موالى
08-15-2007, 02:50 PM
الحياة اللندنية
داود الشريان
«لدى الصينيين قول مأثور: للفوضى منافع. وبالفعل، ولَّدت الاضطرابات التي تشهدها المنطقة العربية توازناً بين طائفة سنيّة أدمنت السلطة، وأخرى شيعيّة اعتادت الهزائم. ويصعب إقناع من فقد السلطة بإيجابيات هذه الخسارة، لكن التوازن الناتج عن الفوضى والاضطرابات في المنطقة العربية من شأنه أن يترسخ (...) وهذا النظام الجديد سيكسب المعركة، ويكرّس استمراريته (...)، ولعل الحرية التي أراد بوش أن يقدّمها هدية لليبراليين العرب لم تصل، لأنهم لم يثقوا بالرسول. وبالتالي، لم يستجب المثقفون العرب للدعوة إلى الحرية.
فلا يكفي منح الهدية، بل يجب التأكد من تسلمها، وقد تكون الحرية على الطريق. وباستثناء القضية الفلسطينية، أرجح أن العرض الذي قدّمه بوش للعرب والقاضي بمساعدتهم على تحرير بلادهم لا يزال قائماً. ويفاخر بوش بمساعدة العراقيين واللبنانيين على تحقيق استقلالهم، الأمر الذي أقّدره له، واعتبره عملاً تاريخياً. وألمس بلوغ بوش نقطة اللاعودة في خطابه الشهير الذي ألقاه في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2003، حين قال إنّنا حاولنا خلال ستين عاماً مضت الحفاظ على الأنظمة الأوتوقراطية، وما حصدناه كان الإرهاب، وندرك اليوم أهميّة المراهنة على الحريّة. وبرأيي، يؤمن بوش بتقديم الحريّة إلى الغرباء.
وفي الولايات المتحدة، يسخر الليبراليون، وهم المكوّن الطبيعي لنشر الحريّات، من العرب بالقول إن تركيبة حمضهم النووي تفتقر إلى جينة الحريّة، بينما يصرّ الرئيس المحافظ على إمكانيّة تصديرها...».
الكلام السابق جزء من مقابلة طويلة أجرتها جريدة «إيلاف» الاليكترونية أمس مع الباحث الأميركي اللبناني الأصل الدكتور فؤاد عجمي، احد أهم الأكاديميين المقربين من إدارة الرئيس بوش، وأبرز المنظرين الأميركيين لفكر المحافظين الجدد، والوحيد من بين الأكاديميين الذي أصبحت عبارته جزءاً من خطب وتصريحات بعض ساسة البيت الأبيض، فهو وصف الحرب على العراق بـ «النبيلة»، وهو تعبير لم يسبقه إليه أحد في وصف الحروب، والأهم أنه من أشد المحرضين على الحرب في المنطقة، وأذكر أنني سألته في حوار تلفزيوني عن سر هذه العدائية للعالم العربي والإخلاص للسياسة الأميركية فقال إن موقفه ينطبق عليه قول الكاتب جون كونراد «إن الحب قد يرتدي ثوب الخيانة»، أي أنه يبدو كمن يكره المنطقة لكنه يحبها إلى درجة تأييد الحرب عليها. وأهمية الحوار مع عجمي هي أن ما يقوله يعبر على نحو ما عن توجهات النخب الحاكمة في واشنطن.
الدكتور فؤاد عجمي وهو ولد لأبوين ينتميان للمذهب الشيعي، يعلن في كتابته أنه من أشد الناقدين للخلط بين الدين والسياسة، وأن اهتمامه منصب على الدفاع عن المعاصرة والعلمانية وتطور المجتمع العربي، لكنه في هذا الحوار يتخلى، ربما بطريقة غير شعورية، عن كل هذا ويحاول تبرير هيمنة الطائفة الشيعية على الحكم في العراق، فيدافع عن النظام الراهن بقوله: «بالنسبة إلى الزعماء السنّة في البلدان المجاورة للعراق، والذين يتعاملون بعدائية مع التغيرات التي طرأت على هذا البلد. لم يوفر هؤلاء الزعماء مناسبة إلا واستغلوها لإحباط مساعي قيام عراق جديد.
لكن عليهم أن يدركوا أنّ الشعب العراقي لن يستسلم، وهذا النظام الجديد سيكسب المعركة، ويكرّس استمراريته، تماماً كما حصل مع (الرئيس السوري الراحل) حافظ الأسد، الذي واجهه الزعماء العرب برفض تام في البداية، وتقبّل تام لاحقاً»، فضلاً عن أنه يعتقد بأن لقاءه بنوري المالكي كرئيس للوزراء في العراق «يشكل ثورة بحد ذاتها حيث لم يسبق لشخصية شيعية أن تسلمت مقاليد الحكم في العالم العربي»، وفي ثنايا الحوار يرفض الاستدلال بالانقسام الطائفي بين السنة والشيعة لتفسير كل النزعات، لكنه يصور هذه النزعات كرواية تتمحور حول مدن ثلاث هي دمشق وبيروت وبغداد، فيروي قصة سقوط دمشق بيد العلويين، واجتياح الشيعة للعاصمة بيروت، ووصول المالكي الى قصر بغداد، وبعد كل هذا التناقض يقول «لم يدرك أصحاب القرار بشن الحرب ممن التقيت وحاورت خلال السنوات الماضية بأننا سنحارب ونسقط النظام لنسلم الشيعة في العراق مقاليد الحكم».
لا شك في أنه من الصعب اتهام باحث مثل فؤاد عجمي بالطائفية، أو نزعة كامنة إلى التدين، لكن من الصعب أيضا القبول بأن ما حدث في العراق غير مقصود، وان الحروب في شكل عام لها نتائج غير متعمدة، وان ما يجري في العراق مجرد تعقيدات لا تستحق الاعتذار، فضلاً عن الاعتراف، فعجمي في هذا الحوار رفع شعارات الإدارة الاميركية مثلما اعتاد منذ بدء الحرب، لكنه هذه المرة كان أكثر وضوحاً.
بعد هذا الحوار مع عراب السياسة الأميركية في المنطقة فؤاد عجمي صار يحق لنا ترديد قول الشاعر: «يا ليت جور بني مروان دام لنا، ويا ليت عدل بني العباس في النار».
داود الشريان
«لدى الصينيين قول مأثور: للفوضى منافع. وبالفعل، ولَّدت الاضطرابات التي تشهدها المنطقة العربية توازناً بين طائفة سنيّة أدمنت السلطة، وأخرى شيعيّة اعتادت الهزائم. ويصعب إقناع من فقد السلطة بإيجابيات هذه الخسارة، لكن التوازن الناتج عن الفوضى والاضطرابات في المنطقة العربية من شأنه أن يترسخ (...) وهذا النظام الجديد سيكسب المعركة، ويكرّس استمراريته (...)، ولعل الحرية التي أراد بوش أن يقدّمها هدية لليبراليين العرب لم تصل، لأنهم لم يثقوا بالرسول. وبالتالي، لم يستجب المثقفون العرب للدعوة إلى الحرية.
فلا يكفي منح الهدية، بل يجب التأكد من تسلمها، وقد تكون الحرية على الطريق. وباستثناء القضية الفلسطينية، أرجح أن العرض الذي قدّمه بوش للعرب والقاضي بمساعدتهم على تحرير بلادهم لا يزال قائماً. ويفاخر بوش بمساعدة العراقيين واللبنانيين على تحقيق استقلالهم، الأمر الذي أقّدره له، واعتبره عملاً تاريخياً. وألمس بلوغ بوش نقطة اللاعودة في خطابه الشهير الذي ألقاه في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 2003، حين قال إنّنا حاولنا خلال ستين عاماً مضت الحفاظ على الأنظمة الأوتوقراطية، وما حصدناه كان الإرهاب، وندرك اليوم أهميّة المراهنة على الحريّة. وبرأيي، يؤمن بوش بتقديم الحريّة إلى الغرباء.
وفي الولايات المتحدة، يسخر الليبراليون، وهم المكوّن الطبيعي لنشر الحريّات، من العرب بالقول إن تركيبة حمضهم النووي تفتقر إلى جينة الحريّة، بينما يصرّ الرئيس المحافظ على إمكانيّة تصديرها...».
الكلام السابق جزء من مقابلة طويلة أجرتها جريدة «إيلاف» الاليكترونية أمس مع الباحث الأميركي اللبناني الأصل الدكتور فؤاد عجمي، احد أهم الأكاديميين المقربين من إدارة الرئيس بوش، وأبرز المنظرين الأميركيين لفكر المحافظين الجدد، والوحيد من بين الأكاديميين الذي أصبحت عبارته جزءاً من خطب وتصريحات بعض ساسة البيت الأبيض، فهو وصف الحرب على العراق بـ «النبيلة»، وهو تعبير لم يسبقه إليه أحد في وصف الحروب، والأهم أنه من أشد المحرضين على الحرب في المنطقة، وأذكر أنني سألته في حوار تلفزيوني عن سر هذه العدائية للعالم العربي والإخلاص للسياسة الأميركية فقال إن موقفه ينطبق عليه قول الكاتب جون كونراد «إن الحب قد يرتدي ثوب الخيانة»، أي أنه يبدو كمن يكره المنطقة لكنه يحبها إلى درجة تأييد الحرب عليها. وأهمية الحوار مع عجمي هي أن ما يقوله يعبر على نحو ما عن توجهات النخب الحاكمة في واشنطن.
الدكتور فؤاد عجمي وهو ولد لأبوين ينتميان للمذهب الشيعي، يعلن في كتابته أنه من أشد الناقدين للخلط بين الدين والسياسة، وأن اهتمامه منصب على الدفاع عن المعاصرة والعلمانية وتطور المجتمع العربي، لكنه في هذا الحوار يتخلى، ربما بطريقة غير شعورية، عن كل هذا ويحاول تبرير هيمنة الطائفة الشيعية على الحكم في العراق، فيدافع عن النظام الراهن بقوله: «بالنسبة إلى الزعماء السنّة في البلدان المجاورة للعراق، والذين يتعاملون بعدائية مع التغيرات التي طرأت على هذا البلد. لم يوفر هؤلاء الزعماء مناسبة إلا واستغلوها لإحباط مساعي قيام عراق جديد.
لكن عليهم أن يدركوا أنّ الشعب العراقي لن يستسلم، وهذا النظام الجديد سيكسب المعركة، ويكرّس استمراريته، تماماً كما حصل مع (الرئيس السوري الراحل) حافظ الأسد، الذي واجهه الزعماء العرب برفض تام في البداية، وتقبّل تام لاحقاً»، فضلاً عن أنه يعتقد بأن لقاءه بنوري المالكي كرئيس للوزراء في العراق «يشكل ثورة بحد ذاتها حيث لم يسبق لشخصية شيعية أن تسلمت مقاليد الحكم في العالم العربي»، وفي ثنايا الحوار يرفض الاستدلال بالانقسام الطائفي بين السنة والشيعة لتفسير كل النزعات، لكنه يصور هذه النزعات كرواية تتمحور حول مدن ثلاث هي دمشق وبيروت وبغداد، فيروي قصة سقوط دمشق بيد العلويين، واجتياح الشيعة للعاصمة بيروت، ووصول المالكي الى قصر بغداد، وبعد كل هذا التناقض يقول «لم يدرك أصحاب القرار بشن الحرب ممن التقيت وحاورت خلال السنوات الماضية بأننا سنحارب ونسقط النظام لنسلم الشيعة في العراق مقاليد الحكم».
لا شك في أنه من الصعب اتهام باحث مثل فؤاد عجمي بالطائفية، أو نزعة كامنة إلى التدين، لكن من الصعب أيضا القبول بأن ما حدث في العراق غير مقصود، وان الحروب في شكل عام لها نتائج غير متعمدة، وان ما يجري في العراق مجرد تعقيدات لا تستحق الاعتذار، فضلاً عن الاعتراف، فعجمي في هذا الحوار رفع شعارات الإدارة الاميركية مثلما اعتاد منذ بدء الحرب، لكنه هذه المرة كان أكثر وضوحاً.
بعد هذا الحوار مع عراب السياسة الأميركية في المنطقة فؤاد عجمي صار يحق لنا ترديد قول الشاعر: «يا ليت جور بني مروان دام لنا، ويا ليت عدل بني العباس في النار».