مما دس عليها وما يجعلها تناقض القرآن، في حين أنها إنما جاءت لتأكيد القرآن.
أما آن لهؤلاء أن يعلموا أن الدفاع الحقيقي عن السُنة إنما يكون بتطهيرها مما أقحم فيها، سواء للكيد في الإسلام، أو اللغو في القرآن، الذي أراده أعداء الإسلام فلم يستطيعوا، لأنه محفوظ في الصدور، فعمدوا إلي السُنة وابتدعوا أحاديث تسيء إلي القرآن وتزعم وجود آيات أو سور ناقصة وتبدع أسباباً لنزول الآيات تهوي بالقرآن من سماوات سموه إلي درك أغراضهم الدنيئة.
واليوم، نتناول كتاباً يقولون عنه «أصدق كتاب بعد كتاب الله»، ووصل من الشهرة أن يحلف الناس به، وهو «صحيح» البخاري، والإمام البخاري له العديد من المزايا والفضل العميم علي السُنة، ولكنه ليس نبياً معصوماً، ولا ملكاً مقرباً، ولكنه بشر، ولا يعيبه في شيء أن يخطئ، فهذه هي طبيعة البشر، فكل بني آدم خطاءون.
الأحاديث التي سنعرضها تتسم بالإسرائيليات، وهي أكثر صور الوضع وضوحاً حتي تكاد تقول «خذوني»، ومع هذا فقد صدقها أجيال المسلمين ودافع عنها جل الفقهاء، وقد اخترتها بالذات لأنه لما كشف عوارها بعض الناقدين تصدي عدد كبير من الفقهاء للدفاع عنها، فقد قرأت في العدد ١٤٣٨ - ٢٠ القعدة (١٣/٢/١٩٥٢) من مجلة المجتمع التي تصدر في الكويت دفاعاً عن حديثين، الأول:
* حديث رواه ابن حبان عن أبي هريرة أن النبي «صلي الله عليه وسلم» قال: «جاء ملك الموت إلي موسي ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسي عين ملك الموت ففقأ عينه، فرجع إلي ربه فقال: أرسلتني إلي عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده علي متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، قال: فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر» (رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة).
ودافعت المجلة دفاعاً مستميتاً وأكدت أن عند الأئمة الجهابذة الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الحديث الحل، وروت ما قاله ابن حبان من محاولات ركيكة لرفع خسيسته، ظانة أننا يمكن أن نؤخذ به.
وفي العدد نفسه (ص ٥٩) دافعت المجلة عن حديث لا يقل نكراً عن الحديث الأول يقول «لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثي زوجها!!»، ويخنز بفتح الياء والنون مصدر خنز، والخنوز هو إذا تغير وأنتن، وحاولت المجلة أيضاً أن تدافع عنه.
بعد هذا قرأت في الأهرام (٢٥/٨/٢٠٠١) (ص ٣) تحقيقاً مسهباً للأستاذ عزت السعدني تحت عنوان «وكان الإنسان ظلوماً جهولاً» جاء فيه:
* في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله «صلي الله عليه وسلم» بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلي الليل».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خلق الله عز وجل آدم علي صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له اذهب فسلم علي أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، واستمع ما يجبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه رحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة علي صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتي الآن».
وهناك حديثان حظيا بدفاع كاتب إسلامي كبير هو الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله، عميد كلية الشريعة بدمشق، والرئيس البارز للإخوان المسلمين الذي اصطلي بنار طاغية سوريا، حافظ الأسد، فما ضعف ولا استكان.
هذا الزعيم الإسلامي قدم في كتابه الممتاز عن السُنة دفاعاً حاراً عن حديثين نقدهما الشيخ أبورية في كتابه المشهور «أضواء علي السُنة المحمدية» وهما:
* «أخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم» أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة».
والحديث الآخر ما رواه البخاري ومسلم:
* «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تعالي للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتي يضع الله رجله، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلي بعض».
وقال الشيخ السباعي في دفاعه إن الكون هو من الاتساع بحيث تعجز معاييرنا عن الإلمام به، فليس من المستحيل أن توجد به مثل هذه الشجرة، وأشار إلي أن هناك فرقاً بين ما يستغرب وما يستحيل، وأن العقل لا يرفض الأول ولكن يرفض الثاني. ومن الناحية النظرية فقد لا يكون عليه غبار، أما من الناحية العملية فإنه عندما يتكرر ورود ما يستغرب كما هي الحال في مئات الأحاديث التي تتكلم عن الجنة والنار، فإن ما يستغرب لا يعد مستغرباً، وهذا ما يوجد خللاً في المقاييس وما يؤثر علي موضوعية الحكم العقلي، لأن الاستثناء والشاذ يصبح هو القاعدة والعادة، ولا يعود هناك فرق بين ما يستغرب وما هو مستحيل.
وبالنسبة للحديث الثاني أشار إلي الآيات الخاصة بيد الله وعينه وحديثه إلي الملائكة وإلي السماوات والأرض مما جاء في القرآن، وأن هذه المحاجة بين النار والجنة من هذا القبيل، ولكن شتان ما بين تعبيرات القرآن الملهمة المجازية وهذا التعبير العامي الفج، وكان الشيخ رحمه الله في غني عن هذا الدفاع لو رأي هذه الأحاديث موضوعة أو مما لاتلزم، ولكن كيف وقد جاءت في البخاري ومسلم؟
إن «إسرائيلية» هذه الأحاديث هي مما لا تخفي، وبعدها عن الإسلام واضح وضوح الشمس، ثم هي لا تقدم حكماً مفيداً ولا تعرض قيمة معنوية ثمينة، وإنما تقحم المسلم في عالم الغيب الذي استأثر الله تعالي بعلمه. ثم إن تصديق ما جاءت به يفتات علي عقولنا ويسيء إليها حتي يمكن فيما بعد أن تتقبل الخرافة، وأن ينطلي عليها الباطل لأن الملكة الناقدة في العقل قد وهنت، أو أن أصحابها آثروا ألا يستخدموها، وفي جميع الحالات يتعطل العقل.
لا جدال أن هذه الأحاديث إنما جاءت من كعب الأحبار، وهو اليهودي الذي أسلم في عهد أبي بكر، أو عمر، وكان شديد الدهاء بحيث جعل مجتمع الصحابة الفقهي يتقبله ويوثقه وجعل المحدثين يدافعون عنه رغم أن عمر بن الخطاب اكتشفه بنظره الثاقب، وضربه بالدرة، ونهاه عن الحديث، وتوعده إن لم يفعل ليلحقنه بأرض القردة، وقال «دعنا من يهوديتك».
ولكن المجال انفسح له بعد مقتل عمر حتي دافع المحدثون عن مؤتفكاته بمثل ما يصوره كلام الشيخ محمد محمد أبوزهو في كتابه «الحديث والمحدثون» (ص ١٨٧) إذ قال:
«كما لا ينبغي أن يتخذ من رواية هذه الإسرائيليات وسيلة للطعن في رواتها من أمثال كعب ووهب ممن أثني عليهم الصحابة وزكاهم أهل البصر بالتعديل والتجريح، وذلك لأنهم حكوها عن الكتب غير مصدقين لها علي الإطلاق، بل كانت عقيدتهم فيها كعقيدة الصحابة، ما جاء وفق شرعنا صدقوه، وما خالفه كذبوه، وما لم يوافقه أو يخالف شرعنا ردوا فيه العلم إلي الله عز وجل، وما مثلهم فيما ينقلون ويحكون إلا مثل رجل أمين أراد أن يطلعك علي كتاب مؤلف بغير لسانك فترجمه إلي لغة تفهمها لتعرف ما فيه، إن صدقاً أو كذباً، والصدق أو الكذب حينئذ يضاف إلي الكتاب لا إلي الناقل، وليس أمثال ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وابن عمرو بالقاصرين عن تمييز الخبيث من الطيب حتي يقال إن نقلها إليهم يشوش علي أفكارهم وعقائدهم».
فهل هناك تهافت أكثر من هذا؟
وهل نحن في حاجة لأن نعلم ما في كتبهم؟
وهل نقبل إيراد كل شيء.. إلخ؟
لقد خفي علي معظم الفقهاء والمحدثين العلاقة الوثيقة التي استطاع كعب الأحبار أن يقيمها مع أبي هريرة بفضل استشفافه رغبة أبي هريرة في المزيد من الأحاديث التي يضعها في جعبته ويسرد منها بصورة كانت تثير السيدة عائشة وتضايقها لأنها تخالف ما ألفه الرسول في الحديث من أناة، وتكرار، ووضوح، بل إنه استطاع أيضاً أن يخدع العبادلة الثلاثة عبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود.
وقال الأستاذ عبدالجواد ياسين في كتابه «السلطة في الإسلام»، عن أبي هريرة إنه كان «تلميذاً» لكعب الأحبار، وإن أبا هريرة روي عنه الكثير لأن رواية «الأصاغر عن الأكابر جائزة»، كما قال المحدثون، وذكر ما قاله بشر بن سعيد: «اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعضاً ممن كان معنا يجعل حديث رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم».
وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، وما قاله رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب.
إن الأحاديث الخمسة أو الستة التي أوردناها ليست إلا أمثلة عارضة، ونحن لا نعدم الكثير منها في البخاري عندما نعمد إلي التقصي والتحري، وقد كنا فكرنا في إصدار كتاب بعنوان «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم»، فإذا كانت الفرص قد لا تسمح بذلك، فإننا في كتابنا عن السُنة (الجزء الثاني) من كتاب «نحو فقه جديد» وضعنا المعايير لذلك بحيث يسهل علي من بعدنا القيام بذلك.
قيل لي إن المقال الذي نشر بهذه الصحيفة تحت عنوان «أحاديث تناقض القرآن.. إذن تستبعد»، أثار انتقادات عديدة وتعليقات لاذعة، وكان يجب علي الذين انتقدوني أن يشكروني، لأني أطهر السُنة مما دس عليها وما يجعلها تناقض القرآن، في حين أنها إنما جاءت لتأكيد القرآن.
أما آن لهؤلاء أن يعلموا أن الدفاع الحقيقي عن السُنة إنما يكون بتطهيرها مما أقحم فيها، سواء للكيد في الإسلام، أو اللغو في القرآن، الذي أراده أعداء الإسلام فلم يستطيعوا، لأنه محفوظ في الصدور، فعمدوا إلي السُنة وابتدعوا أحاديث تسيء إلي القرآن وتزعم وجود آيات أو سور ناقصة وتبدع أسباباً لنزول الآيات تهوي بالقرآن من سماوات سموه إلي درك أغراضهم الدنيئة.
واليوم، نتناول كتاباً يقولون عنه «أصدق كتاب بعد كتاب الله»، ووصل من الشهرة أن يحلف الناس به، وهو «صحيح» البخاري، والإمام البخاري له العديد من المزايا والفضل العميم علي السُنة، ولكنه ليس نبياً معصوماً، ولا ملكاً مقرباً، ولكنه بشر، ولا يعيبه في شيء أن يخطئ، فهذه هي طبيعة البشر، فكل بني آدم خطاءون.
الأحاديث التي سنعرضها تتسم بالإسرائيليات، وهي أكثر صور الوضع وضوحاً حتي تكاد تقول «خذوني»، ومع هذا فقد صدقها أجيال المسلمين ودافع عنها جل الفقهاء، وقد اخترتها بالذات لأنه لما كشف عوارها بعض الناقدين تصدي عدد كبير من الفقهاء للدفاع عنها، فقد قرأت في العدد ١٤٣٨ - ٢٠ القعدة (١٣/٢/١٩٥٢) من مجلة المجتمع التي تصدر في الكويت دفاعاً عن حديثين، الأول:
* حديث رواه ابن حبان عن أبي هريرة أن النبي «صلي الله عليه وسلم» قال: «جاء ملك الموت إلي موسي ليقبض روحه، قال له: أجب ربك، فلطم موسي عين ملك الموت ففقأ عينه، فرجع إلي ربه فقال: أرسلتني إلي عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه فقل له يضع يده علي متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب، ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن، قال: فسأل الله عز وجل أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر» (رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة).
ودافعت المجلة دفاعاً مستميتاً وأكدت أن عند الأئمة الجهابذة الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الحديث الحل، وروت ما قاله ابن حبان من محاولات ركيكة لرفع خسيسته، ظانة أننا يمكن أن نؤخذ به.
وفي العدد نفسه (ص ٥٩) دافعت المجلة عن حديث لا يقل نكراً عن الحديث الأول يقول «لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثي زوجها!!»، ويخنز بفتح الياء والنون مصدر خنز، والخنوز هو إذا تغير وأنتن، وحاولت المجلة أيضاً أن تدافع عنه.
بعد هذا قرأت في الأهرام (٢٥/٨/٢٠٠١) (ص ٣) تحقيقاً مسهباً للأستاذ عزت السعدني تحت عنوان «وكان الإنسان ظلوماً جهولاً» جاء فيه:
* في صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله «صلي الله عليه وسلم» بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلي الليل».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».
* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله «صلي الله عليه وسلم»: «خلق الله عز وجل آدم علي صورته، طوله ستون ذراعاً، فلما خلقه قال له اذهب فسلم علي أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، واستمع ما يجبونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، قال فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه رحمة الله، قال: فكل من يدخل الجنة علي صورة آدم وطوله ستون ذراعاً، فلم يزل الخلق ينقص حتي الآن».
وهناك حديثان حظيا بدفاع كاتب إسلامي كبير هو الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله، عميد كلية الشريعة بدمشق، والرئيس البارز للإخوان المسلمين الذي اصطلي بنار طاغية سوريا، حافظ الأسد، فما ضعف ولا استكان.
هذا الزعيم الإسلامي قدم في كتابه الممتاز عن السُنة دفاعاً حاراً عن حديثين نقدهما الشيخ أبورية في كتابه المشهور «أضواء علي السُنة المحمدية» وهما:
* «أخرج مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم» أن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة».
والحديث الآخر ما رواه البخاري ومسلم:
* «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تعالي للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتي يضع الله رجله، فتقول: قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلي بعض».
وقال الشيخ السباعي في دفاعه إن الكون هو من الاتساع بحيث تعجز معاييرنا عن الإلمام به، فليس من المستحيل أن توجد به مثل هذه الشجرة، وأشار إلي أن هناك فرقاً بين ما يستغرب وما يستحيل، وأن العقل لا يرفض الأول ولكن يرفض الثاني. ومن الناحية النظرية فقد لا يكون عليه غبار، أما من الناحية العملية فإنه عندما يتكرر ورود ما يستغرب كما هي الحال في مئات الأحاديث التي تتكلم عن الجنة والنار، فإن ما يستغرب لا يعد مستغرباً، وهذا ما يوجد خللاً في المقاييس وما يؤثر علي موضوعية الحكم العقلي، لأن الاستثناء والشاذ يصبح هو القاعدة والعادة، ولا يعود هناك فرق بين ما يستغرب وما هو مستحيل.
وبالنسبة للحديث الثاني أشار إلي الآيات الخاصة بيد الله وعينه وحديثه إلي الملائكة وإلي السماوات والأرض مما جاء في القرآن، وأن هذه المحاجة بين النار والجنة من هذا القبيل، ولكن شتان ما بين تعبيرات القرآن الملهمة المجازية وهذا التعبير العامي الفج، وكان الشيخ رحمه الله في غني عن هذا الدفاع لو رأي هذه الأحاديث موضوعة أو مما لاتلزم، ولكن كيف وقد جاءت في البخاري ومسلم؟
إن «إسرائيلية» هذه الأحاديث هي مما لا تخفي، وبعدها عن الإسلام واضح وضوح الشمس، ثم هي لا تقدم حكماً مفيداً ولا تعرض قيمة معنوية ثمينة، وإنما تقحم المسلم في عالم الغيب الذي استأثر الله تعالي بعلمه. ثم إن تصديق ما جاءت به يفتات علي عقولنا ويسيء إليها حتي يمكن فيما بعد أن تتقبل الخرافة، وأن ينطلي عليها الباطل لأن الملكة الناقدة في العقل قد وهنت، أو أن أصحابها آثروا ألا يستخدموها، وفي جميع الحالات يتعطل العقل.
لا جدال أن هذه الأحاديث إنما جاءت من كعب الأحبار، وهو اليهودي الذي أسلم في عهد أبي بكر، أو عمر، وكان شديد الدهاء بحيث جعل مجتمع الصحابة الفقهي يتقبله ويوثقه وجعل المحدثين يدافعون عنه رغم أن عمر بن الخطاب اكتشفه بنظره الثاقب، وضربه بالدرة، ونهاه عن الحديث، وتوعده إن لم يفعل ليلحقنه بأرض القردة، وقال «دعنا من يهوديتك».
ولكن المجال انفسح له بعد مقتل عمر حتي دافع المحدثون عن مؤتفكاته بمثل ما يصوره كلام الشيخ محمد محمد أبوزهو في كتابه «الحديث والمحدثون» (ص ١٨٧) إذ قال:
«كما لا ينبغي أن يتخذ من رواية هذه الإسرائيليات وسيلة للطعن في رواتها من أمثال كعب ووهب ممن أثني عليهم الصحابة وزكاهم أهل البصر بالتعديل والتجريح، وذلك لأنهم حكوها عن الكتب غير مصدقين لها علي الإطلاق، بل كانت عقيدتهم فيها كعقيدة الصحابة، ما جاء وفق شرعنا صدقوه، وما خالفه كذبوه، وما لم يوافقه أو يخالف شرعنا ردوا فيه العلم إلي الله عز وجل، وما مثلهم فيما ينقلون ويحكون إلا مثل رجل أمين أراد أن يطلعك علي كتاب مؤلف بغير لسانك فترجمه إلي لغة تفهمها لتعرف ما فيه، إن صدقاً أو كذباً، والصدق أو الكذب حينئذ يضاف إلي الكتاب لا إلي الناقل، وليس أمثال ابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وابن عمرو بالقاصرين عن تمييز الخبيث من الطيب حتي يقال إن نقلها إليهم يشوش علي أفكارهم وعقائدهم».
فهل هناك تهافت أكثر من هذا؟
وهل نحن في حاجة لأن نعلم ما في كتبهم؟
وهل نقبل إيراد كل شيء.. إلخ؟
لقد خفي علي معظم الفقهاء والمحدثين العلاقة الوثيقة التي استطاع كعب الأحبار أن يقيمها مع أبي هريرة بفضل استشفافه رغبة أبي هريرة في المزيد من الأحاديث التي يضعها في جعبته ويسرد منها بصورة كانت تثير السيدة عائشة وتضايقها لأنها تخالف ما ألفه الرسول في الحديث من أناة، وتكرار، ووضوح، بل إنه استطاع أيضاً أن يخدع العبادلة الثلاثة عبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود.
وقال الأستاذ عبدالجواد ياسين في كتابه «السلطة في الإسلام»، عن أبي هريرة إنه كان «تلميذاً» لكعب الأحبار، وإن أبا هريرة روي عنه الكثير لأن رواية «الأصاغر عن الأكابر جائزة»، كما قال المحدثون، وذكر ما قاله بشر بن سعيد: «اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، ويحدثنا عن كعب الأحبار ثم يقوم، فأسمع بعضاً ممن كان معنا يجعل حديث رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم».
وفي رواية يجعل ما قاله كعب عن رسول الله «صلي الله عليه وسلم»، وما قاله رسول الله «صلي الله عليه وسلم» عن كعب.
إن الأحاديث الخمسة أو الستة التي أوردناها ليست إلا أمثلة عارضة، ونحن لا نعدم الكثير منها في البخاري عندما نعمد إلي التقصي والتحري، وقد كنا فكرنا في إصدار كتاب بعنوان «تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم»، فإذا كانت الفرص قد لا تسمح بذلك، فإننا في كتابنا عن السُنة (الجزء الثاني) من كتاب «نحو فقه جديد» وضعنا المعايير لذلك بحيث يسهل علي من بعدنا القيام بذلك.